مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

وثالثا : أنّ الوضع ليس هو التّعهد والالتزام ، بل هو من قبيل الجعل والتّسمية المعبّر عنها في الفارسيّة ب «نامگذارى» كما عرفت سابقا.

الرّابع : أنّ الوضع أمر واقعيّ ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ قدس‌سره حيث قال في توضيحه ، ما محصّله : أنّ المقصود من كونه واقعيّا ، هو أنّ الوضع ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى ، ولا ريب ، أنّ هذا الرّبط الوضعي تحقّق في الخارج بعد جعل الوضع له بنحو تحقق الملازمة الطّبيعيّة بين الماهيّتين المتلازمتين في الواقع نظير طلوع الشّمس ووجود النّهار ، وزوجيّة العدد وانقسامه إلى متساويين ، غاية الأمر ، أنّ الملازمة هنا ذاتية ، وفي الوضع جعليّة ، لا أنّه من إحدى المقولات التّسعة العرضية ؛ وذلك لانّ العرض متقوّم بالموضوع في الخارج بحيث يكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره ، والعلقة الوضعيّة ليست كذلك ، بل هي متقوّمة بطبيعيّ اللّفظ والمعنى وإن لم يوجدا في الخارج أصلا ، ألا ترى أنّه قد يكون المعني معدوما بحمل أوّليّ أو محالا كاللّاشيء وشريك الباري. (١)

وفيه : أوّلا : أنّه قدس‌سره إن أراد من الملازمة ما كانت مطلقا حتّى قبل الوضع ، وبالنّسبة إلى الجاهلين به ـ أيضا ـ فمرجعها إلى القول بأنّ منشأ الدّلالة هي المناسبة الذّاتيّة بين اللّفظ والمعنى ، وقد عرفت ما فيه ، من المنع ، وأنّه ممّا يكذّبه الوجدان والبرهان ، فراجع.

وإن أراد منها ما كانت بعد الوضع ، وبالنّسبة إلى العالم به ، فهي مقبولة ، إلّا أنّها ليست هي نفس الوضع ، بل تكون من آثاره ونتائجه ، وقد تقدّم ، أنّ الوضع والدّلالة الوضعيّة أمر جعليّ اعتباريّ ، لا تكوينيّ حقيقيّ.

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٩ ؛ ونهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٢٥ و ٢٦.

٦١

نعم ، الدّلالة الطّبعيّة والعقليّة أمران تكوينيّان ، لكنّهما خارجان عن دائرة الوضع والجعل الاعتباري.

وثانيا : أنّ الالتزام بأنّ الوضع أمر واقعيّ ، ومع ذلك ، ليس من إحدى المقولات العرضيّة ، لا يرجع إلى محصّل ؛ إذ ليس في البين أمر واقعيّ خارج عن دائرة الجوهر والعرض ، فحيث إنّه لم يمكن جوهرا ، كما هو الواضح ، فلا مناص من كونه داخلا في العرض.

فتحصّل : أنّ مقتضي التّحقيق هو أنّ الوضع أمر اعتباريّ ، يعتبره العقلاء ، فيبقى ببقاء الاعتبار ، لا أنّه اعتبار محض قائم بنفس المعتبر حتّى ينعدم بموته ، ولا أنّه أمر خارجي تكوينيّ من قبيل الجواهر أو الأعراض.

(المقام الرّابع : تقسيم الوضع)

إنّ للوضع تقسيمات :

الأوّل : تقسيمه إلى تخصيصيّ (تعيينيّ) ، وتخصّصي (تعيّني).

وقد أشكل عليه الإمام الرّاحل قدس‌سره بقوله : «أنّ الوضع هو جعل اللّفظ للمعنى وتعيينه للدّلالة عليه ، وهذا لا ينقسم إلى قسمين ؛ لأنّ التّعينيّ لا يكون وضعا وجعلا». (١)

وعلى هذا ، إنّما يصحّ التّقسيم ؛ بناء على كون الوضع هو الاختصاص ، والارتباط الخاصّ بين اللّفظ والمعنى.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٥٧.

٦٢

وفيه : أنّ التّعينيّ ـ بناء على المختار في الوضع ـ تعيينيّ ـ أيضا ـ غاية الأمر ، ليس الواضع فيه شخصا معيّنا أو أشخاصا معيّنين قد عيّنوا اللّفظ للمعنى دفعة ، فصار ظاهرا فيه من أوّل الأمر بلا احتياج إلى القرينة ، بل المستعملون الكثيرون عيّنوه له واستعملوه فيه مع القرينة واحدا بعد واحد حتّى صار بعد ذلك ظاهرا فيه تدريجا ، بلا احتياج إلى القرينة.

وعليه ، ففي الوضع التّعيّني ـ أيضا ـ جعل وتعيين منسوب إلى المستعملين ، كما أنّ في الوضع التّعييني جعلا وتعيينا منسوبا إلى الواضعين.

الثّاني : تقسيمه إلى قوليّ يحصل بالقول والإنشاء ، وفعليّ يحصل بالفعل والاستعمال المقصود به تحقّق العلقة الوضعيّة ـ مثل أن يقول في مقام التّسمية «ناولني ولدي أحمد» أو «جئني بولدي محمّد» ـ كالعقود أو الإيقاعات الفعليّة المعاطاتيّة.

