الوصائل إلى الرسائل - ج ١٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-12-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

إذا تعلّق بفعل الشخص.

هذا ، والجواب عن ذلك : أنّ مبنى الاستصحاب ـ خصوصا إذا استند فيه إلى الأخبار ـ على القضايا العرفية المتحقّقة في الزمان السابق التي ينتزعها العرف من الأدلّة الشرعية ، فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ، ثم شك

______________________________________________________

إذا تعلّق بفعل الشخص) وذلك لنفس الشبهة المتقدّمة ، وقد ذكر الفقيه الهمداني في حاشيته موضّحا قيد : فعل الشخص ، في كلام المصنّف عند قوله : «إذا تعلق بفعل الشخص» قائلا : احترز بهذا عمّا لو كان متعلّق الحكم الوضعي أمرا خارجيا ، كسببيّة الخسوف والكسوف لصلاتهما ، وشرطيّة القرص لوجوب قضائها ، فإنه لا مانع في مثل هذه الموارد من استصحاب الحكم الوضعي ، وامّا إذا كان متعلّقه فعل المكلّف كقوله : إذا أفطرت فكفّر ، فيتمشّى الكلام فيه كما تمشّى في الأحكام التكليفية.

(هذا) تمام الكلام في الشبهة التي أوردناها على جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية وعلى قسم من الأحكام الوضعية.

(والجواب عن ذلك) هو كما قال : (أنّ مبنى الاستصحاب ـ خصوصا إذا استند فيه إلى الأخبار ـ على القضايا العرفية المتحقّقة في الزمان السابق) فيستصحب ذلك الحكم الذي وضع على الموضوع العرفي في الزمان السابق إلى الزمان اللاحق والقضايا العرفية هي (التي ينتزعها العرف من الأدلّة الشرعية) لأن العرف هم المخاطبون بهذه القضايا ، فإذا رأوا ان الموضوع عرفي كفى في جريان الاستصحاب فيه.

وعليه : (فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ، ثم شك

١٤١

في بقائه بعده ، أنّ الشك في هذه المسألة في استمرار الحرمة لهذا الفعل وارتفاعها ، وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة : كون الزمان قيدا للفعل ، وكذلك الاباحة والكراهة والاستحباب.

نعم ، قد يتحقّق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار ، مثلا : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثم شككنا في الغد : أنّه واجب اليوم عند الزوال ، فلا يحكمون باستصحاب ذلك ولا يبنون

______________________________________________________

في بقائه بعده) ولم يكن هناك دليل على البقاء ، أو على عدم البقاء ، فلا يرتابون في (أنّ الشك في هذه المسألة في استمرار الحرمة لهذا الفعل وارتفاعها) أي :

ارتفاع الحرمة وهو مجرى الاستصحاب كما عرفت (وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة : كون الزمان قيدا للفعل) لكن ذلك لا يضر بعد رؤية العرف الموضوع في الآن الثاني هو نفس الموضوع في الآن الأوّل.

(وكذلك) أي : كالحرمة المحتملة وجودها وعدمها في الزمان الثاني : (الاباحة والكراهة والاستحباب) والوجوب ، ولعل المصنّف لم يذكر الوجوب من جهة : ان كل حرام هو واجب الترك ، وكل واجب هو حرام الترك ، فذكره للحرام أغنى عن ذكر الوجوب ، وكيف كان فالعرف يحكم ببقاء الموضوع.

(نعم ، قد يتحقّق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار) وكذلك يكون الحال في الأحكام الأربعة الباقية.

(مثلا : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثم شككنا في الغد : أنّه واجب اليوم عند الزوال) أو ان الوجوب كان منحصرا في اليوم السابق (فلا يحكمون باستصحاب ذلك) الوجوب الذي كان في اليوم السابق (ولا يبنون

١٤٢

على كونه ممّا شك في استمراره وارتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال.

أمّا لو ثبت ذلك مرارا ثمّ شك فيه بعد أيام ، فالظاهر حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرا وشك في ارتفاعه فيستصحب.

ومن هنا ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر ،

______________________________________________________

على كونه ممّا شك في استمراره وارتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال).

مثلا : إذا قال المولى : أذّن في هذا اليوم ظهرا ، فأذّن ، ففي غده يحتمل وجوب الأذان باعتبار الاستصحاب ، وإن الوجوب مستمر في كل يوم ظهرا ، ويحتمل عدم وجوبه ، باعتبار إن قبل الظهر لم يكن الأذان واجبا ، فيستصحب عدم الوجوب إلى الظهر ففي مثله لا يجرون الاستصحاب.

