مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

والتّيمّم ، إلّا أنّ دليل الوضوء حيث كان مطلقا بالنّسبة إلى وجدان الماء وفقدانه ، يقدّم على دليل التّيمّم الّذي كان الموضوع فيه مقيّدا بعدم وجدانه ، فيكون هادما لموضوعه.

هذا كلّه في الوجه الأوّل من وجهي التّقريب في دلالة رواية التّيمّم على الإجزاء.

أمّا الوجه الثّاني : فحاصله : أنّ رواية التّيمّم ، كما أنّها تدلّ بالدّلالة المطابقيّة على الوفاء بتمام المصلحة ، كذلك تدلّ بالدّلالة الالتزاميّة على الإجزاء من حيث الإعادة والقضاء ، وغاية ما يقتضيه تقديم دليل الوضوء الدّال على الانحصار ، هو رفع اليد عن المدلول المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزامي فهو باق على حجيّته ؛ إذ الإجزاء لا يختصّ بملاك الوفاء ، بل يمكن أن يكون بملاك المضادّة وعدم إمكان الاستيفاء.

وعليه ، فالإجزاء لازم أعمّ للوفاء ، لا ينتفي بانتفاء الوفاء ، وقد حرّرنا في محلّه ، أنّ الدّلالة الالتزاميّة تابعة للمطابقة في أصل الوجود والانعقاد ، لا في الحجيّة والاعتبار.

وفيه : أنّ ذلك ، إنّما يتمّ لو كان المدلول الالتزامي هو الإجزاء بعنوانه ، والمفروض أنّه ليس كذلك ، بل المدلول الالتزامي هو الإجزاء من قبل الوفاء الّذي هو المدلول المطابقي ، وهذا الإجزاء لازم أخصّ للوفاء ينتفي بانتفائه.

هذا كلّه بالنّسبة إلى مقتضى الأدلّة من الأوّلية أو الثّانوية.

وأمّا بالنّسبة إلى مقتضى الأصل عند الشّكّ في سقوط التّكليف أو ثبوته عند رفع الاضطرار خارج الوقت ، فالحقّ هو جريان البراءة ، إذ على فرض تعدّد الأمر قد عمل المكلّف بوظيفته عند فقدان الماء ـ مثلا ـ وهو امتثال الأمر الاضطراري ، فبعد

٣٦١

رفع الاضطرار إذا شكّ في بقاء التّكليف على عهدته يكون مرجع هذا الشّكّ إلى الشّكّ في حدوث تكليف جديد ، فتجري فيه البراءة.

هذا تمام الكلام في المسألة الثّانية (إجزاء الأمر الاضطراري عن الاختياري).

وأمّا المسألة الثّالثة (إجزاء الأمر الظّاهري عن الواقعي).

فقد وقع الكلام بين الأعلام في أنّه لو أتى المكلّف بما قام به الدّليل من الأمارة ، أو الأصل ، ثمّ انكشف الخلاف ، وظهر أنّ ما تعلّق به التّكليف واقعا مغاير لما أتى به ، هل يجزى ذلك عن الإعادة ثانيا ، أداء وقضاء ، أم لا؟

لا بدّ قبل التّحقيق في المسألة من تحرير محلّ النّزاع فيها.

فاعلم : أنّه لا نزاع في أنّه لو قام الدّليل من الأمارة أو الأصل على تعلّق أمر بطبيعة فأتى بها المكلّف ، أو على تعلّقه بتركها ، فتركها المكلّف ، ثمّ بان تعلّقه بطبيعة اخرى ، أو بتركها غير تلك الطّبيعة ، لا يحكم فيه بالإجزاء ، إذ لا وجه لإجزاء امتثال أحد الأمرين المستقلّين عن الآخر ؛ كيف! وأنّ سقوط كلّ أمر ، متوقّف على تحقق متعلّق نفسه ؛ وذلك ، نظير قيام الأمارة أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة ، فأتى بها المكلّف ثمّ انكشف له وجوب صلاة الظّهر ، أو قيام أحدهما على تركها ، فتركها المكلّف ثمّ بان له وجوبها ، فلا يلتزم أحد في مثل ذلك بالإجزاء وسقوط الأمر ؛ إذ سقوطه متوقّف على إيجاد متعلّق نفسه ، والمفروض خلافه ، وعليه ، فلا نزاع في مثل هذا المورد ، وإنّما النّزاع فيما إذا فرض أمر واقعيّ متعلّق بطبيعة ذات أجزاء وشرائط وموانع وقام الدّليل ـ أمارة كانت أو أصلا ـ إمّا على جزئيّة شيء أو شرطيّته أو

٣٦٢

عدم مانعيّته ، وإمّا على نفي كلّ واحد منها ، ثمّ بان الخلاف وظهر أنّه لم يكن كذلك واقعا.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : قد وقع النّزاع هنا في أنّ مؤدّى الأمارة أو الأصل ، هل هو مجز عن الواقع بعد انكشاف الخلاف ، أم لا؟

ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى التّفصيل بين مفاد الأمارة وبين مفاد الأصل ، والتزم بعدم الإجزاء في الأوّل والإجزاء في الثّاني (١) وهو الحقّ.

