الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وقد يستدلّ على البراءة

بوجوه غير ناهضة

منها : استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر والجنون.

وفيه ، أنّ الاستدلال به مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ

______________________________________________________

فانّ هذه القاعدة العقلية لو كانت دليلا منجزا في باب البراءة وتقول بأن التكليف في باب الشكّ في الشبهة التحريمية أو الوجوبية هو : البراءة ، لكان هذا الدليل معارضا لأدلة وجوب الاحتياط ، لأن دليلا يقول بالبراءة ، ودليلا يقول بالاحتياط ، إلّا انّ هذا الدليل العقلي ليس هكذا ، وإنّما هو معلق على عدم البيان ، فاذا بيّن المولى وجوب الاحتياط انسحب هذا الدليل العقلي عن الميدان ، كما ذكرنا مثله في الدليل العقلي المتقدّم.

(وقد يستدلّ على البراءة بوجوه غير ناهضة) للحجيّة واثبات البراءة.

(منها : استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر والجنون) فانّ الصغير يقينا غير مكلّف ، فاذا شكّ بعد الكبر : بأنه هل كلّف بحرمة شرب التتن ـ مثلا ـ فالأصل عدم التّكليف ، وكذا لو كان مجنونا فانه غير مكلّف قطعا ، فاذا أفاق وشكّ في انّه هل كلّف بترك التتن أم لا ، فالأصل عدم التّكليف.

(وفيه : انّ الاستدلال به) أيّ : بالاستصحاب على البراءة (مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ) أيّ إنّا اذا استدللنا بالاستصحاب على البراءة ، كانت البراءة حجّة من باب الأمارة الظنّية ، والحال انّه سيأتي إن شاء الله تعالى : ان الاستصحاب ليس حجّة من باب الأمارة الظنيّة.

هذا بالاضافة إلى انّ حال الصغر والجنون يختلف عن حال الكبر والافاقة ،

٨١

فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعيّ دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهرية. وسيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ إن شاء الله.

وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفع في المقام ،

______________________________________________________

مع انّه يلزم في الاستصحاب بقاء الموضوع وهنا قد اختلف.

وعلى هذا : (فيدخل أصل البراءة بذلك) أيّ : بإثباتنا أصل البراءة بسبب الاستصحاب (في الأمارات) لأن الاستصحاب أمارة كاشفة عن الواقع ، فاذا كان أصل البراءة حجّة من باب الاستصحاب ، كان أصل البراءة أيضا من الأمارات (الدالّة على الحكم الواقعي) فتكون البراءة عن التكليف أمارة وحدها (دون الأصول) التعبدية (المثبتة للأحكام الظّاهريّة) لأن الاصل كما تقدّم يثبت الأحكام الظاهرية سواء كان احتياطا أو تخييرا.

(و) فيه : عدم صحة المبنى وهو : كون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ ، إذ (سيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ إن شاء الله) تعالى ، فلا تكون البراءة حجّة من باب الاستصحاب الظنيّ.

(وأمّا لو قلنا باعتباره) أيّ : الاستصحاب (من باب الأخبار الناهية عن نقض) وابطال (اليقين بالشك) كما ورد هذا اللفظ في الروايات من قولهم عليهم‌السلام «لا تنقض اليقين بالشّك» (١) (فلا ينفع) أيّ : الاستصحاب (في المقام) لإثبات

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨١ ح ٥٣.

٨٢

لأنّ الثابت بها ترتّب اللوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلّا براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه.

والمطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل او ما يستلزم ذلك ،

______________________________________________________

البراءة (لأنّ) المقدار (الثابت بها) أي : بأخبار الاستصحاب (ترتب اللوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب) دون اللوازم العقلية والعرفية والعادية والمستصحب هنا في باب البراءة لا أثر له شرعا.

والحاصل : انكم تقولون : باثبات البراءة باستصحاب حال الصغر والجنون ، ونحن نقول : إن أردتم : الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الظنّ؟ ففيه : إنّ الاستصحاب حجّة من باب الاخبار لا من باب الظنّ ، وان اردتم الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الاخبار ، ففيه : انّه وان كان صحيحا ، الّا ان الاستصحاب حينئذ لا يثبت البراءة لأنّ (المستصحب هنا) في باب البراءة الذي هو التيقن بالبراءة حال الصغر والجنون (ليس الّا) ثلاثة امور :

الأوّل : (براءة الذمّة من التكليف).