(أمّا لو ثبت ذلك) الوجوب عند الظهر (مرارا) بمعنى : انه ثبت وجوب الأذان في أيام متتالية (ثمّ شك فيه بعد أيام) بانه هل يجب باعتبار استصحاب الأيام السابقة ، أو لا يجب لأنه كان الواجب خاصا بتلك الأيام؟ (فالظاهر :

حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرا وشك في ارتفاعه فيستصحب) بقاء ذلك الحكم وهو الوجوب دون ان يعتنى بحالة ما قبل الظهر ، فلا يعارضه القول : بان الأذان قبل الظهر لم يكن واجبا ، فعند الظهر ليس بواجب أيضا.

(ومن هنا) أي : من حيث إن التكرار يوجب الاستصحاب (ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر) لأنه قد تكرر التمام أياما.

١٤٣

وباستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض ؛ لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب للقصر ، وعدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة حتى يحكم بوجوب التمام ، لأنّه من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للفقر ، وبوجوب العبادة ، لأنّه من آثار عدم الحيض ؛

______________________________________________________

(وباستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض) باعتبار تكرر وجوب العبادة عليها ، فعند الشك في استمرار ذلك الوجوب عليها وعدمه ، تستصحب استمرار الوجوب عليها.

بل انّ هذا الأمر عرفي أيضا ، فإذا كان هناك شخص يأتي كل يوم صباحا لبيع الخبز أو اللبن أو ما أشبه ذلك ، فإنهم ينتظرونه كل يوم وان شكوا في مجيئه وعدم مجيئه ، وليس كذلك حالهم فيما إذا كان هناك شخص جاء في يوم واحد وباع اللبن أو الخبز ، فإنهم لا ينتظرونه في اليوم الثاني.

وكيف كان : فالاستصحاب هنا إنّما هو من جهة ثبوت التمام ، وثبوت العبادة (لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب) ذلك السفر (للقصر ، وعدم الحيض المقتضي) ذلك العدم (لوجوب العبادة) عليها (حتى يحكم بوجوب التمام) وبوجوب العبادة.

وقال : بوجوب التمام لا من جهة أصالة عدم السفر احترازا (لأنّه) أي : وجوب التمام يكون أيضا (من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للفقر) فإنه إذا لم يكن سفر شرعي يوجب القصر ، يكون التمام واجبا.

(و) قال (بوجوب العبادة) لا من جهة عدم الحيض احترازا أيضا (لأنّه) أي : وجوب العبادة يكون أيضا (من آثار عدم الحيض) فإنه إذا لم يكن حيض ثبت وجوب العبادة.

١٤٤

بل من جهة كون التكليف بالاتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم ، أمرا مستمرا عندهم وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما ، فهو في كلّ يوم مسبوق بالعدم ، فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ، لا إلى استصحاب وجوده.

والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف : بأنّ الشيء الفلاني كان مستمرا

______________________________________________________

وإنّما قال المصنّف : لا من جهة أصالة عدم السفر ، وعدم الحيض لأنه إذا حصل وجوب التمام ووجوب العبادة من جهة أصالة عدم السفر وأصالة عدم الحيض كان من الأصل المثبت ، إذ نفي الضد لاثبات ضده من الأصل المثبت.

مثلا : إذا قال : الأصل عدم السفر ، كان لازمه عقلا : الحضر ، والتمام مرتب على الحضر ، وإذا قال : الأصل عدم الحيض كان لازمه عقلا : الطهر ، والطهر يوجب العبادة.

(بل) إنّما نقول بوجوب التمام وبوجوب العبادة (من جهة كون التكليف بالاتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم ، أمرا مستمرا عندهم) أي : عند العرف وإن لم يكن أمرا مستمرا دقة لتجدّده يوما فيوما كما قال : (وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما ، فهو في كلّ يوم مسبوق بالعدم).

وعليه : فان التكليف بالنظر الدقي يتجدد يوما فيوما ، فيكون في كل يوم مسبوقا بالعدم ، وإذا كان كذلك (فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه) أي : عدم التكليف لسبقه بالعدم (لا إلى استصحاب وجوده) أي : وجود التكليف ، ولكن قد عرفت : ان المعيار هو النظر العرفي ، والعرف هنا يرى استمرار التكليف عند زوال كل يوم ، فيستصحب بقائه عند الشك في انقطاعه.

(والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف : بأنّ الشيء الفلاني كان مستمرا

١٤٥

فارتفع وانقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع ، ولو لا ملاحظة هذا التخيّل العرفي ، لم يصدق على النسخ : أنّه رفع للحكم الثابت ، أو لمثله ، فانّ عدم التكليف ـ في وقت الصلاة ـ بالصلاة إلى القبلة المنسوخة ـ دفع في الحقيقة للتكليف لا رفع.

ونظير ذلك في غير الأحكام الشرعية ما سيجيء :

______________________________________________________

فارتفع وانقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع) فإذا شك العرف في انقطاعه ولم يعلم ارتفاعه ، يستصحب بقائه.

(و) عليه : فانه (لو لا ملاحظة هذا التخيّل العرفي ، لم يصدق على النسخ : أنّه رفع للحكم الثابت ، أو) بعبارة أدق : انه رفع (لمثله) أي : لمثل ذلك الحكم الثابت لا نفسه ، لأن الحكم الثابت في الأوّل هو غير الحكم في الآن الثاني دقة.

إذن : (فانّ عدم التكليف ـ في وقت الصلاة ـ بالصلاة إلى القبلة المنسوخة ، دفع في الحقيقة) والدقة العقلية (للتكليف) لعدم وجود مقتضيه (لا رفع) للتكليف ، لأنه كما عرفت في كل آن غيره في الآن الثاني دقة ، فيكون النسخ دفعا دقة وحقيقة ، لا رفعا.

وعليه : فإذا شك المسلم في أول الاسلام في ان القبلة هل تحوّلت إلى الكعبة أم لا؟ فالاستمرار العرفي للصلاة إلى بيت المقدس في كل وقت صلاة يقتضي بقاء الموضوع إلى حين الشك ، فإذا لم يستصحبه لأجل النسخ وصلّى إلى الكعبة ، رآه العرف رفعا للحكم الثابت ، لا دفعا ، ممّا معناه : ان الموضوع العرفي باق ، بينما ان الدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع.

(ونظير ذلك) التخيل العرفي لوحدة الموضوع يكون (في غير الأحكام الشرعية) أيضا من الموضوعات التي لها أحكام ، وذلك على (ما سيجيء :

١٤٦

من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية وعدمها ، وفي الامور التدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا ، وفي مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء ، فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلّا بالمسامحة العرفيّة ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية) أي : بأن كان الماء كرا ثم اخذ منه مقدارا ، فشك في انه هل سقط عن الكرية أم لا؟ فانه يستصحب كريته.

(و) كذا اجراء الاستصحاب في (عدمها) أي : عدم الكرية ، وذلك فيما إذا لم يكن الماء كرا ، ثم صبّ عليه مقدارا من الماء فشك في انه هل صار كرا أم لا؟ فانه يستصحب فيه عدم الكرية.

إذن : فاحراز الموضوع في الكرية وفي عدم الكرية ، إنّما هو بالمسامحة العرفية لا بالدقة العقلية ، لأنه بالدقة العقلية ، وتغيّر الماء الأوّل إلى أنقص أو إلى أزيد.

(و) كذا إجراء الاستصحاب (في الامور التدريجية المتجدّدة شيئا فشيئا) من الزمان والزمانيات كالتكلم ـ مثلا ـ فان العرف يرى وحدة الموضوع فيها تسامحا.

(و) كذا (في مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء ، فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلّا بالمسامحة العرفيّة) كما إذا تعذّر بعض أجزاء الصلاة حيث يستصحب الوجوب النفسي للبقية بعد تعذّر بعض الأجزاء ، وذلك (كما سيجيء إن شاء الله تعالى).

وبذلك كله تبيّن ان الشبهة التي أوردها المصنّف بقوله : بقي هنا شبهة اخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية التي أوردها المصنّف بقوله : بقي هنا شبهة اخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا

١٤٧

حجّة القول الثامن

وجوابه يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه ، فنقول : قد نسب جماعة إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب وإنكارها في استصحاب حال الاجماع ، وظاهر ذلك كونه مفصّلا في المسألة.

وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة ؛ منهم الغزالي حجيّته ، ثم أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثم ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الاجماع

______________________________________________________

والوضعية في الجملة ، وذلك لأن الموضوع الدقي العقلي غير باق فلا يستصحب لانتفاء الموضوع ، هذه الشبهة غير واردة على ما عرفت.

(حجّة القول الثامن) : وهو التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ، فلا يعتبر فيما ثبت بالاجماع ، ويعتبر فيما ثبت بغيره (وجوابه يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه) وانه هل هناك قول بهذا التفصيل أو ليس هناك قول به ، فان المصنّف يرى : انه لم يكن قول بهذا التفصيل؟.

