مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

صدور الفعل منه في أحد الأزمنة ، كما أنّ مكانيّته ـ أيضا ـ يقتضي صدور الفعل منه في أحد الأمكنة.

وقد يدّعى أنّ المراد من «الحال» في عنوان المسألة هو زمان النّطق والتّكلّم ، حيث إنّه الظّاهر من إطلاق المشتقّات وحملها على الذّوات ، فإذا قيل : «زيد قائم» مثلا اريد منه فعليّة تلبّس الذّات بالمبدإ زمان النّطق ؛ وذلك ، إمّا لدعوى الانسباق من إطلاق الكلام وانصرافه إليه ، أو لأجل قرينة الحكمة.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ ، إذا كان الكلام هنا في تعيين مراد المتكلّم ، لا تعيين ما وضع له لفظ المشتقّ ، وأنت ترى ، أنّ المقصود هنا هو الثّاني دون الأوّل ، فتأمّل جيّدا.

الأمر السّابع : في تأسيس الأصل.

لو شكّ في أنّ المشتقّ ، هل هو موضوع لخصوص المتلبّس أو الأعمّ منه؟ فهل هنا أصل يرجع إليه لتعيين الموضوع له ولرفع الشّكّ في المقام ، أم لا؟

ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى إنكار الأصل الموضوعى في المقام دون الأصل الحكمي. (١)

والتّحقيق يقتضي أن يقال : إنّ الأصل المتصوّر هنا ، إمّا موضوعي أو حكميّ.

أمّا الموضوعي الجاري لتنقيح الموضوع وتعيين ما هو الموضوع له في المشتقّ من الأعمّ أو الأخصّ ، فإمّا ليس بموجود حتّى يعوّل عليه عند الشّكّ المذكور ؛ بعد فرض عدم تماميّة أدلّة تعيين الموضوع له ، وإمّا موجود ، إلّا أنّه مثبت أو معارض.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٧ و ٦٨.

٢٢١

بيان ذلك : أنّ الأصل الموضوعي العقلائي إن كان من قبيل الأصل اللّفظي وهو بناء العقلاء على عدم ملاحظة خصوصيّة حال التّلبّس عند الوضع ، فيمنع عنه ؛ إذ هذا البناء من العقلاء إمّا هو محرز العدم ، أو لا أقلّ من عدم إحرازه ، فلم يثبت حينئذ بناء منهم على إجراء هذا الأصل لإثبات الوضع وتعيين الموضوع له ؛ ولذا قال المحقّق الخراسانى قدس‌سره : «لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له». (١)

نعم ، يجري هذا الأصل في خصوص تعيين مراد المتكلّم وأنّه حجّة في ذلك ، ولكن هذا أمر آخر ، أجنبيّ عن المقام.

ولقد أجاد المحقّق العراقي قدس‌سره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «لا يكاد يثبت بها الوضع للأعمّ ، من جهة عدم الدّليل على اعتبار مثل هذا الأصل في مقام تعيين الأوضاع ، ولا سيرة من العقلاء ـ أيضا ـ على ذلك كي بمعونة عدم الرّدع يستكشف الإمضاء ، وإنّما القدر الّذي عليه سيرة العقلاء إنّما هو في الشّكوك المراديّة ، وأين ذلك ومقام تعيين الأوضاع! كما لا يخفى». (٢)

وأمّا إن كان الأصل المذكور من قبيل الأصل العملي وهو استصحاب عدم ملاحظة الواضع الخصوصيّة حال التّلبّس في الموضوع له حين الوضع.

ففيه : أوّلا : أنّه لا يترتّب عليه أثر شرعيّ ؛ إذ ما هو الثّابت بالاستصحاب من عدم لحاظ الخصوصيّة ، ليس حكما شرعيّا ، ولا موضوعا ذا أثر شرعيّ ـ مع أنّ المقرّر في محلّه ، هو أنّه لا بدّ في كون المستصحب من أحد هذين الأمرين ـ وما هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٨.

(٢) نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٣٤.

٢٢٢

حكم شرعيّ وهو الوضع للأعمّ ، ليس ثابتا بالاستصحاب إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ ضرورة ، أنّ إثبات الوضع للأعمّ باستصحاب عدم الوضع للأخصّ ، يكون من موارد إثبات أحد الضّدّين بنفي الآخر ، وهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت.

وثانيا : أنّ الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم ملاحظة العموم ؛ لأنّ كلّا من الخصوصيّة والعموميّة قيد لا بدّ من لحاظه ، فكما يحتمل لحاظ الخصوصيّة عند الوضع ، فكذلك يحتمل لحاظ العموميّة وعدم الخصوصيّة ، فالأصل في كلّ واحد منهما معارض بالأصل في الآخر.

وقد يقال : إنّ هنا أصل آخر موضوعيّ يثبت به وضع المشتقّ للأعمّ وهو الغلبة ، بتقريب : أنّه إذا دار أمر اللّفظ بين كونه مشتركا معنويّا بين المعنيين أو أكثر ـ بناء على القول بالأعمّ ـ وبين كونه حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ـ بناء على القول بكون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس ومجازا في ما انقضى ـ يرجّح الأوّل ، لأجل غلبته على الثّاني ، فيثبت الوضع للأعمّ ، ولكنّه ممنوع صغرى وكبرى ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١)

أمّا المنع الصغروي ؛ فلعدم ثبوت الغلبة المذكورة حتّى يقال : إنّ الظّن يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب.