هذا ، ولكن قد اشكل على الوضع الفعلي بوجوه ثلاثة :

أحدها : ما يرجع إلى الإشكال الأدبي ، وهو أنّ الاستعمال لا بدّ أن يكون حقيقة أو مجازا ، والمفروض : أنّ الاستعمال في الوضع الفعليّ ، ليس واحدا منهما.

أمّا الحقيقة ، فلأنّه لم يستعمل اللّفظ فيما وضع له وضعا سابقا على الاستعمال ، بل حصل الوضع بنفس الاستعمال.

أمّا المجاز ، فلأنّه في طول الحقيقة وبعد مراعات العلاقة الموجودة بينه وبين المعنى الحقيقيّ ، والمفروض : انتفاء الحقيقة فينتفي المجاز ، أيضا.

وفيه : أنّه لا ينحصر الاستعمال في الحقيقة والمجاز ، ولا يكون التّقسيم المذكور من ناحيه العقل ولا من جانب الوحي.

ثانيها : ما يرجع إلى الإشكال العقليّ ، وهو أنّه يلزم من الوضع الفعليّ المتحقّق

٦٣

بمجرد الاستعمال ، اجتماع اللّحاظين المتنافيين ، وهما الآلي والاستقلالي ، في لفظ واحد واستعمال فارد ، وهذا مستحيل.

وجه اللزوم هو أنّ اللّفظ من جهة استعماله في المعنى ، لا بدّ أن يلاحظ على وجه آليّ ، ومن جهة وضعه للمعنى ، لا بدّ أن يلاحظ بوجه استقلاليّ ، فيلزم الاجتماع.

وإن شئت فقل : إنّ المستعمل بالنّظر إلى استعماله للفظ خاصّ في معنى خاصّ يلاحظ اللّفظ آليّا ، وهو المعبّر عنه ب «ما به ينظر» ، وبالنّظر إلى كونه بصدد وضع عين هذا اللّفظ لهذا المعنى يلاحظه استقلاليّا ، وهو المعبّر عنه ب «ما فيه ينظر» وهذا هو اجتماع اللّحاظين المتنافيين في استعمال واحد ، وهو محال.

وبتعبير آخر : أنّ حال واضع اللّفظ كحال صانع المرآة ، وحال مستعمله كحال مستعملها ، فكما أنّ المرآة في موضع الصّنع ملحوظة استقلاليّا ، وفي موقف الاستعمال ملحوظة آليّا ، كذلك اللّفظ في موقف الوضع والاستعمال.

وكيف كان ، اللّحاظان متنافيان ، فلا يمكن جمعهما في الاستعمال الواحد.

والنّتيجة : أنّه لا يمكن إيجاد الوضع بنفس الاستعمال.

وفيه : أنّ ما يوضع للمعنى في مقام الاستعمال هو طبيعيّ اللّفظ الملحوظ استقلاليّا ، لا شخص اللّفظ الصّادر المستعمل فيه ، الّذي يلاحظ آليّا ؛ إذ يلزم حينئذ أن يكون شخص آخر من هذا اللّفظ في استعمال آخر في ذلك المعني ، مجازا فيه ، وهذا كما ترى ؛ مضافا إلى أنّ شخص اللّفظ أمر متصرّم منعدم ، لا بقاء ولا دوام له كي يكون موضوعا للمعني.

وعليه : فباستعمال شخص من طبيعيّ اللّفظ في المعنى ، بقصد الوضع وتعيين اللّفظ بازاء المعنى بمعونة القرينة ، تتحقّق العلقة الوضعيّة بين الطّبيعيّ والمعنى ، وهذا

٦٤

هو سرّ كون جميع استعمالات اللّفظ في معناه حقيقة.

ومن هنا ظهر ، اندفاع محذور اجتماع اللّحاظين في مورد واحد ، كما لا يخفى.

وقد تصدّى المحقّق العراقي قدس‌سره لدفع هذا المحذور ، فقال ما محصّله : من أنّ شخص هذا اللّفظ مرآة إلى طبيعيّ اللّفظ الّذي قصد تحقّق العلاقة بينه وبين المعنى فالشّخص ملحوظ آليّ ، والطّبيعيّ ملحوظ استقلاليّ ، فلا محذور في البين. (١)

وفيه : أنّ شخص اللّفظ مرآة إلى المعنى ، لا إلى طبيعيّ اللّفظ ، كما هو الواضح.

ثالثها : ما يرجع إلى الإشكال العقلي ـ أيضا ـ وهو أنّ الوضع الفعلي المتحقّق بمجرد الاستعمال ، مستلزم للدّور المحال.

بتقريب : أنّ الاستعمال متوقّف على أهليّة اللّفظ واستعداده للدّلالة على المعنى والأهليّة ـ أيضا ـ متوقّفة على الوضع المتوقّف على الاستعمال ، ولازم ذلك ، أن يكون الاستعمال المتوقّف على الأهليّة ، متوقّفا على الوضع الّذي هو ـ أيضا ـ يتوقّف على نفس الاستعمال ، وهذا دور الواضح.

وفيه : أنّ الاستعمال وإن كان متوقّفا على الأهليّة للدّلالة ، إلّا أنّها تتحقّق في ظرف الاستعمال ، لأجل قرينة الوضع المقارنة له ، فلا حاجة إلى وجود الاهليّة قبل الاستعمال حتّى يلزم الدّور ، فتأمّل جيّدا.