الثاني : (وعدم المنع من الفعل).

الثالث : (وعدم استحقاق العقاب عليه) أيّ : على الفعل.

(والمطلوب في الآن اللاحق) بعد ان بلغ الصبي أو أفاق المجنون (هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل) أي : على فعل شرب التتن مثلا (أو ما يستلزم ذلك) أيّ : يلزم ان نقطع بعدم العقاب ، أو نقطع بالجواز الذي هو مستلزم للقطع بعدم العقاب.

٨٣

إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه ، حتّى يأمن العقل من العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة.

ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ، لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم

______________________________________________________

وإنّما نحتاج إلى القطع بعدم العقاب ، لأنّ الأخباريين يقولون باحتمال العقاب ، ولذا يوجبون الاحتياط في شرب التتن ، والاصوليّون يقولون في المقابل بالقطع بعدم العقاب ، فعليهم أن يثبتوا القطع بعدم العقاب.

(اذ لو لم يقطع بالعدم) أيّ : بعدم العقاب (واحتمل العقاب) بعد الاستصحاب كما كان العقاب محتملا قبل الاستصحاب (أحتاج) الاصوليون (إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان اليه) أيّ : إلى الاستصحاب حتّى يتمكنوا من مقاومة الأخباريين الذين يقولون باحتمال العقاب ، و (حتى يأمن العقل من العقاب) بعد الاستصحاب.

(ومعه) أيّ : مع الاحتياج إلى قبح العقاب من غير بيان (لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة) فانّ اثبات البراءة بالاستصحاب يخرج البراءة عن كونها اصلا مستقلا ويجعلها صغرى من صغريات الاستصحاب ، والاستصحاب لا يدفع احتمال العقاب حسب الفرض.

اذا تمهّد ما ذكرناه نقول : (ومن المعلوم : أنّ المطلوب المذكور) أيّ : القطع بعدم العقاب (لا يترتب على المستصحبات المذكورة) أيّ : استصحاب براءة الذمة من التّكليف ، واستصحاب عدم المنع من الفعل ، واستصحاب عدم استحقاق العقاب عليه (لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم

٨٤

المجعولة الشرعيّة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر.

وأمّا الاذن والترخيص في الفعل ، فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلّا أنّ الاذن الشرعيّ ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ،

______________________________________________________

المجعولة الشرعيّة حتى يحكم به) أي : بهذا العدم (الشرع في الظاهر) بسبب قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» (١) إذ القطع بالعقاب أو بعدم العقاب من حالات النفس ـ فانّ الانسان يقطع أو لا يقطع بسبب الأسباب الخارجية ـ وحالات النفس أمر تكويني لا تشريعي ، والاستصحاب إنّما يثبت الأمر التشريعيّ لا الأمر التكويني.

(وأمّا الاذن والترخيص في الفعل) بمعنى : انّ الشارع أجاز شرب التتن ـ مثلا ـ (فهو وان كان) الجواز (أمرا قابلا للجعل) لأن الجواز أحد الأحكام الخمسة الشرعيّة (ويستلزم انتفاء العقاب واقعا) لوضوح : أنّه لا عقاب على الجائز ، فاذا تمكن الاستصحاب من اثبات الجواز ، تمكن من اثبات عدم العقاب الذي هو مطلوب الاصوليّين مقابل احتمال العقاب الذي هو مطلوب الأخباريين.

(الّا أنّ الاذن الشرعيّ ليس لازما شرعيا للمستصحبات) الثلاثة (المذكورة) سابقا : من براءة الذمة من التّكليف ، وعدم المنع من الفعل ، وعدم استحقاق العقاب عليه (بل هو من المقارنات) الاتفاقية لها.

وإنّما يكون الاذن الشرعي والجواز من المقارنات الاتفاقية للمستصحبات

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨١ ح ٥٣.

