مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

والمفاسد (١) ، والقيود الدّخيلة في الغرض على نحوين :

أحدهما : أنّها دخيلة في نفس تعلّق الغرض بشيء ، ومجرّد قيامه به ، بحيث لولاها لم يصر ذلك الشّيء ذا مصلحة وغرض ، نظير ما إذا تعلّق الغرض بإكرام زيد عند مجيئه ، فإنّه لا غرض حينئذ في الإكرام لو لا المجيء ، ولا مصلحة قائمة به لولاه ، بل الإكرام على تقديره يصير ذا غرض.

ولاريب ، أنّ هذا النّحو ممّا يرجع إلى الهيئة لبّا ، فيكون الطّلب والإيجاب مشروطا به ، لاشتراط أصل الغرض به حسب الفرض.

ثانيهما : أنّ القيود دخيلة في حصول الغرض ، لا في تعلّق نفس الغرض بشيء بمعنى : أنّ للشّيء غرضا ويكون هو ذا ملاك مطلقا ، سواء كان مع هذا القيد ، أم لم يكن ، والقيد إنّما هو دخيل في حصول ذلك الغرض وتحقّقه ، بحيث لولاه لم يحصل ولم يتحقّق ، نظير الصّلاة في المسجد ، والطّواف حول الكعبة ، كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «قد تكون الصّلاة في المسجد متعلّقة للغرض المطلق المحقّق للمولى ، كان المسجد موجودا أو لا ، فإذا أمر مواليه بالصّلاة فيها ، لا بدّ لهم من الصّلاة في المسجد ، ومع عدمه لا بدّ لهم من بناءه ، كما أنّ الطّواف حول الكعبة كذلك ظاهرا ، فلا بدّ للمكلّفين من بناءه لو انهدم والطّواف حوله». (٢)

__________________

(١) بحيث يعدّ عدم التّبعيّة من الضّلال البعيد ، كما عن إمامنا الرّضا عليه‌السلام : «... فكان كما أبطل الله تعالى به قول من قال ذلك [عدم التّبعيّة] إنّا وجدنا كلّ ما أحل الله تبارك وتعالى ففيه صلاح العباد وبقائهم ولهم إليه الحاجة الّتي لا يستغنون عنها ، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه ووجدناه مفسدا داعيا الفناء والهلاك» ؛ علل الشّرائع : الجزء الثّاني ، ص ٥٩٢ ، الحديث ٤٣.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧٢ و ١٧٣.

٤٠١

ولاريب ، أنّ هذا النّحو ، لا بدّ وأن يرجع إلى المادّة لبّا ، فلا يكون الطّلب والإيجاب مشروطا بمثل هذا القيد ، لدورانه مدار الغرض ثبوتا وسقوطا ، والمفروض عدم دخل القيد في أصل الغرض ، بل المشروط هو حصول الغرض في المادّة ، فلا مناص إذا من الالتزام بأنّ القيد ، هو قيد المادّة لا الهيئة.

وبعبارة اخرى : أنّ القيد هو قيد حصول الغرض ، لا قيد تعلّق الغرض وقيامه بالشّيء ، فالأمر والطّلب حينئذ حاصل مطلقا ، سواء كان مع القيد ، أم لم يكن ، ونتيجته ، عدم كون مفاد الهيئة مشروطا به ، كعدم اشتراط أصل الغرض به.

هذا كلّه في القول الأوّل (رجوع القيود إلى المادّة).

وامّا القول الثّاني (رجوع القيود إلى مفاد الهيئة) : وهو المشهور المختار ، فقد اتّضح وجهه ممّا ذكرنا في جواب القول الأوّل ، ولكن إن شئت تفصيل الكلام وتحرير المقام ، فنقول : انّ الطّلب الواقع في كلام الشّيخ قدس‌سره : «فلأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء فإمّا أن يتعلّق طلبه به ...» (١) هل المراد به هي الكيفيّة النّفسانيّة والشّوق النّفساني المؤكّد الّذي قد يعبّر عنه بالإرادة في بعض الكلمات ، أو المراد هي الإرادة ، بمعنى : الاختيار ، لا بمعنى الشّوق المؤكّد ، أو المراد هو جعل الحكم واعتبار شيء على ذمّة المكلّف ، أو المراد هو متعلّق الاعتبار ، كالوجوب ، لا نفس الاعتبار ، وجوه واحتمالات :

فإن كان المراد هو الكيفيّة النّفسانيّة ، فالأمر كما ذكره الشّيخ قدس‌سره من إطلاق الطّلب دائما وإرساله وعدم الاختلاف فيه ؛ إذ هو حينئذ كيف نفسانيّ وأمر واقعيّ عينيّ يكون تحقّقه وحصوله تابعا لحصول علله ومباديه التّصوّريّة والتّصديقيّة في

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٤٥ إلى ٤٩.

٤٠٢

حاقّ النّفس ، فلا اختلاف في الشّوق النّفساني من جهة اختلاف المشتاق إليه ، تارة من جهة الإطلاق والتّقييد ، واخرى من جهة اختياريّة القيد وعدمها ، وثالثة من جهة كون القيد الاختياري متعلّقا للطّلب والشّوق وعدم كونه كذلك ، بل يؤخذ مفروض الوجود ، كالاستطاعة بالإضافة إلى الحجّ.

هذا ، ولكن الكلام إنّما يكون في إطلاق الحكم وتقييده ، والطّلب ، بمعنى : الشّوق ليس من مقولة الحكم ؛ إذ الحكم أمر اعتباريّ لا واقع له ، إلّا اعتبار من بيده الاعتبار ، وهذا أمر تكوينيّ وكيف نفسانيّ تابع لعلله ومباديه من إدراك أمر ملائم للبدن أو النّفس.