وعليه : (فنقول : قد نسب جماعة إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب) في الجملة (وإنكارها في استصحاب حال الاجماع) أي : انه لا يقول بالحجية في استصحاب حال الاجماع ، وإنّما يقول بالحجية في غيره ممّا ثبت بسائر الأدلة (وظاهر ذلك) القول المنسوب إلى الغزالي : (كونه) أي : الغزالي (مفصّلا في المسألة).

هذا (وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة ؛ منهم الغزالي حجيّته) في الجملة (ثم أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثم ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الاجماع) ممّا يدل على ان المسألة في النهاية

١٤٨

ومثّل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر. ونسب إلى الأكثر ، ومنهم الغزالي عدم حجيّته.

إلّا أنّ الذي يظهر بالتدبّر في كلامه المحكيّ في النهاية ، هو : إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا وإن ثبت المستصحب بغير الاجماع من الأدلّة المختصّة دلالتها بالحال الأوّل المعلوم انتفاؤها في الحال الثاني ،

______________________________________________________

معممة تارة بالنسبة إلى غير الاجماع ، وتارة بالنسبة إلى الاجماع فقط.

(ومثّل له) أي : مثّل النهاية لاستصحاب حال الاجماع بمثالين :

الأوّل : (بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة) حيث يشك في إنه هل يبقى على صلاته أو تبطل صلاته برؤية الماء؟.

الثاني : (وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر) حيث يشك في انه هل بقي على تطهره أو انتقض تطهره بالحديث الخارج ـ مثلا ـ من ثقبة في بطنه أو ظهره أو جنبه؟.

(و) كيف كان : فقد (نسب) العلامة في نهايته (إلى الأكثر ، ومنهم الغزالي عدم حجيّته) أي : عدم حجية استصحاب حال الاجماع ممّا يظهر من نهاية العلامة : ان الغزالي من القائلين بالتفصيل.

(إلّا أنّ الذي يظهر بالتدبّر في كلامه) أي : كلام الغزالي (المحكيّ في النهاية ، هو : إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا) والمراد من الاستصحاب المتنازع فيه هو : مطلق الاستصحاب مقابل المتسالم عليه : من الاصول اللفظية ، فالغزالي لا يرى حجيّة الاستصحاب إطلاقا ، حتى (وإن ثبت المستصحب بغير الاجماع من الأدلّة) الاخرى (المختصّة دلالتها بالحال الأوّل ، المعلوم انتفاؤها) أي : انتفاء دلالة تلك الأدلة (في الحال الثاني).

١٤٩

وقد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الاجماع ، كما ستعرف في كلام الشهيد ، وإنّما المسلّم عنده استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه الخارج عن محل النزاع بل عن حقيقة الاستصحاب حقيقة ، فمنشأ نسبة التفصيل إطلاق الغزالي الاستصحاب

______________________________________________________

إن قلت : ثبوت المستصحب بالأدلة الاخرى غير الاجماع لا يعبّر عنه : باستصحاب حال الاجماع.

قلت : (وقد يعبّر عن جميع ذلك) الذي يثبت شرعا في الزمان الثاني تعويلا على الزمان الأوّل : (باستصحاب حال الاجماع) فالغزالي لما ينفي استصحاب حال الاجماع ، معناه : إنه ينفي مطلق الاستصحاب الثابت بأيّ دليل كان من إجماع أو غيره (كما ستعرف في كلام الشهيد) الأوّل ذلك إن شاء الله تعالى.

(وإنّما المسلّم عنده) أي : عند الغزالي من الاستصحاب هو : (استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه) أي : ان عموم النص يشمل الحال الثاني ، أو ان إطلاق النص يشمل الحال الثاني (الخارج) مثل هذا الاستصحاب الذي هو في الاصول اللفظية (عن محل النزاع) لأنه لم ينازع أحد في حجية العموم والاطلاق بالنسبة إلى الآن الثاني.

(بل) هو خارج (عن حقيقة الاستصحاب حقيقة) لأنه عمل بالعموم والاطلاق لا بالاستصحاب ، فان الاستصحاب هو «إبقاء ما كان» من حيث انه كان سابقا ، «والابقاء» فيما ذكر من عموم نص أو إطلاقه ، إنّما هو من جهة وجود الدليل.

