مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

على المقارن ، إنّما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة. (١)

ومنها : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث اختار في شرائط التّكليف ما هو راجع إلى ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ الشّرط هو العلم واللّحاظ ، لا المعلوم والملحوظ. (٢)

وأمّا في شرائط الوضع والمأمور به ، فقد اختار ما هو طريق العرف وهو الصّحيح فقال قدس‌سره بعد ذكر طريق العقل والبرهان في حلّ الإشكال ما هذا لفظه : «فنقول : إنّ الموضوعات الواقعة في لسان الأدلّة امور عرفيّة لا تنالها يد الدّقة العقليّة ، بل يقدّم في مبحث الأحكام خصوصا على القول باعتباريّتها على ما يثبته البرهان ، فحينئذ بما أنّ العرف يرى الإضافة إلى المتقدّم والمتأخّر ، كالمقارن ، ويرى العقد متعقّبا للفعل مع عدم الإجازة الفعليّة ، يصحّ انتزاع هذه العناوين عندهم لأجل ملاكات وتخيّلات مركوزة في أذهانهم ، ومن الممكن كون الأثر مترتّبا على المتعقّب في نظر العرف دون العقل ، كما هو السّند والمعتمد في سائر الموضوعات الشّرعيّة ، وعليه ، فالشرط مقارن ـ أيضا ـ وهذا الوجه يرجع إلى ما ذهب إليه القوم». (٣)

ومنها : ما عن العلّامة الطّباطبائى قدس‌سره فقال ، ما هذا لفظه : «الحقّ أن يقال : إنّ البرهان إنّما قام على استحالة توقّف الموجود على المعدوم في الامور الحقيقيّة ، وأمّا الامور الاعتباريّة ، كما هو محلّ الكلام ، فلا ؛ لما عرفت مرارا : أنّ صحّتها إنّما يتوقّف على ترتّب الآثار ، فلا موجب لهذه التّأسّفات إلّا الخلط بين الحقائق والاعتباريّات ،

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٨.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٣) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٦٩.

٣٨١

فالصّواب في الجواب أن يقال : إنّ شرط التّكليف أو الوضع ما يتوقّف عليه المجعول بحسب وعاء الاعتبار ، لا وعاء الخارج ، وكذلك شرط المأمور به ما يتوقّف عليه بحسب ما يتعلّق به من الغرض ، أو يعنون به من العنوان في ظرف الاعتبار ، هذا ، وكأنّه الّذي يرومه المصنّف في كلامه وإن لم يف به بيانه». (١)

ختام : قد اختار المحقّق النّائيني قدس‌سره أنّ محلّ النّزاع في الشّرط المتأخّر ، إنّما هو موضوعات الأحكام ، وضعيّة كانت أو تكليفيّة ، وأخرج بذلك أربع موارد :

الأوّل : العلل العقليّة بجميع أقسامها من البسيطة والمركّبة والتّامّة والنّاقصة والشّرط والمقتضي وعدم المانع والمعدّ.

وجه خروجها عن محلّ النّزاع ، هو أنّ امتناع تأخّر العلّة أو بعض أجزاءها عن المعلول ، من القضايا الّتي قياساتها معها.

الثّاني : العلل الغائيّة المتأخّرة عمّا تترتّب عليه وجودا وعينا.

وجه خروجها ، أنّها ليست بوجودها العيني المتأخّر علّة للإرادة وحركة العضلات نحو ما تترتّب عليه ، حتّى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، بل هي علل بوجودها العلمي.

هذا بالنّسبة إلى علل التّكوين ، وكذا الحال في علل التّشريع ، إذ هي ـ أيضا ـ علل غائيّة إلّا أنّهم اصطلحوا في التّعبير عن العلل في الشّرعيّات بعلل التّشريع ، وفي التّكوينيّات بالعلل الغائيّة.

وكيف كان ، علم الآمر بترتّب الحكمة موجب للأمر وان كانت الحكمة بوجودها العيني متأخّرة عن الأمر.

__________________

(١) حاشية الكفاية : ج ١ ، ص ١٠٧.

٣٨٢

الثّالث : الإضافات والانتزاعيّات ، كالتّقدّم والتّأخّر والسّبق واللّحوق والتّعقّب وغير ذلك.

وجه خروجها : هو أنّ عنوان التّقدّم والتّأخّر لو كان شرطا لوضع أو تكليف ، لا يكون ذلك من الشّرط المتأخّر ، ولا يلزم حينئذ محاذيره من الخلف وتأثير المعدوم في الموجود ، وتقدّم المعلول على علّته ؛ حيث إنّ عنوان التّقدّم ينتزع من ذات المتقدّم عند تأخّر شيء عنه ، ولا يتوقّف انتزاعه عن شيء على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع.

الرّابع : شرائط متعلّق التّكليف والمأمور به.