وأمّا المنع الكبروي ؛ فلعدم الدّليل على حجيّة الظّن الحاصل من الغلبة حتّى يوجب التّرجيح عند الدّوران.

هذا كلّه بالنّسبة إلى الأصل الموضوعي من اللّفظي أو العمليّ.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٨.

٢٢٣

وأمّا الأصل الحكمي العملي ، فقال المحقّق الخراساني قدس‌سره ما هذا لفظه : «وأمّا الأصل العملي ، فيختلف في الموارد ، فأصالة البراءة في مثل «اكرم كلّ عالم» يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدا قبل الإيجاب ، كما أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء». (١)

توضيح كلامه قدس‌سره هو أنّ تشريع الحكم إن كان بعد انقضاء المبدا وزواله عن الذّات الّتي كانت متلبّسة به ، فالبراءة تقتضي عدمه ، كما إذا كان وجوب الإكرام وإيجابه في المثال ، بعد انقضاء العلم عن «زيد» مثلا فالمشتقّ إذا كان حقيقة في الأعمّ ، كان إكرام زيد واجبا وإلّا ، فلا ، وإذا شكّ كما هو المفروض فوجوب الإكرام مشكوك ، يرفع بالبراءة.

وأمّا إن كان تشريعه قبل الانقضاء ، فالاستصحاب يقتضي البقاء.

ولكنّ التّحقيق أنّ المرجع في جميع الموارد هو البراءة ، ولا مجال لجريان الاستصحاب أصلا ، سواء قيل : بجريانه في الشّبهات الحكميّة ، كما هو الحقّ ، أم قيل : بعدم جريانه فيها.

بيان ذلك : أنّ الاستصحاب الحكمي إنّما يجري إذا كان المفهوم متعيّنا من جهة السّعة والضّيق وكان الشّكّ في سعة الحكم وضيقه ، مثل ما إذا علم بحرمة مقاربة الحائض قبل انقطاع الدّم ، ولكن شكّ في حرمتها بعد انقطاعه قبل الاغتسال ، ففي هذا المورد تستصحب حرمة المقاربة إلى أن تغتسل ؛ حيث إنّه لا شكّ هنا في المفهوم ، بل الشّكّ إنّما هو في سعة الحكم وضيقه ، فيستصحب الحكم وهو الحرمة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٨.

٢٢٤

وأمّا إذا لم يكن المفهوم متعيّنا وكانت الشّبهة الحكميّة ناشئة من الشّبهة المفهوميّة ، فلا يجري فيها الاستصحاب ، لا موضوعيّا ولا حكميّا.

أمّا استصحاب الموضوع ، فلعدم وجود الشّكّ في بقاء أمر حادث زمانيّ حتّى يستصحب ويحكم ببقائه ، فإذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر أو وجوب الصّوم والإمساك ـ بعد استتار قرص الشّمس وقبل ذهاب حمرة المشرقيّة وزوالها عن قمّة الرّأس ـ لأجل الشّكّ في مفهوم المغرب سعة وضيقا ، لا مجال لاستصحاب الموضوع وهو جزء النّهار ؛ لعدم تحقّق الشّكّ في بقاءه ؛ بل إمّا يعلم بزواله ، وذلك فيما إذا كان المغرب بمعنى : الاستتار ؛ إذ المفروض أنّه محقّق قطعا ، وإمّا يعلم ببقائه ، وذلك فيما إذا كان المغرب بمعنى : ذهاب الحمرة ؛ إذ المفروض أنّه لم يتحقّق قطعا ، وعليه فلا موضوع ، ولا أمر خارجيّ شكّ في بقاءه حتّى يستصحب.

وأمّا استصحاب الحكم ؛ فلعدم تحقّق أركانه ؛ إذ لا بدّ في الاستصحاب من إحراز اتّحاد القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) موضوعا ومحمولا ، وإلّا لم يصدق عنوان نقض اليقين بالشّكّ ، والمفروض : أنّه لا اتّحاد بينهما في موارد الشّبهات الحكميّة المفهوميّة ، بل الموضوع باق ـ على تقدير ـ قطعا ، وغير باق ـ على تقدير آخر ـ قطعا ، ففي مورد الشّكّ في بقاء وجوب صلاة العصر ، أو وجوب الصّوم لا يجري استصحاب وجوب صلاة العصر أو الصّوم ؛ إذ ـ عرفت آنفا ـ أنّ الموضوع إمّا منتف قطعا ، بناء على أنّ المغرب بمعنى : الاستتار ، وإمّا غير منتف قطعا ، بناء على أنّ المغرب بمعنى : ذهاب الحمرة ، وعليه ، فلا يكون بقاء الموضوع محرزا ، فلا اتّحاد بين القضيّتين حتّى يستصحب.