الثّالث (من تقسيمات الوضع) : تقسيم الوضع ، تارة باعتبار اللّفظ الموضوع ؛ واخرى باعتبار المعنى الموضوع له.

أمّا باعتبار اللّفظ الموضوع ، فيقسّم على قسمين : شخصيّ ونوعيّ.

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٣٠ و ٣١.

٦٥

أمّا الوضع الشّخصيّ ، فالمراد منه هو أنّ الواضع يتصوّر اللّفظ بمادّته وهيئته ويلاحظه بوحدته الطّبيعيّة وشخصيّته المتمايزة ، فيضعه لمعنى ملحوظ متصوّر ، كوضع أسماء الأجناس ، وأعلامها ، وأعلام الأشخاص.

أمّا الوضع النّوعيّ ، فالمراد منه هو أنّ الواضع يتصوّر اللّفظ بهيئته فقط بلا لحاظ لمادّة معيّنة ، فيضعها لمعنى ملحوظ.

نعم ، لمّا لم يكن تحقّق الهيئة بلا مادّة ، ممكنا حتّى في صقع الذّهن ، ولم يمكن تجريدها عنها ولو بحسب اللّحاظ والتّصوّر ، فلا مناص من عمليّة الوضع لأشخاص الهيئات ، بمعونة الجامع العنوانيّ ، لا بشخصيّاتها الذّاتيّة ، حيث إنّ الموادّ غير محصورة لا يمكن تصوّرها بجميعها ، فيقال : كلّ ما كان على هيئة «الفاعل» مثلا ، فوضع لكذا ، أو كلّ ما كان على هيئة «فعل» مثلا ، فوضع لكذا.

وبالجملة : فالوضع في الهيئات مطلقا ، نوعيّ ، كهيئات المشتقّات والجمل الفعليّة والاسميّة أو التّامّة والنّاقصة ، وأمّا موادّ المشتقّات ، فإن كانت من المصادر فالوضع فيها شخصيّ ، لكون المصادر من أسماء الأجناس ، وإن كانت من الأفعال فالوضع فيها نوعيّ.

نعم ، بناء على القول بكون مبدإ الاشتقاق هو الحروف المهملة بلا أيّة صورة ، فلا وضع لموادّ المشتقّات أصلا ، بل لا اشتقاق في البين رأسا وبالمرّة.

ومن هنا ظهر : أنّ ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من أنّ «الواضع حين إرادة الوضع إمّا أن يلاحظ اللّفظ بمادّته وهيئته ، كما في أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص ، وإمّا أن يلاحظ المادّة فقط ، كما في موادّ المشتقّات ، وإمّا أن يلاحظ الهيئة كذلك ، كما في هيئات المشتقّات وهيئات الجمل النّاقصة والتّامّة ، فالوضع في الأوّل

٦٦

والثّاني شخصيّ ، وفي الثّالث نوعيّ». (١)

غير ظاهر الوجه ؛ لما عرفت ، من أنّ الملحوظ ، إمّا هو الهيئة فقط في ضمن أيّة مادّة كانت ، أو هي والمادّة معا ، ولا ثالث في البين بعنوان المادّة فقط بلا هيئة.

هذا كلّه في الوضع باعتبار اللّفظ الموضوع.

وأمّا الوضع باعتبار المعنى الموضوع له ، فيقسّم على أربعة أقسام :

منها : أن يكون الوضع والموضوع له عامّين.

ومنها : أن يكونا خاصّين.

ومنها : أن يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

ومنها : عكس الثّالث (الوضع خاصّ والموضوع له عامّ).

وقبل الورود في شرح هذه الأقسام لا بدّ من التّنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّ للوضع معنيين ، وهما المعنى المصدري الّذي تقدّم ذكره من جعل اللّفظ للمعنى وتعيينه بإزائه ، والمعنى الاسمي ، وهو المعنى المتصوّر حين الوضع والجعل ، والمقصود منه هنا هذا المعنى ، كما أنّ المقصود من الموضوع له هو المعنى بعد ما وضع اللّفظ له ، والمقصود من المستعمل فيه هو المعنى الّذي يستعمل اللّفظ فيه ، فقد يكون نفس الموضوع له ، وقد يكون غيره.

ثانيهما : أنّ المراد من العموم في باب الوضع هو الكلّيّة والقابليّة للانطباق على كثيرين ، والمراد من الخصوص هو الجزئيّة وعدم قابليّة الانطباق عليه ، وهذا بخلاف العموم والخصوص الاصوليّ المبحوث عنهما في باب العامّ والخاصّ.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٥٦.

٦٧

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ البحث عن هذه الأقسام ، تارة ثبوتيّ ، فيبحث عن إمكانها ؛ واخرى إثباتيّ ، فيبحث عن وقوعها.

أمّا البحث الثّبوتي ، فلا خلاف ولا كلام في إمكان القسم الثّاني ، (الوضع والموضوع له خاصّان) فيتصوّر الواضع معنى خاصّا جزئيّا ويضع اللّفظ له.

أمّا القسم الأوّل (الوضع والموضوع له عامّان)

فالحقّ أنّه ممكن ـ أيضا ـ فيتصوّر الواضع معنى كلّيا بنحو من التّصور ولو إجمالا ، ويضع اللّفظ له ويعيّنه بإزائه.

