الوصائل إلى الرسائل - ج ١٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-12-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

لا بدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي الشك في مقدار تأثير المؤثّر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ، أو

______________________________________________________

الأوّل : أصل الطهارة قبل المذي.

الثاني : أصل عدم الطهارة بعد المذي.

الثالث : أصل عدم جعل المذي رافعا.

وعليه : فلو فرضنا ان مقدار سببية الوضوء للطهارة غير محرز ، فالشك بعد خروج المذي في الطهارة وعدمها يكون شكا في المقتضي ، لا شكا في الرافع ، وإذا كان الشك في المقتضي لم يبق مجال للأصل الثالث الذي ذكره المحقق النراقي بعد حكمه بتعارض الأصلين ، وذلك لأن مع الشك في المقتضي ـ بنظر المصنّف ـ لا يجري الاستصحاب.

وان فرضنا كون الشك في الرافع فلا مجال للأصل الثاني الذي جعله المحقق النراقي معارضا للأول ، لأن أركان الاستصحاب مع الشك في الرافع تامة ، فيجري الاستصحاب.

والحاصل : ان أحد أصليه : الثاني أو الثالث غير تام ، وذلك لأنه (لا بدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي) هل هو الشك في المقتضي ، أي : (الشك في مقدار تأثير المؤثر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده) أو ان تأثيره حتى مع وجوده ، وذلك معنى كون الشك في المقتضي.

(أو) ان منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي هو الشك في الرافع حيث

٣٨١

أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمرّ ، لو لا ما جعله الشارع رافعا.

فعلى الأوّل : لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، لأنّ المتيقن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء والأصل عدم التأثير مع وجوده ، إلّا أن يتمسك باستصحاب وجود المسبّب ، فهو

______________________________________________________

(أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمر ، لو لا ما جعله الشارع رافعا) ولا نعلم بكون المذي مما جعله الشارع رافعا ، وذلك معنى كون الشك في الرافع؟.

(فعلى الأوّل) : وهو الشك في المقتضي (لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا) بأصل عدم جعل المذي رافعا ، وهو الأصل الثالث الذي أجراه المحقق النراقي (لأنّ المتيقن تأثير السبب) الذي هو الوضوء (مع عدم ذلك الشيء) المحتمل الرافعية الذي هو المذي ، غاية ما هناك نشك في تأثير السبب مع وجود محتمل الرافعيّة (والأصل عدم التأثير مع وجوده) أي : وجود محتمل الرافعية.

وعليه : فلو فرضنا ان مقدار سببية الوضوء للطهارة غير محرز ، فالشك في الطهارة بعد خروج المذي شك في المقتضي وليس شكا في الرافع ، فلا معنى لقول المحقق النراقي : ان الأصل عدم جعل المذي رافعا ، لأنه ليس الشك في الرافع حسب الفرض ، وإنّما الشك في المقتضي.

(إلّا أن يتمسك) المحقق النراقي (باستصحاب وجود المسبّب) أي : الطهارة هنا كما فعله وجعله حاكما على استصحاب العدم.

وكيف كان : (فهو) أي : الشك في مقدار سببية الوضوء للطهارة فيما نحن فيه

٣٨٢

نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح ، كوضوء التقيّة بعد زوالها ، لا من قبيل الشك في ناقضيّة المذي.

وعلى الثاني : لا معنى لاستصحاب العدم ، إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر حتى يؤخذ بالمتيقن.

وأمّا ثالثا :

______________________________________________________

يكون (نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح) للصلاة ، لا الرافع للحدث (كوضوء التقيّة بعد زوالها) أي : بعد زوال التقية ، فيكون من الشك في المقتضي ، لأنه يشك في قدر اقتضائه بانه هل هو إلى زوال التقية ، أو حتى بعد زوال التقية؟ (لا من قبيل الشك في ناقضيّة المذي) حتى يكون من الشك في الرافع.