وجه خروجها : أنّ حال الشّرط حال الجزء في توقّف الامتثال عليه ، وعدم الخروج عن عهدة التّكليف إلّا به ، فكما لا محذور في الأمر بمركّب تدريجيّ الوجود ، بعض أجزاءه في أوّل النّهار ، وبعضه في آخر النّهار ، ولا إشكال في تأخّر بعضه عن الآخر وجودا وانفصاله عنه زمانا ، كذلك لا إشكال في تأخّر الشّرط وجودا وانفصاله زمانا. (١)

ثمّ إنّه قدس‌سره بعد تحرير محلّ النّزاع وإخراج ما ليس منه ، قال : «إنّ امتناع الشّرط المتأخّر من القضايا الّتي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى برهان» (٢) ومع ذلك ، قد بسط الكلام فيه ، وقال بما لا يخلو عن المناقشة ، حاصله : إنّ القضايا على قسمين : خارجيّة وحقيقيّة ، والفرق بينهما هو أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة مطلقا ـ سواء كانت حمليّة أو شرطيّة ، أو خبريّة أو إنشائيّة ـ هو العنوان الكلّي الجامع بين

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٧١ الى ٢٧٤.

(٢) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٠.

٣٨٣

ما ينطبق عليه من الأفراد ، وفي القضيّة الخارجيّة هو الشّخص الخارجيّ الجزئيّ ، وممّا يتفرّع على هذا الفرق ، هو أنّ العلم إنّما يكون له دخل في القضيّة الخارجيّة ؛ إذ حركة إرادة الفاعل نحو الفعل ، أو الآمر نحو الأمر إنّما تكون لأجل علم الفاعل والآمر بما يترتّب على فعله وأمره وما يعتبر فيه من القيود والشّرائط ، ومن المعلوم ، أنّه ليس لوجود تلك القيود دخل في الإرادة ، بل الدّخيل فيها هو المعلوم بتحقّقها ، فالعلم بوجود الأسد ـ مثلا ـ في الطّريق يوجب الفرار ، لا نفس وجود الأسد واقعا ، وهذا بخلاف القضيّة الحقيقيّة ؛ وذلك ، لأنّ الموضوع فيها إنّما هو العنوان الكلّي الجامع لما يعتبر فيه من القيود والشّرائط ، والمحمول فيها إنّما هو مترتّب على ذلك العنوان الجامع ، بلا دخل لعلم الآمر بتحقّق تلك القيود وعدم تحقّقها ، بل المدار على تحقّقها العينيّ الخارجيّ.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ المجعولات الشّرعيّة ليست على نهج القضايا الشخصيّة الخارجيّة حتّى يكون لكلّ فرد من أفراد المكلّفين إنشاء شخصيّة عند وجوده ، فإنّ ذلك ضروريّ البطلان ، بل هي إنشاءات أزليّة ، فتكون إذا على نهج القضايا الحقيقيّة.

إذا عرفت الفرق بين القضيّتين وأنّ المجعولات تكون على نهج القضايا الحقيقيّة ، ظهر لك : أنّ المراد من موضوعات الأحكام الّتي هي محلّ النّزاع هو أنّها عبارة عن العناوين الكلّيّة الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدّر وجودها في ترتّب المحمول عليها ، بحيث يكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العليّة إلى معلولها من حيث التّرتّب والتّوقّف ، لا حقيقة ، فإذا يرجع النّزاع في الشّرط المتأخّر إلى تأخّر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع بنحو الجزئيّة أو الشّرطيّة عن الحكم التّكليفي أو الوضعي ،

٣٨٤

بأن يتقدّم الحكم على بعض أجزاء موضوعه ، وهذا مستحيل ؛ إذ بعد فرض اعتبار شيء موضوعا للحكم ، لا يمكن أن يتخلّف ذلك الحكم عن موضوعه ويتقدّم عليه. (١)

هذا ، ولكن يقع الإشكال في مواضع من كلامه ، كما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره. (٢)

الأوّل : أنّ وجه خروج الانتزاعيّات عن محلّ النّزاع ، إنّما هو تكافؤ المتضايفين قوّة وفعلا ، وأنّه لا يعقل الإضافة بين موجود ومعدوم ، لا لما ذكره قدس‌سره من جواز انتزاعها عمّا تقوم به من غير دخالة الطّرف الآخر فيه ؛ إذ أنّه قدس‌سره لو أراد انتزاع العنوان الإضافي بلا إضافة إلى طرف الآخر ، فهو واضح البطلان ، ولا يقول به ؛ كيف! وأنّه صرّح بأنّ السّبق ـ مثلا ـ ينتزع من نفس السّابق بالإضافة إلى ما يوجد بعد ذلك.

ولو أراد انتزاعه فعلا بالقياس إلى ما سيصير طرف الإضافة بلا وجود له فعلا ، فهو مستحيل ، لتكافؤ المتضايفين فعلا وقوّة ، وهل هذا إلّا دعوى انتزاع الابوّة فعلا من طفل نعلم أنّه سيولد له ولد؟!

ولو أراد أنّ المعدوم مضاف فعلا ، فهو أوضح بطلانا.

وأمّا تمثيله بعنوان التّقدّم ، وأنّه ينتزع من اليوم الحاضر لتحقّق الغد في موطنه بلا توقّف هذا الانتزاع على مجيء الغد ، فهو خلط بين التّقدّم الذّاتي ، والتّقدم بالمعني الإضافيّ المقوليّ ؛ إذ الزّمان ذاتا متصرّم وله تقدّم وتأخّر بالمعنى الذّاتي ، لا بالمعني الإضافيّ المقوليّ.