وعليه : (فمنشأ نسبة التفصيل) إلى الغزالي بين الاستصحاب الثابت بالاجماع فليس بحجة ، والثابت بغيره فحجة ، هو : (إطلاق الغزالي الاستصحاب

١٥٠

على استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الاجماع ، وإن صرّح في أثناء كلامه بالحاق غيره ـ ممّا يشبهه في اختصاص مدلوله بالحالة الاولى ـ به في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت بهما ،

______________________________________________________

على استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه) الدال على اعتبار هذا الاستصحاب عنده (وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الاجماع).

إذن : فاطلاق الغزالي القول بالاستصحاب على استصحاب العموم والاطلاق من جهة ، وتخصيص القول بانكار الاستصحاب باستصحاب حال الاجماع من جهة اخرى ، سبّب نسبة هذا التفصيل إليه بينما الغزالي قصد من قوله بالاطلاق :

خصوص الاستصحاب في الاصول اللفظية ، ومن قوله بتخصيص الانكار : مطلق الاستصحاب غير الاصول اللفظية.

وإنّما قلنا : بأنّ قصد الغزالي كان ذلك ، لأنه (وإن) كان ظاهر كلامه التفصيل المنسوب إليه ، إلّا انه قد (صرّح في أثناء كلامه بالحاق غيره) أي : غير حال الاجماع (ممّا يشبهه) أي : يشبه حال الاجماع شبها (في اختصاص مدلوله بالحالة الاولى) فألحقه (به) أي : بحال الاجماع (في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت بهما) في الآن الأوّل.

والحاصل : ان الغزالي منع استصحاب حال الاجماع ، ثم ذكر في أثناء كلامه :

ان ما ثبت بغير الاجماع أيضا ملحق بما ثبت بالاجماع إلحاقا من جهة عدم حجية الاستصحاب فيه ، ممّا يكون نتيجته : ان الاستصحاب ليس بحجة عنده إطلاقا سواء كانت الحالة السابقة قد ثبتت بالاجماع أم بسائر الأدلة.

لكن قال في الأوثق : «ان ما استظهره المصنّف من كلام الغزالي : من كونه نافيا

١٥١

قال في الذكرى : بعد تقسيم حكم العقل غير المتوقف على الخطاب إلى خمسة أقسام ما يستقل به العقل ، كحسن العدل ، والتمسك بأصل البراءة ، وعدم الدليل دليل العدم ،

______________________________________________________

مطلقا وان كان متجها بناء على ما جاء في كلامه المحكي في النهاية ، إلّا ان محمد بن علي بن أحمد الجباعي العاملي قد حكى في شرحه على قواعد الشهيد ، عن الغزالي ، في كتابه المستصفى : التصريح بالتفصيل بين استصحاب حال الاجماع وغيره» (١).

ثم إنّ المصنّف وعد أن يذكر كلام الشهيد قبل عدّة أسطر والآن وفى بوعده قائلا : (قال) الشهيد الأوّل (في الذكرى : بعد تقسيم حكم العقل غير المتوقف على الخطاب) الشرعي ، لأن العقل : قد يحكم بعد خطاب الشارع مثل : حكم العقل بوجوب الاطاعة بعد قول الشارع : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٢) وليس التقسيم في هذا.

وقد يحكم بدون ان يكون هناك خطاب من الشرع مثل : حسن العدل وقبح الظلم ، والتقسيم في هذا ، فقد قسّمه (إلى خمسة أقسام) كالتالي :

الأوّل : (ما يستقل به العقل ، كحسن العدل) وقبح الظلم.

(و) الثاني : (التمسك بأصل البراءة) وذلك فيما إذا شك الانسان بأنه هل هو مكلّف أو بريء؟ فالعقل يحكم بأنه بريء ما لم يثبت دليل يدل على وجوب شيء أو حرمته عليه.

(و) الثالث : (عدم الدليل دليل العدم) وهذا كما لا يخفى : قد يوافق البراءة

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٤٨٠ ما نسب الى الغزالي عدم حجيّة استصحاب حال الاجماع.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣ و ٨٣ و ١١٠.

١٥٢

والأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر.

«الخامس : أصالة بقاء ما كان ، ويسمى : استصحاب حال الشرع وحال الاجماع في محل الخلاف ، مثاله المتيمّم ، إلى آخره ،

______________________________________________________

وقد يخالفها.

(و) الرابع : (الأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر) وذلك فيما إذا شك الانسان في انه هل يجب عليه الأقل أو الأكثر ، فانّه يتمسك بالأقل إذ لا دليل على الأكثر.