إذا علمت ذلك ، فنقول : إنّ الشّبهة في مسألة المشتقّ مفهوميّة ، حيث يتردّد

٢٢٥

معناه بين خصوص ما ينطبق على المتلبّس ، وبين ما ينطبق عليه ، وعلى المنقضي عنه المبدا ، وعليه ، فإذا شكّ ـ مثلا ـ في وجوب إكرام زيد العالم الّذي انقضى عنه المبدا بعد العلم بوجوبه قبل ذلك ، لا مجال لاستصحاب الموضوع ؛ إذ تلبّس الذّات بالمبدإ سابقا يقينيّ ، كما أنّ انقضاء المبدا عنه لا حقا وفعلا يقينيّ ـ أيضا ـ فلا مجال لاستصحاب الموضوع.

وكذا لا مجال لاستصحاب الحكم ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع ، فإن كان هو المتلبّس ، فمنتف قطعا وإن كان هو الأعمّ ، فموجود قطعا ، فاتّحاد القضيّتين لا يكون محرزا كي يستصحب الحكم. وإن شئت فقل : إنّه لا شكّ في بقاء وجوب الإكرام في المثال المتقدّم ، بل إمّا يعلم بزواله ، وذلك فيما إذا كان المشتقّ موضوعا لخصوص المتلبّس للقطع بانتفائه ، وإمّا يعلم ببقائه ، وذلك فيما إذا كان موضوعا للأعمّ ، للقطع ببقائه.

وبالجملة : فالمرجع في المقام هو البراءة مطلقا.

وعليه ، فما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره من التّفصيل والقول بالبراءة على تقدير ، والاستصحاب على تقدير آخر ، غير وجيه.

التّحقيق في المشتقّ :

إذا عرفت ما تلونا عليك من الامور ، فاعلم : أنّ المسألة عند القدماء ذات قولين :

أحدهما : كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدإ في الحال.

ثانيهما : كونه حقيقة في أعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدا.

ولكن عند المتأخّرين ذات أقوال كثيرة ، وليس هذا إلّا لأجل توهّم اختلاف

٢٢٦

المشتقّ باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال. (١)

وكيف كان ، الحقّ عندنا هو كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال ، ويدلّ عليه ، التّبادر والارتكاز ، فالعالم ـ مثلا ـ لا يصدق حقيقة وبلا عناية إلّا على خصوص المتلبّس بالعلم فعلا ، ولا يصدق على ما انقضى عنه العلم إلّا بتجوّز وعناية ، ولا فرق في هذا الأمر بين اللّغات من العربيّة والفارسيّة وغيرهما.

ولا يخفى : أنّ هذا التّبادر حاقّي ناش من حاقّ لفظ المشتقّ ولو لم يكن في الجمل التّامّة ، فالمتبادر من لفظ : «العالم» هو المتلبّس بالعلم فعلا ، لا من «زيد عالم» حتّى يقال : إنّ منشأ التّبادر والظّهور في التّلبّس الفعلي هو الحمل ، وعليه ، فهذا التّبادر غير مستند إلى قرينة من حمل أو غيره ، كما لا يكون مستندا إلى كثرة الاستعمال.

هذا هو الدّليل الوحيد على المدّعى.

أمّا صحّة السّلب عمّا انقضى عنه المبدا وعدم صحّة الحمل عليه ، أو صحّة الحمل على المتلبّس وعدم صحّة السّلب عنه ، فقد عرفت ـ في مبحث علائم الحقيقة والمجاز ـ عدم كونهما علامة للحقيقة والمجاز.

وأمّا الوجوه العقليّة الّتي اقيمت على المدّعى ، فغير مجدية.

منها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال : «لا ريب في مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادي المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتقّ

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٨ ؛ قوانين الاصول : ص ٧٦ ؛ وقال في الفصول الغرويّة ، ص ٤٧ : «فصل : إطلاق المشتقّ على الذّات المتّصفة بمبدئه في الحال حقيقة اتّفاقا ، كما أنّ إطلاقه على ما يتّصف به في الاستقبال مجاز اتّفاقا ، وفي إطلاقه على ما اتّصف به في الماضي ، أقوال ثالثها : حقيقة إن كان ممّا لا يمكن بقاءه ، وإلّا فمجاز ، ورابعها : حقيقة إن كان الاتّصاف أكثريّا ... وإلّا فمجاز» ؛ وراجع ، هداية المسترشدين ، ص ٧٢.

٢٢٧

حقيقة في الأعمّ لما كان بينها مضادّة ، بل مخالفة لتصادقها فيما انقضى عنه المبدا وتلبّس بالمبدإ الآخر». (١)

توضيحه : أن مبادي المشتقّات بما لها من المعاني المرتكزة ، متضادّة بلا شبهة ، كالسّواد والبياض والعلم والجهل ، والقيام والقعود ونحوها ، وقضيّة هذا ، تضادّ الأوصاف المشتقّة منها ، كالأسود والأبيض ونحوهما ، وقضيّة تضادّ المشتقّات هو وضعها لخصوص المتلبّس ؛ إذ المتلبّس بالسّواد أو العلم أو القيام في الحال ، مضادّ للمتلبّس بالبياض أو الجهل أو القعود في الحال ، لا الأعمّ منه وما انقضى عنه ، بل لو كان وضع المشتقّات للأعمّ لكانت متخالفة ، أمكن اجتماعها وصدقها على ذات واحدة في زمان واحد ، فيقال : هذا أسود ، وأبيض ، باعتبارين ؛ أحدهما : باعتبار حال التّلبّس ؛ ثانيهما : باعتبار حال الانقضاء ، وكذلك العالم والجاهل ، والقائم والقاعد ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، بل العرف يحكم بالتّضادّ لا التّخالف ، كما هو واضح.