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٧٨ الى ٢٨٠.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧٠ الى ١٧٢.

٣٨٥

نعم ، عنوان التّقدّم والتّأخّر أمر إضافي ، والزّمان من مصاديقهما ، ولا يلزم أن يكون مصداق الإضافيّ إضافيّا ، ألا ترى ، أن عنوان العلّة والمعلول إضافيّ ، أمّا مصداقهما فليس كذلك ، كما أنّ بين السّواد والبياض ـ مثلا ـ تضادّ ، مع أنّ مفهوم التّضاد من مصاديق التّضايف.

الثّاني : أنّه قدس‌سره أخرج شرائط المأمور به عن حريم النّزاع قياسا لها بالأجزاء في المركّب التّدريجي ، وهذا ممّا لا يجدي ، بل هو فرار عن الإشكال ؛ لجريان إشكال باب الشّرط في باب الشّطر ـ أيضا ـ لو قلنا : باشتراط صحّة الجزء الأوّل من المركّب ، ـ كتكبيرة الإحرام ـ بتحقّق الأجزاء الأخر ، فالمقايسة لا ترفع الغائلة بل تزيدها.

ولا يخفى : أنّ هذا الإشكال يتمّ إذا قال : باشتراط الصّحة فعلا بوقوع الأجزاء الأخر في المستقبل ، أو بصحّة المشروط (كصوم المستحاضة) فعلا بالأغسال اللّيليّة المستقبلة ، لكنّه لا يقول كذلك ، بل يقول : بتوقّف الصّحّة وترتّب الملاك والامتثال على التّقييد الحاصل بحصول ذات القيد ، ويقول : إنّ حقيقة الاشتراط ليست إلّا الإضافة الحاصلة بين المقيّد والقيد ، وأشار إلى أنّه أيّ خلف يلزم حينئذ ، وأىّ معلول يتقدّم على علّته ، فصحّة المقيّد معلّقة على حصول القيد ، كتعليق صحّة المركّب على حصول جزء الأخير.

ومن هنا ظهر ضعف ما قال الإمام قدس‌سره في الإشكال على المحقّق النّائيني قدس‌سره بقوله : «ورابعا : فإنّ إخراج شرائط المأمور به ممّا لا وجه له ؛ لأنّ الكلام ليس في تقيّد المركّب بقيد خارجيّ ، بل في صحّة المأمور به فعلا ـ أعني صوم المستحاضة ـ إذا أتت بالأغسال المستقبلة ، والإشكال المتوهّم في هذا الباب جار في الأجزاء ـ أيضا ـ لو قيل : بصحّة الجزء الأوّل ، كصحّة التّكبير بالفعل مع كونها مشروطة بوقوع الأجزاء

٣٨٦

الأخر ، فلا ينفع الفرار عن الإشكال بجعل شرائط المأمور به من قبيل الأجزاء حكما». (١)

الثّالث : أنّ الفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة ، بأن الامتناع مبتن على الحقيقيّة ، نظرا إلى عدم دخل العلم فيها ، لا على الخارجيّة ، نظرا إلى دخل العلم فيها ، غير موجّه ؛ إذ أوّلا : أنّ الشّروط المعلّق عليها الأحكام في القضيّة الحقيقيّة لها دخل واقعيّ في الأحكام ، لا جعليّ اعتباريّ ، حتى يكون التّعليق عليها في ظاهر القضيّة ، محقّقا لدخلها وشرطيّتها ، كى يقال : بامتناع ذلك في الشّرائط المتأخّرة ، فالتّمكّن ـ مثلا ـ دخيل في وجوب الحجّ ، سواء قال عزوجل (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) أو قال : إن استطعت فحجّ أو قال : لمن علم باستطاعته حجّ ؛ ولذا لو فرض عدم مطابقة العلم بتمكّن زيد للواقع لما وجب عليه الامتثال ، بل الأمر صوريّ محض ، وعليه ، فلا فرق بين القضيّتين في جريان الإشكال وعدمه.

وثانيا : أنّ منشأ الفرق المذكور هو الخلط الحاصل من بعض الأمثلة الجزئيّة المذكورة في كلامه قدس‌سره وإلّا فالقضيّة الخارجيّة ـ أيضا ـ كالحقيقيّة ممّا تكون الشّرائط فيها مؤثّرة بوجودها العينيّ الخارجي ، لا العلمي ، ألا ترى ، أنّ الإجازة ـ بناء على الكشف ـ بوجودها الخارجي دخيلة في صحّة العقد الفضولي ، سواء كانت القضيّة الّتي أنفذته خارجيّة ، أو حقيقيّة.

فتحصّل : أنّ البحث هنا عامّ يشمل شرائط الجعل ، كالقدرة المتأخّرة عن زمن التّكليف ، وشرائط المجعول ، كالأغسال الليليّة لصوم المستحاضة ، وشرائط

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧١.

٣٨٧

الوضع ، كالإجازة على الكشف ، وما تقدّم من الإشكال على الشّرط المتأخّر يجري في الجميع ، والجواب ما مرّ.