نعم ، قد يتوهّم استحالته ؛ بتقريب : أنّ الملحوظ المتصوّر هو موجود بوجود ذهنيّ ، ومن المبرهن في محلّه : أنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد ، لا في الخارج ولا في الذّهن ، فأين الكلّيّة والعموم؟!

وبعبارة اخرى : أنّ اللّاحظ هو النّفس ، وحيث إنّه موجود شخصيّ ، وجزئيّ خارجيّ ، فلحاظه ، وكذا ملحوظه ـ أيضا ـ جزئيّ لا يصلح للصّدق على كثيرين ، كما لا يخفى.

وبعبارة ثالثة : إنّ تحقّق الكلّي بنعت الكلّيّة مقشّرا عن الشّئون الجزئيّة ومجرّدا عن الخصوصيّات الفرديّة ، مستحيل مطلقا حتّى في وعاء الذّهن ؛ إذ لا يتحقّق إلّا بالوجود الّذي هو عين التّشخّص ، فيصير جزئيّا بلا شبهة. (١)

ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ الوضع العامّ ـ أيضا ـ خاصّ واقعا ، وكذا الموضوع له العامّ ، فلا مجال للقسم الثّاني.

__________________

(١) راجع ، الحكمة المتعالية (الأسفار) : ج ٢ ، ص ٨ و ٩.

٦٨

ولكن اجيب عنه بوجوه :

أحدها : أنّ جزئيّة المفهوم الواقع في الذّهن ممنوع ، بحيلة تجريده من الوجود ، الموجب للجزئيّة والتّشخّص وتخليته عنه ، أو بالغفلة عن اللّحاظ ووجود الملحوظ في النّفس ، بحيث يرى شيء واحد في عالم النّفس والذّهن ، شيئين ، ولا مشاحّة في أن يعبّر عنه بالأحول العقليّ الذّهني ، كالأحول العينيّ الخارجي الّذي يرى شيئا واحدا في الخارج ، شيئين.

وفيه : أنّ مثل هذه الحيلة أو الغفلة لا يوجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه ، مع أنّ التّجريد والتّخلية وإن كانا تجريدا وتخلية بالحمل الأوّليّ ، لكنّهما تخليط وتحلية بالحمل الشّائع الصّناعيّ ، فحذف الوجود وخلع لباسه عمّا في النّفس وصل ولبس له واقعا ، فالملحوظ الجزئي لا يصير بما ذكر من الحيلة كلّيا واقعا ، فتأمّل.

ثانيها : أنّ المراد من الملحوظ المتصوّر حال الوضع هو الملحوظ بالعرض ، وهو الطّبيعيّ العامّ ، لا الملحوظ بالذّات ، وهو الموجود في النّفس ، المتلبّس بلباس الوجود ؛ ضرورة ، أنّ اللّفظ لم يوضع له في عموم الوضع والموضوع له ، ولا في خصوصهما ، ولا لمصاديقه في خصوص الموضوع له ، لعدم المصداق له ، والملحوظيّة بالعرض تكفي للوضع وصيرورته عامّا أو خاصّا ، فالصّورة الملحوظة بالذّات في خصوص الوضع ، والماهيّة الملحوظة كذلك في عمومه ، وسيلة للحاظ الخاصّ والعامّ. (١)

على أنّه منقوض بالقضايا الّتي يحمل فيها الكلّي على الفرد ، مثل : «زيد إنسان»

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٦٤.

٦٩

إذ مفهوم الإنسان الكلّي لو لم يتصوّر ، فلا معنى لحمله على زيد ، ولو تصوّر لصار جزئيّا ، فما يقال : في دفع الإشكال هناك ، يقال : فى دفعه هنا ، أيضا. (١)

وفيه : أنّه لا يمكن أن تصير الصّورة الملحوظة بالذّات ـ مع أنّه عرض ، كيف نفسانيّ وعلم ـ وسيلة للحاظ الكلّيّ والطّبيعيّ ، وكذا الماهيّة الملحوظة بالعرض ، إلّا أن يقال : إنّ الصّورة الملحوظة بالذّات ليست من المقولة ، بل هو وجود لا جوهر ولا عرض.

ولكن فيه ـ أيضا ـ أنّ الوجود كيف يصير وسيلة للحاظ الماهيّة والطّبيعة ، فتأمّل.

ثالثها وهو المختار : أنّ الماهيّة والطّبيعة متّحدة مع ما في النّفس اتّحاد الكلّي مع فرده والطّبيعيّ مع مصداقه ، كما أنّها متّحدة مع ما في الخارج والعين كذلك ، فالطّبيعيّ لا تحقّق له إلّا بتحقّق الفرد عينا وخارجا ، أو نفسا وذهنا ، وعليه ، فالعام والكلّي متصوّر بتصوّر ما في النّفس من الجزئي ، وملحوظ بملحوظيّة ما فيها ، بل ما في النّفس ، كالإنسان ـ مثلا ـ إنسان وطبيعي بالحمل الأوّلي ، ليس من حيث هو إلّا هو ، لا موجود ولا معدوم ، لا مجهول ولا معلوم ، لا ملحوظ ولا لا ملحوظ وإن كان موجودا معلوما ملحوظا ، بل علما بالحمل الشّائع الصّناعي ، كما يقال : إنّ المعدوم المطلق معدوم مطلق بالحمل الأوّلي ، وموجود ، علم بالحمل الشّائع ، وشريك الباري شريك الباري بالحمل الأوّلي ، وممكن ، مخلوق بالحمل الشّائع ، والعدم أو اللّاشيء عدم ولا شيء بالحمل الأوّلي ، ووجود وشيء بالحمل الشّائع ، وهكذا.