ولكن خالفه السّيّد البروجردي قدس‌سره فذهب إلى الإجزاء مطلقا ، وقال في وجه ذلك ما هذا لفظه : «فإنّ الدّليل الحاكم بوجوب الأخذ بخبر الثّقة الّذي قام على عدم جزئيّة شيء ، أو شرطيّته للصّلاة ، أو قام على تحقّق الجزء أو الشّرط ، يتبادر من هذا الدّليل أنّ المكلّف إذ اقتصر في امتثال الأمر الصّلاتي على ما اقتضاه ، ودلّ عليه خبر الثّقة ، فقد عمل وظيفته ، وصار عمله منطبقا لعنوان المأمور به ، وخرج بذلك من كونه تاركا للصّلاة ، ولازم ذلك هو الإجزاء.

وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ المحقّق الخراساني قدس‌سره من الفرق بين مفاد الأصل والأمارة ، ففيه : أنّ الأمارات كخبر الواحد والبيّنة وأمثالهما وإن كانت بلسان حكاية الواقع ، ولكنّها بأنفسها ليست أحكاما ظاهريّة ، بل الحكم الظّاهري عبارة عن مفاد دليل حجيّة الأمارة الحاكمة بوجوب البناء عليها ولسان أدلّتها هي بعينها لسان أدلّة الاصول ...». (٢)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣٣.

(٢) نهاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣٢.

٣٦٣

وفيه : أنّ العمل على طبق الأمارة الحاكية عن الواقع ، ليس معناه جعل حكم ظاهريّ ، بل طريقيّ محض ، كوجوب الاحتياط في الشّبهات ؛ حيث إنّه طريق إلى إحراز الواقع ، وعليه ، فلا شأن للأمارة إلّا التّنجيز عند الإصابة والإعذار عند المخالفة بلا أيّ نظر لها إلى التّوسعة والحكومة ؛ إذ ليس حكم الشّارع في الأمارات بأزيد من حكم العقلاء فيها ، فكما أنّهم لا يرون فيها الإجزاء عند عدم الإصابة ، كذلك الشّارع ، وهذا بخلاف الأصل الّذي لا نظر له إلى الواقع والحكاية عنه ، فإنّ مفاده هو جعل الحكم الظّاهري والحكومة ، كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر ، ضعف ما أفاده قدس‌سره في ردّ كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «إنّ الأمارات كخبر الواحد والبيّنة وأمثالهما وإن كانت بلسان حكاية الواقع ...».

وبالجملة : فمقتضى التّحقيق في المقام هو الحكم بعدم الإجزاء في الأمارات مطلقا ، سواء كانت قائمة على الأحكام أو الموضوعات ، وسواء كانت عقلائيّة إمضائيّة ـ إمّا بعدم الرّدع أو بورود أمر إرشاديّ باتّباعها من الشّارع ـ أو تأسيسيّة شرعيّة ؛ إذ المفروض ، أنّ إيجاب العمل على طبقها عقلا أو شرعا إنّما هو بلحاظ كاشفيّتها عن الواقع ، وهذا ينافي الإجزاء ، كما أنّ مقتضى التّحقيق هو الحكم بالإجزاء في الاصول مطلقا ، بلا فرق بين أن تكون من قبيل الاصول المحرزة ، كالاستصحاب وقاعدتي التّجاوز والفراغ ، وبين أن تكون من قبيل الاصول غير المحرزة ، كقاعدتي الطّهارة والحلّ ، وبين أن تكون من الاصول العدميّة ، كحديث الرّفع ونحوه ، فإنّ مقتضى أدلّة الجميع هو ترتيب آثار المأمور به على المأتي به ، والبناء على تحقّق الامتثال بنفس إتيان العمل حال الشّكّ ، كما لا يخفى على المتأمّل فيها ، ولا ريب ، أنّ نتيجة ذلك هو الإجزاء.

٣٦٤

(الجهة الرّابعة : مقدّمة الواجب)

لا بدّ قبل الورود في البحث عن مقدّمة الواجب من تقديم امور :

(الأمر الأوّل : تحرير محلّ النّزاع)

فنقول : لا نزاع في أنّ العقل يحكم بوجوب مقدّمة الواجب ، وهذا ممّا لا سبيل إلى إنكاره ، بل هو ثابت حتّى عند منكري الحسن والقبح العقليّين ؛ وذلك ، لأنّ العقل مستقلّ بأنّه لا بدّ من إتيانها امتثالا لأمر المولى وقياما لوظيفة العبوديّة.

إنّما النّزاع في حكم الشّرع بوجوبها ، لكن لا مطلقا ، بل خصوص وجوبها الغيري ؛ إذ الوجوب النّفسي ، وكذا الطّريقي لا يتصوّر في مثل المقدّمة.

أمّا النّفسي ، فلعدم مصلحة نفسيّة فيها كي تستتبع لهذا النّحو من الوجوب.

أمّا الطّريقى ، فلأنّ الغرض منه تنجيز الواقع عند الإصابة فيتوقّف تنجيزه على إصابة الطّريق.

ومن المعلوم : أنّه لا يتوقّف على المقدّمة شيء ، بل يعكس الأمر هنا ؛ إذ المفروض ، أنّ وجوب المقدّمة يتوقّف على وجوب ذيها دون العكس.

وعليه ، فالمقصود من وجوب المقدّمة في مورد النّزاع ، هو وجوبها الغيري ، لا النّفسي والطّريقي ، كما أنّ المقصود من وجوبها فيه ـ أيضا ـ هو خصوص الوجوب التّبعي ، لكن بأحد المعنيين.

٣٦٥

توضيحه : أنّ الوجوب كما ينقسم ببعض الاعتبارات إلى الوجوب النّفسي والطّريقي والغيري ، كذلك ينقسم باعتبار آخر إلى الوجوب الأصلي والتّبعي ، ولكلّ واحد منهما معنيان حسب مقام الثّبوت والإثبات.