فما ظهر من المحقّق النّائيني قدس‌سره من اختصاص النّزاع بشرائط المجعول دون شرائط الجعل ؛ معلّلا بأنّها ترجع إلى العلل الغائيّة الّتي تكون مؤثّرة بوجودها العلمي ، غير وجيه ؛ لعدم ثبوت الفرق بينهما حقيقة ، نعم ، يفرق بينهما اعتبارا ، كما يفرق بين نفس الجعل والمجعول هكذا ، فالقدرة ونحوها شرط وعلّة غائيّة بوجودها العلمي للجعل والمجعول ، كما أنّها بوجودها الخارجي شرط لعمل المكلّف ، فالشّرط في المقام هو العلم ، كما أنّ الشّرط في قولك : «أجيئك إن تجئني» هو العلم بمجيء صاحبه غدا ، لا نفس المجيء.

إذا عرفت تلك الامور ، فنقول : إنّ الحقّ عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعيّا غيريّا ، وأدلّة الوجوب كلّها مردودة وهي ثلاثة :

الاولى : ما عن الأشاعرة ، ملخّصه : أنّ المولى إذا أوجب شيئا ، فلا بدّ له من إيجاب مقدّماته ، وإلّا لجاز تركها وحينئذ إمّا يكون وجوب ذي المقدّمة باقيا بحاله ، فيلزم منه التّكليف بما لا يطاق وهو محال. أو لم يكن باقيا ، فيلزم منه انقلاب الواجب المطلق إلى المشروط وهو ـ أيضا ـ محال ، كما لا يخفى. (١)

وفيه : أنّ عدم إيجاب المقدّمة شرعا لا يلازم جواز تركها عقلا حتّى يلزم أحد المحالين المتقدّمين ؛ وذلك ، لاستقلال العقل في الحكم بلابدّيّة إتيان المقدّمة والمنع من تركها ، ولذا لو كان المكلّف تاركا لها وتاركا لذيها تبعا لتركها ، عدّ عاصيا مستحقّا للعقوبة.

__________________

(١) راجع ، معالم الدّين : ص ٥٥.

٣٨٨

نعم ، لو رخّص الشّارع المكلّف في ترك المقدّمة مع إيجابه ذا المقدّمة والبعث إليه ، لزم التّكليف بما لا يطاق ، بل هذا مساوق لعدم الإيجاب ، وهذا أمر آخر.

الثّانية : ما عن المحقّق الخراسانى قدس‌سره محصّله : أنّ الأوامر الشّرعيّة الغيريّة فى الشّرعيّات والعرفيّات تدلّ على إيجابها وإرادتها حين إيجاب ذيها وإرادته ، مثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...)(١) وقوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٢) لوضوح أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمة أمر غيريّ إلّا كان فيها مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصحّ تعلّقه به ـ أيضا ـ لتحقّق مناطه وملاكه. (٣)

وفيه : أنّ أمثال هذه الأوامر مفادها إرشاد إلى الشّرطيّة ، كإرشاد الأوامر المتعلّقة بالأجزاء إلى الجزئيّة ، وكإرشاد بعض النّواهي إلى المانعيّة ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا تجوز الصّلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه» (٤) وعليه ، فلا تدلّ على الوجوب الغيريّ المولويّ المقدّمي ، كما أنّ الأمر بالمقدّمات الصّادر من الشّرع ـ أيضا ـ قد يكون إرشادا إلى حكم العقل باللابدّيّة ، أو يكون تأكيدا للأمر النّفسي على وجه كنائيّ.

الثّالثة : ما عنه ـ أيضا ـ من إحالة وجوب المقدّمات إلى الوجدان ، حيث قال ، ما هذا لفظه : «إذا عرفت ما ذكرنا ، فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل لإقامة

__________________

(١) سورة المائدة (٥) : الآية ٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٨ من أبواب النّجاسات ، الحديث ٢ ، ص ١٠٠٨.

(٣) راجع كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٠١.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٧ ، ص ٢٥١.

٣٨٩

البرهان على الملازمة ، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل ، والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان ، حيث إنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئا له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطّلب مثله ، ويقول : مولويّا «ادخل السّوق واشتر اللّحم» مثلا ؛ بداهة ، أنّ الطّلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثا مولويّا ، وأنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشّحت منها له إرادة اخرى بدخول السّوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة له ، كما لا يخفى». (١)

وفيه : أنّ الإحالة إلى الوجدان ليست إلّا مصادرة بالمطلوب ، بل الأمر بالعكس ، وأنّه أقوى شاهد على عدم وجوب المقدّمة ، فلا نجد في المثال المتقدّم إلّا الأمر الحقيقي والبعث الواقعي وهو المتعلّق بالاشتراء فقط ، وأمّا الأمر بدخول السّوق ، فلا شأن له إلّا التّأكيد بالنّسبة إلى اشتراء اللّحم أو الإرشاد إلى حكم العقل ، ألا ترى ، أنّ المولى لو أمر عبده بشيء وله مقدّمات ، ثمّ قال : أنا اعطي بإزاء امتثال هذا الأمر دينارا ، فليس للعبد إذا امتثل الأمر مع المقدّمات أن يطالب الآمر أكثر من دينار واحد ، وهذا ليس إلّا لعدم بعث إلى المقدّمات ، بل البعث كلّه متوجّه إلى ذي المقدّمة حتّى لو فرض البعث إلى المقدّمة ، وكونها موردا للطّلب صورة ، فهو يكون بعثا إلى ذيها باطنا وبالدّقة ، فدخول السّوق قد يؤمر به ، لا بما هو هو ، بل بما هو طريق إلى اشتراء اللّحم ، فإذا يكون البعث المقدّمي تأكيدا للبعث إلى اشتراء اللّحم.