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثلاثة لا لازما شرعيا لها لا مكان خلوّ الفعل عن الاحكام الخمسة ، كما هو الحال في فعل الصغير والمجنون والنائم ، فانّه لا تلازم اصلا بين البراءة حال الصغر والجنون والنوم ، وبين الجواز ، لانّ البراءة هنا بمعنى : عدم التّكليف ، لا بمعنى الجواز والاذن الشرعيّ.

لا يقال : انّه في حال الصغر كان يجوز له شرب التتن ، والآن بعد الكبر يجوز له ذلك أيضا.

لانه يقال : حال الصغر لا تكليف عليه ، لا انه كان جائزا له شرب التتن ، فانّ الجواز هو أحد الاحكام الخمسة لا عدم التكليف فانّ عدم التكليف ليس أحد الأحكام الخمسة ، اذ الصغير ، والمجنون ، والنائم ، لا تكليف عليهم لا أنّه يجوز لهم شرب التتن ، او ترك الدعاء ـ مثلا ـ.

بعبارة اخرى : انّ البراءة لها لازمان :

١ ـ عدم التكليف.

٢ ـ الجواز والاذن الشرعيّ.

فاذا اثبتنا البراءة ، لا يثبت الجواز ، لانّه قد يكون المراد من البراءة : عدم التكليف ، كما في الصغير ، والمجنون ، والنائم.

نعم ، يثبت الجواز بواسطة أمر خارجي وهو : علمنا الاجمالي بانّ الفعل حال الكبر ، والافاقة ، واليقظة ، لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة ، فاذا نفينا عدم التّكليف الذي هو أحد لازمي البراءة بسبب علمنا الاجمالي بذلك ، ثبت اللازم الآخر للبراءة وهو : الجواز وإلى هذا اشار المصنّف بقوله :

٨٦

حيث أنّ عدم المنع عن الفعل ، بعد العلم إجمالا بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة ، لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه. فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم.

ومن هنا

______________________________________________________

(حيث انّ) المستصحبات الثلاثة : من (عدم) التّكليف ، وعدم العقاب ، وعدم (المنع عن الفعل ، بعد العلم اجمالا بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة) في حال ما بعد البلوغ ، وما بعد الجنون والنوم (لا ينفك) عقلا (عن كونه) أيّ : عن كون الفعل (مرخّصا فيه) أيّ : جائزا قد أذن الشارع به.

(فهو) أي : ترتب الجواز على المستصحبات المذكورة وإثبات الاذن الشرعي بها ، يكون حينئذ ـ حسب ما فصلناه ـ : (نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي) الضد (الآخر) نفيا ، (بأصالة العدم) فكما ان انتفاء أحد الضدّين مقارن لوجود الضد الآخر ، لا أنّه اثر شرعي للضد الآخر ، كذلك انتفاء عدم التّكليف مقارن لوجود الجواز ، لا أنّه أثر شرعي له ، حتى يثبت بسبب الاستصحاب ، إذ قد عرفت : أنّ اللوازم العقليّة ، واللوازم العرفيّة ، واللوازم العاديّة ، لا يثبت شيء منها بالاستصحاب ، فكيف بالمقارنات فانّها لا تثبت بالاستصحاب حتى عند القائلين بالاصل المثبت.

(ومن هنا) بدأ المصنّف في الاشكال على كلام صاحب الفصول الآتي ، وتوضيحه : انه قد تبيّن ممّا تقدّم : انّه لو سلّمنا أمرين ، لم نتمكن من اجراء استصحاب عدم التكليف في شرب التتن حال الصغر ، لاثبات جواز شرب التتن وعدم العقاب على شربه حال الكبر :

الأوّل : أنّ الاستصحاب ليس حجّة من باب الظنّ اذ لو كان حجّة من باب الظنّ

٨٧

تبيّن : أنّ استدلال بعض من اعترف : بما ذكرنا ـ من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم إثباته إلّا اللوازم الشرعيّة في هذا المقام باستصحاب البراءة ـ منظور فيه.

______________________________________________________

لكان أمارة ، فنتمكن من اثبات لوازمه العقليّة والعاديّة والعرفيّة به لأن الظنّ كاشف والمكشوف يثبت لوازمه.