والحاصل : ان الوضوء على قسمين :

الأوّل : ما يكون رافعا كالوضوء في الحالات الاختيارية ، وهنا يكون الشك فيه بعد المذي شكا في الرافع ، لا في المقتضي.

الثاني : الوضوء في الحالات الاضطرارية مثل : وضوء التقية ، ووضوء الجبيرة وما أشبه ذلك ، وهنا يكون فيه الشك بعد ارتفاع الاضطرار شكا في المقتضي ، حيث لا يعلم هل يقتضي وضوء التقية الطهارة حتى بعد التقية أم لا؟.

هذا على الأوّل : وهو الشك في المقتضي.

(وعلى الثاني) : وهو الشك في الرافع (لا معنى لاستصحاب العدم) أي : عدم الطهارة وهو الأصل الثاني الذي أجراه المحقق النراقي (إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر) أي : الوضوء (حتى يؤخذ بالمتيقن) منه وهو : الطهارة قبل المذي ، بل الشك في الرافع ، فيستصحب الطهارة.

(وأمّا ثالثا) : أي : المورد الثالث من موارد التباس الأمر على المحقق النراقي

٣٨٣

فلو سلّم جريان استصحاب العدم حينئذ لكن ليس استصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، حاكما على هذا الاستصحاب ، لأنّ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر ، بل مرجع الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو الحدث

______________________________________________________

فهو أنّه قد حكم بان أصالة عدم جعل المذي رافعا ـ وهو أصله الثالث ـ حاكم على استصحاب عدم الطهارة بعد المذي وهو أصله الثاني ، مما يستلزم استمرار الوضوء ، فانه يرد عليه : ان الشك في أصله الثاني ليس مسبّبا عن الشك في أصله الثالث حتى يكون من الحاكم والمحكوم ، بل كلا الشكين راجعان إلى أمر واحد ، وهو ان حكم الشارع بعد خروج المذي هل هو الحدث أو الطهارة؟.

وعليه : (فلو سلّم جريان استصحاب العدم) أي : عدم جعل الطهارة بعد المذي وهو أصله الثاني (حينئذ) أي : حين كان المورد من الشك في الرافع ، لا من الشك في المقتضي (لكن ليس استصحاب عدم جعل الشيء رافعا) وهو أصله الثالث (حاكما على هذا الاستصحاب) أي : استصحاب عدم الطهارة بعد المذي الذي هو أصله الثاني.

وإنّما لا يكون حاكما عليه (لأنّ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر) وميزان الحكومة هو : ان يكون أحد الشكين مسبّبا عن الشك في الآخر ، مثل الشك في صحة الصلاة المسبّب عن الشك في بقاء الطهارة ، فانه إذا استصحبت الطهارة ارتفع الشك في صحة الصلاة.

(بل مرجع الشكّ فيهما) أي : في عدم جعل المذي رافعا ، وعدم جعل الطهارة بعد المذي (إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول) من قبل الشارع (في حقّ المكلّف في هذه الحالة) أي : بعد خروج المذي هل (هو الحدث

٣٨٤

أو الطهارة.

نعم ، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي أعني : وجود المزيل أو عدمه ، لأنّ الشك في كون المكلّف حال الشك مجعولا في حقّه الطهارة أو الحدث ، مسبّب عن الشك في تحقق الرافع ،

______________________________________________________

أو الطهارة)؟.

والحاصل : ان المحقق النراقي جعل التعارض بين استصحابين : استصحاب الطهارة قبل المذي ، واستصحاب عدم الطهارة بعد المذي ، وجعل أصالة عدم رافعية المذي حاكمة على أصالة عدم الطهارة بعد المذي مما نتيجته استمرار الوضوء ، والمصنّف لم يرتض هذه الحكومة ، لأن الشك في الطهارة بعد المذي هو عين الشك في رافعية المذي ، وليس مسببا عنه ، حتى يكون أحدهما حاكما على الآخر.

