مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

(المسألة الاولى : الأوامر)

يقع البحث هنا في جهات :

(الجهة الاولى : مادّة الأمر)

والكلام فيها يقع في ثلاث مقامات.

الأوّل : في كيفيّة وضعها للمعاني المذكورة لها من الطّلب والشّأن والفعل والشّيء والحادثة والغرض وغيرها من سائر المعاني البالغة إلى خمسة عشر على ما قيل.

الثّاني : في اعتبار العلوّ ، أو الاستعلاء فيها ، وعدمه.

الثّالث : في دلالتها على الإيجاب بظهور وضعي ، أو انصرافي ، وعدمها.

امّا المقام الأوّل : فالأقوال فيه ثلاثة :

أحدها : ما هو المعروف بين الأصوليّين (١) من أنّها وضعت للمعنى الحدثي القابل للتّصريف وهو الطّلب ، والمعنى الجامدي غير القابل للتّصريف وهو غيره من المعاني المتقدّمة ، على نحو الاشتراك اللّفظي ، وهذا ممّا اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال بعد الإشارة إلى معاني مادّة الأمر ، ما هذا لفظه : «ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطّلب في الجملة والشّيء». (٢)

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٧.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٩٠.

٢٦١

وفيه : أنّ هذا القول إنّما يتمّ إذا فرض هنا لفظ واحد موضوع بإزاء معان مختلفة بأوضاع متعدّدة ، وليس الأمر كذلك ؛ إذ الموضوع للمعني الحدثي ليس إلّا مادّة الأمر وهي كلمة «ا ـ م ـ ر» الخالية من جميع الهيئات والمجرّدة عن الفعليّات والتّحصّلات والجارية في جميع الفروع المشتقّة ، فيقال : «أمر ـ يأمر ـ آمر ـ مأمور».

وأمّا الموضوع لمعان أخر غير حدثيّة ليس إلّا مجموع هيئة الأمر ومادّته وهو لفظ «الأمر» الجامد المتحصّل في هيئة خاصّة ، كسائر الألفاظ الجامدة من الإنسان وغيره. وعليه ، فلفظ الأمر الموضوع للمعنى الحدثي يغاير لفظه الموضوع لمعان غير حدثية ، وإذا تعدّد اللّفظ الموضوع كتعدّد المعنى الموضوع له ، فلا مجال للاشتراك اللّفظي.

ولعلّ القائل به يرى أنّ مادّة المشتقّات هو المصدر ، وهذا كما ترى ؛ إذ مقتضى التّحقيق هو أنّ المصدر نفسه من الفروع المشتقّة لا مادّتها.

ثانيها : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره من أنّ المادّة موضوعة للمعنى الحدثي وغيره على نحو الاشتراك المعنوي. (١)

ولا يخفى ما فيه من الوهن ؛ إذ مضافا إلى اعتبار لفظ واحد في الاشتراك المعنوي لا بدّ فيه من وجود الجامع بين المعنيين.

ومن الواضح جدّا ، عدم وجود الجامع بينهما ؛ إذ لو فرض وجود الجامع ، فلا بدّ أن لا يكون معنى حدثيّا قابلا للاشتقاق ولا جامديّا غير قابل له ، وإلّا فلا يصدق

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٨٦ و ٨٧ ، حيث قال : «... فلا يكون للفظ الأمر إلّا معنى واحدا تندرج فيه كلّ المعاني المذكورة ، وتصوّر الجامع القريب بين الجميع وإن كان صعبا إلّا أنّا نرى وجدانا أن الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد ومعه ، ينتفي الاشتراك اللّفظي».

٢٦٢

عليه عنوان الجامع للمعنيين ، وهذا كما ترى ؛ إذ لازم ذلك عدم قبول «الأمر» للاشتقاق ، على أنّه ليس بين المعاني الاسميّة معنى ثالث ، لا حدثيّ ولا جامديّ : إذ المعنى الاسمي لا يخلو منهما ، كما هو واضح.

ثالثها : ما هو التّحقيق ، من عدم الوضع لمادّة الأمر اللّامتحصّلة والخالية عن جميع الصّور والهيئات.

وإن شئت فقل : إنّ المادّة ليس إلّا عدّة حروف فقط ، بلا تحصّل وفعليّة لها ، وبلا كونها في ضمن أيّة صورة وهيئة ، فلا وضع لها أصلا ولا معنى لها رأسا ، اسميّا كان أو غير اسمي ، حدثيّا كان أو غير حدثيّ ، وإنّما توضع بإزاء معنى من المعاني بعد ما وردت عليها صورة من الصّور الاسميّة أو الفعليّة ، وهذه المادّة الخالية عن الصّورة والعارية عن المعني ، هي مبدأ الاشتقاق ، على ما مرّت الإشارة إليه.

وأمّا لفظ : «الأمر» باعتبار الهيئة فهو مشترك لفظي بين معنى حدثيّ مصدريّ وهو الطّلب ، وبين معنى آخر اسميّ جامد ، وهو غيره من سائر المعاني.