(«الخامس : أصالة بقاء ما كان ، ويسمى : استصحاب حال الشرع وحال الاجماع) فهم اسمان لشيء واحد (في محل الخلاف) لا في مثل العمل بالعموم والاطلاق الذي لا خلاف في جريان الاستصحاب فيه ، بل هو خارج عن الاستصحاب المصطلح ، وإنّما فيما لم يكن دليل يدل على وجود الحكم في الحال الثاني ولا على عدمه.

ولا يخفى : ان ما وعده المصنّف من ذكر كلام الشهيد حيث قال قبل أسطر : وقد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الاجماع هو هذه العبارة من الشهيد حيث قال : ويسمى استصحاب حال الشرع وحال الاجماع ، فعمّم الشهيد حال الاجماع على كل أقسام الأدلة.

وأما (مثاله) أي : مثال الاستصحاب المختلف فيه ، فهو : (المتيمّم ، إلى آخره) أي : الذي تيمم ودخل في الصلاة ثم وجد الماء في الأثناء ، فانه إذا قلنا بالاستصحاب نستصحب التطهر فيجب إتمام الصلاة ، وان لم نقل بالاستصحاب لا نستصحب التطهر فيجب تجديد الوضوء واستئناف الصلاة.

١٥٣

واختلف الأصحاب في حجيته ، وهو مقرّر في الاصول» ، انتهى.

ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة : أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا ، وفي مسألة المتيمّم ، إلى آخره. وصاحب الحدائق في الدرر النجفيّة. بل استظهر هذا من كلّ من مثّل لمحل النزاع بمسألة المتيمّم ، كالمعتبر والمعالم وغيرهما.

______________________________________________________

ثم قال (واختلف الأصحاب في حجيته) أي : في حجية القسم الخامس الذي هو الاستصحاب (وهو) أي : هذا الاختلاف في حجيته (مقرّر في الاصول» (١)) فلا داعي للتعرّض له في كتاب الذكرى الذي هو كتاب فقهي (انتهى) كلام الشهيد قدس‌سره.

(ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة : أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا)؟ فانّه ان قلنا بالاستصحاب لم يكن ناقضا ، وان لم نقل بالاستصحاب يكون ناقضا (وفي مسألة المتيمّم إلى آخره) كما عرفت.

(و) نحوه أيضا ما حكي عن (صاحب الحدائق في الدرر النجفيّة) وغيره.

(بل استظهر هذا) أي : كون المراد من استصحاب حال الاجماع هو : مطلق ما دل الدليل على وجود الحكم في الآن الأوّل ، من غير دلالة له على الآن الثاني استظهر (من كلّ من مثّل لمحل النزاع) في حجية الاستصحاب وعدم حجيته (بمسألة المتيمّم) الذي وجد الماء في أثناء الصلاة (كالمعتبر والمعالم وغيرهما).

__________________

(١) ـ ذكرى الشيعة : ص ٥.

١٥٤

ولا بدّ من نقل عبارة الغزالي المحكيّة في النهاية حتى يتضح حقيقة الحال ، قال الغزالي على ما حكاه في النهاية : «المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يقم دليلا في المسألة ، بل قال : أنا ناف ، ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ؛ وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ ، فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ،

______________________________________________________

هذا (ولا بدّ من نقل عبارة الغزالي المحكيّة في النهاية حتى يتضح حقيقة الحال) ونرى هل انه يقول بنفي الاستصحاب مطلقا كما يستظهره المصنّف من عبارته ، أو يقول بالتفصيل كما استظهره النهاية وغيرها؟.

(قال الغزالي على ما حكاه في النهاية) : ان («المستصحب) بصيغة اسم الفاعل (إن أقرّ بأنّه لم يقم دليلا في المسألة) على حجية الاستصحاب معتذرا : بأن الاستصحاب ليس سوى إبقاء الحالة الاولى إلى الحالة الثانية ، وإبقاء ما كان ، ليس إثبات شيء جديد حتى يحتاج إلى دليل جديد (بل قال : أنا ناف) أي : ناف لانتقاض الحالة الاولى ومنكر لحدوث شيء جديد على خلاف الحالة السابقة (ولا دليل على النافي) لأن المثبت يحتاج إلى الدليل دون النافي.

وعليه : فان أقرّ وقال بأنه ناف (فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي) أيضا ، كما انه يجب الدليل على المثبت ، لأن هذا النافي يريد اثبات الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة.

