مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

واقع وخارج حتّى يكون عرضا قائما بالمتعلّق والموضوع.

وبالجملة : وزان الأحكام الشّرعيّة بهذا المعنى ، وزان الاعتباريّات العقلائيّة من الملكيّة أو الزّوجيّة ونحوهما ، لا وزان الحقائق الفلسفيّة من المقولات العرضيّة التّسعة والأعراض الخارجيّة.

ولو سلّم كون الوجوب وغيره من الاحكام ، أعراضا فليست من الأعراض الخارجيّة قطعا وهي الّتى عروضها والاتّصاف بها في الخارج ، بل هو من الأعراض الذّهنيّة الّتى عروضها والاتّصاف بها في الذّهن ، فالصّلاة ـ مثلا ـ معروضة للوجوب بوجودها الذّهني العلميّ ، لا بوجودها الخارجي العينيّ ؛ اذ الخارج ظرف سقوط الحكم لا ثبوته.

وعليه ، فللحاكم المقنّن أن يتصوّر متعلّق الحكم بجميع أجزاءه وقيوده ، حتّى الأمر الّذي يتعلّق به ويقصد ذلك الأمر ، ثمّ يأمر به ويبعث إليه بأمر لفظيّ أو كتبيّ ، فلا يلزم ـ أيضا ـ محذور تقدّم الشّيء على نفسه وتأخّره عنه ؛ إذ ما هو المأخوذ في صقع المتعلّق المتقدّم هو الأمر العلميّ وصورته الذّهنيّة ، كسائر ما هو المأخوذ فيه شطرا من الرّكوع والسّجود وغيرهما ، أو المأخوذ فيه شرطا من الطّهارة عن الخبث والحدث وغيرهما ، فكما أنّ ما هو متعلّق للأمر بالصّلاة في الأجزاء والشّرائط ليس إلّا صورتهما العلميّة ، لا خارجهما وواقعهما العينيّة ، فكذلك الأمر المأخوذ فيه ، وأمّا المتأخّر اللّاحق ، فهو الأمر العينيّ الجاري على اللّسان ، أو على القلم الّذي يكون مفاده بعثا وإغراء ، وموضوعا لحكم العقلاء بوجوب الإطاعة.

ونتيجة ذلك ، عدم لزوم المحذور المتقدّم من تقدّم الشّيء على نفسه وتأخّره عنه.

٢٨١

ثانيها : ما نقله العلّامة الحائري قدس‌سره حيث قال : «وقد يقرّر ، أنّ القدرة على الموضوع الّذي اعتبر وقوعه بداعي الأمر ، لا يتحقّق إلّا بعد الأمر ، والأمر لا يتعلّق بشيء إلّا بعد تحقّق القدرة ، فتوقّف الأمر على القدرة بالبداهة العقليّة ، وتوقّف القدرة على الأمر بالفرض». (١)

وأجاب قدس‌سره عنه بما حاصله : أنّ القدرة وإن توقّفت على الأمر ـ كما هو واضح غير قابل للإنكار ـ إلّا أنّ الأمر لا يتوقّف على القدرة ، بحيث يقال : بلزوم كونها قبل الأمر رتبة ؛ ضرورة ، أنّه لا مانع عقلا من أن يحكم المولى بشيء حال عجز المكلّف عنه ، ثمّ تحصل له القدرة بنفس ذلك الحكم.

وهذا الجواب متين جدّا.

ثالثها : ما ذكره المحقّق النّائيني قدس‌سره محصّله : أنّ أخذ قصد القربة وامتثال الأمر في متعلّق الأمر ، مستلزم لتقدّم الشّيء على نفسه في جميع مراتب الحكم من الإنشاء والفعليّة والامتثال.

أمّا في مرتبة الإنشاء ، فلانّ المأخوذ في متعلّق التّكليف في القضايا الشّرعيّة الحقيقيّة ، لا بدّ وأن يكون مقدّر الوجود ومفروض الحصول بلا فرق بين أن يكون مقدورا للمكلّف ، أو لا ، وعليه ، فلو أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق نفس ذلك الأمر يستلزم تصوّر الأمر قبل وجود نفسه ، وهذا هو محذور تقدّم الشّيء على نفسه.

وأمّا في مرتبة فعليّة الحكم ، فلأنّ فعليّة الحكم يتوقّف على فعليّة موضوعه ، وهو متعلّقات متعلّق التّكليف ، وحيث إنّ المفروض : أنّ نفسه هو الموضوع لنفسه

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٩٤.

٢٨٢

ومتعلّق متعلّقه ، فيتوقّف فعليّته على فعليّة نفسه ، ولازمه تقدّم فعليّة الحكم على فعليّة نفسه وهذا هو الدّور.

وأمّا في مرتبة الامتثال ، فلأنّ قصد الامتثال متأخّر عن إتيان تمام أجزاء المأمور به وقيوده طبعا ، فإنّ قصده يتحقّق بعد إتيان المأمور به بتمام أجزائه وقيوده ، وواضح ، أنّه إذا فرض كون قصده من جملة الأجزاء والقيود ، فلا بدّ أن يكون المكلّف في مقام امتثاله قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدم الشّيء على نفسه. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ كون الأحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، إنّما يتمّ في الجعل بصيغ الإخبار دون الجعل بصيغ الإنشاء وعلى وجه الخطاب ؛ ضرورة ، أنّ الخطاب يستلزم وجود المخاطب وحضوره واقعا ، ووزانه وزان الإشارة الخارجيّة حيث تستلزم وجود المشار إليه وحضوره خارجا ، فلا يصحّ الخطاب الحقيقيّ بلا حضور المخاطب ، كما لا تصحّ الإشارة الحقيقيّة بلا حضور المشار إليه.