ويدلّ على هذا الاشتراك أمران :

أحدهما : أنّ لفظ : «الأمر» يجمع تارة على «أوامر» ، واخرى على «امور».

ثانيهما : أنّه قابل للتّصريف وعدمه.

هذا كلّه في المقام الأوّل (كيفيّة وضع مادّة الأمر).

أمّا المقام الثّاني (اعتبار العلوّ في المادّة وعدمه).

فالظّاهر ، اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر ، فالبعث الصّادر من العالي المستعلي «أمر» ، كما أنّ الصّادر من الدّاني «استدعاء» ومن المساوي «التماس» ، فلا يسمّي بعثهما «أمرا» ، كما لا يسمّي طلب المولى لعبيده بنحو الاستدعاء أو الالتماس

٢٦٣

بلا استعلاء «أمرا».

والدّليل على هذا المدّعى ، هو التّبادر ، وعدم صحّة السّلب ، كما هو واضح.

ولا يخفى ، أنّه ليس المراد من العلوّ المعتبر في الآمر هو العلوّ الواقعي بأن يكون الآمر صاحب الملكات الفاضلة والصّفات الحسنة ، بل هو أمر اعتباريّ منشؤه ـ أيضا ـ كذلك ؛ ولذا يختلف باختلاف الشّرائط والأزمنة والامكنة.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «والميزان هو نفوذ الكلمة والسّلطة والقدرة على المأمور ، فالسّلطان المحبوس لا يكون انشاءه «أمرا» بل طلبا والتماسا ، ورئيس المحبس يكون آمرا بالنّسبة إليه». (١)

هذا ، ولكن عن السّيّد البروجردي قدس‌سره عدم اعتبار العلوّ والاستعلاء في معنى الأمر بوجه التّقييد.

محصّل دعواه قدس‌سره أنّ الطّالب تارة يقصد بالطّلب ، انبعاث المطلوب منه بنفس طلبه بلا ضميمة ، بحيث يكون محرّك المطلوب منه وداعيه إلى الانبعاث هو صرف الطّلب ومحض البعث ، وهذا هو المسمّى بالأمر الّذي لا ينبغي أن يصدر من غير العالي والمستعلي ، وأنت ترى ، أنّ هذا غير أخذ العلوّ والاستعلاء في مفهوم الأمر ، واخرى يقصد به انبعاث المطلوب منه لا بنفس الطّلب وحده ، بل بمعونة بعض المقارنات الّتي تؤثّر بالانبعاث ، بحيث لولاها لم يتحقّق الانبعاث ، نظير طلب المسكين من الغنيّ بضميمة التّضرّع والدّعاء الرّاجع إلى شخص الغني أو والديه أو أولاده ، وهذا هو المسمّى بالالتماس والدّعاء.

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٩.

٢٦٤

وبالجملة : فالطّلب على قسمين : أحدهما : يسمّى أمرا ، وثانيهما : يسمّى التماسا ودعاء.

والقسم الأوّل : ينبغي صدوره من العالي أو المستعلي ، لا أنّ كون الطّالب عاليا بحيث يكون العلوّ مأخوذا في مفهوم الأمر حتّى يكون معنى : آمرك بكذا ، أطلب منك وأنا عال. (١)

وفيه : أنّ الالتزام بكون الطّلب الأمري ممّا لا ينبغي صدوره من غير العالي المستعلي ، هو نفس الالتزام بالتّقييد في المفهوم ؛ ضرورة ، أنّ تضييق دائرة الصّدق والتّطبيق تابع لتضييق دائرة المفهوم ويكون في طوله ، كما أنّ الأمر كذلك في السّعة.

وعليه ، فصدق الأمر على الطّلب والبعث الصّادر من العالي أو المستعلي وعدم صدقه على الصّادر من الدّاني أو المساوي ، كاشف عن التّقييد وضيق دائرة مفهوم الأمر ، وإلّا فلا وجه لعدم الصّدق والتّطبيق في موردي الدّاني والمساوى ، كما هو واضح.

هذا كلّه في المقام الثّاني.

أمّا المقام الثّالث (دلالة مادّة الأمر على الإيجاب وضعا أو انصرافا).

فالتّحقيق : هو أنّ مادّة الأمر تدلّ على البعث الصّادر من العالي المستعلي على وجه الإيجاب والإلزام ، إلّا أن يكون هناك قرينة حالية أو مقاليّة دالّة على غير الإيجاب.

ويدلّ على ما قلنا : التّبادر ، كما لا يخفى ، ويؤيّده الكتاب والسّنّة.

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٧٥.

٢٦٥

أمّا الكتاب ، فهو قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

وجه التّأييد ، هو أنّ ترتّب الحذر على مخالفة أمر الله تعالى ، يفيد دلالة الأمر على البعث الإلزامي ، وإلّا فلا حذر ، كما هو الواضح.