__________________

(١) راجع ، جواهر الاصول : ج ١ ، ص ١٠٥.

٧٠

والنّتيجة : أنّ باختلاف الحمل ، كما يجاب عن شبهة المعدوم المطلق وعويصته الّتي صيّرت العقول حيارى والأفهام صرعى ، فاختار كلّ مهربا ومفرّا ، كذلك يجاب به عن التّوهّم المذكور في المقام.

ولك أن تقول : ما في النّفس من الجزئي هو بشرط شيء ، وهذا ليس بموضوع له في الوضع العامّ والموضوع له كذلك ، بل الموضوع له هو اللّابشرط المتّحد مع بشرط شيء ، واللّابشرط وإن لم يكن موجودا في وعاء من الأوعية بنفسه وبحياله ، لكنّه موجود في الخارج أو الذّهن بوجود بشرط شيء.

أمّا القسم الثّالث : (الوضع العام والموضوع له الخاص) فالمنسوب إلى المشهور إمكانه ، بل وقوعه ـ على ما سيجيء ـ فيتصوّر الواضع معنى كليّا عامّا ويضع اللّفظ بإزاء أفراده ومصاديقه ، وهذا هو الحقّ.

لا يقال : إنّه لا بدّ في الوضع من معرفة الموضوع له ، مع أنّ الأفراد لم تعرف في الفرض ، بل المعروف والمتصوّر ، هو الجامع بينها والكلّي المنطبق عليها.

لأنّه يقال : إنّ تصوّر العامّ ، تصوّر لأفراده في الجملة ، نظرا إلى أنّ الكلّي والعامّ وجه لأفراده ، فمعرفته وتصوّره معرفة لأفراده وتصوّر لها بوجه ، وواضح ، أنّ المعرفة الإجماليّة وبالوجه كافية في مقام الوضع.

ولقد أجاد المحقّق الخراساني قدس‌سره فيما أفاده في المقام حيث قال : «لأنّ العامّ يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشّيء معرفته بوجه». (١)

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠.

٧١

هذا ، ولكن ذهب الإمام الرّاحل قدس‌سره إلى استحالته ، وقال في وجهه ، ما محصّله :

إنّ المفهوم سواء كان كلّيّا أو جزئيّا ، عامّا أو خاصّا ، لا يحكي إلّا عمّا هو بحذائه ، فلا يحكي العامّ إلّا عن العموم ، لا عنه وعن الخصوص ، أو عن الخصوص فقط ، كما لا يحكي الخاصّ عن العموم ، على ما سيجيء في القسم الرّابع.

وبعبارة اخرى : إنّ اللّفظ يحكي عن مفهومه ، والمفهوم يحكي عمّا هو مصداقه المحقّق أو المفروض المقدّر ، كمفهوم العدم أو اللّاشيء أو نحوهما ، وعليه ، فلا يحكي الكلّي عن أفراده ، ولا العام عن الخاصّ : إذ الخصوصيّات الفرديّة وإن كانت متّحدة مع الكلّي والعام وجودا ، إلّا أنّها تغايره عنوانا ومفهوما ، ألا ترى ، أنّ الإنسان ـ مثلا ـ لا يحكي إلّا عن حيثيّة الإنسانيّة الجامعة المشتركة ، لا الخصوصيّات الفرديّة والمشخّصات الخاصّة من الطّول والقصر واللّون والسّمن والهزال ونحوها.

نعم ، هذه الخصوصيّات متّحدة مع الكلّي وجودا ، وهذا ممّا لا ينكر ، إلّا أنّ هذا المقدار من الاتّحاد لا يكفي في الدّلالة والحكاية ؛ لوضوح أنّ الحكاية متفرّع على دخول المحكيّ في المعنى واندراجه تحت الموضوع له.

ومن هنا ، لا تحكي الأعراض عن الجواهر ، مع كونها متّحدة معها في الوجود الخارجي ، وكذا المحمولات لا تحكي عن الموضوعات ، مع اتّحادهما في الخارج.

وبالجملة : إنّ الحكاية تدور مدار الوضع ودخول المحكي في الموضوع له ، لا مدار الاتّحاد في الوجود الخارجي ، فالقول بالانتقال من العامّ إلى مصاديقه غير سديد. (١)

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٨.

٧٢

وفيه : أنّ معرفة العام والكلّي وإن لم تكن معرفة للخاصّ والجزئيّ بالتّفصيل وبخصوصيّاته الفرديّة ، حدّا أو رسما ، لكنّها معرفة له بالإجمال وبعنوانه الجامع المشير إليه ، وهذا المقدار من المعرفة كاف في الوضع ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «فإنّه من وجوهها ومعرفة وجه الشّيء معرفته بوجه». (١)

ولك أن تقول : إنّ الخاصّ ، كما أنّه يعرّف بالحدّ أو الرّسم ، كذلك يعرّف بالعنوان المشير.

بتقريب : أنّ الخاصّ كزيد ـ مثلا ـ له حيثيّتان : إحداهما : الإنسانيّة ؛ ثانيتهما :

الخصوصيّات الفرديّة.