وإن كان المراد هو الإرادة ، بمعنى : الاختيار ، فمن المعلوم عدم تعلّقه بفعل الغير الّذي يتوجّه إليه التّكليف ، فلا مجال معه للبحث عن رجوع القيد إلى نفس الطّلب أو إلى متعلّقه وهو المادّة.

وإن كان المراد هو جعل الحكم واعتبار شيء على ذمّة المكلّف ، فهو وإن كان فعليّا دائما لدوران الاعتبار بين الوجود والعدم ، فلا يقبل تقييدا ، تعليقا ، سواء كان المعتبر فعليّا ـ أيضا ـ أو استقباليّا ، إلّا أنّه ليس محلّ الكلام في المقام ، بل الكلام إنّما يكون في رجوع القيد وعدم رجوعه إلى المعتبر.

وإن كان المراد هو متعلّق الاعتبار وهو الوجوب والإلزام ، فلا يخفى عليك : أنّه قابل للتّقييد ، كقبوله للإطلاق ؛ وذلك ، لأنّ الفعل الّذي يتعلّق به الوجوب ، قد يكون ذا ملاك ملزم فعلا بلا حالة منتظرة في ذلك ، فالوجوب حينئذ يكون فعليّا ، وإن كان الواجب استقباليّا متوقّفا على مقدّمات ، كالصّلاة بعد دخول وقتها المتوقّفة على تطهير الثّوب والبدن والوضوء والغسل ، وقد يكون ذا ملاك في ظرف متأخّر ،

٤٠٣

بمعنى : أنّه لا يتمّ ملاكه ، إلّا بعد مجيء زمان خاصّ ، أو زمانيّ خاصّ ، فالوجوب حينئذ لا يكون فعليّا ، بل يكون معلّقا على تحقّق ما له الدّخل في الملاك.

وبالجملة : أنّ الحكم الشّرعي يختلف باختلاف القيود الدّخيلة في ملاكه ، فيكون فعليّا بفعليّة ما له الدّخل ، ومعلّقا على تقدير عدم فعليّة ما له الدّخل.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي قدس‌سره قد أورد على المسلك المشهور و ـ هو القول برجوع القيود إلى الهيئة ـ بقوله : «أنّه لا إشكال في إنشاء الشّارع للتّكليف المشروط قبل تحقّق شرطه ، ولا ريب ، في أن إنشاء التّكليف من المقدّمات الّتي يتوصّل بها المولى إلى تحصيل المكلّف به في الخارج ، والواجب المشروط على المشهور ليس بمراد للمولى قبل تحقّق شرطه في الخارج ، فكيف يتصوّر أنّ يتوصّل العاقل إلى تحصيل ما لا يريده فعلا ... ولكن من التزم بما ذهبنا إليه في الواجب المشروط ، لا يرد عليه هذا الإشكال لفعليّة الإرادة قبل تحقّق الشّرط ، فالمولى يتوصّل بإنشائه إلى ما يريده فعلا وإن كان على تقدير». (١)

هذا ، ولكن يمكن الجواب عنه بوجهين :

أحدهما : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره ، حاصله : إنّ المشهور إنّما أرادوا من الواجب المشروط إنشاء التّكليف فعلا لتوصّل المولى به إلى تحصيل المكلّف به على تقدير حصول الشّرط لا قبله ، وهذا ممّا لا يلزم منه التّوصّل إلى تحصيل ما لا يريده المولى فعلا ؛ إذ المفروض : أنّ تحصيل المكلّف به على تقدير حصول الشّرط ممّا يريده فعلا.

__________________

(١) كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٤٦.

٤٠٤

هذا ، مضافا إلى أنّ الإنشاء في الأحكام التّشريعيّة القانونيّة لا يمكن إلّا على النّهج المذكور ، كما لا يخفى ، بل ربّما يكون كذلك في الأحكام الجزئيّة الشّخصيّة ـ أيضا ـ كما هو المتعارف بين الموالى العرفيّة ، حيث إنّه قد يتعلّق غرضهم بتحصيل شيء بعد اسبوع أو شهر ـ مثلا ـ ولأجل التّوصل إليه أمروا عبادهم فعلا بتحصيله على تقدير حصول الاسبوع أو الشّهر. (١)

ثانيهما : أنّ الإشكال المذكور يرد على مذهب المحقّق العراقي قدس‌سره ـ أيضا ـ إذ لو أراد قدس‌سره من فعليّة الحكم والإرادة قبل حصول الشّرط هو أنّ المولى طلب وأراد تحصيل المأمور به قبله ، فهذا خلف ؛ إذ المفروض : أنّ المأمور به مشروط ومعلّق على تقدير حصول الشّرط.

ولو أراد قدس‌سره أنّه طلب فعلا تحصيل المأمور به على تقدير حصول الشّرط ، فهذا راجع إلى رأي المشهور.

(الواجب المعلّق والمنجّز)

ومنها (تقسيمات الواجب) تقسيمه إلى معلّق ومنجّز ، هذا التّقسيم إنّما يستفاد من كلام صاحب الفصول قدس‌سره حيث إنّه قسّم الواجب إلى مطلق ومشروط ، ثمّ قسّم المطلق إلى معلّق ومنجّز ، والتجأ به لانحلال الإعضال في المقدّمات المفوّتة ، كما سيأتي الإشارة إليها.

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٣٥٥ و ٣٥٦.

٤٠٥

وقد عرّف الواجب المنجّز في كلامه قدس‌سره بما يتعلّق وجوبه بالمكلّف به ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، كالمعرفة.