أمّا مقام الثّبوت ، فيراد بالوجوب الأصلي ، الإرادة المستقلّة غير النّاشئة من إرادة اخرى ، وبالوجوب التّبعي ، الإرادة غير المستقلّة النّاشئة من إرادة اخرى.

وأمّا مقام الإثبات ، فيراد بالوجوب الأصلي ، الوجوب المستقلّ في الخطاب ، وبالوجوب التّبعي ، الوجوب غير المستقلّ فيه.

إذا عرفت هذا ، فاعلم : أنّ الوجوب الأصلي بكلا المعنيين خارج عن حريم النّزاع ؛ لقلّة إيجاب المقدّمة بخطاب مستقلّ في أبواب الأحكام جدّا ، ولا يدّعي القائل بوجوبها ، تعلّق الإرادة المستقلّة بها.

وأمّا الوجوب التّبعي بالمعنى الثّاني ، فهو ـ أيضا ـ خارج عن حريم النّزاع ؛ لعدم الجدوى فيه ، فينحصر النّزاع فيه بالمعنى الأوّل ، فيقال : هل إرادة ذي المقدّمة مستلزمة لارادة المقدّمة ، أم لا؟

(الأمر الثّاني : اشتراط مورد النّزاع بتحقّق الأمرين)

فنقول : إنّ النّزاع في وجوب المقدّمة إنّما يقع فيما إذا اعتبر فيه الأمران :

أحدهما : أن يتوقّف وجود ذي المقدّمة على وجود المقدّمة.

ثانيهما : أن يستقلّ كلّ منهما في الوجود.

ومن هنا يخرج عن مورد النّزاع موارد :

٣٦٦

الأوّل : المتلازمان في الوجود ؛ لفقد الإناطة والتّوقّف.

الثّاني : الطّبيعي ومصداقه ؛ لعدم استقلالهما في الوجود.

الثّالث : الماهيّة وأجزاءها ؛ إذ هي وإن كانت متقدّمة على الماهيّة تقدّما بالتّجوهر ، لكن لا استقلال ولا امتياز بينهما في التّحقق ، وسيأتي تفصيل الكلام في هذا المقام.

الرّابع : الواحد والاثنان ؛ وذلك ، لعدم الاستقلال والامتياز بينهما في التّحقّق ـ أيضا ـ وإن كان بينهما تقدّم وتأخّر طبعيّ.

الخامس : الحدوث والبقاء ؛ ضرورة ، أنّ الباقي عين الحادث وجودا وهما عنوانان لمعنون واحد ينتزع أحدهما من المسبوقيّة بالعدم ، والآخر من استمرار الوجود ، نعم ، يصحّ التّعبير بتوقّف البقاء على الحدوث.

(الأمر الثّالث : كون المسألة من المسائل الاصوليّة العقليّة)

قد وقع النّزاع بين الأعلام في أنّ هذه المسألة ، هل تعدّ من المسائل الفقهيّة ، أو الاصوليّة ، أو الكلاميّة ، أو تعدّ من المبادي الأحكاميّة ، أو التّصديقيّة؟ ففيها وجوه خمسة (١) ، أسدّها هو الوجه الثّاني وهو كونها من المسائل الاصوليّة ، ويتّضح لك وجه ذلك بما نشير إليه من تضعيف سائر الوجوه.

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٥ ؛ وكتاب بدائع الأفكار ، ج ١ ، ص ٣١١ ـ ٣١٣ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢١٢ ـ ٢١٣.

٣٦٧

أمّا الوجه الأوّل وهو كونها من المسائل الفقهيّة ، فلأنّ غاية ما يقال في وجهه : هو أنّ الفقه متكفّل للبحث عن أحكام أفعال المكلّفين ؛ ولا ريب ، أنّ المقدّمة ـ أيضا ـ تكون من الأفعال الصّادرة منهم ، فيدخل البحث عن وجوبها وعدمه في المسائل الفقهيّة.

وفيه : أوّلا : أنّ ظاهر عنوان وجوب المقدّمة وإن يقتضي ذلك ، إلّا أنّه ليس بمقصود هنا ، بل إنّما يقصد منه واقع العنوان وهو البحث عن ثبوت الملازمة بين المقدّمة وذيها وعدم ثبوتها ، فحينئذ يدخل البحث في الأحكام العقليّة غير المستقلّة ، بلا ارتباط له بالمسألة الفرعيّة الفقهيّة.

وثانيا : لو سلّم أنّ المقصود من البحث هنا هو ظاهر العنوان ، ولكن مجرّد ذلك ، لا يوجب عدّها من المسائل الفرعيّة الفقهيّة ، بل لا بدّ من ملاحظة معيار آخر ، وهو كون المسألة ممّا ينتج البحث فيه حكما فرعيّا أصليّا ، غير واقع في طريق إحراز حكم آخر ، ومن المعلوم : أنّ هذا المعيار مفقود في مثل المقام ، بل الموجود فيه هو معيار المسألة الاصوليّة ، وهو كون المسألة ممّا تقع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام ؛ ضرورة ، أنّ البحث عن مقدّمة الواجب يقع نتيجتها في طريق الاستنباط بقياس واحد ، فيقال : هذه مقدّمة الواجب ، وكلّ مقدّمة الواجب واجبة ، فهذه واجبة.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم (١) أنّ الوجه في خروج بحث المقدّمة عن المسائل الفقهيّة ، هو أنّه لا بدّ في المسألة الفقهيّة من ملاحظة وحدة الموضوع والمحمول والملاك ، كأمثلة «الصّلاة واجبة» أو «الصّوم واجب» وهكذا ، ومن المعلوم ، أنّ المقام ليس كذلك ؛ إذ

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣١٣.