الثاني : أنّ الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الأخبار لا يثبت به الّا اللوازم الشرعية فقط ، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في باب الاستصحاب ، وعليه فالذي يسلّم الأمرين لا يتمكن من اثبات الجواز لشرب التتن بسبب استصحاب عدم التكليف حال الصغر ، وصاحب الفصول ممن يسلّم ذلك ، فيكون استدلاله باستصحاب عدم التكليف لاثبات الجواز غير تام.

إن قلت : حال الصغر لم يكن عليه تكليف فحال الكبر ايضا لا تكليف عليه ، وبمجرد انه ثبت عدم التكليف في حال الكبر يثبت عدم العقاب ، لأنّ العقاب تابع للتكليف ، فيثبت مطلوب الاصوليين : من البراءة عن حرمة شرب التتن حال الكبر.

قلت : لا تكليف حال الصغر من باب انّه لا قابليّة له للتكليف ولا تكليف حال الكبر من باب اجازة الشارع ، فالموضوع مختلف ويشترط في الاستصحاب وحدة الموضوع.

وممّا ذكرناه (تبيّن : انّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا) وذلك البعض هو صاحب الفصول ، وما ذكرنا عبارة عن الأمرين المذكورين (: من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم اثباته) أيّ : اثبات الاستصحاب الذي هو أصل وليس بأمارة (الّا اللوازم الشرعيّة في هذا المقام) أيّ : مقام البراءة ، استدلالا (باستصحاب البراءة ، منظور فيه) لما عرفت : من أنّ الاستصحاب حجّة من باب

٨٨

نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ ، او أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبّد كلّما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به ، مع أنّه يمكن النظر فيه ، بناء على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب.

______________________________________________________

الروايات ، وعدم العقاب من أحكام العقل ، فلا يكون ثابتا بعدم التّكليف.

(نعم ، من قال باعتباره) أيّ : الاستصحاب (من باب الظنّ ، أو) قال : (انّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبد) أي : من باب الروايات لا من باب الظنّ (كلّما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء) أي : كان متيقنا بقاؤه (ولو لم يكن من اللّوازم الشرعيّة) بأن كان من اللوازم العقليّة ، او العاديّة ، او العرفيّة ، او المقارنات الاتفاقية ، وحينئذ (فلا بأس بتمسّكه به) أي : تمسك هذا القائل : باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وانّه أمارة ، أو بانّ الاستصحاب وان كان من باب الأخبار يثبت كل اللوازم ، الأعم من المقارنات ، فانّ له ان يتمسك لاثبات البراءة باستصحابها.

(مع انّه يمكن النظر فيه بناء على ما سيجيء : من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب) وهذا اشكال آخر غير الاشكالين الأولين ، فقد قلنا : أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأخبار لا من باب الظنّ ، وقلنا : ان الاستصحاب الحجّة من باب الأخبار لا يثبت إلّا اللوازم الشرعيّة ، ونقول ايضا أنّ من شروط الاستصحاب : وحدة الموضوع في القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة ، وفي المقام هذا الشرط مفقود ، فلا يجري الاستصحاب فيه لأن الموضوع في حال الصغر وحال الكبر ليس واحدا ، كما أشرنا اليه سابقا.

٨٩

وموضوع البراءة في السابق ومناطها هو الصغير الغير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من الاستصحاب ، فتأمّل.

______________________________________________________

(و) ذلك لان (موضوع البراءة في السّابق) حال الصغر (ومناطها :) أي : ملاك البراءة في حال الصغر (هو الصغير غير القابل للتكليف) وقد تبدل بعد البلوغ بالكبر (فانسحابها) أيّ : انسحاب البراءة من حال الصغر (في القابل) للتكليف حال الكبر (أشبه بالقياس من الاستصحاب) لأنه مثل أن يقال : ان هذا الكبير كان في وقت ترابا ، ولما كان ترابا لم يكن له حكم ، والحال لما تبدل إلى الانسان لم يكن له حكم ، فكما ان مثل ذلك ليس بصحيح ، كذلك استصحاب حال الصغر إلى حال الكبر لا يكون صحيحا.