كما عرّف الواجب المعلّق في كلامه قدس‌سره بما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، كالحجّ ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة ، ولكن يتوقّف فعله على مجيء وقته. (١)

ولا يخفى عليك : أنّ الواجب المشروط الّذي التزم به الشّيخ قدس‌سره وهو تقييد المادة لا الهيئة ، راجع إلى الواجب المعلّق الّذي التزم به صاحب الفصول ؛ وذلك ، لوحدة المناط فيهما ، وهو أن يكون الوجوب فيهما فعليّا والواجب استقباليّا ، وعليه ، فلا يصحّ إنكار الشّيخ قدس‌سره للتقسيم المذكور نظرا إلى عدم تعقّل الواجب المعلّق ضرورة ، أنّ هذا الإنكار في الحقيقة إنكار للواجب المشروط الّذي التزم به نفسه قدس‌سره اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ إنكار الشّيخ قدس‌سره يرجع حقيقة إلى إنكار الواجب المشروط عند المشهور لا إنكار الواجب المعلّق الّذي التزم به صاحب الفصول.

ثمّ إنّه قد اشكل على الواجب المعلّق بامور أهمّها ما حكاه المحقّق الخراساني قدس‌سره عن المحقّق النّهاوندي قدس‌سره من : «أنّ الطّلب والإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات نحو المراد ، فكما لا يكاد يكون الإرادة منفكّة عن المراد ، فليكن الإيجاب غير منفكّ عمّا تتعلّق به ، فكيف يتعلّق بأمر استقباليّ ، فلا يكاد يصحّ الطّلب والبعث فعلا نحو أمر متأخّر». (٢)

__________________

(١) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ٦٣.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٦١ و ١٦٢.

٤٠٦

ولكن يمكن الجواب عنه بوجوه :

أحدها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ، حاصله : إنّا نسلّم كون الإرادة مرتبة خاصّة من الشّوق وهو الشّوق المؤكّد الّذي من شأنه انبعاث القوّة العاملة المنبثّة في العضلات وتحريكها لها نحو المراد ، إلّا أنّه يمنع عن اعتبار التّحريك الفعلي في الإرادة ، بل يختلف الأمر بحاليّة المراد واستقباليّته وبكون المراد ذا مقدّمة أو مقدّمات خارجيّة وعدم كونه كذلك ، فإن كان المراد حاليّا ، فالإرادة توجب انبعاث القوّة العاملة وهي تحرّك العضلات نحو المراد حالا ، وإن كان استقباليّا ذا مقدّمات خارجيّة ، فإرادة الشّيء توجب الانبعاث والحركة نحو تلك المقدّمات حالا ، وإن كان استقباليّا بلا مقدّمات خارجيّة ، سوى مجيء وقته ، فلا توجب الإرادة حينئذ تحريكا نحو المراد مع كونها موجودة في النّفس.

وعليه ، فأخذ الوصف المذكور في تعريف الإرادة ، إنّما لبيان أنّ الإرادة مرتبة أكيدة من الشّوق ، تبعث على حركة العضلات نحو المراد في زمانه ، سواء كان حاليّا أو استقباليّا.

ثانيها : أنّ التّشريع لا يقاس بالتّكوين ، فالوجوب والإيجاب أمر اعتباريّ يتحقّق في عالم الاعتبار بأيّ وجه اعتبر ، سواء كان قبل الواجب أو مقارنا له ، مضافا إلى أنّ الانبعاث في الإرادة التّشريعيّة لا يكون من البعث ، بل يكون من علله ومباديه الخاصّة من التّصور والتّصديق وغيرهما ، فربّ بعث لا يكون بعده انبعاث.

ثالثها : أنّ مبدئيّة الشّوق للإرادة لا تكون دائميّة ، فقد يريد المولى أمرا للتّخويف والايعاد بلا أيّ شوق إليه ، بل مع كراهة شديدة ، وقد يريد يشرب دواء مرّا بلا أيّ حبّ وميل إليه ، وقد لا يريد ولا يشرب الماء البارد لجهة من الجهات مع

٤٠٧

وجود عطش شديد وشوق أكيد إلى شربه.

رابعها : أنّ القول بأنّ الإرادة هو الشّوق المؤكّد أو المرتبة القصوى من الشّوق ، وأنّ الشّوق يصير إرادة شيئا فشيئا ، خلاف التّحقيق ، كما قرّر في محلّه ؛ حيث إنّ الشّوق هو انفعال النّفس بعد الجزم بالفائدة ، فتجد النّفس حينئذ ميلا وحبّا بالنّسبة إليه ، والإرادة تكون من صفات النّفس الفعّالة.

خامسها : أنّ الإرادة لا تستلزم تحريك العضلات دائما ؛ إذ الإرادة لكونها من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، يكون تشخّصها بتشخّص المراد ، كتشخّص العلم بتشخّص المعلوم ، ولذا لو تعدّد المراد لتعدّدت الإرادة ، فلا يمكن تعلّق إرادة واحدة بشيئين مستقلّين ، كعدم تعلّق إرادتين بشيء واحد ، ففي الأفعال المباشريّة إرادتان ، كما يكون هناك مرادان : أحدهما : إيجاد المطلوب بالذّات ؛ ثانيهما : تحريك العضلات وهو المطلوب بالتّبع ، وعدم انفكاك الإرادة عن المراد يكون بالنّسبة إلى ما بالتّبع وهو تحريك العضلات ، وأمّا الإرادة بالنّسبة إلى ما بالذّات ، فتابعة لكيفيّة تعلّقها به ، إن كان فوريّا ، فتحصل إرادة اخرى لتحريك العضلات فورا ، وإن كان استقباليّا ، فلا إرادة لتحريك العضلات فعلا ، بل لو بقي إرادة المطلوب بالذّات إلى ذلك الوقت لتحدث إرادة اخرى لتحريكها ، فإرادة تحريك العضلات غير إرادة إيجاد المطلوب. (١)

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّه لا إشكال في إمكان الواجب المعلّق وجوازه ثبوتا.