أمّا السّنّة ، فهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة». (٢)

حيث إنّ ظاهر الحديث هو أنّ الأمر بما هو أمر يوجب الكلفة والمشقّة ، وليس هذا إلّا لأجل دلالته على الوجوب والإلزام ، وإلّا فالأمر النّدبي لا يوجب المشقّة ، على أنّ السّواك مطلوب في الشّرع بوجه الاستحباب بلا ارتياب ، فلو كان الطّلب الاستحبابي أمرا لما يحتاج إلى ضميمة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أن أشقّ على امّتي» فتلك الضّميمة قرينة قويّة على أنّ المراد من قوله : «أمرتهم» هو الطّلب الإيجابي لا النّدبي.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي قدس‌سره تمسّك لإثبات ظهور الأمر في الطّلب الوجوبي بمقدّمات الحكمة ، فقال ـ بعد ما اختار كون الأمر حقيقة في مطلق الطّلب لا في خصوص الطّلب الوجوبي ـ ما محصّله : أنّه لا شبهة في ظهوره حين إطلاقه في خصوص الوجوب ، إمّا لغلبة استعماله فيه ، أو لكونه مقتضى مقدّمات الحكمة ، ولا وجه لدعوى الغلبة لكثرة استعماله في الاستحباب ـ أيضا ـ كما ذكره صاحب المعالم قدس‌سره فينحصر الوجه في الثّاني. (٣)

__________________

(١) سورة النّور (٢٤) : الآية ٦٣.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣ من أبواب السّواك ، الحديث ٤ ، ص ٣٥٤.

(٣) راجع ، كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ١٩٦ و ١٩٧.

٢٦٦

وفيه : أنّ مورد الكلام في المقام هو مادّة الأمر ، لا صيغته ، وما ذكره صاحب المعالم قدس‌سره راجع إلى صيغته (١) كما أنّ التّمسّك بالإطلاق المنعقد بمقدّمات الحكمة ـ أيضا ـ راجع إلى صيغته ، كما هو واضح.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى (مادّة الأمر).

(الجهة الثّانية : صيغة الأمر)

والكلام فيها ـ أيضا ـ يقع في موارد :

(المورد الأوّل : معني صيغة الأمر)

فنقول : قد عرفت سابقا أنّ الهيئات إنّما هي توضع بازاء المعاني وأنّ معانيها حرفيّة غير مستقلّة في مرحلتي المفهوم والوجود ، ومن الهيئات هيئة الأمر وهي وضعت للبعث والإغراء وتكون آلة لإنشائه ، فهيئة الأمر هيئة إيجاديّة قبال هيئة الماضي والمستقبل الّتي تكون إخباريّة حكائيّة.

وإن شئت ، فقل : وزان البعث والإغراء بالهيئة الأمريّة القوليّة ، وزان البعث والإغراء بالإشارة الخارجيّة الفعليّة أو بالجوارح والاعضاء من الأيدى والأرجل

__________________

(١) معالم الدّين ، ص ٤٤ ، حيث قال : «فائدة يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّ استعمال صيغة الأمر في النّدب كان شايعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الرّاجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة».

٢٦٧

وغيرهما ، وإنّما الفرق بينهما هو أنّ البعث والإغراء بالإشارة أو بالجوارح والأعضاء أمر تكوينيّ فيوجد بها قهرا تكوينا ، وأمّا البعث والإغراء بهيئة الأمر ، فاعتباريّ يوجد في حوزة اعتبار الشّارع وحيطة المولويّة ودائرة العبوديّة.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذهب إليه العلّامة الحائري قدس‌سره من أنّ اللّفظ كيف يعقل أن يصير موجدا (١) ، ممنوع ؛ إذ هذا إنّما يتمّ لو كان المراد ممّا يوجد باللّفظ أمرا تكوينيّا وليس كذلك ، بل يكون ما يوجد به أمرا اعتباريّا عقلائيّا ، فوزان ما يوجد بالأمر من البعث والإغراء ، وزان ما يوجد بحروف القسم ، أو بألفاظ العقود والإيقاعات من البيع والنّكاح والطّلاق وغيرها.

ولك أن تقول : إنّ وزان البعث الاعتباريّ ، وزان الملكيّة ، أو الزّوجيّة الاعتباريّة أو نحوهما.

وعليه ، فما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ معنى صيغة الأمر هو الطّلب ، سواء أنشأ بصيغة افعل أو بمادّة الطّلب أو بمادّة الأمر أو بغيرها (٢) ، غير وجيه ؛ إذ الطّلب ، إمّا حقيقيّ أو إيقاعيّ.

أمّا الطّلب الحقيقي القائم بنفس الطّالب المتّحد مع الإرادة الحقيقيّة على مذهبه ومذهب بعض تلامذته (٣) ، فهو غير قابل للإنشاء بالصّيغة ، ونحوها ؛ لكونه أمرا تكوينيّا له مباد وعلل خاصّة تكوينيّة من تصوّر الشّيء المطلوب وتصوّر ما فيه من

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٧١ ، حيث قال : «وأمّا الإنشائيّات فكون الألفاظ فيها علّة لتحقّق معانيها ممّا لا أفهم له معنى محصّلا ؛ ضرورة ، عدم كون تلك العلّيّة من ذاتيّات اللّفظ ، وما ليس علّة ذاتا لا يمكن جعله علّة».