٣٦٨

قولنا : «المقدّمة واجبة» وإن كان المحمول والملاك فيه واحد ، إلّا أنّ الموضوع وهو عنوان المقدّمة عامّ يشار به إلى معنونات خاصّة مختلفة ، ولعلّ السّرّ فيه هو أنّ المقدّمة ليست من الجهات التّقييديّة (١) ، فلا تكون تمام الموضوع ولا جزءه ، بل إنّما هي من الجهات التّعليليّة ، فتكون إشارة إلى موضوعات عديدة من طبائع مختلفة ، كالوضوء والغسل والتّيمّم وتحصيل الزّاد والرّاحلة والمشي ونحو ذلك.

وقد أجاب عنه المحقّق العراقي قدس‌سره بما لا يخلو عن القوّة ، حاصله : أنّ لازم ذلك خروج كثير من المباحث الفقهيّة عن علم الفقه ، كقاعدة «ما يضمن وما لا يضمن» وقاعدة «الطّهارة والحلّ في الشّبهات الموضوعيّة» وقاعدة «اعتبار عدم مخالفة الشّرط للكتاب والسّنة» وغيرها ؛ لكون الموضوع فيها من العناوين العامّة يشار بها إلى معنونات مختلفة من حيث الماهيّة ، مع أنّ الحكم فيها واحد ناش من ملاك واحد ، فالضّمان ـ مثلا ـ في جميع العقود الفاسدة حكم واحد نشأ من قاعدة اليد.

فتحصّل : أنّ الميز الصّحيح بين مسألتي الفقهيّة والاصوليّة هو ما أشرنا : من أنّ المسألة الاصولية هي الّتي يمكن أن يقع نتيجتها في طريق الاستنباط أو الّتي يبحث فيها عمّا ينتهي إليه المجتهد بعد الفحص واليأس عن الدّليل ، كالاصول العمليّة.

وأمّا المسألة الفقهيّة ، فهي الّتي ينتج البحث فيها حكما فرعيّا أصليّا ـ غير واقع في طريق إحراز حكم آخر ـ وحدانيا ناشئا من ملاك واحد ، سواء كان متعلّقه طبيعة شرعيّة ، كالصّلاة والصّوم ، أم عنوانا يشار به إلى مصاديقه الّتي هي متعلّقات الأحكام ، نظير القواعد المذكورة آنفا.

__________________

(١) خلافا للإمام الرّاحل قدس‌سره حيث اختار أنّها من الجهات التّقييديّة ؛ راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٥٣.

٣٦٩

وعليه ، فيدخل البحث عن وجوب المقدّمة في المسائل الاصوليّة ، لا الفقهيّة.

ومن هنا ظهر ، أنّ الاستصحاب والأمارات يندرجان في المسائل الاصوليّة حتّى بناء على القول بوجوب العمل على طبق الحالة السابقة في الاستصحاب ؛ وبناء على القول بأنّ المجعول في الأمارات هو وجوب العمل على طبق مؤدّاها.

والسّرّ فيه : أنّ الحكم بوجوب العمل وإن كان فرعيّا ، لكنّه طريقيّ يتوصّل به إلى حكم أصلي ـ نظير وجوب الاحتياط في الشّبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ـ وقد عرفت آنفا ، أنّ المسائل الفقهيّة إنّما ينتج حكما فرعيّا أصليّا ، غير واقع في طريق حكم آخر ، وعليه ، فيخرج مثل الاستصحاب والأمارات عن تحتها ويدخل في المسائل الاصوليّة.

والّذي يسهّل الخطب ، أنّ البحث في المقام ليس في الوجوب وعدمه ، بل يكون في الملازمة وعدمها ، كما عرفت آنفا ، وعليه ، فالمسألة عقليّة ، فيقال : هل يستقلّ العقل بالملازمة ، أم لا ـ ولو لم يكن هناك لفظ ، بل قام الإجماع ـ مثلا على شيء ـ لا أنّها لفظية كي يقال : هل تدلّ صيغة الأمر على وجوب المقدّمة بدلالتها على وجوب ذيها ، أم لا ، كما يظهر ذلك من صاحب المعالم حيث إنّه قدس‌سره ذكر المقدّمة في مباحث الألفاظ واستدلّ على نفي وجوبها بانتفاء الدّلالات الثّلاث. (١)

نعم ، الظّاهر عدم ورود ما أشكل المحقّق الخراساني على صاحب المعالم بقوله : «ضرورة ، أنّه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته ثبوتا ، محلّ الإشكال ، فلا مجال لتحرير النّزاع في الإثبات والدّلالة عليها بإحدى الدّلالات

__________________

(١) راجع ، معالم الدّين : ص ٥٥.

٣٧٠

الثّلاث كما لا يخفى». (١)

وجه عدم الورود ، هو أنّ مقام الثّبوت في المداليل الالتزاميّة لا ينفكّ عن مقام الإثبات والدّلالة ، وعليه ، يكون البحث عن دلالة الصّيغة على وجوب المقدّمة بالالتزام عين البحث عن ثبوت الملازمة ، ويستكشف من مقام الإثبات والدّلالة مقام الثّبوت والملازمة ، ومن عدم الدّلالة ، عدم الملازمة كشفا انيّا.