ومن المعلوم : أنّ عنوان الإنسان وجه له يحكي عن حيثيّته الإنسانيّة وجهته الجامعة ويعرّفه بالإجمال وبوجه الإيجاز والإشارة ، بحيث يصحّ أن يقال : إنّ تصوّر الإنسان تصوّر لزيد ، وهذا المقدار من الحكاية كاف في مقام الوضع البتّة ، كما لا يخفى.

ويشهد لما ذكرنا : أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة مترتّب على الأفراد الكثيرة الّتي لا تعدّ ولا تحصى ، من المحقّقة أو المقدّرة مع استحالة تصوّرها وتصوّر خصوصيّاتها ، لكثرتها وعدم تناهيها التّعاقبيّ.

فتحصّل من مطاوي ما ذكرنا : أنّ القسم الثّالث (الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ) ملحق بالقسمين الأوّلين في الإمكان ؛ لأجل أنّ تصوّر العامّ وإن كان تصوّرا لنفسه تفصيلا ، إلّا أنّه تصوّر للخاصّ بوجه وإجمالا.

وأمّا القسم الرّابع (الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ) ففيه قولان :

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠.

٧٣

أحدهما : عدم إمكانه. (١)

ثانيهما : إمكانه. (٢)

والحقّ هو الأوّل ؛ وذلك ، لأنّ معنى هذا القسم هو أن يتصوّر الواضع معنى خاصّا حين الوضع ، ويضع اللّفظ لكلّيّه العامّ الجامع ، وهذا مستحيل ؛ إذ تصوّر الخاصّ ومعرفته بما هو خاصّ ، لا يكون تصوّرا للعامّ ، لا تفصيلا وبنفسه ، كما هو واضح ، ولا إجمالا وبوجهه ؛ لأنّ الخاصّ لا يكون وجها وعنوانا للعامّ بوجه ، على أنّ الخاصّ لو كان وجها وعنوانا للعامّ لزم ، أن يكون وجها لخاصّ آخر ، بل لكلّ خاصّ ـ أيضا ـ وذلك ، لأنّ العامّ ـ على ما عرفت آنفا ـ يكون وجها للخاصّ ، وواضح أنّ ما هو وجه لوجه شيء ، وجه لذلك الشّيء ـ أيضا ـ وهذا ، كما ترى ، بديهيّ البطلان ، فهل يعقل أن يكون «زيد» مثلا وجها وعنوانا لعمرو!؟

نعم ، في تصوّر الخاصّ تفصيلا تصوّر العامّ ـ أيضا ـ بنفسه ، بمعنى : أنّ تصوّر العامّ يكون سببا لتصوّر الخاصّ ؛ وذلك ، لأنّ الخاصّ والجزئيّ هو نفس العامّ والكلّيّ مع خصوصيّته الفرديّة ، فيكون العام حينئذ جزءا منه ؛ والخاصّ كلّا له.

ومن المعلوم : أنّ تصوّر الجزء مقدّمة لتصوّر الكلّ ويكون منشأ له ، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «ربما يوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه ، فيوضع له اللّفظ» (٣) فمعنى هذه العبارة : هو أنّ تصوّر العامّ يصير واجبا حين تصوّر

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣ ؛ وفوائد الاصول : ج ١ ، ص ٣١ ؛ ونهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٣٧ ؛ وكتاب بدائع الأفكار : ص ٣٩.

(٢) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٣٦ ، حيث قال : «يمكن أن يتصوّر هذا القسم».

(٣) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠.

٧٤

الخاصّ ، من باب وجوب تصوّر الجزء قبل تصوّر الكلّ ، ومرجع ذلك إلى أنّ تصوّر العامّ لكونه جزءا ، يكون سببا لتصوّر الخاصّ.

غاية الأمر ، أنّ هذه الجزئيّة والكلّيّة (١) أمران تحليليّان عقليّان ليسا داخلين في دائرة الوضع والموضوع له كي يقال : إنّ الوضع حينئذ عامّ وكذلك الموضوع له ، فتأمّل جيّدا.

هذا ، ولكن قد يقال : إنّ مراده قدس‌سره عكس ذلك ، بأن يكون تصوّر الخاصّ سببا لتصوّر العامّ ، فينتقل من الخاصّ إليه ، كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) أو يجعل الخاصّ قنطرة للانتقال منه إلى العامّ ، كما عن بعض المحقّقين قدس‌سره. (٣)

وأنت ترى ، أنّه خال عن السّداد وإن كان موافقا لظاهر عبارة المحقّق الخراساني قدس‌سره.

ثمّ ، إنّ لشيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره تقريرا لكلام شيخه المحقّق العراقي قدس‌سره في استحالة القسم الرّابع ، لا يخلو ذكره من فائدة ، فقال ما محصّله : إنّ الخصوصيّة الفرديّة المقوّمة للخاصّ ، تنافي العموم والكلّيّة ، وتناقضها في المفهوم ، وعليه فالخاصّ نقيض للعامّ ، فلا يعقل أن يكون الشّيء مرآة لنقيضه ، وأمّا الكلّي والجامع فمع تقيّدها واحتفافها بالخصوصيّات الفرديّة ، كان نفس الفرد المباين مع العامّ الكلّي مفهوما ، ومع

__________________

(١) بالفارسيّة : «جزء وكلّ بودن ، نه جزئى وكلّى بودن».

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٨ ؛ حيث قال : «فالانتقال من تصوّر العام إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان».