وأمّا مقام الإثبات ، فهو تابع لدلالة الدّليل على وقوعه في الخارج ، فربّما يكشف ذلك من الأدلّة كشفا إنيّا ، نظير ما دلّ على وجوب الغسل ليلا في شهر رمضان وفي غيره ، فإنّه كاشف بطرق الإنّ عن سبق وجوب الواجب.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

٤٠٨

ولا يخفى : أنّه إذا ثبت وقوعه في الخارج ، فلا ينبغي الإشكال في وجوب مقدّماته المفوّتة (١) ، ولزوم إتيانها قبل وقت الواجب أو وجوب حفظها والتّحفّظ عليها ـ على تقدير حصولها ـ مطلقا ، سواء قلنا : بثبوت الملازمة بين المقدّمة ، وبين ذيها شرعا ، أم لم نقل به ، فإنّه على فرض الثّبوت يحكم بلزوم إتيانها ووجوب حفظها لأجل وجوب ذي المقدّمة ، وعلى فرض عدم الثّبوت يحكم به ـ أيضا ـ بمقتضى حكم العقل ، فإنّه يستقلّ بذلك بعد الالتفات إلى وجوب ذي المقدّمة فعلا وإدراك توقّف إتيانه عليها وإحراز أنّه لو لم يأت بها فعلا ، لفاتت منه وقت امتثال ذي المقدّمة ولعجز عنها في ذلك الوقت ، فيفوت منه الواجب.

ولا فرق ـ بناء على حكم العقل ـ بين مثل مقدّمات الحجّ قبل الموسم ، كتحصيل الزّاد والرّاحلة ، ومقدّمات الصّوم قبل طلوع الفجر ، كالغسل في اللّيل ، وبين المقدّمات الأخر العامّة المفوّتة ، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان في كلا الموردين.

هذا كلّه إذا علم المكلّف بعجزه من إتيان المقدّمات في وقت الواجب ، فيجب عليه حينئذ قبل وقته ، إلّا إذا كانت القدرة المعتبرة في الواجب من ناحية المقدّمة هي القدرة في ظرف العمل فقط ، لا مطلقا ، فلا تجب المقدّمات حينئذ قبل الوقت ، بل يجوز تفويتها اختيارا لو كانت حاصلة ، وكذلك يجوز تفويتها بعد الوقت ـ أيضا ـ كما دلّت رواية معتبرة على جواز (٢) إجناب الرّجل نفسه اختيارا من طريق المواقعة مع أهله

__________________

(١) والمراد بها هي المقدّمات الّتي لو لم يأت بها قبل الواجب لعجز عنها حين امتثاله ، فيفوت منه قهرا.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٤ ، كتاب النّكاح ، الباب ٥٠ من أبواب مقدّمات النّكاح وآدابه ، الحديث ١ ، ص ٧٦.

٤٠٩

بعد دخول وقت الصّلاة مع العلم بالعجز عن تحصيل الطّهارة المائيّة بعده ، بخلاف الإجناب من طريق آخر ، كالنّوم ونحوه ، فلا يحكم بجوازه ؛ لعدم ورود النّص عليه.

وبالجملة : لا إشكال في وجوب المقدّمات المفوّتة ، بناء على إمكان الواجب المعلّق وثبوت الدّليل على وقوعه.

إنّما الاشكال في وجوبها بناء على امتناعه ، أو إمكانه وعدم الدّليل على وقوعه في الخارج ، فإنّه كيف يحكم بوجوبها مع عدم وجوب ذيها ، كتعلّم الصّبيان أحكام الصّلاة ونحوها من الأعمال العباديّة ، قبل البلوغ.

لا بدّ قبل الورود في حلّ هذا الإشكال من الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : أنّ المعروف بين الأصحاب (١) هو أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، عقابا لا خطابا ، وكذا الإيجاب بالاختيار لا ينافيه كذلك ، وهذا في غاية المتانة ، كما إذا اضطرّ الإنسان إلى ارتكاب حرام بسوء اختياره ، فإنّ الخطاب والتّكليف وإن كان ساقطا للغويّته ـ نظرا إلى أنّ البعث يكون للانبعاث والزّجر للانزجار ، ولا مجال لهما بعد خروج الفعل عن الاختيار ـ إلّا أنّه لا يسقط العقاب ولا قبح فيه لانتهاء اضطراره إلى اختياره ، حيث إنّه سلب اختيار نفسه بالاختيار ، ومعه لا يحكم العقل بقبح عقابه ، كما لا يخفى.

هذا ، ولكن هنا قولان آخران :

أحدهما : ما عن أبي هاشم المعتزلي واختاره المحقّق القمي قدس‌سره (٢) من أنّ

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٥٧.

(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٥٨.

٤١٠

الامتناع بالاختيار لا ينافيه خطابا ـ أيضا ـ فلو دخل في أرض مغصوبة أو ألقى نفسه من شاهق ، فلم يتمكّن من الخروج ، أو من حفظ نفسه ، حسن من المولى النّهي عن التّصرّف والأمر بالتّحفّظ لاستناد عدم الاختيار إلى سوء الاختيار.

ثانيهما : ما ادّعاه جماعة (١) ، من أنّه ينافيه عقابا ـ أيضا ـ وذلك للزوم العقاب على أمر غير مقدور ، وهذا قبيح عقلا.