نعم ، يمكن تخلّف مقام الإثبات والدّلالة عن مقام الثّبوت في الدّلالات المطابقيّة ، وعليه ، يمكن إدراج البحث في الدّلالة اللّفظيّة لو كان هناك اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ وحيث انّ هذا اللّزوم ليس في المقام ـ بناء على تسليم الملازمة ـ تكون المسألة عقليّة ، لا لفظيّة.

وأمّا الوجه الثّالث وهو كون المسألة من المسائل الكلاميّة ، فلأنّه نشأ من تخيّل أنّ البحث في المقام يرجع إلى استحقاق المثوبة ، أو العقوبة لفعل المقدّمة أو تركها ، وأنت ترى ، أنّ هذا البحث ممّا يتكفّله علم الكلام.

وفيه : أوّلا : أنّ مقتضى ذلك ، عدم اختصاص هذا البحث بجعله من المسائل الكلاميّة ، بل يلزم منه عدّ سائر المباحث الاصوليّة ، بل الفقهيّة كلّها ـ أيضا ـ منها ؛ لأنّها ترجع ـ أيضا ـ إلى البحث عن استتباعها فعلا أو تركا لاستحقاق الثّواب والعقاب ، ولا أظنّ أنّ هذا ممّا يلتزم به القائل.

وثانيا : أنّ وجوب المقدّمة ، بناء على القول به ، ليس إلّا وجوبا غيريّا لا يترتّب عليه شيء من الثّواب والعقاب ، بل هما من آثار الوجوب النّفسي ، كوجوب ذي المقدّمة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣٩.

٣٧١

أمّا الوجه الرّابع وهو كون المسألة من المبادي الأحكاميّة ، فلأنّ وجه ذلك هو أنّ المقصود من المبادي ليس إلّا المسائل الّتي تكون محمولاتها من عوارض الأحكام التّكليفيّة أو الوضعيّة ، كتضادّ الأحكام وتلازمها في باب «اجتماع الأمر والنّهي» وفي باب «الأمر بالشّيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه؟» وغير ذلك ، والمسألة في المقام من هذا القبيل ؛ إذ يبحث فيها عن الملازمة بين المقدّمة وبين وجوب ذيها.

وفيه : أنّ المسألة وإن كانت من المبادي من جهة كونها باحثة عن عوارض الأحكام ، إلّا أنّها من جهة وقوع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام تعدّ من المسائل الاصوليّة ، فالمسألة ذات جهتين ، ولا قدح في ذلك.

وأمّا الوجه الخامس وهو كون المسألة من المبادي التّصديقيّة ، فلأنّ منشأه هو أنّ المبادي التّصديقيّة حيث إنّها متكفّلة للبحث عن ثبوت الموضوع وعدم ثبوته بمفاد «كان» التّامّة و «ليس» التّامّة أو أجزاء الموضوع أو جزئيّاته كذلك ، قبال المبادي التّصوريّة وهو تصوّر الموضوع وأجزاءه وجزئيّاته ، فالمقام داخل فيه ، بتقريب : أنّ موضوع علم الاصول هي الأدلّة الأربعة الّتي منها ، حكم العقل ، والمراد به كلّ حكم عقليّ يوصل به إلى حكم شرعيّ ، ولا ريب : أنّ حكم العقل بالملازمة الّذي يبحث عنه في المقام من هذا القبيل ، فإنّه يوصلنا إلى وجوب المقدّمة شرعا ، وعليه ، فالبحث في المقام بحث عن ثبوت الموضوع وعدمه بمفاد «كان» التّامة ، لا عن عوارضه بمفاد «كان» النّاقصة ، فيندرج ـ أيضا ـ في المبادي التّصديقيّة.

نعم ، لو كان الموضوع نفس العقل لا حكمه ، لكان المقام مندرجا في المسألة الاصوليّة ، كما لا يخفى.

وفيه : أنّ موضوع علم الاصول ـ كما حقّق في محلّه ـ ليس هي الأدلّة الأربعة

٣٧٢

لا بما هي أدلّة ، كما اختاره المحقّق القمي قدس‌سره (١) ، ولا ذوات الأدلّة وبما هي هي ، كما قال به صاحب الفصول قدس‌سره (٢) بل هو ما يمكن أن يقع نتيجة البحث عن عوارضه في طريق الاستنباط ، وبما أنّ نتيجة البحث عن المقدّمة يكون كذلك ، فيدخل في المسألة الاصوليّة.

(الأمر الرّابع : تقسيمات المقدّمة)

واعلم ، أنّ المقدّمة لها تقسيمات :

منها : تقسيمها باعتبار مطلق التّوقّف إلى داخليّة ، كالأجزاء المأخوذة في ماهيّة المأمور به ، وإلى خارجيّة ، كالامور الخارجة عن ماهيّته ممّا لا يكاد يوجد بدونها ، كالمقتضي والشّرط والمعدّ وعدم المانع.

والحقّ ، أنّ المقدّمة الدّاخليّة بجميع أنحاءها خارجة عن حريم النّزاع ؛ إذ المركّب ، إمّا حقيقيّ أو اعتباريّ :

أمّا الحقيقيّ ، فأجزاؤه العقليّة التّحليليّة من الأجناس والفصول ، لا وجود لها خارجا ، فلا يتصوّر جريان النّزاع فيها وأجزاءه الخارجيّة من المادّة والصّورة ، لا امتياز لها في الوجود عن المركّب المتوقّف عليها.