فتحصّل ، أنّ الأدلّة لإثبات وجوب المقدّمة كلّها عليلة غير مثبتة ، ومن

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٠٠.

٣٩٠

الواضحات ، أنّ العقل بعد احراز صغرى المقدّميّة يحكم بكبرى لزوم الإتيان بها للوصول إلى ذيها ، فلا مجال إذا لحكم الشّرع مولويّا ، بل لو حكم وأمر بالمقدّمة في موضع ، لكان ذلك إرشادا إلى هذا الحكم العقليّ ، ونتيجة ذلك كلّه ، هو إثبات ما اخترناه ، من عدم تحقّق الملازمة شرعا ، وعدم وجوب المقدّمة بوجوب غيري مولويّ.

تتمّة : قد تنقسم المقدّمة ـ أيضا ـ إلى مقدّمة المستحب والحرام والمكروه.

فنقول : أمّا مقدّمة المستحب ، فالبحث فيها هو البحث في مقدّمة الواجب ، ومختارنا هنا ، بعينه هو ما اخترناه هناك.

وأمّا مقدّمة الحرام ، فالحقّ عدم الملازمة بين حرمة ذي المقدّمة وحرمتها ـ أيضا ـ نظير مقدّمة الواجب ، بلا فرق بين أنحاءها في الأفعال التوليديّة (١) والمباشريّة. (٢)

ولا فرق في هذا القسم ـ أيضا ـ بين أن يقصد بإتيانها التّوصّل إلى مقدّمة الحرام ، وبين أن لا يقصد.

والوجه فيما اخترناه من عدم الملازمة هنا ، هو ما مرّ في مقدّمة الواجب من عدم تماميّة الأدلّة الّتي اقيمت على الملازمة بين المقدّمة وبين ذيها.

__________________

(١) والمراد بها ، هي الّتي يقع ذو المقدّمة بعدها في الخارج قهرا بلا توسيط اختيار الفاعل وإرادته بينها وبين ذيها ؛ بحيث لو أتى بها لا يتمكّن من ترك ذي المقدّمة ، كالإلقاء في النّار بالنّسبة إلى الإحراق.

(٢) والمراد بها ، هي الّتي يتوسط الاختيار والإرادة بينها وبين ذيها ؛ بحيث يتمكّن الفاعل بعد إيجاد المقدّمات بأسرها من ترك ذي المقدّمة ، فلا يقع بعدها في الخارج قهرا وبلا اختيار.

٣٩١

وقد انقدح ممّا ذكرنا ، أنّه لا وجه لما عن المحقّق الخراسانى قدس‌سره والمحقّق النّائينى قدس‌سره من التّفصيل في مقدّمة الحرام بين الأفعال التّوليديّة ، فتكون محرّمة ، وبين غيرها ، فليست بحرام.

وأمّا مقدّمة المكروه ، فقد يظهر حاله ممّا ذكرنا في مقدّمة الحرام بلا حاجة إلى بيان زائد.

(تقسيمات الواجب)

اعلم أنّ للواجب تقسيمات :

منها : تقسيمه إلى المطلق والمشروط :

(المطلق والمشروط)

هنا امور يقع الكلام فيها ، الأوّل : في تعريف المطلق والمشروط.

ذهب المشهور (١) إلى أنّ المراد من المطلق هو ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، والمراد من المشروط هو ما يتوقّف كذلك.

وذهب صاحب الفصول قدس‌سره (٢) إلى أنّ المراد من المطلق ما لا يتوقّف وجوبه بعد الشّرائط العامّة من البلوغ والعقل والقدرة والعلم على شيء ، بخلاف المشروط ،

__________________

(١) راجع ، منتهى الدّراية : ج ٢ ، ص ١٥٤.

(٢) الفصول الغرويّة : ص ٦٣.

٣٩٢

أو المراد من المطلق هو ما لا يكون وجوبه معلّقا على أمر غير حاصل ، سواء توقّف على أمر حاصل عدى الشّرائط العامّة ، كالحجّ بعد الاستطاعة ، أم لم يتوقّف أصلا ، كالمعرفة ، والمراد من المشروط ما يكون معلّقا على أمر غير حاصل فعلا ، كالحجّ قبل الاستطاعة.

ولكن الظّاهر ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) أنّه ليس لهم اصطلاح خاصّ في لفظ المطلق والمشروط ، بل يطلقان هنا بما كان لهما من المعنى لغة وعرفا ، فالمطلق هو المرسل وعدم التّقييد بشيء ، كالطّلاق والمطلّقة والطّالق والطّليق ونحوها ، فطلاق المرأة وتطليقها هو إرسالها عن قيد الزّوجيّة وعلقتها.