(نعم ، يستقيم ذلك) أي حكومة أحد الاستصحابين وهو أصله الثالث على الآخر وهو أصله الثاني حسب مثاله (فيما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي) بأن كانت الشبهة موضوعية (أعني : وجود المزيل أو عدمه) لا فيما إذا كانت الشبهة حكمية كما نحن فيه.

وإنّما تستقيم الحكومة التي ادّعاها المحقق النراقي في الشبهة الموضوعية دون الحكمية (لأنّ الشك في كون المكلّف حال الشك) في الموضوع الخارجي بكونه (مجعولا في حقّه الطهارة أو الحدث ، مسبّب عن الشك في تحقق الرافع) وعدم تحققه ، فإذا شك في انه هل خرج منه مزيل أم لا؟ فشك تبعا لذلك في انه هل هو متطهر أم لا؟ فان استصحاب عدم خروج المزيل حاكم على الشك

٣٨٥

إلّا أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الاجمالي بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غير جار.

______________________________________________________

في كونه متطهرا ، إذ يرتفع الشك في الطهارة بسبب استصحاب عدم خروج المزيل فيكون متطهرا.

(إلّا أنّ الاستصحاب) أي : استصحاب كل من الطهارة قبل المذي ، وعدم الطهارة بعد المذي (مع هذا العلم الاجمالي بجعل أحد الأمرين) من الطهارة ، أو الحدث ، بعد خروج المذي ، هذا الاستصحاب (في حقّ المكلّف غير جار) بل يجري في حقه استصحاب عدم تحقق الرافع فقط ، فيحكم بطهارته.

والحاصل : ان المحقق النراقي قال : بأن هنا بعد المذي استصحابين :

الأوّل : استصحاب الطهارة قبل خروج المذي.

الثاني : استصحاب عدم الطهارة من جهة العدم الأزلي بعد خروج المذي.

ثم بعد التعارض قال بتحكيم الأصل الثالث وهو : استصحاب عدم تحقق الرافع ، فيثبت كونه متطهرا.

لكن المصنّف قال : حيث انا نعلم بطلان أحد الاستصحابين لعلمنا الاجمالي بأن المكلّف بعد خروج المذي اما متطهر أو محدث ، فلا يجري الاستصحابان رأسا ، لأن العلم الاجمالي عند المصنّف مانع من جريان الاصول في أطرافها ، لا أنها جارية وساقطة بالتعارض ، فلا يجريان رأسا ، وإنّما يجري استصحاب عدم تحقق الرافع فقط ، فيثبت انه متطهر.

٣٨٦

الأمر الثالث :

إنّ المتيقن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل كحرمة الظلم ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز استصحابه ، لأنّ الاستصحاب إبقاء ما كان ، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به.

فان أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني ، حكم به

______________________________________________________

(الأمر الثالث) مما ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو ما يلي :

(إنّ المتيقن السابق) قد يكون موضوعا لحكم شرعي : كما إذا لم نعلم بأن الزوج هل هو حي ، حتى يجب نفقة زوجته ، أم لا ، حتى لا يجب؟ فانه يستصحب بقائه.

وقد يكون المتيقن السابق حكما شرعيا بنفسه ، كما إذا علمنا بقاء الزوج ، لكن لا نعلم هل سقطت عنه نفقة زوجته ، لاحتمالنا نشوزها ، أم لا؟ فانه يستصحب بقاء الحكم.

وامّا (إذا كان) المتيقن السابق (ممّا يستقلّ به العقل) من الأحكام العقلية (كحرمة الظلم ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، ونحوهما) مثل وجوب العدل وحسن الاحسان ، وغير ذلك (من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز استصحابه) إذا شككنا فيه.

وإنّما لا يجوز استصحابه مع الشك فيه (لأنّ الاستصحاب) هو عبارة عن (إبقاء ما كان) كما مرّ سابقا في تعريفه (والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به) فلا تقع الشبهة في الموضوع للحكم العقلي.