(٣) بحوث في علم الاصول : ج ١ ، ص ٩٣ ؛ حيث قال : «فلا يعقل أن يتصوّر الواضع معنى خاصّا ليضع اللّفظ بإزاء المعنى الأعمّ منه ، إلّا بجعل تصوّره للمعنى الخاصّ قنطرة للانتقال منه إلى تصوّر المعنى العام».

٧٥

إلغاء الخصوصيّة وتجريده عنها ، يصير عامّا ، فيرجع الأمر إلى الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، هذا خلف. (١)

هذا كلّه في القول الأوّل (عدم إمكان القسم الرّابع)

أمّا القول الثّاني (إمكان القسم الرّابع) فغاية ما يمكن أن يقال في وجهه امور :

الأوّل : أنّه لا بدّ في كلّ وضع من تصوّر الموضوع والموضوع له ، ولا ريب ، أنّ الموضوع له يتصوّر تارة : بالكنه والتّفصيل ؛ واخرى : بالوجه والإجمال ؛ وثالثة : بالوجه والعنوان المشير ، فكما أنّ تصوّره على الأوّلين كاف في تحقّق الوضع ، كذلك تصوّره على الثّالث.

توضيحه : أنّ الواضع يتصوّر خاصّا كزيد ـ مثلا ـ وخاصّا آخر مشابها له كعمرو ، فيعلم أنّ بين الخاصّين قدرا جامعا وأمرا كلّيّا مشتركا متّحدا معهما ومع غيرهما ، فيضع حينئذ اللّفظ لهذا الجامع الّذي لا يعرفه إلّا بالوجه والعنوان المشير وهو عنوان «المتّحد مع الخاص» وواضح : أنّ هذا المقدار من المعرفة كاف في الوضع.

وبهذا البيان يمكن القسم الثّالث ـ أيضا ـ بأن يقال : إنّ اللّفظ وضع للأفراد والمصاديق الّتي لا تكون متصوّرة معروفة ، لا تفصيلا ولا إجمالا ، بل متصوّرة بالوجه والعنوان المشير وهو عنوان «المتّحد مع الجامع العامّ».

هذا ، ولكن لا يخفى عليك : أنّ هذا البيان ينتج كون الوضع من باب الوضع العامّ والموضوع له العامّ ؛ إذ المفروض أنّ الجامع العامّ عرف بعنوانه المشير ، فوضع له اللّفظ ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ص ٣٩ و ٤٠.

٧٦

الأمر الثّاني : ما في كلام العلّامة المؤسّس الحائري قدس‌سره من قوله قدس‌سره : «ويمكن أن يتصوّر هذا القسم ... فيما إذا تصوّر شخصا وجزئيّا خارجيّا من دون أن يعلم تفصيلا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد ، ولكنّه يعلم إجمالا باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقى الأفراد مثله ، كما إذا رأى جسما من بعيد ولم يعلم بأنّه حيوان أو جماد ، وعلى أيّ حال لم يعلم أنّه داخل في أيّ نوع؟ فوضع لفظا بإزاء ما هو متّحد مع هذا الشّخص في الواقع ، فالموضوع له لوحظ إجمالا وبالوجه ، وليس الوجه عند هذا الشخص إلّا الجزئيّ المتصوّر ؛ لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقّلا عنده ، إلّا بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشّخص». (١)

وفيه : أنّ هذا البيان ـ أيضا ـ كالسّابق لا ينتج المطلوب ، بل نتيجته إمّا هو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، أو الوضع العامّ والموضوع له العامّ ؛ إذ المتصوّر لذلك الشّبه ، إمّا يتصوّره بعنوان أنّه جزئيّ حقيقيّ ويضع اللّفظ له ، وهذا هو الوضع الخاصّ والموضوع له كذلك ، وإمّا يتصوّره بعنوان الكلّي العام المنطبق عليه وعلى غيره ، وهذا هو الوضع العامّ والموضوع له كذلك.

الثّالث : ما أفاده المحقّق الرّشتي قدس‌سره : من أنّ القسم الرّابع معقول ، نظرا إلى أنّه كالقياس المنصوص العلّة ، فإنّ الموضوع للحكم فيه شخصي ، ومع ذلك ، يسري إلى كلّ ما فيه العلّة ، وكذلك إذا وضع لفظ لمعنى باعتبار ما فيه من فائدة ، فإنّ الوضع يسري إلى كلّ ما فيه تلك الفائدة ، فيكون الموضوع له عامّا مع كون آلة الملاحظة خاصّا. (٢)

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٣٦.

(٢) راجع ، بدائع الأفكار : ص ٤٠.

٧٧

وقد أجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بما لا يخلو عن جودة ومتانة ، من قوله : «إنّ اللّحاظ الّذي لا بدّ منه ولا مناص عنه في الوضع للكلّي ، لحاظ نفسه ، ولحاظ الفرد من حيث فرديّته ، أو لحاظ الكلّي الموجود فيه ، لا دخل له بلحاظ الكلّي بما هو كلّي». (١)

هذا كلّه بالنّسبة إلى البحث الثّبوتي في الأقسام الأربعة للوضع (إمكان تلك الأقسام).

وأمّا بالنّسبة إلى البحث الإثباتي فيها (وقوع تلك الأقسام) ، فالكلام فيه إنّما يقع في الأقسام الممكنة وهي الثّلاثة الأوّل ، دون القسم الرّابع (الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ) ؛ ضرورة ، أنّه لعدم إمكانه ، لا وقوع له قطعا.