والمشروط هو المقيّد المشدود ، كالشّرط والاشتراط ونحوهما.

الأمر الثّاني : في إطلاق الوجوب واشتراطه.

ولا يخفى : أنّ الإطلاق والاشتراط ممّا قد يتّصف بهما الوجوب ، فتارة يكون مطلقا ، كوجوب الحجّ بالنّسبة إلى الزّوال ، واخرى يكون مشروطا ، كوجوبه بالنّسبة إلى الاستطاعة.

وقد يتّصف بهما الواجب ، كالصّلاة ، فإنّها بالنّسبة إلى الطّهارة تكون مشروطة ، وبالنّسبة إلى الإحرام تكون مطلقة ، ولكنّ المقصود من الكلام في المقام هو إطلاق الوجوب واشتراطه ، أو قل : إطلاق الحكم واشتراطه ، سواء كان تكليفيّا ، أم وضعيّا ، وعليه ، فإطلاقهما على الواجب في المقام نوع مسامحة ، فيقصد بالواجب المطلق هو ما يكون وجوبه مطلقا ، وبالواجب المشروط ، هو ما يكون وجوبه مشروطا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥١.

٣٩٣

الأمر الثّالث : في أنّ الإطلاق والاشتراط أمران إضافيّان ، كما أفاد المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : وهما كالإطلاق والتّقييد في باب المطلق والمقيّد ، فوجوب الحجّ مطلق بالإضافة إلى الزّوال ، ومشروط بالإضافة إلى التّمكن والاستطاعة ، وهكذا وجوب الصّلاة ، فإنّه مطلق بالنّسبة إلى الطّهارة ، ومشروط بالنّسبة إلى الزّوال.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «يصحّ أن يقال : إنّ الواجب قد يكون بالنّسبة إلى قيد مشروطا ، وبالنّسبة إلى آخر مطلقا». (٢)

الأمر الرّابع : في رجوع القيود إلى الهيئة أو المادّة.

ولا يخفى : أنّ المهمّ في المقام هو البحث في أنّ القيود المأخوذة في الخطابات ، هل ترجع إلى نفس المادّة ، أو ترجع إلى مفاد الهيئة؟ فيه وجهان ، بل قولان :

الأوّل : هو المنسوب (٣) إلى الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ، واختاره المحقّق النّائيني قدس‌سره. (٤)

والثّاني : هو المنسوب إلى المشهور (٥) واختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (٦) وهذا هو الحقّ.

ولا يخفى : أنّ هذا النّزاع إنّما هو في مقام الثّبوت ، وأمّا مقام الإثبات ، فقد اعترف الشّيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ ظاهر القضيّة يقتضي رجوع القيود إلى مفاد الهيئة ،

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥١.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧٢.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٢.

(٤) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٣٠.

(٥) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦ ؛ ومناهج الوصول : ج ١ ، ص ٣٥٥.

(٦) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٢.

٣٩٤

كما هو مقتضى المتفاهمات العرفيّة والقواعد العربيّة ، وعليه ، فلا نزاع في البين. (١)

وكيف كان ، فالحري في المقام ذكر الدّليل على كلا القولين ، فنقول :

أمّا القول الأوّل ، فحاصله يرجع إلى دعويين :

الاولى : استحالة رجوع الشّرط إلى مفاد الهيئة.

الثّانية : لزوم رجوعه إلى نفس المادّة.

واستدلّ على الاولى بوجوه :

منها : ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي ، وهذا المعنى جزئيّ حقيقيّ غير قابل للتّقييد والإطلاق ، فلا يمكن إرجاع القيد إليه (٢) ، وهذا واضح.

ولكن يرد عليه بامور :

أحدها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ، حاصله : إنّ المعنى الحرفي ليس جزئيّا حقيقيّا كي لا يصلح للتّقييد ، بل التّحقيق يقتضي أنّ كلّ واحد من المستعمل فيه والموضوع له في الحروف يكون عامّا ، كوضعها ، فهي نظير الأسماء ، إلّا أنّه يفرق بينهما في مقام الاستعمال فقط ؛ حيث إنّ الأسماء تستعمل في معانيها بما هو هو والحروف تستعمل فيها بما هي آلة ، هذا أوّلا. وثانيا لو سلّم ذلك ، فإنّما يمنع عن التّقييد لو أنشأ أوّلا غير مقيّد ، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّدا ، غاية الأمر ، قد دلّ عليه بدالّين ، وهو غير إنشاءه أوّلا ، ثمّ تقييده ثانيا. (٣)

ثانيها : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من قوله : «أنّ تعليق الجزئي وتقييده ممكن

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٤٩.

(٢) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٤٥ إلى ٤٩.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٣ و ١٥٤.

٣٩٥

واقع ، فزيد قابل للتّقييد بالنّظر إلى طوارئه ولهذا تجري فيه مقدّمات الحكمة إذا وقع موضوعا للحكم». (١)

ثالثها : ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من قوله : «أنّ التّقييد على قسمين : الأوّل ، التّقييد بمعنى التّضييق والتّخصيص وفي مقابله الإطلاق ، بمعنى : التّوسعة.