نعم ، لا مانع من الاجتماع ولا يصدق التّضادّ لو كان الزّمان مختلفا ، أو لو كان إطلاق أحدهما حقيقيّا والآخر مجازيّا.

وبالجملة : أنّ ارتكاز التّضادّ بين المشتقّات بمالها من المعاني المرتكزة في الأذهان ، دليل على وضعها لخصوص المتلبّس.

وفيه : أنّ التّضاد بين المبادي أمر عقلي لا ريب فيه ، وأمّا التّضادّ بين الأوصاف المشتقّة منها ، فلا يحكم به إلّا تعيين معانيها والعلم بها من ناحية التّبادر ، بأنّ المتبادر منها هو خصوص المتلبّس لا الأعمّ ، فيقع التّضاد حينئذ بين المشتقّات.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٩.

٢٢٨

وعليه : فليس التّضادّ دليلا على الوضع ، بل الدّليل هو التّبادر ؛ ضرورة ، أنّ الحكم بالتّضاد إنّما هو في طول معرفة الوضع وإحراز الموضوع له بمعونة التّبادر.

ومنها : ما عن المحقّق الأصفهاني قدس‌سره حيث قال ، ما محصّله : إنّ مفهوم الوصف المشتقّ أمر بسيط ، إمّا على نحو يراه المحقّق الدّواني قدس‌سره تبعا لبعض عبارات القدماء من اتّحاد المبدا والمشتقّ ذاتا ، واختلافهما اعتبارا ، وإمّا على نحو يساعده النّظر وهو أنّ مفهوم المشتقّ صورة مبهمة متلبّسة بالقيام على نهج الوحدانيّة ، ولا يعقل الوضع للأعمّ على كلا المعنيين.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ مبدأ الاشتقاق ـ على هذا المسلك ـ إنّما يكون من أطوار الموضوع وشئونه ومرتبة من مراتبه ، وبهذا اللّحاظ يصير المبدا وصفا مشتقّا ، كما أنّه إذا لوحظ بنفسه وبما هو هو يصير مبدءا ، فالوصف نفس المبدا ذاتا وغيره اعتبارا.

وعليه ، فمع زوال المبدا وانقضاء التّلبّس به ، لا يبقى شيء حتّى يكون من شئون الموضوع وأطواره ، فكيف يعقل الحكم باتّحاد المبدا مع الذّات في مرحلة الحمل مع عدم قيامه به!

وأمّا على الثّاني ، فلأنّ مطابق هذا المعنى الوحداني ليس إلّا الذّات والشّخص على ما هو من القيام ، فلا يصدق على فاقد التّلبّس والقيام.

وبعبارة اخرى : لا اثنينيّة في البين على هذا المسلك حتّى يتحقّق انتساب أحدهما إلى الآخر ، بل لا يكون إلّا الوحدانيّة ، فلا صدق للمشتقّ مع فقد التّلبّس وعدم القيام ، فالعالم معناه ، من قام به العلم ، فلو لا العلم وقيامه به لم يصدق عليه

٢٢٩

عنوان «العالم». (١)

وفيه : أنّه لا طريق لإثبات بساطة المشتقّ ، أو تركّبه إلّا الوضع ، ولا طريق لإحراز الوضع إلّا التّبادر.

وقد عرفت : أنّ المتبادر منه هو خصوص المتلبّس لا الأعمّ ، وفي أمثال المقام من المسائل اللّغويّة اللّفظيّة العرفيّة ، لا مجال للتّمسّك بالامور العقليّة الفلسفيّة.

ومنها : ما عن العلّامة الحائري اليزدي قدس‌سره حيث قال : «إنّك عرفت : عدم اعتبار المضيّ والاستقبال والحال في معاني الأسماء ، وبعد ما فرضنا عدم اعتبار ما ذكر في مثل «ضارب» وأمثاله من المشتقّات ، فلم يكن مفاهيمها إلّا ما اخذ من الذّوات مع اعتبار تلبّسها بالمبادي الخاصّة ....

وبعبارة اخرى : فكما أنّ العناوين المأخوذة من الذّاتيّات ، لا تصدق إلّا على ما كان واجدا لها ، كالإنسان والحجر والماء والنّار ، كذلك العناوين الّتي تتحقّق بواسطة عروض العوارض ؛ إذ وجه عدم صدق العناوين المأخوذة من الذّاتيّات إلّا على ما كان واجدا لها ، أنّها ما اخذت إلّا من الوجودات الخاصّة من جهة كيفيّاتها الفعليّة من دون اعتبار المضيّ والاستقبال ، وإلّا كان من الممكن أن يوضع لفظ : «الإنسان» لمفهوم يصدق حتّى بعد صيرورته ترابا ، كأن يوضع لمن كان له الحيوانيّة والنّطق في زمان ما ، مثلا». (٢)

وفيه : أوّلا : أنّ وجود الخصوصيّة ولزومها في الأوصاف والمشتقّات ، بل في

__________________

(١) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ١١٣ و ١١٤.

(٢) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٦٢.