وعليه : (فان أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني ، حكم به) أي : بالحكم

٣٨٧

حكما قطعيّا ، كما حكم أولا ، وإن أدرك ارتفاعه ، قطع بارتفاع ذلك الحكم ،

______________________________________________________

المترتب على ذلك الموضوع (حكما قطعيا ، كما حكم أولا) فلا شك له في بقاء الحكم وعدمه.

(وإن أدرك ارتفاعه ، قطع بارتفاع ذلك الحكم) حكما قطعيا أيضا ، فان العقل لا يحكم إلّا على موضوع يرى فيه توفّر جميع خصوصياته ، الموجبة تلك الخصوصيات لحسن ذلك الحكم أو لقبحه.

مثلا : إذا حكم العقل بقبح التصرف في ملك الغير بلا إذن منه ، ولا إذن من الشارع ، فان الشارع قد يأذن في بعض الموارد مع عدم إذن المالك مثل : حلّية التصرف في ملك الغير في حالة الاضطرار ، أو حالة دوران الأمر بين الأهم والمهم ، مثل إنقاذ الغريق الذي يتوقف إنقاذه على الغصب ، وما أشبه ذلك.

وعليه : فإذا علم العقل في الآن الثاني بقاء ذلك الموضوع بكل قيوده وخصوصياته ، لم يكن له شك في بقاء ذلك الحكم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، وإذا لم يعلم ببقاء كل تلك القيود لم يكن له شك في انتفاء ذلك الحكم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب أيضا.

ثم إنّ الشارع وإن كان حكمه كذلك في متن الواقع ، حيث انه يحكم على موضوع يرى فيه توفّر جميع قيوده وشروطه ، إلّا انا لا نعلم هل ان الموضوع الذي ذكره الشارع لحكمه هو كل العلة لهذا الحكم ، أو بعض العلة؟ ولذا يتعقل شكنا في بقاء الحكم الشرعي بسبب زيادة أو نقيصة بعض القيود والشروط.

مثلا : إذا قال الشارع : الخمر حرام ، لا نعلم هل انه يريد الخمر المسكر ، أو حتى إذا زال اسكاره؟ فإذا زال اسكاره لا نعلم زال الحكم أم لا ، وحيث نشك في بقاء الحكم في الآن الثاني بعد تيقّننا بوجوده في الزمان الأوّل ، يبقى المجال

٣٨٨

ولو ثبت مثله بدليل ، لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد.

______________________________________________________

للاستصحاب ، فيشمله : «لا تنقض اليقين بالشك».

وعليه : فالفرق بين الحكم العقلي والحكم الشرعي هو : ان الأوّل : معلوم لدينا فلا مجال للاستصحاب فيه ، بينما الثاني قد يكون مجهولا لنا فمجال الاستصحاب فيه موجود.

وممّا ذكرنا ثبت انه لو زال الموضوع للحكم العقلي ـ مثلا ـ وثبت الحكم بعد زوال ذلك الموضوع ، كان اللازم ان يكون الحكم ثابتا على موضوع جديد كما قال : (ولو ثبت مثله) أي : مثل الحكم السابق في الآن اللاحق ثبوتا (بدليل ، لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد) لا ان هذا الحكم باق على نفس ذلك الموضوع السابق.

مثلا : لو حكم العقل بقبح أكل أموال الناس بدون اذنهم ولا إذن من الشارع ، ثم إذن المالك ، ورأينا ان العقل يحكم بقبح أكله أيضا ، لم يكن القبح في الآن الثاني لأجل انه أكل مال الناس بدون إذنهم ولا إذن من الشارع ، بل يكون لأجل انه ضارّ ـ مثلا ـ فالموضوع جديد وهو حكم جديد ، وان كان الحكمان متشابهان من حيث القبح ، وبذلك تبيّن ان الأقسام المتصورة في الحكم العقلي أربعة :

الأوّل : الشك في الحكم مع العلم ببقاء موضوعه ، وهذا غير معقول.

الثاني : الشك في الحكم العقلي مع العلم بارتفاع موضوعه ، وهذا غير معقول أيضا.