(فتأمّل) لعله اشارة إلى انّ الصبي المراهق قابل للتكليف ، والاستصحاب عند بلوغه واحد لموضوعه السابق حال المراهقة ، ولا نريد نحو استصحاب حال عدم تمييزه ممّا عمره يوم واحد وما أشبه ذلك ، حتّى يقال : هو من انسحاب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وإلى هذا أشار من قال : بأنّ الموضوع وأن تبدّل عقلا الّا ان العرف يسامحون ويحكمون بان الشخص اليوم عين الشخص في الأمس ، وأن الشخص في ساعة قبل البلوغ عين الشخص في ساعة بعد البلوغ ، وتغييره بالصغر والكبر شرعا تغيير حال عندهم لا تغيير ذات ، ومن الواضح : انّ الخطابات الشرعيّة منزلة على فهم العرف ولا مانع من الاستصحاب.

لكن هذا إن تمّ ، فانّما يتم في الصغير والكبير لا في المجنون والصاحي كما هو واضح.

٩٠

وبالجملة ، فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب.

ومنها : أنّ الاحتياط عسر منفيّ وجوبه.

وفيه : أنّ تعسّره ليس إلّا من حيث كثرة موارده. فهي ممنوعة ، لأنّ

______________________________________________________

(وبالجملة ، فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها) من الأصوليين (والمنكرين لها) من الأخباريين (من أن يحتاج إلى الاستصحاب) لأنّهما متفقان على دلالة الأدلة الأربعة على البراءة عند عدم البيان من دون الحاجة إلى استصحاب البراءة ، ويفترقان في أنّ الأخباريين يدّعون وجود البيان من جهة ورود أدلة الاحتياط ، ولذا يعملون بالاحتياط ، والاصوليين يرون عدم وجود البيان ، وانّ أدلة الاحتياط ليست بيانا بحيث يدفع «قبح العقاب بلا بيان» ولذا يعملون بالبراءة.

(ومنها) : أيّ : من الوجوه التي استدلّ بها على البراءة هو : (انّ الاحتياط عسر منفيّ وجوبه) في الكتاب والسنّة والاجماع ، بل والعقل في الجملة ، فقد قال سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...») (٢).

وحيث كان العسر والحرج منفيين ، فلا يجب الاحتياط ، وحيث لا يجب الاحتياط يكون مجرى للبراءة.

(وفيه : انّ تعسّره) أيّ : تعسر الاحتياط (ليس الّا من حيث كثرة موارده) لأنّ موارد الاحتياط لو كانت قليلة لم يكن عسر أو حرج في الاحتياط (فهي) أيّ : الكثرة (ممنوعة) فانا لا نسلم كثرة موارد الاحتياط (لأن

__________________

(١) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

٩١

مجراها عند الأخباريّين موارد فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ،

______________________________________________________

مجراها) أيّ : محل جريان قاعدة الاحتياط (عند الأخباريين : موارد فقد النص على الحرمة) مثل : شرب التتن ، فانه لا نص في حرمته.

أو اجمال النص مثل (يَطْهُرْنَ) (١) في الآية المباركة ، حيث لا نعلم هل هو بالتشديد ليكون بمعنى التطهّر من الحيض بالاغتسال ، أو بالتخفيف ليكون بمعنى النظافة من الدم فحسب؟ (وتعارض النّصوص من غير مرجّح منصوص) مثل ما اذا قلنا بالتعارض بين قوله : «لا بأس ببيع العذرة» (٢) وقوله «ثمن العذرة سحت» (٣) ولم يكن هناك مرجّح منصوص.

وإنّما وصف المصنّف المرجح : بالمنصوص ، لأنّ الأخباريين لا يرون الترجيح ، الّا بالمرجّح المنصوص ، بخلاف جملة من الاصوليين فانّهم يقولون : بانّ كل مرجح يقدم خبرا على خبر ، فيما اذا كان هناك أخبار متعارضة.

وعلى أيّ حال : فقدان النص ، واجماله ، وتعارض النصين من غير مرجّح (وهي) أيّ : هذه الموارد (ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها) أيّ : في هذه الموارد (إلى الحرج) ولذا نرى : ان الأخباريين المحتاطين لا يقعون في عسر ولا حرج ، وكذلك لا يقع في العسر والحرج الذين يتبعونهم من المقلدين لهم.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

(٣) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

٩٢

وعند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصّة ، وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحرج.

ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة ، فلا بدّ له

______________________________________________________

(و) مجرى قاعدة الاحتياط (عند المجتهدين) الذين لا يقولون بوجوب الاحتياط عند فقد النّص أو إجماله أو تعارض النصوص (موارد فقد الظنون الخاصة) وهي قليلة جدا ، فلو عمل المجتهدون بالاحتياط في هذه الموارد القليلة لا يلزم منه عسر ولا حرج.

والمراد بالظنون الخاصة : ظواهر الكتاب الحكيم ، والأخبار ، والاجماعات المنقولة ، والشهرات ، والأدلة العقلية المورثة للظنّ (و) من المعلوم : (هي) أيّ : هذه الظنون (عند الأكثر) من المجتهدين (ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها) أيّ : على هذه الظنون (والعمل فيما عداها على الاحتياط) فيها ، فان ذلك لا يؤدّي (إلى الحرج).

وبالجملة : المجتهدون يعملون بالظنون الخاصة وهي مستوعبة لأكثر الفقه ، وتبقى موارد قليلة لا ظنون خاصة فيها ، فاذا أراد المجتهدون العمل في هذه الموارد القليلة بالاحتياط لا يستلزم عليهم عسرا ولا حرجا ، كما لا يستلزم على مقلديهم العسر والحرج بالاحتياط في هذه الموارد القليلة.

(ولو فرض لبعضهم) أيّ : لبعض المجتهدين (قلة الظنون الخاصة) لانحصار الظنون الخاصة التي هي حجة بخبر العادل الضابط الامامي دون الاجماع والشهرة ونحوهما (ف) لا يلزم أيضا عليه حرج ، لأنّه يقول : بالانسداد ، وبسبب الانسداد يعمل بكل ظنّ ، فلا تبقى موارد لا ظنّ انسدادي فيها إلّا قليلا جدا.

وإنّما يعمل بالظنّ الانسدادي لانّه (لا بدّ له) أيّ : لهذا البعض الذي فرض قلّة

٩٣

من العمل بالظنّ الغير المنصوص على حجّيّته حذرا من لزوم محذور الحرج ، ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد ، الذي أقاموه على وجوب التعدي من الظنون المخصوصة فراجع.

ومنها : أنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة.

______________________________________________________

ظنونه الخاصة (من العمل بالظنّ غير المنصوص على حجّيته) وهو الظن الانسدادي (حذرا من لزوم محذور الحرج) فانّ القائلين بالانسداد يفرّون من الحرج إلى الظنّ المطلق ويجعلون من مقدمات الانسداد : لزوم الحرج من عدم العمل بالظنّ المطلق.

(ويتضح ذلك) أيّ : يعمل بالظنون غير المنصوص على حجيتها (بما ذكروه) أي : ذكره المجتهدون (في دليل الانسداد ، الذي أقاموه على وجوب التعدّي من الظنون المخصوصة) إلى الظّنون المطلقة (فراجع) كلماتهم كما قدّمنا ذلك في بحث الانسداد.

وعلى أيّ حال : فالمجتهدون على قسمين : منهم من يعمل بالظنون الخاصة ، ويراها كافية ، ومنهم من يعمل بالظّنون الخاصة ولا يراها كافية فيضم اليها الظنون الانسدادية ، وبعد العمل بهذين الظنين ، تبقى موارد الاحتياط قليلة جدا ، بحيث لا يلزم من العمل بالاحتياط في هذه الموارد عسر ولا حرج ، وحينئذ فلا يكون العسر دليلا على البراءة كما اراده المستدل.

(ومنها :) أيّ : من الأدلة التي أقاموها للبراءة : هو (أنّ الاحتياط قد يتعذّر) فلا يتمكن الانسان من الاحتياط (كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة) بان لم نعلم ـ مثلا ـ هل ان صلاة الجمعة واجبة أو محرّمة؟.

٩٤

وفيه : ما لا يخفى ، ولم أر ذكره إلّا في كلام شاذّ لا يعبأ به.