٢٣٠

كلّ حمل وإن كان ممّا لا بدّ منه ، إلّا أنّه يمكن للأعمّي أن يقول : بكفاية مطلق الخصوصيّة ولو كانت منقضية فعلا.

وعليه ، فالاستدلال المذكور لا يكفي لإثبات المدّعى ، بل يحتاج فيه إلى التّمسّك بوجه آخر وهو تبادر خصوص المتلبّس من المشتقّ ، وقد عرفت تماميّة هذا الوجه.

وثانيا : أنّ النّزاع هنا إنّما هو في المفهوم اللّغوي التّصوري ، ومسألة الحمل والجري متأخّرة عن الوضع ، فلا بدّ أوّلا من تشخيص الوضع وتعيين الموضوع له بالتّبادر ونحوه ، ثمّ الجري والحمل ؛ ولذا قلنا : ليس المراد من «الحال» في عنوان المسألة حال الجري والحمل ، ولا حال النّطق ولا حال النّسبة الحكميّة ؛ لعدم إمكان دخل هذه الامور المتأخّرة عن الوضع ، فيه.

وثالثا : أن حمل المشتقّ وجريه يصحّ ـ أيضا ـ على ما انقضى عنه المبدا ؛ بناء على فرض تصوير الجامع بين المتلبّس وغيره ، فلا وجه لجعله دليلا على خصوص المتلبّس.

اللهم إلّا أن يقال : بعدم إمكان تصوير الجامع بين المتلبّس والمنقضى ، كما سيأتي تحقيقه.

هذا كلّه في الاستدلال على القول بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس.

وأمّا الاستدلال على القول بالأعمّ ، فهو على وجوه ، وقبل الورود في ذكر تلك الوجوه والجواب عنها ، لا بدّ من تنبيه أمر ، وهو أنّ القول بالأعمّ يتوقّف على إمكان تصوير الجامع بين المتلبّس والمنقضي ، وأمّا مع عدم إمكانه ، فيسقط القول المذكور ، بلا حاجة إلى إقامة دليل.

٢٣١

والحقّ عدم إمكانه وذلك : أمّا على القول ببساطة المشتقّ ـ على ما سيأتي ـ فلأنّ المدار في المشتقّ هو المبدا الملحوظ بنحو اللّابشرط ، فيدور الصّدق مدار المبدا وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، فلا يصدق مع الانعدام والانقضاء إلّا بتجوّز وعناية ، فالجامع على هذا المبنى ، لا معنى له.

وأمّا على القول بتركّبه ، فلعدم تصوير الجامع بوجه ؛ إذ الجامع على قسمين :

أحدهما : الذّاتيّ المقولي ؛ ثانيهما : الانتزاعيّ.

أمّا الأوّل : فهو غير معقول ؛ حيث إنّه لا مجال لوجوده بين الواجد للمبدا والفاقد له ، كما لا مجال له بين الوجدان والفقدان ، فهل يعقل الجامع الذّاتي المقولي بين الموجود والمعدوم ، أو بين الوجود والعدم.

وأمّا الثّاني : فهو إمّا بسيط محض لا ينحلّ إلى شيئين ، وإمّا بسيط ينحلّ إليهما.

أمّا البسيط المحض ، فهو غير معقول ؛ إذ لا يعقل أن يفيد مفهوم واحد بسيط ، معنى مركّبا يعمّ الواجد والفاقد.

وأمّا البسيط المنحلّ إليهما : فهو ـ أيضا ـ غير معقول ؛ إذ الانحلال إلى أمرين والرّجوع إلى التّركّب في صقع المفهوم المنتزع ، متفرّع على الانحلال والرّجوع إلى التّركّب في صقع الخارج المنتزع منه ، ولا انحلال ولا رجوع إلى التّركّب في الخارج ، بل الخارج ، إمّا هو الوجدان والتّلبّس ، أو الفقدان فعلا والتّلبّس في الماضي أو المستقبل ، وعليه ، فلا انحلال في الخارج حتّى ينتزع منه المفهوم البسيط المنحلّ.

وقد يتوهّم (١) أنّ الجامع هو مطلق ما خرج من العدم إلى الوجود.

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٢٣٢

ولكنّه مندفع ، أوّلا : بأنّ هذا مختصّ بمن تلبّس في الماضي ، فلا يعمّ من يتلبّس في المستقبل ، وكذا لا يعمّ المتلبّس بالفعل ، إلّا أن يضاف إليه قيد آخر ، بأن يقال : إنّ الجامع هو مطلق ما خرج في الماضي ، سواء انقضى وانعدم أو بقي وتداوم ، أو خرج منه إليه في المستقبل والزّمان الآتي ، أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال : بعدم الحاجة إلى تلك الإضافة ، وأنّ المراد ممّا خرج هو الخارج من العدم إلى الوجود ، وهذا العنوان يعمّ المتلبّس مطلقا حالا كان أو مستقبلا ، والمنقضي عنه المبدا معا ، فلا اختصاص بالماضي.

وثانيا : بأنّ وضع المشتقّ لمثل هذا المعنى الجامع (مطلق ما خرج من العدم إلى الوجود) خلاف الضّرورة ، كوضعه لما تلبّس بالمبدإ في الجملة.

وقد يتوهّم : أنّ الجامع هو الزّمان أو الذّات.