وثانيا : أنّ في كلامه قدس‌سره خلطا بين الموضوع والمتعلّق ، حيث إنّ ما يفرض وجوده في القضايا الحقيقيّة هو الموضوع وأفراده ، لا المتعلّق ، والمبحوث عنه هنا هو المتعلّق لا الموضوع. وعليه ، فما هو المفروض وجوده غير متعلّق الأمر ، وما هو متعلّق الأمر غير المفروض وجوده ، بل لا مجال له ؛ لكون الوجود ظرف سقوط الخطاب والأمر ، فلا معنى للأمر بشيء حال حصوله ووجوده ؛ لأنّه تحصيل للحاصل وبعث إلى إيجاد ما هو موجود.

وثالثا : أنّ محذور تقدّم الشّيء على نفسه ، إنّما يلزم لو كان الشّيء موجودا قبل

__________________

(١) راجع ، اجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٠٧ و ١٠٨.

٢٨٣

وجوده ، لا مع فرض وجوده قبل نفسه ، فبمجرّد فرض وجود الأمر قبل نفسه لا يلزم تقدّمه على نفسه ، وهذا واضح جدّا ؛ ضرورة ، أنّ فرض وجود الأمر قبل نفسه غير وجوده واقعا قبله.

وبالجملة : قد عرفت : أنّ المتقدّم هو وجود الأمر المفروض وهو وجوده العلميّ الذّهني ، والمتأخّر هو وجود الأمر المتحقّق في الخارج وهو وجوده الإنشائيّ الاعتباري ، وهذا ككثير من القيود الاختياريّة وغيرها الدّخيلة في المتعلّق المفروض وجودها ، وتحقّقها في محالّها بلا لزوم محذور اصلا.

رابعها : ما عن السّيّد البروجردي قدس‌سره : من أنّ أخذ قصد القربة والأمر في المتعلّق شرعا ، مستلزم لاجتماع اللّحاظين (الاستقلالي والآلي). (١)

توضيحه : أنّ الأمر لكونه مأخوذا في المتعلّق بأخذ قصده فيه ، ملحوظ استقلالا ؛ حيث يلحظ المتعلّق كذلك بجميع حدوده وقيوده وبتمام أجزاءه وشروطه ، ومن القيود قصد الأمر ، فيلحظ بتمامه من المضاف والمضاف إليه مستقلا ، ولكونه آلة للبعث إلى المطلوب ووسيلة للإغراء إليه ملحوظ آليّا ، فيجتمع في الأمر لحاظان متنافيان.

وفيه : أنّ اللّحاظين لا يجتمعان في وقت واحد وزمان فارد ، بل هما في زمانين فيتصوّر الأمر في حوزة الموضوع وصقع المتعلّق حين تصوّره بجميع أجزاءه وشرائطه ، تصوّرا ولحاظا استقلاليّا ، ثمّ بعد ذلك ، يلحظ في مرحلة الإنشاء والتّقنين وجعل الحكم والبعث إلى المطلوب والإغراء إليه ، لحاظا آليّا ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ٩٩.

٢٨٤

خامسها : ما عن المحقّق العراقي قدس‌سره : من أنّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق مستلزم للتّهافت والتّناقض في اللّحاظ والتّصوّر.

بتقريب : أنّ موضوع الحكم ومتعلّقه متقدّم عليه في مقام اللّحاظ والتّصوّر.

ومن الواضح : أنّ قصد الأمر وامتثاله متأخّر عن الأمر بحسب اللّحاظ والتّصوّر ، كتأخّره عنه بحسب الوجود والتّحقّق ، فيكون قصد الأمر متأخّرا عن المتعلّق والموضوع برتبتين ؛ ضرورة ، أنّ المتأخّر عن المتأخّر عن الشّيء ، متأخّر عن ذلك الشّيء.

وعليه : فإذا اخذ قصد الأمر في متعلّقه شطرا أو شرطا ، لزم أن يكون متقدّما ومتأخّرا في اللّحاظ.

أمّا تقدّمه ، فلكونه مأخوذا في المتعلّق المتقدّم لحاظا ، وأمّا تأخّره ، فلكون قصد الأمر متأخّرا عن الأمر لحاظا ، والأمر متأخّر عن متعلّقه كذلك ، فقصده متأخّر عن المتعلّق كذلك ؛ ضرورة ، أن المتأخّر عن المتأخّر عن الشّيء لحاظا ، متأخّر عن ذلك الشّيء كذلك ، وهذا المعنى سنخ معنى غير معقول في نفسه وجدانا ، إمّا للخلف ، أو لغيره من المحاذير. (١)

والجواب عنه كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره هو أنّ اللّحاظ بما هو لحاظ يكون معنى حرفيّا ، فلا حكم له ولا يصلح لأن يترتّب عليه شيء من التّهافت والتّناقض ، بل هذا ونحوه إنّما هو من أحكام الملحوظ وآثاره ، فيرجع الإشكال إلى ما تقدّم من الوجوه ، وقد عرفت : ما فيها من الخلل والضّعف. (٢)

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٢٩ الى ٢٣١.