وأمّا المركّب الاعتباري ، فقد يتوهّم دخول أجزاءه في حريم النّزاع لأجل

__________________

(١) راجع ، قوانين الاصول : ص ٩.

(٢) راجع ، الفصول الغروية : ص ٩.

٣٧٣

المغايرة الاعتباريّة بينه وبين الأجزاء ، فقد تلاحظ بما هي المركّب والكلّ ، فتجب نفسيّا ، وقد تلاحظ بما هي أجزاء المركّب ومقدّمة لتحقّقه ، فتجب غيريّا بناء على الملازمة.

وفيه : أوّلا : أنّ الأجزاء ليست بمقدّمة وذلك ، لعدم الإناطة والتّوقّف ، حيث إنّه لا اثنينيّة في البين ، بل ليس الكلّ إلّا عين الأجزاء بالأسر ، نعم ، تتحقّق المغايرة بينهما من جهة الاعتبار حيث إنّ الأجزاء اذا اعتبرت بنحو اللّابشرطيّة ، فتلاحظ الأجزاء ، والبشرط الشّيئيّة والانضمام ، فتلاحظ الكلّ ، ولكن هذه المغايرة لا توجب التّعدد والاثنينيّة ، لما حقّق في محلّه ، من أنّ تعدّد الاعتبار لا يوجب تعدّد المعتبر.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، فلا مجال لوجوبها الغيري ، وذلك ، لأنّ الأجزاء وإن كانت متقدّمة على الكلّ تقدّما بالتّجوهر ، لكن هذا المقدار لا يجدي في إمكان تعلّق الوجوب الغيرى عليها ؛ إذ الأجزاء نفس الكلّ خارجا ، والبعث إلى الكل عين البعث إليها ، وإيجابه عين إيجابها ، ومعه لا فائدة في إيجاب الأجزاء ثانيا ، بل هو لغو لا يليق بشأن الحكيم ، وما تقدّم من التّعدّد الاعتباري بينهما ، لا يوجب صحّة تعدّد الوجوب ؛ إذ تعدّده لا يمكن إلّا بتعدّد الملاك وتعدّد الموضوع وجودا ، والمفروض ، أنّهما غير حاصلين في المقام.

هذا ، مضافا إلى أنّه لو كان الوجوب متعدّدا لزم اجتماع المثلين في موضوع واحد ، ولا يتأتّى في مثل المقام تأكّد البعث بسبب اجتماع الوجوبين كي يرفع به محذور اجتماع المثلين ؛ وذلك ، لأنّ ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء يكون في طول ملاك الوجوب النّفسي في الكلّ ، ومع اختلاف الرّتبة يستحيل التّأكّد والوحدة.

على أنّ مقتضى التّحقيق هو تعلّق الأمر بذوات الأجزاء الّتي تعرضها الوحدة

٣٧٤

الاعتباريّة لدوران الأمر مدار الملاك ـ وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ـ وهو قائم بذوات الأجزاء بلا دخل للوحدة الاعتباريّة فيه ، كيف! وأنّ الملاك والمصلحة أمر واقعيّ ، والوحدة أمر اعتباريّ ولا يقوم الحقيقيّ بالاعتباريّ ، فحينئذ ليس متعلّق الأمر ، الأجزاء بقيد الوحدة وهو الكلّ كي يقال : بتقدّم الأجزاء عليه بالتّجوهر ، فيتمشّى فيها بحث المقدّمة.

وبعبارة اخرى : ليس الكلّ وهو الأجزاء ملحوظا وحدها ، متعلّقا للأمر ، كما هو المشهور ، حتّى يقال : بأنّ الأجزاء ، أجزاء للمتعلّق ، فتكون مقدّمة له ، بل الأمر إنّما يتعلّق بذوات الأجزاء لا غير ، فلا كلّيّة ولا جزئيّة في البين.

تنبيه :

ولقد أفاد المحقّق العراقي قدس‌سره أنّ الثّمرة بين القول بالوجوب الغيري والقول بعدمه في الأجزاء ، إنّما تظهر في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطييّن من جهة الرّجوع إلى البراءة أو الاشتغال ، ونعم ما أفاد. (١)

توضيحه : أنّه لا مناص بناء على القول بالوجوب الغيري في الأجزاء من الرّجوع إلى الاشتغال في المسألة ؛ وذلك ، لوجود العلم الإجمالي بوجود التّكليف النّفسي الدائر بين الأقلّ والأكثر ، والمفروض عدم انحلاله بالعلم التّفصيلي بوجوب الأقلّ ؛ إذ شرط الانحلال هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتّفصيل على أيّ تقدير ، وليس المقام كذلك ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هنا هو الوجوب النّفسي ، والمعلوم بالتّفصيل هو أصل وجوب الأقلّ الجامع بين النّفسي والغيري ، فعلى تقدير النّفسيّة

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣١٩.

٣٧٥

ينحلّ ، وعلى تقدير الغيريّة لا ينحلّ ، فإذا يتعيّن المصير إلى الاشتغال قضاء لتنجّز العلم الإجمالي بالتّكليف النّفسي.

وأمّا بناء على القول بالوجوب النّفسي في الأجزاء ، فالمرجع في المسألة هي البراءة بالنّسبة إلى الزّائد ؛ وذلك ، لانحلال العلم الإجمالي المذكور إلى العلم التّفصيلي بذات الأقلّ لا هو بحدّه ، والشّكّ البدوي في الزّائد ، كما هو واضح.