الثالث : الشك فيه ، للشك في بقاء موضوعه من جهة الاشتباه الخارجي ، يعني : ان تكون الشبهة موضوعية كما أشار إليه المصنّف بقوله :

٣٨٩

وأمّا الشك في بقاء الموضوع ، فان كان لاشتباه خارجي ، كالشك في بقاء الاضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه ، فذلك خارج عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه.

وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة الموضوع ،

______________________________________________________

(وأمّا الشك في بقاء الموضوع ، فان كان لاشتباه خارجي ، كالشك في بقاء الاضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه) فان الشك في بقاء الاضرار وعدمه ليس من الشبهة الحكمية ، بل من الشبهة الموضوعية (فذلك خارج عمّا نحن فيه) لأن كلامنا في الشبهة الحكمية (وسيأتي الكلام فيه) إن شاء الله تعالى ، وذلك عند قول المصنّف : وامّا موضوعه.

الرابع : الشك فيه للشك في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه من أصله ، وذلك كما إذا دار الأمر بين محذورين ، حيث يحكم العقل بالتخيير في الأخذ بهذا أو بذاك ، لكن بعد الأخذ بأحدهما يشك العقل في انه هل كان التخيير ابتدائيا حتى لا يجوز له الأخذ بالشق الثاني في الآن الثاني ، أو كان التخيير استمراريا حتى يجوز له أن يأخذ في كل واقعة بأحد الشقّين؟.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : (وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا) وإنّما يعلمه إجمالا (واحتمال مدخليّة موجود مرتفع) وهو التحيّر المرتفع باختيار أحد الشقّين (أو معدوم حادث) وهو التحيّر الحاد عند تكرّر الواقعة ، حيث يحتمل مدخلية ذلك (في موضوعيّة الموضوع).

والحاصل : انه يحتمل ان يكون موضوع التخيير : دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر في أول الأمر ، فبعد الأخذ بأحدهما لم يكن متحيّرا ، فلا يجوز له الأخذ

٣٩٠

فهذا غير متصوّر في المستقلات العقليّة ، لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم إلّا بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلا ، لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضرورية لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل

______________________________________________________

بالشق الآخر في الواقعة الثانية ، وهذا هو ما أشار اليه بقوله : «واحتمال مدخلية موجود مرتفع».

ويحتمل ان يكون موضوع التخيير هو : دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر ما دام لم يأخذ بأحدهما ، فإذا أخذ بأحدهما في واقعة انعدم التحيّر ، فإذا تكرّرت الواقعة حدث التحيّر من جديد فحدث موضوع التخيير ، فيجوز له الأخذ بالشق الآخر في الواقعة الثانية ، وهذا هو ما أشار إليه بقوله : أو معدوم حادث.

وعلى كل حال : (فهذا) القسم الرابع من الأقسام المتصورة للحكم العقلي وهو الشك في الحكم للشك في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه (غير متصوّر في المستقلات العقليّة ، لأن العقل لا يستقلّ بالحكم إلّا بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلا) فلا يحكم مع الشك فيه.

مثلا : إذا كانت له زوجتان ولا يتمكن من إطعامهما كل يوم ، فالعقل يرى التخيير الاستمراري ، حيث ان العقل يرى ان وفاء بعض الحق لكل منهما أولى من إعطاء إحداهما دائما دون الاخرى ، بينما إذا كان مريضا ووصف له طبيبان نسختين كل منهما ضد ما وصفه الآخر ، فانه يقطع بشدة مرضه لو عمل كل يوم بما وصف أحدهما ، فهنا يرى العقل التخيير الابتدائي دون الاستمراري ، لأنه مقطوع الضرر ، فلا شك إذن في المقام كما عرفت.