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٩٣.

(٣) وهو المحقّق العراقي قدس‌سره على ما نقل عنه مقرّرة في نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٧٣.

٢٦٨

الفائدة وغيرهما من المبادي ، ولذا صرّح قدس‌سره بعدم إرادة هذا الطّلب.

وأمّا الطّلب الإيقاعي الإنشائي ، كما هو المصرّح به في كلامه ، ففيه : أنّه ليس وراء البعث والإغراء بصيغة الأمر شيء آخر يسمى بالطّلب الايقاعي الإنشائي كي يكون معنى لصيغة الأمر وينشأ بداعي الإغراء والبعث ، فوجه عدم قابليّة هذا النّوع من الطّلب للإنشاء ، عقليّ ، لا ما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره بقوله : «والسّند التّبادر» (١) ولعلّه سهو من قلمه الشّريف.

ولو قيل : إنّ المراد من الطّلب الإيقاعي هو إظهار الطّلب وإبراز الرّغبة والشّوق والإرادة.

فيقال : إنّ الطّلب في رتبة متقدّمة على الأمر والبعث والإغراء ، وهذه العناوين تكون في طول الطّلب وتعدّ من لوازمه ، فكيف تصير من الدّواعي لإبراز الرّغبة وإظهار الطّلب.

وبعبارة اخرى : أنّ الطّلب في رتبة متقدّمة على الإغراء ، فلا يمكن أن ينشأ ويبرز بداعي الإغراء.

ثمّ اعلم : إنّ صيغة الأمر تستعمل دائما في البعث والإغراء ، فلا اختلاف ولا تعدّد في المعنى ، بل الاختلاف والتّعدّد إنّما هو في الدّواعي من التّهديد والتّعجيز والتّحقير والتّمنّي والتّرجّي وغيرها ، كما هو كذلك في ألفاظ الاستفهام والتّمنّى والتّرجّي ، فإنّها تستعمل دائما في معناها الواحد بلا اختلاف وتعدّد فيه ، والتّعدّد ناش من ناحية الدّواعي الموجبة للاستعمال.

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٤.

٢٦٩

وعليه : فلا ملزم لأن يقال : بالتّجوّز أو النّقل في الاستفهام والتّرجّي والتّمنّي الواردة في كلام الباري عزوجل ، لئلّا يلزم إسناد الجهل أو النّقص أو العجز إليه تعالى ؛ إذ هذه الكلمات تستعمل دائما في معانيها بحيث يراد منها معناها بالإرادة الاستعماليّة الّتي هي المعيار لإطلاق المجاز أو الحقيقة على مسلك المشهور ، إلّا أنّه تارة تطابقها الإرادة الجدّيّة ، واخرى لا تطابقها ، فلا تجوّز ولا نقل في أمثال هذه الكلمات أصلا ، ولا يلزم حينئذ محذور الجهل أو العجز أو النّقص ، فهيئة الأمر في قوله تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ)(١) استعملت لإنشاء البعث والإغراء ، لكن لا لغرض البعث والانبعاث بنحو الجدّ ، بل الغرض الجدّي هو التّعجيز ، ونحوها ما ورد في قول الشّاعر : «ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي» حيث إنّ الغرض الجدّي من هيئة الأمر فيه هو التّزجّر لا البعث ، وكذلك سائر الهيئات الأمريّة الّتي يكون الغرض منها غير البعث ، كالإستفهام وغيره.

(المورد الثّاني : دلالة صيغة الأمر على الوجوب أو عدمه)

يقع الكلام بين الأعلام هنا في مقامين :

أحدهما : في أنّ صيغة الأمر ، هل تدلّ على الوجوب ، أو على الاستحباب ، أو على الجامع بينهما بنحو الاشتراك المعنوي ، أو على كلّ منهما بوجه الاشتراك اللّفظي؟

ثانيهما : في أنّها على تقدير دلالتها على الوجوب ، هل تدلّ عليه بالوضع ، أو

__________________

(١) سورة هود (١١) : الآية ١٣.

٢٧٠

بالانصراف ، أو بمقدّمات الحكمة ، أو بسبب أنّ الصّيغة كاشفة عند العرف والعقلاء عن وجوب إرادة المولى وحتميّتها أو بسبب أنّها حجّة بحكم العقل والعقلاء على الوجوب والحتميّة؟

واختار الإمام الرّاحل قدس‌سره أنّها تدلّ على الوجوب ، والسّبب في ذلك ـ أيضا ـ هو خصوص كونها حجّة عليه حسب نظر العقل والعقلاء ، لا الوضع والانصراف وغيرهما (١) وهذا هو الحقّ.