ومنها : تقسيمها إلى العقليّة والشّرعيّة والعاديّة.

فنقول في توضيح ذلك : إنّ الإناطة الّتي هي الدّخيلة في المقدّميّة على ثلاثة أنحاء.

الأوّل : أن تكون ذاتيّة محضة ، وتكوينيّة صرفة ، بلا توسيط أمر آخر من جعل شرعيّ ، أو قضاء عاديّ ، كإناطة حركة المفتاح بحركة اليد.

والثّاني : أن تكون شرعيّة محتاجة إلى جعل واعتبار من ناحية الشّرع الأنور ، كإناطة الصّلاة بالطّهارة ، فلولا جعل شرعيّ لم يكن بينهما أيّة إناطة ، بل العقل يجوّز تحقّقها بدونها.

لا يقال : إنّ مجرّد دخل الطّهارة في مصلحة الصّلاة كاف في تحقق الإناطة بينهما.

لأنّه يقال : ليس الأمر كذلك ؛ ضرورة ، أنّه يمكن عدم اعتبار الطّهارة شرعا ولو لمصلحة التّسهيل ، وعليه ، فلا مناص من الاعتبار الشّرعي في تحقّق الإناطة.

والثّالث : أن تكون عاديّة ، كإناطة الوصول إلى مرتبة الاجتهاد بتحصيل العلم ، وكذا الصعود على السّطح بنصب السّلم ، فلولا قضاء العادة بتحصيل العلم في أزمنة متمادية للنّيل إلى درجة الاجتهاد ـ مثلا ـ وهكذا نصب السّلّم للصّعود على السّطح ، لما كان هناك بنظر العقل إناطة بين تحصيل العلم وبين الوصول إلى مرتبة

٣٧٦

الاجتهاد ، وهكذا نصب السّلّم والصّعود ، بل يجوّز العقل الوصول إلى أقصى مراتب العلم بلا تحمّل تعب تحصيل ، كما في علوم الأئمّة عليهم‌السلام ، وهكذا الصّعود.

هذا ، ولكن أورد المحقّق الخراساني قدس‌سره على التّقسيم المذكور برجوع المقدّمة الشّرعيّة والعاديّة إلى العقليّة ، وقال في وجه ذلك ، ما حاصله : إنّه بعد اعتبار الشّرطيّة شرعا أو بعد اقتضاء العادة ، التّوقّف والمقدّميّة ، يصير التّوقّف عقليّا ؛ حيث إنّه يستحيل عقلا تحقّق المشروط أو المقيّد بلا شرطه وقيده ، وكذا يستحيل الصّعود على السّطح بلا نصب السّلم ـ مثلا ـ لغير الطّائر فعلا وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا. (١)

وفيه : أنّ التّقسيم على ما تقدّم ، إنّما هو باعتبار أصل الإناطة الّتي هي أساس المقدّميّة ، نعم ، بعد توسيط اعتبار الشّارع أو قضاء العادة ، فالتّوقف يكون عقليّا وهو أمر آخر.

ومنها : تقسيمها إلى مقدّمة الوجود (مقدّمة الواجب) والوجوب والصّحّة والعلم.

ولا يخفى : أنّ مقدّمة الوجوب وهي ما يتوقّف عليه وجوب الشّيء كالاستطاعة الّتي هي شرط لوجوب الحجّ ، خارجة عن حريم النّزاع ، وذلك ، لأنّ المفروض أنّه لا وجوب لذي المقدّمة قبل وجود المقدّمة كي يبحث عن وجوب تحصيلها ، وأمّا بعد وجودها فلم يبق المجال للبحث ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا مقدّمة الصّحّة ، وهي ما يتوقّف عليه صحّة الشّيء ، فليست قسما برأسه ، بل هي إمّا دخيلة في الوجوب ، فترجع إلى مقدّمة الوجوب ، وقد عرفت : أنّها خارجة عن حريم النّزاع ، وإمّا دخيلة في الوجود ، فترجع إلى مقدمة الوجود.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٤٢.

٣٧٧

وأمّا مقدّمة العلم ، وهي ما يتوقّف عليه العلم بشيء ، كالصّلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، فهي واجبة عقلا ؛ إذ ليس في الأحكام الشّرعيّة مورد كان العلم فيه واجبا شرعيّا كي يقال : بوجوب مقدّمته شرعيّا من باب الملازمة ، وعليه ، فيخرج هذا القسم عن حريم النّزاع ، أيضا.

توضيحه : أنّه لا إشكال في أنّ مورد العلم الإجمالي بالتّكليف ممّا يحكم فيه بوجوب الاحتياط ، مقدّمة للعلم بفراغ الذّمّة ، إلّا أنّ هذا الوجوب ليس إلّا بحكم العقل من باب وجوب الإطاعة والامتثال حتّى يؤمّن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز ، فالوجوب عقليّ محض ، وإرشاد إلى عدم الوقوع في محذور مخالفة التّكليف المعلوم المنجّز ، لا أنّه مولويّ شرعيّ من باب الملازمة.

وهكذا الأمر في مورد الحكم بوجوب الفحص في الشّبهات الحكميّة البدويّة ، فإنّ هذا الوجوب ـ أيضا ـ عقليّ محض ، وذلك الوجهين :

أحدهما : أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يكون موضوعه هو الشّكّ المستقرّ ، وحيث إنّه لا يتحقّق إلّا بعد الفحص عن وجود التّكليف واليأس عن الظّفر بدليله ، يحكم العقل بوجوب الفحص مقدّمة لتحصيل العلم بتحقّق الموضوع.