فنقول : أمّا القسمان الأوّلان ، فلا كلام ولا خلاف في وقوعهما ، وقد مثّلوا للأوّل بأسماء الأجناس وأعلامها ، وللثّاني بأعلام الأشخاص. (٢)

نعم ، أشكل الإمام الرّاحل قدس‌سره على الثّاني بقوله : «وفي كونها منه إشكال ؛ للزوم كون نحو : «زيد موجود» قضيّة ضروريّة ، كقولنا : «زيد زيد» وكون حمله عليه كحمل الشّيء على نفسه ، ومجازيّة مثل قولنا : «زيد معدوم» وقولنا : «زيد إمّا موجود وإمّا معدوم» ، مع عدم الفرق وجدانا بينه وبين قولنا : «زيد إمّا قائم أو قاعد» في عدم العناية فيه ، فلا يبعد أن يلتزم بأنّها وضعت للماهيّة الكلّيّة الّتي لا تنطبق إلّا على الفرد الواحد ...». (٣)

__________________

(١) نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٢١.

(٢) راجع ، هداية المسترشدين : ص ٢٨.

(٣) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٦٧.

٧٨

والإنصاف : أن هذا الإشكال لا يخلو من دقّة ، ويضاف إليه أوّلا : أنّه لا بدّ في الوضع من معرفة الموضوع له ، وواضح ، أنّ الهويّة الخارجيّة كنهها في غاية الخفاء وإن كان مفهومها من أعرف الأشياء ، فكيف يجعل مثل هذه موضوعا له!

وثانيا : أنّه يلزم أن تكون قضيّة : «زيد معدوم» ممتنعة ، لتضمّنها حمل أحد النّقيضين على الآخر ؛ إذ هي في قوّة أن يقال : «الوجود معدوم وعدم» وهكذا قضيّة : «زيد إمّا موجود أو معدوم» لكونها في قوّة : «الوجود إمّا وجود أو عدم» فالقضيّة إمّا ضروريّة أو ممتنعة ، إلّا أن يرتكب التّجريد ويقال : بالتّجوّز والعناية.

أمّا القسم الثّالث (الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ) :

فاختلف الأعلام في وقوعه وعدمه ، ذهب جماعة (١) إلى وقوعه ، وقد مثّلوا له بوضع الحروف وما ألحق بها من الأسماء والظّروف ، وذهب جماعة اخرى (٢) منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) إلى عدم وقوعه.

والتّحقيق يقتضي البحث هنا عن معاني الحروف وكيفيّة وضعها.

(المقام الخامس : المعاني الحرفيّة وكيفيّة وضع الحروف)

فنقول : يقع الكلام في أمرين :

أحدهما : في بيان حقيقة المعنى الحرفي.

__________________

(١) راجع ، قوانين الأصول : ص ١٠ ؛ والفصول الغرويّة ، ص ١٢ ؛ ومناهج الوصول : ج ١ ، ص ٦٨ ؛ ومحاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٥٧.

(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٥٧.

(٣) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣.

٧٩

ثانيهما : في بيان كيفيّة وضع الحروف.

أمّا الأمر الأوّل : فالأقوال فيه كثيرة ، والعمدة منها ، ما عن محمّد بن الحسن بن الرّضي نجم الأئمّة قدس‌سره (من أعلام القرن السّابع) من : أنّ الحروف لم توضع للمعاني ، بل إنّما هي علامات وأمارات على ما في متعلّقاتها من الخصوصيّات ، وأنّ وزانها وزان الحركات الإعرابيّة من الرّفع والنّصب والجرّ ، فكما أنّ هذه الحركات لم توضع لمعنى ، بل تكون أمارات على الفاعليّة أو المفعوليّة أو غيرهما من الخصوصيّات ، كذلك الحروف ، فكلمة : «في» مثلا ، أمارة على خصوصيّة متعلّقها غير الخصوصيّة الملحوظة في متعلّق كلمة : «على» أو : «من» أو : «إلى» مثلا. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ تلك الخصوصيّات إنّما هي تفهم من الحروف لا من الأسماء والأفعال ، فتكون من مدلولاتها دونهما ، ألا ترى ، أنّ قولنا : «زيد في الدّار» يفيد معنى لا يفيده بلا كلمة : «في» وهكذا قولنا : «زيد على السّطح» ونحوهما.

ويشهد له : أنّ ما يتبادر من الحروف وهو المعاني الخاصّة غير ما يتبادر من الأسماء والأفعال.

وعليه : فالحروف وضعت بإزاء تلك الخصوصيّات وعيّنت لها ، وليست بأمارات عليها صرفة وعلامات محضة.

وثانيا : أنّ أماريّة الحروف على الخصوصيّات ، ليست بجزافيّة ، بل لا بدّ أن تكون ، إمّا عقليّة ، أو طبعيّة ، أو وضعيّة ، والاوليان منتفيتان قطعا ، فلا مناص إذا من الالتزام بكونها وضعيّة ، وهو المطلوب.

__________________

(١) شرح الكافية : ج ١ ، ص ١٠ ؛ حيث قال : «... الحرف وحده لا معنى له أصلا ؛ إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدلّ على أنّ في ذلك الشّيء فائدة ما».

٨٠