الثّاني : بمعنى : التّعليق وفي مقابله الإطلاق ، بمعنى : التّنجيز ، وعليه ، فلو سلّمنا أنّ المعنى الحرفي جزئيّ حقيقيّ ، إلّا أنّ الجزئي الحقيقيّ غير قابل للتّقييد بالمعنى الأوّل ، وأمّا تقييده بالمعنى الثّاني ، فهو بمكان من الوضوح». (٢)

ومنها : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره ، حاصله : أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي ، وهذا المعنى وإن كان كليّا إلّا أنّه حيث يكون ملحوظا باللّحاظ الآلي لا يقبل الإطلاق والتّقييد ؛ ضرورة ، أنّهما من شئون المعاني الاسميّة الّتي كانت ملحوظة باللّحاظ الاستقلالي. (٣)

وقد أجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بما لا يخلو عن دقّة ، حاصله : أنّه لا مانع من ورود الإرسال والتّقييد على المعنى الحرفيّ الّذي يكون ملحوظا آليّا ، بلا فرق بين القولين في المسألة.

أحدهما : أنّ الآليّة كانت بنفس اللّحاظ وأنّ ذات المعنى في الإسم أو الحرف واحدة.

ثانيهما : أنّها مأخوذة في ذات المعنى الحرفي وهو الحقّ.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٣٥٢.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٢٠.

(٣) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ١٨١.

٣٩٦

أمّا على الأوّل : فلأنّ ورود الإرسال والتّقييد وإن يستلزم انقلاب الملحوظ آليّا ، استقلاليّا ، إلّا أنّه لا مانع منه ، بل هو من قبيل خلع صورة ولبس صورة اخرى مع انحفاظ المادّة ، فإنّ ذات المعنى بمنزلة المادّة ، واللّحاظ الآلي والاستقلاليّ بمنزلة الصّورة ، كما يتّفق ذلك كثيرا في الاستعمالات العرفيّة ، نظير استعمال الحروف الجارّة والاستفهاميّة في كلمة : «من أين» أو «إلى أين» أو «في أين» أو «على ما» ونحوها ، فإنّ هذه الاستعمالات حيث يكون الغرض منها هو خصوص السّؤال ، فلم يلاحظ الحروف ، إلّا بنحو الاستقلال.

وأمّا على الثّاني ، فلأنّ الآليّة وإن اخذت في نفس المعنى الحرفي ، ومن هذه الجهة لا يقبل الإطلاق والتّقييد ، إلّا أنّ المعنى الحرفي يلاحظ ثانيا بنحو الاستقلال ثمّ يقيّد ، كما هو كذلك في المعنى الاسمي ، نظير قولنا : «أكرم عالما» فعند إرادة تقييده بالعالم ـ مثلا ـ يلاحظ العالم ثانيا ثمّ يقيّد.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه بناء على القول بأنّ الآليّة إنّما هي بنفس اللّحاظ يمكن أن يجاب ـ أيضا ـ بأنّ الإطلاق والتّقييد ليسا من الامور القهريّة ، بل من الامور المتقوّمة باللّحاظ ، فيتّبعان كيفيّة لحاظ ذات المعنى ، فإن كان بنحو الاستقلال ، فالإطلاق والتّقييد كذلك ، وإن كان بنحو الآليّة ، فهما كذلك ، وعليه ، فلا يستدعي كلّ من الإطلاق والتّقييد خصوص اللّحاظ الاستقلالي.

وكذلك بناء على القول المختار ، من أنّ الآليّة مأخوذة في ذات المعنى ، فيجاب ـ أيضا ـ بأنّ المعنى لمّا كان آليّا فالخصوصيّات الّتي اعتبارها يكون وجودا وسيعا أو ضيّقا آلي ذاتا ؛ لما مرّ مرارا ، من أنّ الآليّ بذاته آليّ في جميع وجوداته وبتمام اعتباراته. (١)

__________________

(١) راجع ، نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٢٩٤ الى ٢٩٦.

٣٩٧

ومنها : ما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «إن قلت : على ذلك يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ ، حيث لا طلب قبل حصول الشّرط». (١)

توضيحه : أنّه لو قلنا : برجوع القيود إلى المادّة وهو الوجوب يلزم في الخطابات الشّرعيّة أن يكون إنشاء الوجوب فعليّا ، ونفس الوجوب استقباليّا مشروطا بتحقّق القيد ، مع أنّ الإيجاب والوجوب مساوق للإيجاد والوجود ، فكما أنّ التّفكيك بينهما في التّكوينيّات مستحيل عقلا ، نظرا إلى أنّها واحد ذاتا ومختلف اعتبارا ، كذلك التّفكيك بين الإيجاب والوجوب في التّشريعيّات.