والجواب : أمّا عن القول الأوّل ، هو ما أشرنا سابقا ، من أنّ التّكليف إنّما هو لغرض إحداث الدّاعي إلى المكلّف به ، بمعنى : أن يكون البعث للانبعاث والزّجر للانزجار ، ومع عدم القدرة ولو كان بسوء الاختيار لا يمكن الدّاعويّة ولا يتأتّى الانبعاث والانزجار ، وعليه ، فيصير التّكليف لغوا بالمرّة.

وأمّا عن القول الثّاني ، فهو أنّ الحاكم في باب العقاب ، هو العقل ، ولا ريب ، أنّه يحكم هنا بحسن العقاب لانتهاء الامتناع إلى سوء الاختيار ، فيكون الحرام فيما نحن فيه مقدور التّرك ، لكن مع الواسطة ، ولا فرق عند العقل في الحكم باستحقاق العقاب على ارتكاب الحرام بين ما هو المقدور بلا واسطة ، والمقدور معها.

الأمر الثّاني : أنّ الحقّ هو عدم الفرق في حكم العقل بحسن العقوبة واستحقاق المؤاخذة ، بين مخالفة التّكاليف الإلزاميّة ، وبين تفويت ملاكات ملزمة داعية إلى جعل التّكاليف من الإيجاب والتّحريم ، فالمكلّف إذا علم بها وأحرزها يحرم عليه تفويتها ، ويستحقّ العقاب على تقديره ولو لم يكن التّكليف فعليّا في حقّه ، إمّا من ناحية قصور المولى الآمر لغفلة أو نوم ، أو نحو ذلك ، وإمّا من ناحية تقصير العبد

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٥٨.

٤١١

المأمور ، بترك حفظ القدرة الحاصلة ، فصار عاجزا في ظرف الإطاعة غير قابل لتوجيه التّكليف إليه بالمرّة.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فنقول : إنّه بناء على الأمر الأوّل يمكن أن يقال في دفع الإشكال : بانّ المقدّمات المفوّتة وإن لم تكن واجبة ، إلّا أنّ العقل حكم بإلزام تحصيلها قبل وجود ذيها ، من باب قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وبناء على الأمر الثّاني يمكن أن يقال في دفعه : إنّ وجوب المقدّمات المفوّتة ليس إلّا وجوبا نفسيّا تهيّئيّا كي لا يفوت الواجب حين مجيء وقته.

هذا ، ولكن لا يخفى : أنّ حلّ الإشكال بالنّهج المذكور مبتن على القول بالتّبعيّة والمعلوليّة في وجوب المقدّمة ، والحقّ عدمها ، بتقريب ما مضى ، وعليه ، فلا مانع من وجوب المقدّمات المفوّتة قبل زمن ذي المقدّمة. (١)

خاتمة ، في بيان مقتضى الأصل عند الشّكّ.

قد عرفت : أنّ التّحقيق حسب الأدلّة يقتضي رجوع القيد إلى الهيئة ، خلافا للشّيخ الأنصارى قدس‌سره ولكن لو وصل الدّور إلى الشّك ، فهل هنا أصل يرجع إليه لتنقيح المقام ، أم لا؟

فعن المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّه ليس في المقام أصل لفظيّ ، بل المرجع هو الأصل العملي (٢) ، ولكن يظهر من الشّيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ هنا أصل لفظيّ يرجع إليه ، حيث قال : إذا دار الأمر بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة يقدّم إطلاق الهيئة ، ومعناه : أنّ التّقييد راجع إلى المادّة ، واستند له بوجهين :

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧٩.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٦٧.

٤١٢

أحدهما : أنّ إطلاق الهيئة شموليّ ، بمعنى : أنّ الوجوب مطلق على جميع التّقادير ، سواء حصل القيد أم لم يحصل ، وإطلاق المادّة بدليّ ، بمعنى : أنّ متعلّق الطّلب إنّما هو إيجاد فرد ما من الطّبيعة ، فيحصل الطّلب بإيجاد الطّبيعي في ضمن أيّ فرد من الأفراد بلا لحاظ خصوصيّة ، ومن المعلوم ، أنّ الإطلاق الشّمولي مقدّم على الإطلاق البدليّ.

ثانيهما : أنّ تقييد الهيئة يستتبع تقييد المادّة ، بمعنى : أنّه يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة ؛ إذ بعد تقييد الهيئة لم يبق محلّ الحاجة والبيان لإطلاق المادّة ، وهو واضح ، دون العكس. ومن المعلوم ، أنّه إذا دار الأمر بين التّقييدين ، كذلك كان التّقييد الّذي لا يوجب بطلان الآخر ، أولى ؛ ضرورة ، أنّ التّقييد وإن لم يكن مجازا ، إلّا أنّه خلاف الأصل ، فإذا قدّم تقييد الهيئة يلزم ارتكاب خلاف الأصل ، نظرا إلى كونه موجبا لبطلان العمل بإطلاق المادّة وهو بمنزلة التّقييد ، حيث إنّه لا فرق بين رفع الإطلاق وبين دفعه. (١)

ولكن يرد على هذين الوجهين بما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره : (٢)

امّا الوجه الأوّل : فقال في ردّه ما حاصله : أنّ الملاك في الجمع الدّلالي وتقديم أحد الدّليلين على الآخر ، إنّما يكون بأقوائيّة الظّهور والدّلالة ، والمفروض : أنّ المقام ليس كذلك ؛ إذ إطلاق الهيئة وإن كان شموليّا ، إلّا أنّه كإطلاق المادّة مستند إلى مقدّمات الحكمة ، فالإطلاقان متساويان حسب الظّهور من دون ترجيح لأحدهما على الآخر ، والاختلاف بكون أحدهما شموليّا والآخر بدليّا ، إنّما هو باقتضاء

__________________

(١) راجع ، مطارح الانظار : ص ٤٩.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٦٩ و ١٧٠.