وإنّما قلنا ان القسم الرابع غير متصور (لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضرورية لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل

٣٩١

في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضرورية كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل مع أنّك ستعرف

______________________________________________________

في موضوعيّته من قيوده) وشروطه وموانعه وسائر خصوصياته ، كما ذكرنا سابقا في مثال قبح التصرف في ملك الغير بغير إذن منه ولا إذن من الشارع.

(وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضرورية كذلك) أي : بان لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصور الموضوع بجميع قيوده وشروطه وخصوصياته.

إذن : فالقضية العقلية النظرية لا بد وان تنتهي إلى الضرورية ، وإلّا فمن أين يكون ذلك حكما عقليا؟ فقد ثبت في الحكمة : ان كل ما بالعرض لا بد وان ينتهي إلى ما بالذات ، والنظري المنتهى إلى الضروري في حكم العقل هو مثل : عدم تنجز التكليف على الجاهل ، فان هذا حكم نظري ، لكنه ينتهي إلى حكم ضروري وهو : قبح العقاب بلا بيان ، سواء كان بيانا للحكم أم بيانا للاحتياط.

وعلى أيّ حال : (فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل) فلا يصح القسم الرابع.

هذا (مع أنّك ستعرف) انه لو فرضنا إمكان إجمال موضوع حكم العقل ، كما قال به بعض العلماء ، وذلك بان يكون الموضوع في نظر العقل مجملا : بين يقيني يؤخذ به ، وبين الزائد على ذلك اليقيني حيث لا يؤخذ به ، كما إذا قلنا بان في التخيير العقلي يجوز الأخذ بأيّ منهما ابتداء من باب القدر المتيقن ، لا استمرارا ، لأنه مشكوك جواز الأخذ به بعد رفع تحيّره بالأخذ بأحدهما ، فلا يكون التخيير استمراريا.

وعليه : فانه حتى لو فرضنا إمكان إجمال موضوع حكم العقل فستعرف

٣٩٢

في مسألة اشتراط بقاء الموضوع : أنّ الشك في الموضوع خصوصا لأجل مدخليّة شيء مانع عن إجراء الاستصحاب.

______________________________________________________

(في مسألة اشتراط بقاء الموضوع : أنّ) عند (الشك في الموضوع خصوصا) إذا كان شكا (لأجل مدخلية شيء) في الموضوع (مانع عن إجراء الاستصحاب) لأن شرط الاستصحاب الحكمي هو إحراز الموضوع ، فكيف يجوز إجراء الاستصحاب مع الشك في الموضوع؟.

هذا ، وقول المصنّف : خصوصا ، إنّما هو لأجل الاشارة إلى ان الشك في الموضوع على قسمين :

الأوّل : ما إذا كان الشك لأجل الاشتباه في الامور الخارجية ، وذلك كما تقدّم من مثال الشك في بقاء الاضرار في السم ، حيث يرى العقل وجوب التحرز عنه.

الثاني : ما إذا كان الشك لاحتمال مدخلية قيد وجودي أو عدمي في الموضوع ، كاحتمال مدخلية التحيّر في أول الأمر في حكم العقل بالتخيير في الدوران بين المحذورين.

هذا كما ان في قول المصنّف : خصوصا ، إشارة أيضا إلى ان الشك في بقاء الموضوع لاحتمال مدخلية شيء فيه يكون مانعا عن استصحاب الحكم ، وعن استصحاب الموضوع معا.

امّا انه مانع عن استصحاب الحكم فلعدم إحراز الموضوع ، وقد عرفت : لزوم إحراز الموضوع في الاستصحاب الحكمي.

وامّا انه مانع عن استصحاب الموضوع ، فلانه مثبت ، إذ استصحاب بقاء الموضوع ، لا يثبت ان هذا الشيء الخارجي هو الموضوع ، فهو من قبيل استصحاب الكلي لاثبات الفرد ، كما تقدّم مثله في استصحاب الكرية لاثبات كون

٣٩٣

فان قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه كاشف عن حكم عقلي مستقلّ ، فانّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع على وجوب الردّ ثمّ عرض ما يوجب الشك مثل : الاضطرار والخوف فيستصحب الحكم مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي.