ثانيهما : أنّ التّكليف على تقدير وجوده في الواقع يكون منجّزا ، فيستقلّ العقل في الحكم بعدم معذوريّة المكلّف ، لو ترك العمل ، رجوعا إلى الاصول النّافية قبل الفحص ، بل يحكم بوجوب الفحص مقدّمة للعلم بعدم وجود التّكليف في الواقع ، ولو فرض ورود الأمر بالفحص من الشّارع لكان إرشاديّا محضا ، نظير ما ورد في أدلّة التّعلّم.

وكذلك الحكم بوجوب الفحص في بعض الشّبهات الموضوعيّة ، مثل الاختبار عند اشتباه الدّم بين العذرة والحيض ، فإنّ في هذا المورد حيث يعلم المكلّف إجمالا ،

٣٧٨

إمّا بوجوب الصّلاة والصّوم ، وإمّا بحرمتهما ، وكذا يعلم ، إمّا بجواز الدّخول في المسجد أو حرمته ، فيحكم العقل بوجوب الفحص عليه وبعدم كونه معذورا في إتيان الصّلاة والصّوم أو تركهما ، وكذا في دخول المسجد قبل الفحص ، والأمر الوارد من الشّرع ـ لو فرض وجوده ـ محمول على الإرشاد ، أيضا.

وبالجملة : لا يكاد يوجد في الأحكام الشّرعيّة مورد يجب العلم فيه بالوجوب الشّرعيّ المولويّ كي يقال : بوجوب مقدّماته مولويّا من باب الملازمة ، وأمّا الحكم بوجوب الاحتياط والفحص في الموارد المتقدّمة آنفا ، فهو وإن كان من باب المقدّمة العلميّة ، إلّا أنّك قد عرفت : أنّه ليس حكما شرعيّا مولويّا ، بل هو حكم عقليّ محض ، والأمر الوارد من الشّرع محمول على الإرشاد.

ومنها : تقسيمها إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة.

أمّا المتقدّمة ، فنظير العقد في الوصيّة ، والصّرف ، والسّلم ، بل في كلّ عقد بالنّسبة إلى غالب أجزاءه لتصرّمها حين تأثيره.

وأمّا المقارنة ، فنظير ستر العورة واستقبال القبلة ونحوهما.

وأمّا المتأخّرة ، فنظير الأغسال الليليّة في صحّة صوم اليوم الماضي ، والإجازة ـ بناء على الكشف ـ في العقد الفضولي.

وقد وقع الإشكال في المتقدّمة ، والمتأخّرة ، محصّله : أنّ المقدّمة لمّا كانت من أجزاء علّة وجود ذي المقدّمة والعلّة بجميع أجزاءها متقدّمة على المعلول رتبة ومقارنة معه زمانا ، فلو فرض تقدّمها أو تأخّرها زمانا وكونها معدومة حين وجود المعلول ، لزم تأثير المعدوم في الموجود.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

٣٧٩

منها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره قال ما حاصله : أنّ المتقدّم أو المتأخّر ، إمّا شرط للتّكليف ، كالقدرة ، أو شرط الوضع ، كالإجازة في العقد الفضولي والقبض والتّقابض في الصّرف والسّلم ، وإمّا شرط للمكلّف به ، كالأغسال الليليّة في صحّة صوم المستحاضة ، ولا يخفى ، أنّ الشّرط في التّكليف أو الوضع يراد به اللّحاظ والتّصور ، ومن المعلوم ، أنّه مقارن للحكم والتّقنين ، لا أنّ المراد به هو الملحوظ المتصوّر الّذي يكون متقدّما أو متأخّرا بالنّسبة إلى الحكم ، وتسمية الملحوظ باسم الشّرط إنّما تكون باعتبار شرطيّة لحاظه.

وبعبارة اخرى : أنّ المراد بالشّرط في المتقدّم والمتأخّر هو وجودهما العلميّ المقارن ، لا العينيّ المتقدّم والمتأخّر ، ولا يخفى ، أنّ هذا الوجود هو الدّخيل في حصول الدّاعي إلى الأمر والنّهي أو الدّخيل في اعتبار الامور الوضعيّة ، كالملكيّة والزّوجيّة ونحوهما ، فالشّارع يلاحظ الإجازة ، فيعتبر الملكيّة ، وهكذا العقلاء.

وأمّا الشّرط في المكلّف به ، فالمقصود منه هو الإضافة المقارنة ، لا المضاف إليه المتقدّم أو المتأخّر ، فإطلاق الشّرط عليهما إنّما هو باعتبار كونهما طرفا للشّرط وهو الإضافة.

توضيحه : أنّ كون شيء شرطا للمأمور به ، ليس إلّا ما يحصل لذات المأمور به بالإضافة إليه وجها وعنوانا ، به يكون حسنا أو متعلّقا للغرض ، بحيث لولاها لما كان كذلك ، فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان يكون بذلك العنوان حسنا أو متعلّقا للغرض ، كذلك اضافته إلى متأخّر أو متقدّم ، وعليه ، فالشّرط فيهما هي الإضافة المقارنة ، لا نفس المضاف إليه المتقدّم أو المتأخّر ، فمنشأ الإشكال توهّم إطلاق الشّرط على المتقدّم والمتأخّر مع أنّ إطلاقه عليهما كإطلاقه

٣٨٠