٤١٣

المقدّمات ، كما أنّ التّعيين أحيانا ، يكون كذلك.

ومن هنا ظهر ، أنّ تقديم العامّ على المطلق إنّما هو لأجل الملاك المذكور ، حيث إنّ ظهور العامّ مستند إلى الوضع ، وظهور المطلق مستند إلى مقدّمات الحكمة ، وواضح ، أنّ الظّهور الوضعي بما أنّه تنجيزيّ يكون أقوى من الظّهور الإطلاقي الّذي يكون معلّقا على المقدّمات ؛ ولهذا يقدّم العامّ على المطلق حتّى فيما إذا كان العموم بدليّا والإطلاق شموليّا مع أنّ الملاك لو كان على الشّموليّة ، لانعكس الأمر ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.

أمّا الوجه الثّاني ، فحاصل ما قال في ردّه : هو أنّ التّقييد وإن كان خلاف الأصل ، إلّا أنّ العمل الّذي يوجب دفع إطلاق المادّة بعدم جريان المقدّمات وانتفاء بعضها ، لا يكون على خلاف الأصل ؛ إذ عليه لا إطلاق للمادّة حتّى يكون بطلان العمل به ، مثل التّقييد الّذي هو على خلاف الأصل ، وهذا واضح.

ولعلّ الشّيخ قدس‌سره زعم أنّ الإطلاق ثابت ، كعموم العامّ فيترك العمل به لأجل التّقييد تارة ، ولأجل المبطل للعمل به اخرى ، ولكن ليس الأمر كذلك ، إذ لا إطلاق إلّا فيما جرت المقدّمات فيه ، والمفروض في المقام ، عدم جريانها ، نعم ، لو انعقد الإطلاق واستقرّ الظّهور الإطلاقي بانفصال المقيّد ، ودار الأمر ، بين رجوع القيد إلى الهيئة ، وبين رجوعه إلى المادّة ، كان لما زعمه مجال.

أضف إلى ذلك كلّه ، أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشّمولى والبدلي غير سديد ؛ لأن الدّلالة على الإطلاق تكون عقليّة لا لفظيّة ، وذلك ، لانّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا جمعها ، نعم ، يصحّ التّقسيم المذكور بالنّسبة إلى العامّ ؛ حيث إنّ دلالته على العموم لفظيّ لا عقليّ ، والتّحقيق موكول إلى مبحث المطلق والمقيّد ، فانتظر.

٤١٤

(الواجب النّفسي والغيري)

ومنها (تقسيمات الواجب) : تقسيمه إلى النّفسي والغيري.

والبحث في المقام يقع في ضمن امور :

الأوّل : في تعريف كلّ واحد من الواجب النّفسي والغيري.

فنقول : إنّ المراد من الواجب النّفسي هو ما امر به لأجل نفسه (١) ، وإن شئت فقل : هو ما وجب لا لأجل التّوصّل به إلى واجب آخر. (٢)

وامّا الواجب الغيري ، فالمراد به هو ما امر به لأجل غيره ، وإن شئت فقل : هو ما وجب لأجل التّوصّل به إلى واجب آخر. (٣)

وعلى أيّ تقدير ، قد ورد الإشكال على تعريف الواجب الغيري ، بأنّه يلزم حينئذ أن يكون جلّ الواجبات لو لا الكلّ غيريّا ؛ إذ وجوبها ـ بناء على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ إنّما يكون لما لها من الغايات والفوائد المترتّبة عليها بحيث لولاها لم تصر واجبة. (٤)

وقد اجيب عنه ، بما حاصله : أنّ الفوائد المترتّبة لمّا كانت خارجة عن حيطة قدرة المكلّف واختياره ، لم يتعلّق بها الإيجاب ، فلم تصر واجبة كي يلزم أن يكون

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٦٦ ؛ وهداية المسترشدين : ص ١٦٩.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٨٢.

(٣) محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٨٢.

(٤) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٦٦.

٤١٥

وجوب الواجبات النّفسية لأجل التّوصل بها إلى واجبات أخر.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره ، بأنّ الفوائد المترتّبة وإن لم تكن مقدورة بلا واسطة ، إلّا أنّها بالنّظر إلى أسبابها صارت مقدورة ؛ إذ القدرة على السّبب قدرة على المسبّب ، ولأجل ذلك ، يصحّ تعلّق الحكم التّكليفي بمثل عنوان التّطهير والتّمليك والتّزويج ونحوها ممّا لم يكن تحت قدرة المكلّف.

وأجاب عن الاشكال ، بما ملخّصه : أنّ النّفسي هو ما وجب لأجل حسنه الذّاتي ، سواء كان مقدّمة لواجب آخر ، أم لا. والغيري هو ما وجب لأجل حسن غيره ، سواء كان له حسن ذاتي ، كالطّهارات الثّلاث ، أم لم يكن. (١)

هذا ، ولكنّ الحقّ أن يجاب عن الإشكال بعدم قابليّة الغايات ؛ لتعلّق التّكليف بها لابتناء تعلّقه بشيء على أمرين :

أحدهما : كون الشّيء مقدورا للمكلّف.