توضيح ذلك : هو أنّ مجرّد الأمر ومحض البعث والإغراء ، موضوع لحكم العقل والعقلاء بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة العصيان والمخالفة ، بحيث لو اعتذر العبد التّارك للإطاعة باحتمال كون المصلحة الدّاعية إلى الأمر والبعث غير ملزمة ، لم يقبل اعتذاره ، ولا فرق في هذا الحكم العقلائي بين كون الدّال على البعث والإغراء لفظا ، كصيغة الأمر ، وبين كونه إشارة عمليّة فعليّة ، فليس هنا وراء حكم العقلاء وبنائهم على وجوب إطاعة أمر المولى شيء آخر من دلالة وضعيّة لفظيّة ، أو انصرافيّة ، أو دلالة إطلاقيّة مستفادة من مقدّمات الحكمة ، أو غيرها.

وإن شئت فقل : إنّ هيئة الأمر وصيغته تكون من الحجج العقلائيّة على وجوب الإطاعة وعدم جواز ترك بعث المولى باحتمال الاستحباب ونقص الإرادة وعدم حتميّة البعث والإغراء ، فليس في صقع مفهومها وحوزة معناها مفهوم الوجوب والحتميّة ، أو مفهوم الإرادة الحتميّة ، ولا مطابق هذا المفهوم ، بل نفس صيغة الأمر موضوع لحكم العقل بوجوب إطاعة من صدر منه الأمر قضاء لحقّ المولويّة

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢٥٦ و ٢٥٧ ؛ وتنقيح الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٣ الى ٢٤٩.

٢٧١

والعبوديّة ، إلّا أن يرخّص في التّرك ويأذن فيه ، فإذا لا يكون الأمر موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة ، كما هو واضح.

ومن هنا ظهر : أنّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ صيغة الأمر تدلّ على الوجوب وضعا وأنّه يتبادر منها عند استعمالها بلا قرينة (١) ، ممنوع ؛ إذ بناء على ما ذكرناه ، ليس المتبادر من الهيئة إلّا مجرّد البعث والإغراء ، ولا تدلّ إلّا عليه من دون دلالة على الوجوب أو النّدب أو غيرهما.

وبعبارة اخرى : إنّ وزان دلالة الصّيغة على البعث ، وزان دلالة الإشارة عليه ، فكما أنّ الإشارة لم توضع للدّلالة على الوجوب أو النّدب ، كذلك صيغة الأمر.

وكذلك ظهر ـ أيضا ـ أنّ ما عن المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من دعواه :

أوّلا : أنّ صيغة الأمر تدلّ على الوجوب وحتميّة الإرادة انصرافا (٢).

وثانيا ، أنّ الصّيغة تكشف عن حتميّة الإرادة كشفا عقلائيّا ، ممنوع.

أمّا الأوّل ، فوجه منعه (٣) ، أنّ منشأ الانصراف وهي الكثرة الاستعماليّة الموجبة لانس الذّهن ، ليس هنا بموجود ؛ لوجود هذه الكثرة في غير الوجوب ، أيضا.

نعم ، الموجود هنا هو أكمليّة الوجوب بالنّسبة إلى سائر أفراد الطّلب أو البعث ، أو كثرة وجوده في دائرة الشّريعة ، وأنت ترى ، أنّ هذا ليس منشأ للانصراف.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠٣ ، حيث قال : «ولا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة».

(٢) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ١٨٣.

(٣) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ١٨٣.

٢٧٢

وأمّا الثّاني ، فوجه منعه ، أنّ الكاشفيّة لا تكون من الامور الجزافيّة الفاقدة للملاك ، بل لا بدّ لها من ملاك وهو في مثل المقام ليس إلّا كثرة الاستعمال الموجبة لانس الذّهن بالمستعمل فيه ، وقد عرفت : أنّها مفقودة هنا لوجود هذه الكثرة في غير الوجوب ، أيضا.

وكذلك ظهر ـ أيضا ـ أنّ ما عن المحقّق العراقي قدس‌سره من دعوى ظهور هيئة الأمر في الوجوب لأجل مقدّمات الحكمة ، ممنوع ، توضيح ذلك ، أنّه قدس‌سره تعرّض الوجهين لتقريب مقدّمات الحكمة.

الأوّل : ما حاصله ؛ من أنّه لا شبهة في جريان مقدّمات الحكمة في حوزة المفاهيم لاحراز سعتها ، فتجري ـ مثلا ـ في عنوان «العالم» الوارد في خطاب «أكرم العالم» ويحرز بها وجوب إكرام مطلق «العالم» سواء كان عادلا ، أو فاسقا ، أو هاشميّا ، أو غيره ، وأمّا جريانها في حوزة الأفراد والمصاديق ، فهو ـ أيضا ـ بمكان من الإمكان فيحرز بها الشّخص الخاصّ فيما لو اريد بالكلام فردا مشخّصا ، ولم يكن فيه ما يدلّ على ذلك بخصوصه ، كما إذا كان لمفهوم الكلام ، فردان يستدعي بيان احدهما مئونة زائدة من الآخر. فإذا أراد المتكلّم احدهما المعيّن بلا دالّ عليه في كلامه لا مانع من التّمسّك باطلاق الكلام في الحكم بكون مراده هو ما لا يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة ، وهذا مثل صيغة الأمر فإنّ الطّلب أو البعث له فردان : الأوّل : الإرادة الوجوبيّة. الثّاني : الإرادة النّدبيّة.