(٢) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٢٨٥

فتحصّل من مجموع ما ذكرنا : أنّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق ، ليس بممتنع ذاتا ، لا من ناحية تقدّم الشّيء على نفسه ، ولا من قبل الدّور ، ولا من ناحية تقدّم الشّيء على نفسه في مرتبة الإنشاء والفعلية والامتثال.

هذا تمام الكلام في القول بالامتناع الذّاتي.

القول الثّاني : (امتناعه غيريّا) قد استدلّ عليه : بأنّ الأمر والتّكليف بالمتعلّق الّذي اخذ فيه قصد أمره شطرا أو شرطا ، محال ؛ لاستحالة امتثاله.

توضيحه على ما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره : هو أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، والمفروض : أنّه هنا هو المقيّد بقصد الأمر ، وذلك كالصّلاة ، فإنّ نفسها حسب الفرض لا تكون مأمورا بها كي يقصد المأمور امتثال أمرها ، بل المأمور به هو الصّلاة مقيّدة بقصد الأمر ، ومن المعلوم ، أنّ الدّعوة إلى امتثال المقيّد محال ؛ للزوم داعويّة الأمر إلى داعويّة نفسه ومحرّكيّته إلى محرّكيّة نفسه ، وهذا تقدّم الشّيء على نفسه برتبتين ، وعليّة الشّيء لعليّة نفسه. (١)

هذا ، ولكن الجواب عن هذا الاستدلال يظهر بتوضيح أمرين :

أحدهما : قد ذكر غير مرّة ، أنّ المتعلّق للحكم هو نفس الطّبيعة ، والكلّيّ الطّبيعي المحقّق في الذّهن ، لا بمعنى البشرطشيء وهو بشرط وجود الذّهني ، حتّى يقال : بامتناع الامتثال على هذا الفرض ، بل المراد نفس الطّبيعة القابلة للانطباق على كثيرين.

وإن شئت فقل : إنّ المتعلّق أمر ذهني يكون الأمر به بعثا إلى ايجاده خارجا ،

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠٩.

٢٨٦

وإغراء إلى تحصيله عينا.

وأمّا وجوده الخارجي ، فليس مأمورا به بل مصداق له ؛ لكون الخارج ظرفا لسقوط الأمر لا ثبوته ، وهذا نظير ما ورد في الشّرع من هيئة «صلّ» و «أقم الصّلاة» ونحوهما ، فإنّ المتعلّق فيها هو طبيعة الصّلاة المتصوّرة مع قصد أمرها ، والأمر أمر بها ، والبعث والإغراء بعث وإغراء إليها.

ثانيهما : أنّ الأمر ليس في وسعه التّحريك الحقيقي التّكويني ، بل هو من المحرّكات الإنشائيّة الاعتباريّة ، ولا شأن له ، إلّا كونه موضوعا للامتثال ، وأمّا المحرّك الحقيقي إلى الامتثال ، فليس إلّا المبادي النّفسانيّة ، كما مرّت الإشارة إليه.

ومن الواضح : أنّ المحرّكيّة الاعتباريّة المتوجّهة إلى المتعلّق ، لا تستلزم محذور تقدّم الشّيء على نفسه ؛ لكونها لا تحتاج إلى أكثر من تصوّر الطّرفين.

وعليه ، فلو اريد من الأمر هو الأمر الإنشائي الإيقاعي ، فقد علمت أنّه لا يحتاج إلى أزيد من تصوّر الطّرفين ، مضافا إلى أنّه لا مانع إلى الإيقاع كذلك ، وأمّا لو اريد من الأمر هو أنّه محرّك تكوينا إلى محرّكيّة نفسه ، فقد علمت ـ أيضا ـ أنّه ليس في وسع الأمر ، التّحريك التّكويني ؛ حيث إنّه لا شأن له ، إلّا كونه موضوعا للامتثال.

فتحصّل : أنّ الحقّ هو إمكان أخذ قصد الأمر والقربة في المتعلّق ، ولا يلزم منه أيّ محذور من امتناع ذاتي أو غيري ، وهذا هو القول الثّالث.

ثمّ إنّه لو فرض الامتناع ، فهل يمكن أخذ قصد الأمر في المتعلّق بمعونة الأمر الثّاني ، أم لا؟ فيه وجهان ، بل قولان : والحقّ هو الأوّل ، كما ذهب إليه المحقّق النّائيني قدس‌سره ، فقال ما محصّله : إنّ المفروض : ترتّب غرض المولى على إتيان الصّلاة ـ مثلا ـ بداعي القربة ، والمفروض ـ أيضا ـ عدم التّمكن من استيفاء ذلك الغرض إلّا بأمرين :

٢٨٧

أحدهما : بنفس الصّلاة ، والآخر : بالإتيان بها بقصد القربة ، فلا يجوز له الاكتفاء بأمر واحد وايكال قصد القربة إلى العقل ؛ إذ العقل لا شأن له ، إلّا إدراك الواقع على ما هو عليه ، وإدراك أنّ هذا الشّيء ممّا جعله الشّارع شطرا أو شرطا ، أو لم يجعله ، من دون أن يكون له الجعل والتّشريع في قبال الشّارع ، وعليه : فكلّ ما تعلّق به غرض المولى فاعتباره شطرا أو شرطا ، لا بدّ أن يكون من قبله ولو بتعدّد الأمر.