وفيه : أنّ المشتقّ لم يوضع لمجرّد هذا أو تلك ، بل الموضوع له فيه هو خصوص المتلبّس بالمبدإ أو الأعمّ منه وما انقضى عنه المبدا.

ثمّ إنّه ذهب بعض الأعاظم قدس‌سره إلى إمكان تصوير الجامع بوجهين :

الأوّل : اتصاف الذّات بالمبدإ في الجملة ، في مقابل الذّات الّتي لم تتّصف به بعد ، بتقريب : أنّ الذّات في الخارج على قسمين : قسم منها لم يتلبّس بالمبدإ بعد ؛ وقسم منها متّصف به ، ولكنّه أعمّ من أن يكون الاتّصاف باقيا أم لا ، وهو جامع بين المتلبّس والمنقضي ، وفيه : أوّلا : أنّ الجامع المذكور لو سلّم لكان هو المتّصف بالمبدإ في الجملة لا الاتّصاف به. وثانيا : أنّه لا دليل عليه إثباتا وإن أمكن ثبوتا.

الثّاني : لو سلّم أنّ الجامع الحقيقي غير ممكن ، إلّا أنّه يمكن تصوير جامع

٢٣٣

انتزاعي وهو عنوان «أحدهما». (١)

وفيه : ما عرفت آنفا : من أنّ مقام الإثبات لا يساعد ذلك وإن كان ممكنا حسب مقام الثبوت.

فتحصّل : أنّ الحقّ ، كما عرفت سابقا ، هو القول بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالفعل ، لأجل التّبادر ، وعدم إمكان تصوير الجامع.

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر الوجوه الّتي تمسّك بها الأعمّي لإثبات مدّعاه :

منها : أنّ استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في موارد التّلبّس ، ألا ترى ، أنّه يقال : «هذا قاتل زيد» و «ذاك مقتول بكر» أو «هذا ضارب عمرو» و «ذاك مضروب زيد» ، مع أنّه لو قلنا : بالوضع لخصوص المتلبّس لزم أن تكون الاستعمالات مجازية في أمثال هذه الموارد ، وهذه بعيدة في نفسها.

على أنّ الحكمة الدّاعية إلى الوضع ، تقتضي أن تكون الاستعمالات المذكورة حقيقة لا مجازا ؛ ضرورة ، أنّ الاستعمال في موارد الانقضاء إذا كان أكثر ، فالحاجة تدعو إلى الوضع بإزاء الجامع ، لا خصوص المتلبّس.

وفيه : أوّلا : أنّه يمكن أن يكون الإسناد بلحاظ حال التّلبّس لا الانقضاء.

وثانيا : أنّ ما ذكر من الاستدلال ليس إلّا مجرّد الاستيحاش والاستبعاد ، وإلّا فباب المجاز واسع ، والشّاهد عليه : استعمال أنحاء المجازات والاستعارات والكنايات في المحاورات والمكالمات اليوميّة من الفصحاء والبلغاء كثيرا ومن غيرهم أحيانا.

__________________

(١) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ١ ، ص ٢٦٣ و ٢٦٤.

٢٣٤

وثالثا : أنّ المجاز ليس معناه استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ، بل مقتضى التّحقيق ، هو ما عرفت في مبحث الحقيقة والمجاز ، من أن اللّفظ استعمل في المعنى الموضوع له ، ولكن ما أراده المستعمل جدّا خلاف ذلك ، وتطبيقه على مراده الجدّي إنّما هو بادّعاء كونه مصداقا.

ومنها : تبادر الأعمّ من اللّفظ ، لا خصوص المتلبّس.

وفيه : ما عرفت ، من أنّ الأمر عكس ذلك ، بل تبادر الأعمّ أو خصوص المنقضي عنه المبدا إنّما هو بمعونة القرينة.

وأمّا استعمال «المقتول» و «المضروب» ونحوهما في المنقضي عنه المبدا ، فإنّما هو بلحاظ حال التّلبّس ، وعليه ، فلا ملزم لالتجاء المحقّق النّائيني قدس‌سره تبعا لصاحب الفصول قدس‌سره إلى إخراج «اسم المفعول» عن محلّ النّزاع ؛ معلّلا بأنّ اسم المفعول موضوع لمن وقع عليه الحدث ، فهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء. (١)

وأنت تعلم ، أنّ النّسبة بين المضروبيّة والضّاربيّة ونحوهما هو التّضايف ، فلا وجه للفرق بين اسمي الفاعل والمفعول.

وعليه ، فيقال : إنّ اسم الفاعل ـ أيضا ـ موضوع لمن صدر منه الحدث وهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء.

ولنعم ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال ، ما محصّله : إنّ عدم صحّة السّلب في مثل «المضروب» و «المقتول» عمّن انقضى عنه المبدا ، إنّما هو لأجل أنّه اريد من المبدا معنى ـ ولو مجازا ـ يكون التّلبّس به باقيا في الحال ، كالأثر الحاصل من الضّرب أو القتل الباقي بعدهما ، وأمّا لو اريد من المبدا نفس ما وقع على الذّات

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٨٣ و ٨٤ ؛ وراجع ، الفصول الغرويّة : ص ٤٧.