______________________________________________________

هذا الماء كرا ، وذلك بخلاف الشك في الموضوع لاشتباه خارجي ، فانه لا يمنع عن استصحاب نفس الموضوع.

والحاصل : ان عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية ، إنّما هو لأجل عدم إمكان فرض الشك فيها ، مضافا إلى عدم العلم ببقاء الموضوع الذي هو شرط جريان الاستصحاب على ما عرفت.

(فان قلت) : إذا لم يستصحب الحكم العقلي : (فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه) أي : الحكم الشرعي (كاشف عن حكم عقلي مستقلّ)؟ فإذا لم يستصحب في المتبوع الذي هو حكم العقل ، لم يستصحب في التابع الذي هو حكم الشرع أيضا ، وذلك لقاعدة الملازمة القائلة : بأنه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ، وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل.

وعليه : (فانّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع) الثابت بالأدلة الثلاثة الأخر (على وجوب الردّ) أيضا (ثمّ عرض ما يوجب الشك) في انه هل يجب الردّ أو لا يجب؟ (مثل : الاضطرار) إلى استعمال الوديعة (والخوف) بان يكون طريق الردّ غير مأمون (فيستصحب الحكم) الشرعي بوجوب الردّ (مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي) الذي ذكرتم انه لا استصحاب فيه ، فالمانع عن استصحاب حكم العقل هو بعينه جار في استصحاب حكم الشرع ، مع إنكم تقولون باستصحاب حكم الشرع.

٣٩٤

قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب.

نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم

______________________________________________________

(قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب) ولكن ليس كل حكم شرعي تابع للحكم العقلي ، فالاشكال إنّما هو في الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي ، امّا الحكم الشرعي الذي ليس بتابع للحكم العقلي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

لا يقال : انكم تقولون انه كل ما حكم به الشرع حكم به العقل ، ومعنى ذلك هو : ان كل حكم شرعي فهو تابع للحكم العقلي.

لأنه يقال : معنى تبعية أحكام الشرع للعقل هو ان الشرع لو كشف للعقل عن الموضوع للحكم الشرعي ، لحكم العقل به كما حكم الشرع به ، وذلك لأن الشارع بصير يرى الواقعيات ، بينما العقل لا يرى الواقعيات ، حالهما حال الرياضي والجاهل ، حيث ان الجاهل لو انكشف له الواقع لحكم بما حكم به الرياضي من الجمع والضرب والطرح والتقسيم.

(نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه) أي : موضوع العقل (ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم) كما إذا ورد في العقل والشرع حكمان متطابقان على عدم تكليف غير المميّز ، فإذا حصل تغيّر في موضوع الحكم العقلي بان صار مميّزا ، ذهب الحكم العقلي وبقي الحكم الشرعي ، لأن الشارع لا زال يقول بعدم تكليفه.

٣٩٥

جرى الاستصحاب وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل ، ومن هنا يجري استصحاب عدم التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ

______________________________________________________

ومن ذلك تبيّن : ان حكم العقل وحكم الشرع وان تطابقا في غير المميّز ، لكنهما بملاكين لا بملاك واحد ، فملاك الشارع : انه لم يبلغ الحلم وهو سبب ارتفاع القلم عنه ، حيث قال : رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وملاك العقل : انه لعدم تمييزه رفع عنه القلم ، من غير فرق بين ان يكون حصول التغير لاحتمال مدخلية شيء فقد ، مثل مدخلية سن خاص كثلاث سنوات وقد فقد ذلك السن بان صار عمره أكثر ، أو لاحتمال مفقود وجد ، مثل مدخلية عدم التمييز قبلا حيث صار مميّزا وان لم يصر بالغا.

وحينئذ : (جرى الاستصحاب) الشرعي (وحكم بأنّ موضوعه) أي : موضوع حكم الشرع (أعمّ من موضوع حكم العقل) لأن موضوع حكم العقل هو غير المميّز بينما موضوع حكم الشرع هو الأعم من ذلك ما دام لم يصل إلى حد البلوغ.