احتجّ للقول الثاني ـ وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ـ

بالأدلّة الثلاثة :

فمن الكتاب طائفتان :

إحداهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ،

______________________________________________________

(وفيه : ما لا يخفى) من الاشكال ، لوضوح : ان محل البحث هو ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب : من الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة حيث الاحتياط في مثل هذه الموارد ممكن غير متعذر (و) لذا (لم أر ذكره) أي : ذكر هذا الدليل للبراءة (الّا في كلام شاذّ لا يعبأ به) ، هذا تمام الكلام في أدلة القائلين بالبراءة.

وأما أدلة القائلين بالاحتياط :

فقد (احتج للقول الثاني وهو : وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة) الذي ذهب اليه الأخباريون (بالأدلّة الثلاثة) : الكتاب ، والسنة ، والعقل ، ولم يستدلوا بالدليل الرابع وهو الاجماع.

(فمن الكتاب طائفتان) على ما يلي : (إحداهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم) مثل قوله سبحانه : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١) وقوله سبحانه : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٢) وقوله سبحانه : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٣) وقوله سبحانه : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ

__________________

(١) ـ سورة يونس : الآية ٥٩.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٣) ـ سورة الجاثية : الآية ٢٤.

٩٥

فانّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء ، حيث انّه لم يؤذن فيه. ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ،

______________________________________________________

إِلَّا الظَّنَ) (١) ، وقوله سبحانه : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢) الى غير ذلك.

(فانّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة) حيث انّ الاصوليين يقولون : بأنّ الشارع رخّص في محتمل الحرمة ولذلك يجرون البراءة ، هو : (قول عليه) أي : على الشارع (بغير علم وافتراء) عليه ، وذلك غير جائز (حيث انّه) أي : هذا الحكم بالبراءة (لم يؤذن فيه) شرعا بدلالة الآيات الناهية.

(و) انّ قلت : إنّ الاخباريين أيضا كذلك لانهم يقولون بالاحتياط في الشبهة الحكمية من دون علم ، وهو افتراء لأنّ الشارع لم يقل بالاحتياط فيها.

قلت : (لا يرد ذلك) الاشكال (على أهل الاحتياط) وذلك (لأنهم لا يحكمون بالحرمة) حتى يقال بأنّ القول بالحرمة أيضا افتراء على الله (وانّما يتركون) الشبهة التحريمية (لاحتمال الحرمة) فيها ، فاذا احتملوا الحرمة في التتن ـ مثلا ـ تركوا شربه ، لا أنّهم يقولون بانّه حرام.

(وهذا) أي : عمل الاخباريين بالترك (بخلاف الارتكاب) الذي يعمله

__________________

(١) ـ سورة النجم : الآية ٢٨.

(٢) ـ سورة يونس : الآية ٦٨.

٩٦

فانّه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة ، والعمل على الاباحة.

والأخرى : ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط ، والاتّقاء ، والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه‌الله ، في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد.

______________________________________________________

الاصوليون (فانّه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة ، و) يكون (العمل) من الاصوليين بناء (على الاباحة) فانّ الاباحة متوقّفة على اجازة الشارع ، بينما الترك وعدم الارتكاب لم يتوقف على إذن الشارع ، اذ يجوز ترك المباح.

لكن ربّما يرد على ذلك : إنّ الاخباريين يقولون بوجوب الاحتياط ، فيكون قولا على الشارع بغير علم الّا أن يقول الأخباريون : بأن دليل الاحتياط هو مستندهم ، فيردّ عليهم الاصوليون : بأنّ أدلة البراءة هي مستندهم أيضا.

(و) الطائفة (الأخرى) من الأدلة التي استدلّ بها الأخباريون من الكتاب العزيز على الاحتياط هو : (ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط ، والاتّقاء ، والتورّع) والفرق بين هذه الثلاثة وان كان المآل واحدا هو : انّ الاحتياط من احاطة الأمر بشيء بحيث لا يوصل اليه كالحائط حول البيت ، والاتقاء من الوقاية وحفظ النفس من الشيء ، والتورّع هو الاجتناب عن الشيء ، فالاتقاء والتورّع وجهان لشيء واحد.

(مثل ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة) أي : ذكرها دليلا (على مشروعية الاحتياط في قضاء ما فعلت) بصيغة المجهول (من الصلاة المحتملة للفساد) في الواقع ، أي : يجوز للانسان انّ يقضي صلاته التي صلاها واحتمل فسادها وان لم يكن هناك دليل شرعيّ على فسادها.