والفرق بين قصد القربة وبين الأجزاء والشّرائط الأخر ، إنّما يكون في هذا الأمر ؛ حيث إنّ قصد القربة يحتاج إلى الأمر الثّاني دونهما ، وقد سمي هذا الأمر ب «متمم الجعل» قبال الأمر المتكفّل لأصل جعل الوجوب ، وهذان الأمران بمنزلة الواحد.

ونتيجة هذا المسلك ، إهمال أمر الأوّل وعدم تقييده ولا إطلاقه. وعليه : فإن دلّ دليل ـ كالأمر الثّاني ـ على اعتبار قصد القربة ، كانت النّتيجة ، هو التّقييد.

وإن دلّ على عدم اعتباره ، كانت النّتيجة هو الإطلاق ، ولا فرق في ذلك ، بين متعلق الحكم وموضوعه. (١)

ولكن أورد عليه بعض الأعاظم قدس‌سره أوّلا : بأنّ الإهمال في الواقع غير معقول ؛ لرجوعه إلى عدم علم الحاكم المحيط بحكمه وبحدود موضوعه ، أو متعلّقه من حيث السّعة والضّيق ، فلا بدّ أن يكون الحكم المجعول إمّا مطلقا أو مقيّدا ، ولا ثالث في البين.

وثانيا : بأنّه لو سلّمنا أنّ امتناع التّقييد يستلزم امتناع الإطلاق ، فلا محيص

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ١٨٦ و ١٨٧ ؛ وفوائد الاصول : ج ١ ، ص ١٦١ و ١٦٢ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١١٦.

٢٨٨

من الالتزام بمقالته قدس‌سره وأنّ الحكم بالجعل الأوّل مهمل ، فلا بدّ من نتيجة التّقييد أو نتيجة الإطلاق. (١)

وفيه : أنّ مراد المحقّق النّائيني قدس‌سره من الإهمال ، هو الإهمال في مقام الإثبات ، وهذا أمر ممكن معقول ؛ وأمّا الإهمال الثّبوتي ، فعدم معقوليّته أوضح من أن يخفى على مثل المحقّق النّائيني قدس‌سره ، بل هو مصرّح بعدم إمكان الإهمال الثّبوتي في بعض مباحثه الاصوليّة ، فراجع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره قد أشكل على امكان أخذ قصد الأمر بالأمر الثّاني ، أوّلا : بأنّه نقطع بوحدة الأمر في العبادات ، كما في غيرها من الواجبات والمندوبات ، فليس فيها أمران ، أحدهما : المتعلّق بذات الفعل ، ثانيهما : المتعلّق بإتيانه بداعي أمره وهو المسمّى بمتمّم الجعل ، وثانيا : بأنّه لا مجال للأمر الثّاني مع سقوط الأمر الأوّل بمجرد موافقته بلا قصد القربة والامتثال ، فيكون لغوا وبلا طائل.

وأمّا مع عدم سقوط الأمر الأوّل في الفرض ، فلا يكون ذلك ، إلّا لعدم حصول غرض الأمر لدوران الأمر مداره وجودا وعدما ، ثبوتا وسقوطا.

وعليه : فلا حاجة في الوصول إلى تمام غرضه وكمال مقصوده إلى التّوسّل بتعدّد الأمر ؛ لاستقلال العقل بلزوم الموافقة على نحو يحصل به غرضه ، وهو لا يتأتّى إلّا اذا أتى العمل بقصد القربة. (٢)

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الإشكال مبتن على كون الأمرين عرضيين ، يختصّ بكلّ

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ١٨٨.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١١ و ١١٢.

٢٨٩

منهما ملاك واحد مستقلّ ، بخلاف ما إذا كان الأمران طوليين وأنّهما بمنزلة أمر واحد لوحدة الملاك والغرض الّذي لا يمكن استيفاؤه بأمر واحد ، كما هو المفروض في القول الأوّل.

وبعبارة اخرى : أنّا نختار الشّقّ الثّاني من كلامه قدس‌سره ونقول : لا يسقط الأمر الأوّل بمجرد موافقته بلا قصد الامتثال ، بل لا بدّ من إتيانه بداعي هذا القصد ، ولكن حيث إنّ اعتبار هذا القصد في المتعلّق غير ممكن بالأمر الأوّل ، كما اعترف به قدس‌سره فلا بدّ من وجود دليل منفصل آخر يدلّ على إتيانه بذلك الدّاعي ، فإذا لا يصير الأمر الثّاني لغوا وهو المطلوب.

وبعبارة ثالثة : أنّ أمر المولى ثانيا بإتيان الفعل بقصد الأمر كاشف عن كون الغرض خاصّا ، لا يحصل إلّا بالإتيان كذلك ، وهذه هي نتيجة التّقييد ، كما أنّ عدم الأمر الثّانيّ كاشف عن حصوله بلا قصد دعوة الأمر الأوّل ، وهذه هي نتيجة الإطلاق.

وثانيا : أنّ الإشكال المذكور راجع إلى مقام الإثبات ، مع أنّ المقصود هو جواز أخذ قصد الأمر وإمكانه في المتعلّق بالأمر الثّاني حسب مقام الثّبوت.