(وإن ظنّ إقامة الدليل) على حجية الاستصحاب ، مثل الاستدلال : بان ما ثبت دام (فقد أخطأ ، فإنّا نقول) في بيان خطائه : (إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه) وحيث ان الدليل الدال على الدوام : من النص والاجماع وغير ذلك لم يكن موجودا ، فلا وجه لاستصحاب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة.

١٥٥

فان كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها عند عدم الخروج من غير السبيلين ، لا عند وجوده.

وإن دلّ بعمومها على دوامه عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص ،

______________________________________________________

وعليه : (فان كان) ذلك الدليل الدال على الدوام هو : (لفظ الشارع ، فلا بدّ من بيانه) أي : بيان ذلك اللفظ الدال على جريان الحكم في الحالة اللاحقة حتى نعرفه (فلعلّه) أي : ذلك اللفظ غير عام ، بل خاص (يدلّ على دوامها) أي : دوام الطهارة (عند عدم الخروج من غير السبيلين ، لا عند وجوده) أي : عند وجود الخروج من غير السبيلين أيضا.

والحاصل : ان الشارع الذي قال بأنه متطهر ، لعل كلامه كان خاصا بما إذا لم يخرج شيء من غير السبيلين ، امّا إذا خرج شيء من غير السبيلين فلا يقول الشارع بانه متطهر.

(وإن) كان ذلك اللفظ عاما وقد (دلّ بعمومها على دوامه) أي : دوام التطهّر (عند العدم) للخروج (والوجود) للخروج (معا) بأن كان لفظ الشارع يقول : انه متطهّر سواء خرج من غير السبيلين شيء أم لم يخرج (كان ذلك) الدوام لما بعد الخروج في الحالة الثانية (تمسكا بالعموم) لا بالاستصحاب ، وإذا كان تمسّكا بالعموم (فيجب إظهار دليل التخصيص) لذلك العموم يعني : ان على من يريد خلاف ذلك العموم ويقول بأن الخارج من غير السبيلين ناقض الاستدلال عليه.

والحاصل : ان لفظ الشارع ان كان خاصا بالتطهّر قبل الخروج ، كان من يريد تعميمه إلى ما بعد الخروج محتاجا إلى الدليل ، وان كان لفظ الشارع عاما يعمّ التطهر قبل الخروج وبعد الخروج ، كان من يقول بعدم تطهره بعد الخروج

١٥٦

وإن كان الاجماع ، فالاجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود.

ولو كان الاجماع شاملا حال الوجود ، كان المخالف خارقا له ، كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب

______________________________________________________

محتاجا إلى الدليل ومعلوم : انه لا ربط للوجهين بالاستصحاب.

هذا إتمام الكلام في الدليل الأوّل وهو : بأن كان الدليل الدال على الدوام هو : لفظ الشارع.

(وإن كان) الدليل الدال على الدوام هو (الاجماع ، فالاجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم) أي : عند عدم وجدان الماء للمتيمم ، أو عدم خروج شيء من غير السبيلين للمتطهر (دون الوجود) أي : دون ما إذا وجد الماء أو خرج شيء من غير السبيلين ، فانه لا يشمله الاجماع.

هذا (ولو كان الاجماع شاملا حال الوجود) للماء ، أو حال الوجود للخروج أيضا ، بمعنى : ان الاجماع لو انعقد على انه سواء وجد الماء أم لم يوجد ، خرج شيء أم لم يخرج ، فهو متطهّر (كان المخالف) في دوام الصلاة الذي يقول : بأن وجدان الماء ، أو الخروج يبطل التيمم والتطهر (خارقا له) أي : للاجماع لا للاستصحاب ، وهذا الوجهان كالوجهين السابقين لا ربط لهما بالاستصحاب أيضا.

إذن : فالدليل في الصورة الاولى كان هو النص لا الاستصحاب ، والدليل في هذه الصورة وهي الصورة الثانية : كان هو الاجماع لا الاستصحاب.

وعليه : فالمخالف في دوام الصلاة الذي يقول ببطلانها فيما نحن فيه خارق للاجماع (كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة) الذي يقول ببطلانها (عند هبوب

١٥٧

الرياح ، وطلوع الشمس ، خارق للاجماع ، لأنّ الاجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب ، وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ،

______________________________________________________

الرياح ، وطلوع الشمس ، خارق للاجماع) لا للاستصحاب أيضا.