ثانيهما : كونه أمرا عرفيّا قابلا لأن يصير مكلّفا به حسب أنظارهم ، والغايات وإن كان مقدورة مع الواسطة للقدرة على أسبابها ، لكنّها ليست بامور عرفيّة ، بل امور دقّيّة عقليّة ، وعليه ، فليست الغايات بواجبات شرعيّة حتّى يلزم أن يكون وجوب الواجبات النّفسيّة لأجل التّوصّل إليها ، فتنقلب إلى الواجبات الغيريّة.

ثمّ إنّ هنا إشكال آخر يرد على أصل تقسيم الواجب بالنّفسي والغيرى ، فحاصله : أنّ حصر الواجب بالقسمين المذكورين ممّا لا وجه له ؛ ضرورة ، أنّ بعض الواجبات ممّا لا ينطبق عليه تعريف كلّ واحد من النّفسي والغيري ، نظير المقدّمات

__________________

(١) راجع ، كفاية الوصول : ج ١ ، ص ١٧١ و ١٧٢.

٤١٦

المفوّتة ـ من غسل الجنابة ليلا في شهر رمضان لصوم الغد ، أو تحصيل الزّاد والرّاحلة للحجّ قبل الموسم ، أو الوضوء والغسل للظّهرين قبل دلوك الشّمس لمن علم بعدم تمكّنه منهما بعد دخول الوقت ونحوها ـ فإنّها بالنّظر إلى عدم ترتّب العقوبة على تركها ليست من الواجبات النّفسية ، وبالنّظر إلى عدم وجوب ذي المقدّمة ليست من الواجبات الغيريّة ؛ ضرورة ، أنّ وجوب المقدّمة ناش من وجوب ذيها.

وفيه : أوّلا : أنّه لو قلنا : بإمكان الواجب المعلّق ووقوعه في الخارج لا إشكال في اندراج المقدّمات المفوّتة في الواجبات الغيريّة ؛ إذ المفروض : أنّ وجوب ذي المقدّمة على القول المذكور فعليّ وإن كان الواجب استقباليّا.

وثانيا : أنّه لو قلنا : بامتناعه أو إمكانه وعدم وقوعه في الخارج ، فلا مانع ـ أيضا ـ من اندراجها تحت الواجبات الغيريّة ؛ وذلك لما مرّ سابقا ، من أنّ وجوب المقدّمة ليس وجوبا ظليّا ناشئا من وجوب ذيها ، بل هي ممّا يتعلّق بها الإرادة مستقلّا ، إلّا أنّ إرادتها كذلك لمّا كانت تابعة لإرادة ذيها ، يطلق عليها اسم الواجب الغيري.

الأمر الثّاني : في مقتضى الأصل عند الشّك في النّفسيّة والغيريّة.

لاريب ، في أنّه لو انطبق تعريف كلّ من النّفسي والغيري على واجب ، يحكم باندراجه تحت واحد منهما ، وأمّا إذا شكّ في ذلك ، فهل هنا أصل يرجع إليه لرفع الشّكّ والتّحيّر ، أم لا؟

فنقول : إنّ مقتضى التّحقيق هو التّمسّك بالأصل اللّفظي لإثبات النّفسيّة وهو إطلاق الهيئة ، بناء على مسلك المشهور ـ كما هو المنصور ـ من قابليّة مفاد الهيئة للتّقييد ، على ما مرّ توضيحه ، فيحكم حينئذ بكون المشكوك واجبا نفسيّا ؛ إذ لو كان الوجوب شرطا لغيره ، لوجوب على المولى التّنبيه عليه ـ مع كونه في مقام البيان ـ والمفروض عدمه.

٤١٧

وأمّا بناء على مسلك الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ولزوم رجوعه إلى المادّة ، فيتمسّك ـ أيضا ـ بالأصل اللّفظي ، إلّا أنّه يختلف حسب الموارد ، فإذا كان الوجوب مستفادا من الجملة الاسميّة لا من هيئة الأمر ، نظير ما إذا قيل : «صلاة الجمعة واجبة» أو «غسل الجمعة واجب» ونحوهما ، يرجع عند الشّكّ ، إلى إطلاق الهيئة والوجوب لإثبات كون المشكوك واجبا نفسيّا ؛ وذلك ، لكون الوجوب حينئذ معنى اسميّا قابلا للتّقييد. فلو كان الوجوب شرطا لغيره ، لوجب على المولى ـ مع كونه في مقام البيان ـ التّنبيه عليه ، والمفروض عدمه. وأمّا إذا كان مستفادا من هيئة الأمر ، يرجع إلى إطلاق المادّة والواجب ؛ وذلك ، لكون الأمر معنى حرفيّا ، والمعنى الحرفي عنده قدس‌سره جزئيّ حقيقيّ غير قابل للتّقييد بخلاف الواجب ، فإنّه قابل للتّقييد ، كما هو واضح ، وحيث إنّ المولى كان في مقام البيان ولم ينصب القرينة على تقييد الواجب بقيد ، يحكم بإطلاق الواجب وعدم تقييده بشيء ، وذلك ، نظير دليل الصّوم أو الحجّ أو بعض أنواع الصّلاة ، كصلاة الميّت ، فإذا شكّ في أنّ كلّ واحد من هذه الواجبات مقيّد بالوضوء ـ مثلا ـ يتمسّك بإطلاق المادّة فيها ويحكم بعدم تقييدها بالوضوء ، ولازم ذلك ، عدم كونه غيريّا بالنّسبة إلى تلك الواجبات.

وبالجملة : لا مانع من التّمسّك بالإطلاق ، بناء على المسلكين ، والفرق إنّما هو في كيفيّة التّمسّك ، كما عرفت. هذا كلّه بناء على وجود الإطلاق في المقام.