وثالثا : أنّ الالتزام بكون العقل مستقلا بلزوم تحصيل الغرض قضاء لتحصيل الفراغ اليقيني عمّا اشتغلت الذّمة به يقينا من غير حاجة إلى الأمر الثّاني ، ممنوع ؛ إذ اليقين باشتغال الذّمة بالنّسبة إلى قصد الأمر والقربة ، غير معلوم ، وأنّ المورد من موارد جريان البراءة العقليّة والنّقليّة ، لا الاشتغال والاحتياط ، كما سيأتي في مبحث تحرير الأصل ، وعليه ، فلا ملزم في البين لتحصيل الفراغ اليقيني.

٢٩٠

وإن شئت فقل : إن دعوى استقلال العقل بإتيان العمل على وجه القربة تحصيلا للفراغ اليقيني ، بلا حاجة إلى الأمر المولوي ، إنّما تصحّ لو كان الاشتغال أمرا ضروريّا مسلّما عند الكلّ ، مع أنّه في المورد ليس كذلك ؛ ولذا اختلفت فيه الآراء ، فذهب بعض إلى الاشتغال ، وبعض آخر إلى البراءة وهو الحقّ ، كما سيجيء تحقيقه. هذا تمام الكلام في المورد الثّالث.

(المورد الرّابع : دوران الواجب بين التّعبّدي والتّوصّلي)

إذا شكّ في مورد أنّه يعتبر فيه قصد الأمر أو لا ، فهل يمكن التّعيين بالأصل أم لا؟ فالكلام هنا يقع تارة في مقتضى الأصل اللّفظي ، واخرى في مقتضى الأصل العملي.

أمّا الأصل اللّفظي ، فلا ريب في أنّ مقتضاه هو التّوصّليّة وعدم اعتبار القصد. بتقريب : أنّ التّعبّديّة ممّا يحتاج إلى بيان ومئونة زائدة ؛ وحيث إنّ المولى ـ مع كونه في مقام بيان قيد المأمور به وخصوصيّته ـ أطلق ولم يبيّن القيد ، يؤخذ بإطلاق كلامه ويحكم بالتّوصّليّة وعدم لزوم قصد القربة في تحقّق الامتثال.

هذا ، ولكن ذهب جماعة (١) إلى أنّ قضيّة الأصل اللّفظي هي التّعبّديّة ، واستدلّوا له بوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الدّاعي في نفس المكلّف ؛ بحيث يدعوه ويبعثه إلى إتيان المأمور به ، فإن أتى به بدعوة أمره وباعثيّة طلبه ، حصل الغرض

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ١٨٨ و ١٨٩.

٢٩١

المتوقّع منه ، فيسقط التّكليف والأمر ؛ إذ هو يدور مدار الغرض وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، وان لم يأت به كذلك ، فلا.

وعليه : فالعقل يقضي بلزوم إتيان المأمور به بدعوة أمره حتّى يحصل الغرض المتوقّع من ذلك الأمر ، ونتيجة ذلك ، كون الأصل في الواجب هي التّعبّديّة ما لم يكن هناك دليل لبّي أو لفظيّ متّصل أو منفصل على خلافها. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ إيجاد المأمور به ليس غرضا من الأمر ، إذ الغرض في كلّ مورد لا بدّ أن يترتّب عليه بلا اختلاف ولا تخلّف ، والمأمور به قد يوجد بعد الأمر وقد لا يوجد ، فكيف يكون إيجاده غرضا من الأمر.

وبعبارة اخرى : أنّ الغرض المترتّب على الأمر ، ليس هو المحركيّة والدّاعويّة إلى المأمور به وإيجاده ، بل هو إمكان محركيّته وداعويّته نحو المأمور به على تقدير الوصول إلى المكلّف وعلمه به ، وهذا الغرض وإن لا يختلف ولا يتخلّف عن طبيعي الأمر ، إلّا أنّه غرض تعلّق بفعل المولى وهو أمره المولوي ، فلا يجب على العبد المكلّف ، إلّا إتيان ما امر به بتمامه وأسره ، لا الجري على وفق هذا الغرض والحركة بقصد الأمر وبداعويّته.

وثانيا : أنّ مقتضى هذا الوجه دوران التّعبّديّة ، مدار قصد الأمر ، كما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس‌سره (٢) والتّحقيق خلافه ، على ما سيجيء في مبحث التّرتّب.

الوجه الثّاني : أنّه قد وردت عدّة من الرّوايات الدّالّة على وجوب إتيان كلّ عمل أمر به ، بقصد الأمر وداعي القربة :

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ١٨٩.

(٢) راجع ، جواهر الكلام : ج ٩ ، ص ١٥٥ و ١٥٧ و ١٦١.

٢٩٢

منها : ما رواه أبو حمزة الثّمالي عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : «ولا عمل إلّا بنيّة». (١)

ومنها : ما عن الشّيخ الطّوسي قدس‌سره قال : روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الأعمال بالنّيات». (٢)

ومنها : ما عن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث ، قال : «إنّما الأعمال بالنّيات ولكلّ امرئ ما نوى». (٣)

تقريب الاستدلال بها : هو أنّ مقتضى هذه الرّوايات ، أنّ العمل الخالي عن نيّة القربة لا يكون عملا ذا أثر إلّا إذا دلّ دليل على ترتيب الأثر عليه مطلقا ولو لم تقصد القربة ، وعليه ، فالأصل في الأوامر يقتضي التّعبّديّة لا التّوصّليّة.