(ومن هنا) أي : ممّا ذكرنا : من انه ليس كل حكمي شرعي بتابع للحكم العقلي وان توافقا في بعض الامور (يجري استصحاب عدم التكليف) الثابت (في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه) كحال عدم التمييز ، فانه بعد التمييز لا يجري الاستصحاب العقلي ، بينما يجري الاستصحاب الشرعي ، وذلك لأن موضوع حكم الشرع هو : عدم التكليف فيستصحب بعد التمييز ، امّا موضوع حكم العقل فهو : قبح التكليف ، وقبح التكليف مرتفع في زمان التمييز.

(لكنّ) وكأنه جواب سؤال مقدّر وهو : ان الحكم الشرعي لو كان تابعا للحكم

٣٩٦

العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح ، وإن كان موردا للقبح. هذا حال نفس الحكم العقلي.

______________________________________________________

العقلي لزم عدم الاستصحاب في الحكم الشرعي ، فكيف تستصحبون العدم الأزلي ، مع ان الحكم الشرعي هنا مستند إلى الحكم العقلي ، إذ العقل يرى عدم امكان الحكم في الأزل ، والشرع يطابقه؟.

والجواب : ان العقل يقول بعدم الحكم في الأزل من جهة قبح التكليف بلا بيان ، والشارع يقول : بعدم الحكم في الأزل من جهة قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) والملاك الذي قاله الشرع أعم من الملاك الذي قاله العقل ، فملاك حكم الشرع باق في زمان الشك وان كان لا ملاك لحكم العقل في زمان الشك.

وعليه : فإن (العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح ، وإن كان موردا للقبح) أي : ان العقل والشرع وان كانا متطابقين على عدم الحكم في الأزل ، لكنهما مفترقان من حيث المستند ، فمستند العقل : قبح التكليف بلا بيان ومستند الشرع قاعدة : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢).

(هذا حال) الاستصحاب في (نفس الحكم العقلي) حيث ذكرنا : ان الحكم العقلي لا يستصحب ، لأنه مع بقاء موضوعه فالحكم موجود ، ومع فقد موضوعه فالحكم مفقود ، فلا مجال للشك فيه حتى يستصحب.

انتهى الجزء الثاني عشر

ويليه الجزء الثالث عشر في

تتمّة التنبيه الثالث للاستصحاب

وله الشكر

__________________

(١) ـ سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ١٥.

٣٩٧
٣٩٨

المحتويات

أدلّة حجّية المفصّلين

أدلّة حجّية القول الثالث.......................................................... ٥

أدلّة حجّية القول الرابع.......................................................... ٢٧

أدلّة حجّية القول الخامس........................................................ ٤١

أدلّة حجّية القول السادس....................................................... ٥٧

أدلّة حجّية القول السابع........................................................ ٥٧

الإشكال على الدليل........................................................... ٦٩

بيان الحكم الوضعي............................................................. ٧٢

الشبهة في جريان الاستصحاب في التكليفية...................................... ١٣٣

أدلّة حجّية القول الثامن....................................................... ١٤٨

الجواب عن الدليل............................................................ ١٨٩

أدلّة حجّية القول التاسع....................................................... ١٩٠

توجيه كلام المحقق............................................................. ١٩٤

أدلّة حجّية القول العاشر....................................................... ٢٠٢

الاشكال على الدليل.......................................................... ٢٠٨

أدلّة حجّية القول الحادي عشر................................................. ٢٢٠

الاشكال على الدليل.......................................................... ٢٤٩

توجيه كلام المحقق الخوانساري................................................... ٢٦٢

٣٩٩

تنبيهات

التنبيه الأوّل.................................................................. ٢٩١

التنبيه الثاني.................................................................. ٣٤١

التنبيه الثالث................................................................. ٣٨٧

المحتويات..................................................................... ٣٩٩

٤٠٠