٢٣٥

ممّا صدر عن الفاعل ، فعدم صحّة السّلب إنّما هو بلحاظ حال التّلبّس والوقوع ، لا بلحاظ حال الانقضاء ، لوضوح صحّة أن يقال : إنّه ليس بمضروب فعلا ، بل كان مضروبا سابقا. (١)

وبالجملة : فالإطلاق في أمثال الموارد إنّما هو بلحاظ حال التّلبّس ، سيّما في مثل «المقتول» حيث إنّه غير قابل للتّكرار.

ومنها : أنّه لو لا الوضع للأعمّ ، لما صحّ الاستدلال بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(٢) وقوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٣) ، على وجوب حدّ الزّاني والسّارق ؛ إذ لو لا صدقهما على من انقضى عنه المبدا لزم انتفاء الموضوع حين إجراء الحكم ، فيلزم جلد من لا يكون زانيا حينه ، وقطع يد من لا يكون سارقا حينه (٤).

وفيه : إنّ المراد من المشتقّ في الآيتين هو كلّ من كان تلبّس بالزّنا أو السّرقة ، كما هو كذلك في مثل «المقتول» و «المضروب» على ما عرفت آنفا.

نعم ، إنّ زمان إجراء الحدّ وهو «الجلد» أو «القطع» متأخّر قهرا عن زمان التّلبّس ؛ لتوقّفه على ثبوت التّلبّس عند الحاكم بإحدى الحجج والطّرق المعتبرة.

ولك إمّا أن تقول : إنّ من الواضح جدّا ، أنّ مجرّد صدور مثل هذا العمل الشّنيع (الزّنا أو السّرقة) موجب للحكمين السّياسيّين ولو لم يصدق على الفاعل العامل عنوان «الزّاني» أو «السّارق» حال الانقضاء حقيقة ، وهذا ضروري الدّين

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٧٣ و ٧٤.

(٢) سورة النّور (٢٤) : الآية ٢.

(٣) سورة المائدة (٥) : الآية ٣٨.

(٤) هداية المسترشدين : ص ٧٣.

٢٣٦

ومقتضى تناسب الحكم والموضوع.

وإمّا أن تقول : إنّ الموجب لإجراء الحدّ هو مجرّد صدور الفعل وصرف التّلبّس بالمبدإ وصدق العنوان حينه ، وأمّا صدق العنوان حقيقة حين إجراء الحدّ وهو زمان الانقضاء ، فلا ملزم له. (١)

ومن هنا ظهر : أنّه لا مجال ـ أيضا ـ لما حكي عن التّفتازاني من تعدّد الوضع للمشتقّ حسب ما يعتريه من الأحوال من كونه محكوما عليه ، كالزّاني والسّارق أو كونه محكوما به ، كضارب في قولنا : «زيد ضارب» فباعتبار الأوّل ، يكون حقيقة للأعمّ ، وباعتبار الثّاني يكون حقيقة في خصوص المتلبّس.

ومنها : استدلال الإمام عليه‌السلام بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٢) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة تعريضا. (٣)

__________________

(١) ولعلّ هذا هو مراد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «فإنّ المفهوم من هذه الأحكام السّياسيّة ، أنّ ما صار موجبا للسّياسة هو العمل الخارجي لا صدق العنوان الانتزاعي ، فالسّارق يقطع لأجل سرقته ، وفي مثله يكون «السّارق» و «الزّاني» إشارة إلى من هو موضوع الحكم مع التّنبيه على علّته ، وهو العمل الخارجي لا العنوان الانتزاعي ، فكأنّه قال : الّذي صدر منه السّرقة تقطع يده لأجل صدورها منه» ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢١٦.

(٢) البقرة (٢) : الآية ١٢٤.

(٣) كما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «الأنبياء المرسلون على أربع طبقات ... وقد كان إبراهيم عليه‌السلام نبيّا وليس بإمام حتّى قال الله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ، فقال الله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من عبد صنما أو وثنا ، لا يكون إماما». الاصول من الكافي ، ج ١ ، كتاب الحجّة ، باب طبقات الأنبياء ، الحديث ١ ، ص ١٧٤ و ١٧٥ ؛ وكما ورد عن الرّضا عليه‌السلام : «إنّ الإمام خصّ الله بها إبراهيم الخليل بعد النّبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشار بها ذكره ، فقال عزوجل : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، فقال الخليل : سرورا بها ومن ذرّيّتي ، قال الله عزوجل : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ،) فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصّفوة» عيون أخبار الرّضا : ج ١ ، ص ١٧١ و ١٧٢.

٢٣٧

تقريب الاستدلال : أنّ التّعريض متوقّف على كون المشتقّ موضوعا للأعمّ ، وإلّا لما صحّ ؛ ضرورة ، أنّه انقضى تلبّسهم بالظّلم ، وانقضت عبادتهم للصّنم حينما تصدّوا للخلافة ؛ لأنّهم كانوا في هذا الزّمان متشرّفين بشرف الإسلام غير متلبّسين بالظّلم وعبادة الأوثان ، فيكون إطلاق عنوان الظّالم عليهم بتجوّز وعناية ، فلا تعريض ولا إلزام للطّرف المقابل ، فالتّعريض والإلزام شاهدان على كون المشتقّ موضوعا للأعمّ وحقيقة في المنقضي عنه المبدا ، أيضا.