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ ليس المراد من هذه الرّوايات اعتبار قصد الأمر ونيّة القربة في الإتيان بالواجبات الشّرعيّة ، بل المراد أنّ آثار الأعمال المتوقّع منها وأغراضها المترتّبة عليها ، لا تترتّب عليها إلّا مع وجود نيّات حسنة وقصود طيّبة.

ويشهد له ما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : «والنّية أفضل من العمل ، ألا وإنّ النّية هي العمل ، ثمّ تلا ، قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) يعني : على نيّته». (٤)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ و ٣ ، ص ٣٣.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦ ، ص ٣٤.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ ، ص ٣٤ و ٣٥.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٥ ، ص ٣٦.

٢٩٣

فإنّ الحكم فيها بأفضليّة النّية على العمل ، بل الحكم بالهوهويّة والاتّحاد بينهما أقوى شاهد على عظم شأن النّية ، وأنّ وزانها وزان الرّوح ، ووزان العمل وزان الجسد ، فإذا أتى بعمل وقصد به وجه الله والتّقرب إليه ، تترتّب عليه أمثال هذه المقاصد الإلهيّة ، وإلّا فلو قصد به أغراضا نفسانيّا وغاية دنيويّة ، تترتّب عليه هذه الآثار ، كما دلّ عليه قول تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ...)(١).

فتحصّل : أنّه لا يستفاد من الرّوايات المتقدّمة ، فساد العمل وعدم سقوط التّكليف والأمر ، إلّا بإتيانه مع قصد الأمر والتّقرّب إلى الله تعالى ، كي يقال : بدلالتها على التّعبّديّة في الواجبات ، بل إنّما هي ناظرة إلى أنّ ما يترتّب على العمل من أجر دنيويّ أو اخرويّ يدور مدار النّيّة ، وأنّ للعامل ما قصد ونواه.

هذا ، مضافا إلى أنّها لو دلّت على اعتبار قصد الأمر والقربة في كلّ واجب ، لزم تخصيص الأكثر المستهجن ؛ لكون أكثر الواجبات من قبيل التّوصّليّات الّتي لا يعتبر فيها قصد الأمر ونيّة القربة.

الوجه الثّالث : أنّه يكفي في الحكم بتعبّديّة الأمر ، قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...). (٢)

وفيه : أنّ الآية وردت في سياق قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) وعليه ، فغاية ما يستفاد منها أنّها كانت بصدد تخطئة الكفرة العبدة للأوثان والأصنام و

__________________

(١) سورة آل عمران (٣) : الآية ١٤٥.

(٢) سورة البيّنة (٩٨) : الآية ٥.

٢٩٤

حصر العبادة بعبادة الله ، وأنّه لا معبود سواه ، لا أنّها في مقام بيان أنّ الأصل في الواجبات هي التّعبّديّة ، إلّا ما خرج بالأدلّة.

أضف إلى ذلك ما تقدّم : من أنّ الآية لو كانت بصدد بيان كون الأصل في الواجبات هي التّعبّديّة ، لزم منها تخصيص الأكثر المستهجن.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى الإطلاق اللّفظي هو التّوصّليّة لا التّعبّديّة.

وقد يتمسّك لإثبات التّوصّليّة ـ أيضا ـ بالإطلاق المقامي ، قبال الإطلاق اللّفظي ؛ بالتّقريب الّذي أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال : «نعم ، إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره ومعه سكت في المقام ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله ، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلّا لكان سكوته نقضا له وخلاف الحكمة ، فلا بدّ عند الشّكّ وعدم إحراز هذا المقام من الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقلّ به العقل». (١)

ولا يخفى : أنّه لا فرق بين الإطلاق المقامي والإطلاق اللّفظي من جهة أنّ كلّ واحد منهما دليل اجتهاديّ حاكم على الاصول العمليّة ، وإنّما يفرق بينهما من جهة اخرى وهو أنّه يعتبر في الإطلاق المقامي أن يكون الآمر في مقام بيان كلّ ما له دخل في غرضه ، ولا يكون متمكنا من أخذ قيد في الخطاب ومتعلّق الأمر ، ولكن يكون متمكّنا للإخبار به إلّا أنّه سكت عنه ولا يخبر به ، فيستكشف منه عدم دخله في حصول غرضه وإلّا لكان سكوته نقضا لغرضه وخلاف الحكمة ، وهذا بخلاف

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٣.

٢٩٥

الإطلاق اللّفظي ، فإنّه يعتبر فيه أن يكون الأمر في مقام بيان كلّ ما له دخل في متعلّق الأمر ويكون متمكّنا من أخذ القيد في الخطاب بنفس الأمر أو بأمر آخر أو بطريق الإخبار ، إلّا أنّه لم يأخذه فيه وسكت عنه فيستكشف من ذلك عدم دخله في المتعلّق لا شطرا ولا شرطا ، وإلّا لكان سكوته مخلّا لغرضه وخلافا للحكمة.

هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل اللّفظي.