وقد أجاب قدس‌سره عنه بما حاصله : أنّ المنشأ حسب الفرض هو الطّلب مقيّدا ، بحصول الشّرط لا مطلقا ، فإذا لا مناص من تحقّق الطّلب في ظرف حصول الشّرط ، وإلّا فلو حصل الطّلب قبل الشّرط يلزم تخلّف المنشأ عن الإنشاء زمانا ؛ إذ الموجود ليس ممّا يتعلّق به الإنشاء ، وما يتعلّق به الإنشاء ليس بموجود ، ولا مانع من إنشاء مثل هذا الطّلب ؛ لأنّه لا يقاس المقام بباب الإيجاد والوجود في التّكوينيّات ، بل المقام يكون نظير باب الإخبار ، فكما أنّ في الإخبار على أمر تعليقيّ لا يلزم من التّعليق في المخبر به ، التّعليق في الأخبار ، كذلك الإنشاء ، فلا يلزم من التّعليق في المنشأ ، التّعليق في الإنشاء.

وبالجملة : منشأ الإشكال هو الخلط بين باب التّكوين ، وباب التّشريع ، فإنّ الإيجاد في التّكوينيّات هو عين الوجود ، وعليه ، يستحيل أن يكون الإيجاد فعليّا ، والوجود استقباليّا ، بخلاف الاعتبار في التّشريعيّات ، فإنّه يمكن التّفكيك بينه وبين

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٤.

٣٩٨

المعتبر ، نظير باب الوصيّة ، فلو أنشأ الموصي تمليك عين معلّقا على موته ، تتحقّق الملكيّة بعد الوفاة ، وكذا باب الخيار ، فإذا قال البائع : «بعت داري بشرط أن يكون لي الخيار بعد مضيّ سنة» يتحقّق الخيار بعد السّنة ، وكذا باب التّدبير ، فلو قال المولى لعبده : «أنت حرّ بعد وفاتي» تتحقّق الحريّة بعد وفاته. (١)

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قدس‌سره جعل المقام ، نظير باب العلم ، فقال ما هذا لفظه : «كما يمكن تأخّر المعلوم عن العلم زمانا ، كقيام زيد غدا ، أو سفره ، أو نحو ذلك ؛ حيث إنّ العلم به حاليّ والمعلوم أمر استقباليّ ، وكذلك يمكن تأخّر المعتبر عن الاعتبار ...

كاعتبار وجوب الصّوم على زيد غدا أو نحو ذلك». (٢)

ولكنه خال عن الدّقّة : حيث إنّه اختلط قدس‌سره بين المعلوم بالذّات ، والمعلوم بالعرض ، والّذي ينفكّ عن العلم ويتأخّر عنه ، إنّما هو المعلوم بالعرض وهو العين الخارجي ، وأمّا المعلوم بالذّات وهي صورة الأشياء المعلومة ، فهي موجودة في نفس العالم فعلا ، فلو قال شخص : «علمت موت زيد» لا شبهة في حصول صورة الموت في ذهنه وحضورها عند نفسه وإن لم يتّفق وقوعه خارجا. هذا كلّه في الدّعوى الاولى للقول الأوّل.

وأمّا الدّعوى الثّانية (لزوم رجوعه إلى نفس المادّة) فتوضيحها : أنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء ، فتارة يطلبه ، واخرى لا يطلبه ، فلا كلام في فرض عدم الطّلب ، وأمّا فرض الطّلب فهو على قسمين :

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٤.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٢٣.

٣٩٩

الأوّل : ما يتعلّق الغرض بطبيعي ذلك الشّيء على سعته وإطلاقه بلا دخل خصوصيّة في ذلك الغرض.

الثّاني : ما يتعلّق بحصّة خاصّة منه.

فعلى القسم الأوّل ، يكون المطلوب نفس ذلك الطّبيعي بسعته وإطلاقه ، ولا كلام هنا فيه.

وأمّا على القسم الثّانى ، فالمطلوب هو الطّبيعي المقيّد بقيد خاصّ ، لقيام الغرض وتعلّق المصلحة بهذا الخاصّ المقيّد. ولا ريب ، أنّ هذا الخاصّ إمّا يكون موردا للطّلب والبعث ، كالطّهارات الثّلاث بالنّسبة إلى الصّلاة ، أو لا يكون موردا له ، بل اخذ مفروض الوجود ، كالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحجّ ، أو لا يكون اختياريّا أصلا ، كالزّوال بالنّسبة إلى الصّلاة ، وهذا ـ أيضا ـ أخذ مفروض الوجود ، لعدم إمكان تعلّق الطّلب به ؛ وعلى جميع هذه التّقادير فالطّلب فعليّ ، والمطلوب مشروط مقيّد.

ونتيجة ذلك ، أنّ القيود بأنواعها راجعة إلى المادّة وجدانا.

هذا ، ولكن يمكن الجواب عنها بأنّه لا يكون رجوع القيود إلى المادّة أو مفاد الهيئة أمرا جزافيّا وبلا ملاك ، بل يكون أمرا منضبطا ذا ملاك ، فربّ قيد لا بدّ من إرجاعه إلى المادّة ، أو إرجاعه إلى مفاد الهيئة ، فالقيود تكون مختلفة لبّا.

توضيحه : أنّه لا شبهة في دوران الحكم والطّلب مدار الغرض ثبوتا وسقوطا ، حدوثا وبقاء ، بناء على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح

٤٠٠