ولا ريب : أنّ الأوّل يفترق عن الثّاني بالشّدّة ، فيكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك ، بخلاف الثّاني فإنّه يمتاز عن الأوّل بالضّعف فيكون محدودا بحدّ الضّعف الّذي ليس من سنخ المحدود ، بحيث يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة ، فإذا أراد المتكلّم

٢٧٣

أحدهما المعيّن من غير دلالة في كلامه على ذلك ، لا مانع من التّمسّك بإطلاق كلامه في إثبات كون المراد هو الإرادة الوجوبيّة دون النّدبيّة. (١)

الوجه الثّاني : ما حاصله : من أنّ غرض كلّ طالب وآمر ، إنّما هو التّوسّل إلى إيجاد المأمور به المطلوب ، وعليه ، فلا بدّ أن لا يكون أمره وطلبه قاصرا عن ذلك وإلّا وجب عليه البيان ، والطّلب الوجوبي غير قاصر عن افادة هذا الغرض ، بخلاف الطّلب النّدبي الجائز فيه ترك المأمور به ، وعليه ، فلا مانع من حمل إطلاق الأمر على طلب الوجوبي دون النّدبي. (٢)

هذا ، ولكن في كلا الوجهين نظر.

امّا الأوّل : فلوجوه :

منها : أنّ الإطلاق ـ كما قرّر في محلّه ـ معناه رفض القيود وحذفها ، لا ضمّ القيود وجمعها ، فإطلاق الطّلب أو البعث لا يقتضي إلّا إرادة نفس الطّلب بلا قيد من وجوب أو ندب.

وبعبارة اخرى : إنّ اللّفظ لا يحكي إلّا عمّا وضع بإزائه ، وهيئة الأمر إنّما وضعت لنفس الطّلب بلا أيّة خصوصيّة فرديّة وجوبيّة ، أو ندبيّة ، ومصبّ الإطلاق ليس إلّا نفس المعني الموضوع له ، فتنتج مقدّمات الحكمة ، أنّ ما هو المعني الموضوع له يكون تمام المراد للمتكلّم بلا أيّ قيد من القيود ، وليس في وسعها إثبات ما هو خارج عن دائرة الموضوع له ، والمفروض : أنّ الموضوع له هنا نفس الطّلب والبعث ، لا الطّلب الوجوبي.

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ٢١٣ و ٢١٤.

(٢) راجع ، كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ١٩٧.

٢٧٤

اللهمّ إلّا أن يقال : بعدم الفرق بين أصل الطّلب الجامع الّذي يكون مقسما وبين الطّلب الوجوبي الّذي يكون قسما ، وهذا كما ترى ، واضح البطلان ؛ للزوم اتّحاد المقسم والقسم.

ومنها : أنّ الإرادة الضّعيفة النّاقصة وهي الإرادة النّدبيّة ، كما تحتاج إلى بيان زائد ، كذلك الإرادة القويّة الكاملة وهي الإرادة الوجوبيّة ، فإنّها ـ أيضا ـ تحتاج إلى بيان زائد ؛ إذ كلّ منهما قسم من الإرادة ، ولا بدّ في امتياز كلّ قسم عن المقسم من قيد زائد وحدّ مخصوص ، بلا فرق بين قسم وقسم.

ومنها : أنّ الافتراق بين الإرادتين بجعل أنّ ما به الامتياز في الإرادة الوجوبيّة وهو الشّدّة ، عين ما به الاشتراك ، وما به الامتياز في الإرادة النّدبيّة وهو الضّعف ، غير ما به الاشتراك ، إنّما يتمّ إذا كانت الإرادة الضّعيفة مركّبة من إرادة وضعف ، وليست كذلك ، كما أنّ الإرادة القويّة ـ أيضا ـ ليست مركّبة من إرادة وقوّة ، والتفصيل موكول إلى محلّه.

وبالجملة : لا فرق بين الطّلبين (الوجوبي والنّدبي) في أنّ كلّا منهما قسم من الطّلب يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة ، وليس في وسع مقدّمات الحكمة إثبات هذا ، أو ذاك ، بل تنتج نتيجتها كون المراد من هيئة الأمر وكذا مادّته هو نفس الطّلب الجامع فحسب.

أمّا الثّاني : فلأنّ غرض كلّ طالب وإن كان هو التّوسّل إلى إيجاد المأمور به المطلوب ، وهذا أمر مسلّم ، إلّا أنّ هذا المقدار لا يفيد ما ادّعاه قدس‌سره من حمل الأمر المطلق على الطّلب الوجوبي ؛ إذ إيجاد المأمور به الّذي هو غرض الطّالب أعمّ من الإيجاد بنحو الإلزام ؛ لاحتمال كون الغرض هو الإيجاد بنحو الرّجحان بلا إلزام.