وأمّا مقتضى الأصل العملي ، فبناء على مسلك التّحقيق من إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ـ سواء كان بنفس الأمر الأوّل أم بالأمر الثّاني كما هو المختار ـ كان حال هذا القيد حال سائر الأجزاء والقيود ، فإذا شكّ في اعتباره في متعلّقه كان المرجع هي البراءة ؛ لاندراج المقام في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطييّن ، وقد حقّق في تلك المسأله ، أنّ المرجع عند الشّكّ في اعتبار شيء في المأمور به ، شطرا أو شرطا ، هو البراءة.

وعليه : فمقتضى هذا الأصل العملي هو مقتضى الأصل اللّفظي في أنّ الواجب يكون توصّليّا.

وأمّا بناء على مسلك المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ومن تبعه ، من عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ، فالمرجع هو الاشتغال ؛ وذلك ، لاحتمال دخله في حصول غرض المولى ، فيستقلّ العقل بوجوب الموافقة على وجه يقطع بحصول غرضه بأن يأتي بالواجب بقصد القربة ؛ ولأجل ذلك التزم قدس‌سره بعدم جريان أصالة البراءة العقليّة في المقام ، كما أنّه قدس‌سره التزم ـ أيضا ـ لعدم جريانها في مسألة دوران الأمر بين

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٣.

٢٩٦

الأقلّ والأكثر الارتباطييّن ؛ وذلك ، لأنّ المكلّف إذا شكّ في اعتبار شيء في العبادة يحصل له علمان إجماليّان : أحدهما : متعلّق بالتّكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، وهذا العلم ينحلّ إلى علم تفصيليّ بالأقلّ ، وشكّ بدويّ في الأكثر ، فيرتفع وجوده بالبراءة.

ثانيهما : متعلّق بالغرض المردّد بين ترتّبه على الأقلّ وترتّبه على الأكثر ، وهذا لا ينحلّ ، بل العقل يستقلّ بوجوب تحصيل الغرض عند الشّكّ في حصوله ويحكم بالاحتياط ، ولا مجال لجريان البراءة العقليّة. هذا بالنّسبة إلى أصالة البراءة العقليّة.

وأمّا أصالة البراءة النّقليّة ، فقد فرّق قدس‌سره فيها بين المقام ، فقال : بعدم جريانها فيه ، وبين تلك المسألة ، فقال : بجريانها فيها.

وقد أفاد قدس‌سره في وجه ، ما حاصله : أنّ البراءة النّقليّة إنّما تجري فيما يكون رفعه ووضعه بيد الشّرع الأنور ؛ وحيث إنّ قصد القربة حسب اعتقاده قدس‌سره ـ على ما عرفت آنفا ـ غير قابل للوضع شرعا ، فلا يكون قابلا للرّفع كذلك ، ومعه لا مجال للبراءة الشّرعيّة في المقام ، بخلاف الأجزاء والشّرائط ، فإنّهما قابلتان للجعل ، كما هو الواضح ، فيقبلان الرّفع ، ومعه لا مانع من جريان البراءة الشّرعيّة في تلك المسألة. (١)

هذا ، ولكنّ التّحقيق هو عدم تماميّة ما ذكره قدس‌سره من أمرين (عدم جريان البراءة العقليّة مطلقا ، والتّفصيل بين المقام ومسألة الأقلّ والأكثر في جريان البراءة النّقليّة).

أمّا الأوّل : فلما عرفت : من إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ، وأنّ حاله حال سائر الشّرائط والأجزاء ، وعلى تقدير الامتناع ـ أيضا ـ يمكن بيان دخله

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٤.

٢٩٧

بالأمر الثّانيّ ، أو بالإخبار ، ومعه لا مانع من جريان البراءة العقليّة ، بل الشّرعيّة في المقام ، نظير مسألة الدّوران بين الأقلّ والأكثر ، بل على هذا يكون المقام من صغريات تلك المسألة.

أمّا الثّاني : فلما حقّق في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، من أنّ العقل لو حكم فيها بالاحتياط ولزوم الإتيان بالأكثر لتحصيل الغرض قطعا ، فهو مانع عن جريان البراءة الشّرعيّة ؛ ضرورة ، أنّه لا فائدة حينئذ للبراءة عن الأكثر ، إلّا إذا ثبت بها ترتّب الغرض على الأقلّ وحصوله به ، وهذا ممنوع ؛ إذ وجوب الأقلّ وترتّب الغرض عليه ، إنّما هو من لوازم نفي الوجوب عن الأكثر عقلا ، ولا يمكن الالتزام به إلّا على القول بالأصل المثبت.

ونتيجة ذلك كلّه هو أنّه لا وجه للافتراق بين البراءتين ، فإمّا تجريان في المقام وفي مسألة الأقلّ والأكثر معا ، كما هو الحقّ وإمّا لا تجريان.

ثمّ أنّه يمكن أن يجاب عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ سوى الوجه المتقدّم الراجع إلى المبنى ـ بوجه آخر ، راجع إلى البناء وهو أنّه لو سلّم عدم إمكان أخذ قصد القربة ، فمعه ـ أيضا ـ تجري البراءة في المقام وهي البراءة العقليّة ؛ وذلك ، لأنّه لا يجب علينا بحكم العقل ، إلّا تحصيل الغرض الواصل إلينا بحجّة معتبرة ، لا تحصيله مطلقا ، ولا ريب ، أنّ المقدار الواصل الّذي قامت عليه الحجّة هو الغرض المترتّب على الأقلّ فقط دون الزّائد.