وأمّا إذا فرض عدم وجوده ، فهل هنا أصل عمليّ يرجع إليه ، أم لا؟

فنقول : لا مانع من جريان الأصل العملي في المقام ، إلّا أنّه يختلف باختلاف صور الشّكّ ، وهي تنتهي إلى أربع :

الاولى : أن يعلم المكلّف بوجوب الشّيء المردّد بين النّفسي والغيري مع علمه

٤١٨

بأنّه لو كان واجبا غيريّا مقدّميّا بالنّسبة إلى واجب آخر ، لم يكن وجوبه فعليّا ، لعدم فعليّة ذلك الواجب ، فيرجع عند الشّكّ حينئذ ، إلى البراءة عقلا ونقلا ؛ إذ بعد فرض علم المكلّف بعدم فعليّة وجوب الشّيء على تقدير كونه واجبا غيريّا ، يكون الشّكّ راجعا إلى الشّكّ في الوجوب الفعلي ، وهذا هو مجرى البراءة ، كما لا يخفى ، نظير ما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها ، إمّا نفسيّا أو غيريّا مع علمها بأنّه لو كان غيريّا مقدّميّا للصّلاة لم يجب فعلا لعدم وجوب الصّلاة عليها حال الحيض ، فلا ريب في أنّه تجري البراءة بالنّسبة إلى وجوب الوضوء.

الصّورة الثّانية : أن يعلم المكلّف بوجوب الشّيء المردّد ، لكن مع علمه بأنّه لو كان واجبا لأجل الغير ، لكان وجوب ذلك الغير فعليّا ، فلا مجال حينئذ للرّجوع إلى البراءة ، بل المرجع هو الاشتغال ؛ وذلك ، لأنّ المفروض : أنّ الوجوب فعليّ على أيّ تقدير ، سواء كان في ضمن الواجب النّفسي أو الغيري ، والشّكّ في النّفسيّة والغيريّة يكون بلا أثر ، وقد مثّل لذلك بما إذا تحقّق النّذر ولكن تردّد متعلّقه بين الوضوء والصّلاة ، فلو كان المتعلّق هو الوضوء لكان واجبا نفسيّا ، ولو كان هو الصّلاة لكان الوضوء واجبا غيريّا مع العلم بفعليّة وجوبه لفعليّة الصّلاة في حقّ المكلّف ، فحينئذ حيث إنّه يعلم تفصيلا بوجوب الوضوء فعلا على أىّ تقدير ، فلا بدّ له من الرّجوع إلى الاشتغال بالنّسبة إليه ، لا البراءة.

هذا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في أنّه هل يجوز الرّجوع إلى البراءة عن وجوب الصّلاة في المثال ، أم لا يجوز ، وجهان : الصّحيح هو جواز الرّجوع ؛ وذلك ، لعدم منجّزيّة العلم الإجمالي بالوجوب النّفسي المردّد بين الوضوء والصّلاة حيث إنّه يعتبر في تنجّز العلم الإجمالى تعارض الاصول في اطرافه وواضح انه لا تعارض بين

٤١٩

الأصلين في المقام ؛ إذ المفروض : أنّ وجوب الوضوء معلوم بالتّفصيل لفعليّته مطلقا ، فلا تجري البراءة بالنّسبة إليه ، وعليه ، فتبقى البراءة عن وجوب الصّلاة بلا معارض.

الصّورة الثّالثة : أن يعلم المكلّف بوجوب الفعلين في الخارج مع علمه باشتراكهما في الإطلاق والتّقييد ، بحيث لو كان أحدهما واجبا مشروطا بالنّسبة إلى شيء أو كان مطلقا ، لكان الآخر ـ أيضا ـ كذلك ، ولكن شكّ في أنّ أحدهما ، هل هو شرط لوجود الآخر ، أو مقدّمة لوجود أمر آخر ، أم لا؟ وذلك ، نظير وجوب الصّلاة والوضوء بعد دخول الوقت ، فإنّ كلّ واحد منهما متماثل للآخر في الإطلاق والاشتراط ، حيث إنّ وجوب الصّلاة مشروط بالبلوغ والعقل ـ مثلا ـ والوضوء كذلك ، والشّكّ إنّما هو في أنّ وجود الصّلاة وصحّتها هل يكون مشروطا بوجود الوضوء ، أم لا؟ بحيث لو ثبت كونها مشروطا به ، لكان وجوب الوضوء غيريّا ، ففى مثل ذلك لا يمكن الرّجوع عند الشّكّ ، إلى أصل البراءة عن الوجوب الغيري للوضوء ؛ ضرورة ، أنّ وجوب الوضوء ـ بوجوب جامع بين النّفسي والغيري ـ معلوم تفصيلا ، فهذا الأصل معارض بأصل البراءة عن الوجوب النّفسي للوضوء ، فلا مناص من الرّجوع إلى الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الصّلاة.

الصّورة الرّابعة : أن يعلم المكلّف بوجود الواجبين في الخارج مع علمه بأنّ أحدهما مقيّد بشيء ، لكن شكّ في أنّ الواجب الآخر ، هل هو مقيّد بذلك الشّيء ـ أيضا ـ أم لا؟ نظير الصّلاة والوضوء ، حيث إنّ الصّلاة مشروطة بالوقت يقينا ولكن شكّ في أنّ الوضوء مشروط به ـ أيضا ـ أم لا ، ومنشؤه أنّه لا يعلم أنّ الوضوء واجب نفسيّ أو غيري ، فإنّه لو كان نفسيّا ، لكان مطلقا بالنّسبة إلى الوقت ، ولو كان غيريّا يكون مشروطا بالنّسبة إليه ، نظرا إلى أنّ المقدّمات الوجوديّة في الإطلاق و

٤٢٠