٢٧٥

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ صيغة الأمر لا تدلّ إلّا على مجرّد البعث والإغراء بنحو الحتم والوجوب ، لكن لا لأجل الوضع والانصراف ومقدّمات الحكمة وكونها كاشفة عند العقلاء عن الإرادة الحتميّة ، بل لأجل قيام الحجّة للمولى على العبد ، بمجرّد الأمر وعدم صحّة الاعتذار في تركه باحتمال إرادة النّدب.

تذنيب :

قد تستعمل الجملة الخبريّة لا لغرض الحكاية والإحكاء ، بل لأجل البعث والإغراء ، بتقريب : أنّها تستعمل في معناها الخبري ، بدعوى : أنّ المخبر به أمر محقّق الوقوع يوقعه ويحقّقه المخاطب لا محالة ، فتفيد البعث والإغراء بوجه أبلغ وآكد.

وقد عرفت في مبحث المجاز والحقيقة ، أنّ المجاز ليس معناه استعمال الألفاظ في غير ما وضعت له ، بل المستعمل فيه دائما هو نفس الموضوع له ، فهو المراد الاستعمالي إلّا أنّه تارة يكون هو مرادا جدّيّا ـ أيضا ـ فيسمّى هذا الاستعمال حقيقة ، واخرى لا يكون مرادا جدّيّا ، فيسمّى مجازا ، وهذا أيضا ، إمّا بادّعاء كون ما هو المراد الجدّي من مصاديق الموضوع له ، نظير ما في الكلّيات وأسماء الأجناس ، كقوله تعالى (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(١) وكقول الشّاعر :

«قامت تظلّلني ومن عجب

شمس تظلّلني من الشّمس» (٢)

وإمّا بادّعاء كونه عين الموضوع له ونفسه ، نظير ما في الجزئيّات وأعلام الأشخاص كقوله : «رأيت حاتما».

__________________

(١) سورة يوسف (١٢) : الآية ٣١.

(٢) مختصر المعاني : ص ١٦٨.

٢٧٦

وكيف كان ، كما أنّ هيئات الأوامر وصيغها موضوع لحكم العقلاء بوجوب الإطاعة ، إلّا أن يرد ترخيص وإذن في التّرك من ناحية المولى ، كذلك الجملة الخبريّة المشار إليها فهي ـ أيضا ـ موضوع لذلك الحكم العقلائي.

وإن شئت فقل : إنّ الموضوع لحكم العقلاء بوجوب الاتّباع إنّما هو البعث والإغراء ، سواء دلّ عليه اللّفظ أو الإشارة ، وسواء كان اللّفظ أمرا أم كان جملة خبريّة مستعملة لغرض البعث والإغراء.

(المورد الثّالث : التّعبّدي والتّوصّلي)

والكلام فيه يتمّ في ضمن جهتين :

الاولى : أنّه لا ريب في أنّ هذين العنوانين غير موجودين في الكتاب والسّنّة ، بل هما من العناوين الاصطلاحيّة الاصوليّة ، ككثير من العناوين الأخر.

وقد عرّفا بتعاريف مذكورة في المطوّلات ، والعمدة منها : هو أنّ التّعبّدي عبارة عن الوظيفة الّتي شرّعت لأجل التّعبّد ، بالنّسبة إلى الرّب وإظهار العبوديّة إليه.

والتّوصّلي على خلافه ، فليس تشريعه لأجل التّعبّد وإظهار العبوديّة.

والتّحقيق فيه يقتضي أوّلا تقسيم الواجب ، وثانيا بيان كلّ قسم مع الإشارة إلى الغرض المتوقّع منه ، بحيث يظهر منه تعريفه.

فنقول : الواجب إمّا توصّلي أو تقرّبيّ ، والتّوصّلي إمّا ذو عنوان قصديّ ، أو لا ، والتّقرّبيّ إمّا تعبّدي أو غير تعبّديّ.

ولاريب : أنّ هذه التّقسيمات إنّما هو بلحاظ الغرض.

٢٧٧

توضيح ذلك : أنّ الغرض من البعث على أنحاء :

منها : أن يكون الغرض مجرّد تحقّق الشّيء وصرف وجوده بأيّ وجه كان وكيفما اتّفق حصوله ، إراديّا كان أو غيره ، اختياريّا كان أو غيره ، عن علم كان أو عن جهل ، عن عمد كان أو عن سهو ، إلى غير ذلك من الأنحاء ، حتّى ولو لم يقصد عنوانه ، فضلا عن القربة والعبوديّة ، كغسل الثّوب والبدن النّجسين ، وكستر العورة وتحصيل النّظافة ونحوها.

ومنها : أن يكون الغرض مجرّد تحقّقه وصرف وجوده من دون اشتراط قصد القربة ودعوة الامتثال ، لكن يشترط فيه قصد العنوان وصدوره عن علم واختيار وإلّا لم يترتّب عليه الأثر ، نظير البيع والاجارة والنّكاح وردّ السّلام ونحوها من العناوين القصديّة الواجبة أو المندوبة ، وهذان القسمان يسمّيان بالتّوصّلي.