وإن شئت ، فقل : إنّ الغرض لا يزيد على أصل التّكليف الّذي لا تجب موافقته ولا تحرم مخالفته ، إلّا أن يتنجّز وتقوم عليه الحجّة ، وعليه ، فلا يحكم العقل بوجوب تحصيل الغرض ما لم يصل ولم تقم عليه الحجّة.

٢٩٨

أو فقل : إنّ العقل إنّما يحكم بلزوم تحصيل الغرض إذا أدرك استحقاق العقاب على ترك تحصيله ، ومن المعلوم ، أنّ هذا الحكم والإدراك لا يكون إلّا في موارد قيام الحجّة والبيان ، وإلّا لكان العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

ونتيجة ذلك كلّه ، أنّه لا مانع من إجراء البراءة العقليّة والنّقلية في موارد الشّكّ في الغرض وعدم قيام الحجّة عليه ، كما لا مانع منه في موارد الشّكّ في التّكليف.

إن قلت : إنّ مقتضى ارتباطيّة الأقلّ والأكثر في المركّبات الاعتباريّة ، كالصّلاة ، عدم إمكان التّفكيك بين الأجزاء حسب الحكم ثبوتا وسقوطا ، وعليه ، فلا يعقل وجوب بعض الأجزاء دون بعض ، ولا عدم وجوب بعض دون بعض ، بل لا بدّ من وجوب الكلّ أو عدم وجوبه ؛ وذلك ، لكون التّكليف المتعلّق به واحدا ، ولذا كان ارتباطيا.

قلت : هذا إنّما يتمّ حسب الواقع ومقام الثّبوت ، وأمّا حسب مقام الإثبات ومرحلة التّنجيز المتفرّع على وصول التّكليف وانكشافه بالحجّة الكاشفة ، فلا محذور في التّكليف المشار إليه ، والمفروض ، أنّ في مثل المقام تنجّز التّكليف بالنّسبة إلى عدّة من الأجزاء ، لأجل وصوله إلينا ، وأمّا بالنّسبة إلى غيرها ، فلم تتنجّز لعدم وصوله إلينا ، فلا مؤاخذة ولا عقاب على تركه ولو كان من الأجزاء في الواقع ؛ وذلك ، لانّ المؤاخذة على تركه حينئذ يكون بلا برهان والعقاب عليه يكون بلا بيان.

ثمّ إنّه قد يقرّب الاشتغال في المقام ، بما محصّله : إنّ الشّكّ تارة يكون في نفس المأمور به شطرا أو شرطا ، فتجرى فيه البراءة ، واخرى في المحصّل له ، فيجري فيه الاشتغال ، والمقام من هذا القبيل ، نظير باب الأمر بالطّهارات الثّلاث ، بناء على كون الوضوء ـ مثلا ـ هي الطّهارة الحاصلة من الغسلات والمسحات لانفسهما ، فكما أنّ في

٢٩٩

هذا المورد ليس مطلوب المولى وغرضه التّام ، إلّا أمرا يولّد ويحصّل بأسباب معيّنة وامتثال أمره تحصيلا يقينيّا وامتثالا قطعيّا بإتيان كلّ ما يحتمل دخله فيه ، كذلك المقام ، فالأصل فيه هو الاشتغال ، لا البراءة. (١)

ولكن أورد عليه المحقّق النّائيني قدس‌سره : بأنّ الأسباب المحصّلة ، إمّا أفعال توليديّة وعلل تامّة مؤثّرة في المحصّلات والمسبّبات بلا توسيط شيء آخر إلّا إرادة العبد المكلّف واختياره ، وإمّا علل وأفعال إعداديّة ، لا تؤثّر ولا تصير عللا تامّة إلّا بتوسيط فعل وإرادة غير العبد المكلّف المباشر ، ففي الاولى ، كان حكم العقل هو الاشتغال والاحتياط ، كالإحراق بالإلقاء في النّار ، حيث إنّ الإلقاء فعل توليديّ مؤثّر بتوسيط إرادة الفاعل المباشر الملقي ، ولذا كان الأمر بالإلقاء في النّار أمرا بالإحراق وبالعكس ، وعليه ، فمقتضى الأصل في مثل هذا المورد هو الاشتغال ، وفي الثّانية ، لا يجب تحصيل الغرض والمسبّب ، لخروجه عن حوزة اختيار المكلّف وحيطة إرادته ففي مثل الصّلاة ـ مثلا ـ ليست الأجزاء والشّرائط المعيّنة إلّا عللا معدّة بالنّسبة إلى الملاك والغرض القائم بها ؛ وذلك لتوقّف حصوله على تقبّل من الله تعالى ، وعليه ، فلا يجب الاحتياط ولا يجري الاشتغال بإتيان كلّ ما يحتمل دخله في الغرض والملاك ، بل المكلّف مأمور بإتيان الأسباب والعلل المعدّة بمقدار ما قامت عليه الحجّة ، وأمّا الزّائد المشكوك دخله شطرا أو شرطا ، فتجري فيه البراءة العقليّة والنّقليّة. (٢)

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١١٨ و ١١٩.

(٢) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١١٩ الى ١٢١.

٣٠٠