وفيه : أنّ الاستدلال بالآية لا يتوقّف على القول بوضع المشتقّ للأعمّ ، بل يتمّ حتّى على القول بوضعه لخصوص المتلبّس.

توضيح ذلك : أنّ الأوصاف العنوانيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن تؤخذ لمجرّد الإشارة إلى ما هو موضوع للحكم من فرد أو أفراد ؛ لأجل كونه معهودا بذلك الوصف العنوانيّ بلا دخل وتأثير للاتّصاف والتّعنون به في الحكم ، بوجه ، لا في الحدوث ولا في البقاء.

وبعبارة اخرى : يكون ذلك الوصف العنواني عنوانا مشيرا فقط ، ومأخوذا في موضوع الحكم ؛ لأجل مجرّد تعريفه ومحض الإشارة إليه بلا دخل لوجوده وعدمه ، وحدوثه وبقاءه في وجود الحكم وعدمه ، وحدوث الحكم وبقاءه ، كقوله : «أكرم هذا الجالس» و «أكرم من في الصّحن» ، أو «من في المسجد» أو «صلّ خلف ابن فلان» ونحو ذلك من القضايا الخارجيّة.

الثّاني : أن تؤخذ الأوصاف العنوانيّة في الموضوعات ، لا لمجرد التّعريف ، بل لأجل دخلها في الحكم ودورانه مدارها وجودا وعدما وحدوثا وبقاء ، كقوله :

٢٣٨

«أكرم العالم أو العادل» أو «صلّ خلف العادل» أو «قلّد المجتهد» ونحو ذلك ، فالحكم في أمثال هذه القضايا يدور مدار الوصف العنواني حدوثا وبقاء ، بحيث يكون حدوثه علّة محدثة ، وبقاءه علّة مبقية.

الثّالث : أن تؤخذ في الموضوعات لأجل دخلها في الحكم حدوثا فقط ، بلا دخل له في البقاء ، كحدوث الزّنا أو السّرقة أو شرب الخمر أو نحوها ، حيث يكون علّة لحدوث حكم الجلد ، أو القطع وبقاءه.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ ظاهر عنوان «الظّالم» هو أنّه من قبيل الثّالث ، فيكون التّلبّس به آناً ما ، كافيا لعدم اللّياقة لتصدّي منصب الإمامة والخلافة الّذي له خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة ؛ ولذا قال الله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(١).

ولقد أجاد سيدنا الاستاذ العلّامة الطّباطبائى قدس‌سره فيما أفاده في ذيل الآية ، حيث قال : «ويستنتج من هنا أمران : أحدهما : أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما عن الضّلال والمعصية ... الثّاني : عكس الأمر الأوّل وهو أنّ من ليس بمعصوم ، فلا يكون إماما هاديا إلى الحقّ البتّة.

وبهذا البيان يظهر أنّ المراد بالظّالمين في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان منه في برهة من عمره ثمّ تاب وصلح». (٢)

__________________

(١) سورة البقرة (٢) : الآية ١٢٤.

(٢) الميزان في تفسير القرآن : ج ١ ، ص ٢٧٤.

٢٣٩

وبالجملة : الاستدلال بآية العهد على عدم لياقة الظّالم لتصدّي منصب الإمامة والخلافة ، لا يبتنى على ما في مسألة المشتقّ من النّزاع ، بأنّه هل وضع للأعمّ أو لخصوص المتلبّس؟ بل الحقّ عدم ترتّب ثمرة على هذا النّزاع أصلا ؛ وذلك ، لأنّ الظّاهر من أخذ الأوصاف العنوانيّة في موضوعات الأحكام هو دوران الحكم مدارها وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، بحيث تزول الأحكام وتنتفي بزوال تلك الأوصاف وانتفاءها ، سواء قلنا : بكون المشتقّ موضوعا لخصوص المتلبّس ، أم قلنا : بكونه موضوعا للأعمّ ، وعليه ، فوزان الأوصاف العنوانيّة والعناوين الاشتقاقيّة ، وزان العناوين الذّاتيّة.

نعم ، قد عرفت : أنّ القرينة وخصوصيّة المورد قد تفيد أنّ الوصف العنواني بحدوثه دخيل في الحكم حدوثا وبقاء.

والشّاهد على ما ذكرنا : من عدم ترتّب الثّمرة على مورد النّزاع في المشتقّ هو أنّه لم يقل أحد من الفقهاء بترتّب أحكام الحائض والمستحاضة والنّفساء بعد الانقضاء وزوال المبدا عنها حتّى القائلين بوضع المشتقّ للأعمّ ، وكونه حقيقة فيما انقضى عنه المبدا ، أيضا.

وكذا لم يلتزم أحد منهم بترتّب أحكام الزّوجيّة ونحوها بعد زوال المبدا وانقضاءها عنها.

فما عن بعض الأعزّة (١) من التّعرّض للثّمرة بذكر الأمثلة ، كالأشجار المثمرة المذكورة في بعض الرّوايات الواردة في أحكام الخلوة (٢) ، وكالنّهي الواردة في

__________________

(١) راجع ، المحصول : ج ١ ، ص ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، باب ١٥ من أبواب الخلوة ، الحديث ١ ، ص ٢٢٨.

٢٤٠