ومنها : أن يكون الغرض تحقّقه على وجه خاصّ ، وهو إتيانه بقصد القربة وداعويّة التّقرّب والزّلفى لدى ربّ العزّة والرّحمة ، مع انطباق عنوان التّعبّد والعبوديّة عليه ، بحيث يكون معنونا بعنوان العبادة ، كالصّلاة والصّوم والحجّ والاعتكاف ونحوها من العبادات ، واجبة كانت ، أو مندوبة ، وهذا القسم يسمّى بالتّعبّدي ، فلا يسقط أمره إلّا بقصد القربة وداعويّة التّقرّب مع أنّه معنون بعنوان العبادة.

ومنها : أن يكون الغرض تحقّقه على وجه خاصّ ـ أيضا ـ إلّا أنّه لا يصدق عليه عنوان التّعبد ، ولا يكون معنونا بعنوان العبادة ، كالخمس والزّكاة ونحوهما من الأعمال القربيّة الّتي لا يحصل الغرض المتوقّع منها ، ولا يسقط الأمر بها إلّا مع إتيانها بقصد القربة ، وهذا القسم وإن كان فعلا قربيّا ، لكن لا يكون من العبادات.

٢٧٨

وعليه ، فالنّسبة بين العمل التّعبدي والعمل القربي ، عموم وخصوص مطلق ، حيث إنّ كلّ عمل عبادي يكون قربيّا ، ولكن بعض العمل القربي ليس بعباديّ ، كما علمت آنفا.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «... ضرورة ، أنّ كلّ فعل قربيّ لا ينطبق عليه عنوان العبوديّة ، ألا ترى ، أنّه لو أطاع أحد والديه أو السّلطان بقصد التّقرب إليهم ، لا تكون اطاعته عبادة لهم ، فستر العورة والاستبراء بقصد الأمر والتّقرب إلى الله ، ليس عبوديّة له بل إطاعة لأمره». (١)

الجهة الثّانية : أنّه هل يمكن أخذ قصد القربة وامتثال الأمر في متعلّقه شرعا أم لا؟

هنا أقوال ثلاثة : الأوّل : امتناع أخذ قصد القربة ذاتيّا ، فيكون التّكليف نفسه محالا.

الثّاني : امتناعه غيريّا ، فنفس التّكليف على هذا وان لم يكن محالا ، إلّا أنّه تكليف بالمحال وغير المقدور.

الثّالث : إمكانه بلا امتناع فيه أصلا ، لا ذاتيّا ولا غيريّا.

أمّا القول الأوّل : فقد استدلّ عليه بوجوه :

أحدها : ما عن بعض من أنّ أخذ قصد الأمر في متعلّقه شطرا أو شرطا ، مستلزم لتقدّم الشّيء على نفسه ، أو تأخّره عنه بمرتبتين. (٢)

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٢٥١.

(٢) راجع ، مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٢٦٠.

٢٧٩

بيان ذلك : أنّ الأحكام الشّرعية المنشأة بالأوامر ، أعراض لمتعلّقاتها ، فتكون متأخّرة عنها تأخّر العرض عن معروضه ، ومن الواضح ـ أيضا ـ أنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر تأخّر القصد عن متعلّقه المقصود ، فيكون متأخّرا عن متعلّق الأمر بمرتبتين ، فلو أخذ في المتعلّق شطرا أو شرطا ، لزم ما اشير إليه من المحذور وهو تقدّم الشّيء على نفسه أو تأخّره عنه بمرتبتين.

والظّاهر ، أنّ هذا هو مراد المحقّق الخراساني قدس‌سره في قوله : «ثانيتها : أنّ التّقرب المعتبر في التّعبّدي إن كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره ، كان ممّا يعتبر في الطّاعة عقلا ، لا ممّا أخذ في نفس العبادة شرعا ؛ وذلك ، لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر بشيء في متعلّق ذاك الأمر مطلقا شرطا أو شطرا». (١)

وفيه : أنّ امثال هذه المقالات في هذه المقامات خلط بين الحقائق الفلسفيّة وبين الاعتباريّات العقلائيّة.

توضيح ذلك : أنّ الأحكام الشّرعيّة ليست لواحق وأعراضا لمتعلّقاتها ؛ وذلك ، لأنّه لو اريد من الحكم هو الإرادة فهي من الصّفات الحقيقيّة للنّفس ذات الإضافة في قبال الصّفات الحقيقيّة المحضة والإضافة المحضة ، فللإرادة إضافتان : إحداهما : إضافتها إلى النّفس ، وثانيتهما : إضافتها إلى الصّور العلميّة للمرادة المسمّاة بالمراد بالذّات ، فليس الحكم بهذا المعنى من عوارض المتعلّق ولوازمه.

وأمّا لو اريد من الحكم ، الوجوب والنّدب وغيرهما ، فهو من الأحكام العقلائيّة والامور الاعتباريّة ، كالملكيّة والزّوجيّة ونحوهما ، فليس له وراء الاعتبار

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠٧ الى ١٠٩.

٢٨٠