وإنّما يكون المخالف في دوام الصلاة عند وجود الماء أو الخروج خارقا للاجماع إذا كان الاجماع شاملا لحال الوجود والعدم كما فرض في مثال المتيمم والمتطهر ، ويكون المخالف في انقطاع الصلاة عند الهبوب والطلوع خارقا للاجماع إذا كان الاجماع مختصا بحال عدم الهبوب والطلوع كما فرض في مثال الهبوب والطلوع ، بينما الاجماع في المثالين ليس كذلك حقيقة ، وذلك (لأنّ الاجماع لم ينعقد) على دوام الصلاة (مشروطا بعدم الهبوب ، و) عدم الطلوع ، بل انعقد مطلقا يشمل حال الوجود والعدم في مثال الهبوب والطلوع ، كما لم ينعقد الاجماع على دوام الصلاة مطلقا في مثال المتيمم والمتطهّر ، بل (انعقد مشروطا بعدم الخروج) من غير السبيلين في المتطهر (وعدم الماء) في أثناء الصلاة للمتيمّم (فإذا وجد) الماء أو الخروج (فلا إجماع) على بقاء التطهّر والتيمم بعده.

والحاصل : انه لا اجماع يدل على بقاء التطهر والتيمم في الحالة الثانية.

هذا تمام الكلام في الدليل الثاني وهو : بأن كان الدليل الاجماع.

وامّا الدليل بأن نقيس حالة ما بعد وجدان الماء ، وما بعد الخروج من غير السبيلين ، على حالة ما قبل الوجدان وما قبل الخروج ، فكما انه يكون ما قبلهما متطهرا ، فكذلك يكون ما بعدهما متطهرا أيضا.

١٥٨

فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ، فامّا أن يستصحب الاجماع عند انتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وكذا هنا : انعقد الاجماع بشرط العدم ، فانتفى الاجماع عند الوجود.

وهنا دقيقة ، وهو : أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف ، فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والاجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ،

______________________________________________________

(ف) نجيب عن القياس : بأن القياس في الأزمان كالقياس في الأفراد باطل ، إضافة انه قياس مع الفارق ، إذ (يجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة) بين الوجود والعدم من وحدة مناط ، والشبه (فامّا أن يستصحب الاجماع عند انتفاء الجامع) كما فيما نحن فيه (فهو محال) لوضوح : ان الاجماع قد انعقد على حال العدم ، فلا يقاس عليه حال الوجود ، لأنه لا إجماع فيه.

(وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له) أي : للعقل (دلالة مع وجود دليل السمع) فلا يقاس ما فيه بيان بما ليس فيه بيان (وكذا هنا : انعقد الاجماع بشرط العدم) أي : عدم وجدان الماء وعدم الخروج من غير السبيلين (فانتفى الاجماع عند الوجود) لهما.

(وهنا دقيقة) يلزم ملاحظتها (وهو : أنّ كلّ دليل يضاد نفس الخلاف ، فلا يمكن استصحابه مع الخلاف) فيما إذا كانت الحالة الثانية خلاف الحالة الاولى (والاجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف).

١٥٩

بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه ، فانّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته تشمل لمحل الخلاف ، فانّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : «لا صيام لمن لا يبيّت الصّيام من الليل» ، شامل بصيغته صوم رمضان ، مع خلاف الخصم فيه ،

______________________________________________________

إذن : فلاجماع إنّما قام على التطهر قبل وجدان الماء ، وقبل الخروج من غير السبيلين ، امّا بعدهما فلا إجماع ، بل فيه خلاف ، ومع وجود الخلاف لا يكون هناك إجماع (بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه) أي : إذا كان خلاف في المسألة لم يكن ذلك الخلاف ضارا بالعموم ، أو ضارا بالنص ، أو ضارا بدليل العقل.

أو الفرق بين العموم والنص واضح ، فان النص نص في مفاده ، بينما العموم ظاهر في مفاده.

وعليه : (فانّ المخالف) أي : الذي لا يقول بأن الحالة الثانية كالحالة الاولى ، أو الذي لا يقول بأن الفرد الثاني كالفرد الأوّل (مقرّ بأنّ العموم ، بصيغته تشمل لمحل الخلاف) فالخلاف هنا في اللفظ لا يضادّ العموم والنص ودليل العقل ، بينما الخلاف هناك في الاجماع يضادّ كونه مجمعا عليه.

وعليه : (فانّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : «لا صيام لمن لا يبيّت الصّيام من الليل» (١)) إذا اختلفوا في ان هذا الحكم هل يشمل شهر رمضان أيضا ، أو لا يشمل شهر رمضان؟ فان هذا الاختلاف لا يضر بعموم اللفظ لأنه (شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه) أي : في صوم شهر رمضان بأنه

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٣٢ ح ٥.

١٦٠