٩٧

وهي قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ.)

أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.)

والجواب : أمّا عن الآيات الناهية عن القول

______________________________________________________

واستدل على ذلك بالمطلقات (وهي قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١) وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢)).

قال المصنّف : (أقول : ونحوهما) أي : نحو الآيتين السابقتين (في الدلالة على وجوب الاحتياط) وقضاء ما احتمل فساده من الصلاة للاحتياط قوله سبحانه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣) وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٤) وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) يعني : تنازعتم في شيء انّه هل هو حلال أو حرام؟ (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٥) والرّد الى الله هو الرجوع الى كتابه ، والرّد الى الرسول هو الرجوع الى سنته ، ومعنى ذلك : أنه لا حق لكم في أن تحكموا بالحلية أو بالحرمة بلا دليل ، وعلى هذا : فلا يجوز للاصوليين أن يحكموا بالاباحة فيما لم يعلموا انّه حرام أو حلال كشرب التتن ـ مثلا ـ؟.

(والجواب أمّا عن) الطائفة الاولى من الآيات وهي : (الآيات الناهية عن القول

__________________

(١) ـ سورة آل عمران : الآية ١٠٢.

(٢) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٣) ـ سورة التغابن : الآية ١٦.

(٤) ـ سورة البقرة : الآية ١٩٥.

(٥) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

٩٨

بغير علم ـ مضافا إلى النقض بشبهة الوجوب ، والشبهة في الموضوع ـ فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه ، اتكالا على قبح العقاب من غير بيان ، المتفق عليه بين المجتهدين والاخباريين ، ليس من ذلك.

______________________________________________________

بغير علم مضافا الى النقض) على الاخباريين المستدلّين بهذه الآيات ، نقضا (بشبهة الوجوب ، والشبهة في الموضوع) فانّ الاخباريين يقولون : بعدم لزوم العمل في الشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤية الهلال ، ويقولون أيضا : بعدم لزوم العمل في الشبهة الموضوعية ، سواء كان فعلا أو تركا ، فقول الاخباريين بالبراءة في الشبهة الوجوبية وفي الشبهة الموضوعية وجوبية كانت أو تحريمية أيضا تشريع.

فما أجاب به الاخباريون عن هذه الشبهات الثلاث ، نجيب به نحن عن الشبهة التحريمية ، وذلك لانّ الآيات الناهية مطلقة تشمل الشبهة الوجوبية والتحريمية سواء الموضوعية منها والحكمية.

كما ونجيب الاخباريين بالاضافة إلى هذا الجواب النقضي بالجواب الحلي ، وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله : (فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه) كشرب التتن ـ مثلا ـ (اتكالا على) أدلة البراءة : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، مثل (قبح العقاب من غير بيان ، المتفق عليه) أي : على هذا القبح (بين المجتهدين والاخباريين ، ليس من ذلك) أي : ليس قولا بغير علم ليكون تشريعا محرما ، بل هو قول بالعلم ، لأنّ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، هي المستند للقول بالبراءة عند المجتهدين في الشبهات الأربع ، وعند الاخباريين في الشبهات الثلاث أي : الشبهة الموضوعية بقسميها ، والشبهة الحكمية الوجوبية فقط.

٩٩

وأمّا عمّا عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى والمجاهدة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرّجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله.

وأمّا عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم ،

______________________________________________________

(وأما) الجواب (عمّا) تقدّم في الطائفة الثانية من الآيات فنقول : اما (عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب) هنا في الشبهة التحريمية (للتقوى والمجاهدة) لأنّ التقوى عبارة عن ترك الحرام ، لا ترك المشتبه ، والمجاهدة عبارة عن جهاد النفس في عدم ارتكاب الحرام لا ارتكاب المشتبه ، خصوصا وقد تقدّمت الأدلة الدالة على انّ الشارع أجاز ارتكاب المشتبه.

(مع انّ) هناك جوابا ثانيا عمّا عدا آية التهلكة وهو : ان (غايتها : الدلالة على الرّجحان) بمعنى : ان الاتقاء والمجاهدة الكاملين مستحبان شرعا لا انّهما واجبان ، وذلك (على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله) فانّ الشهيد الأوّل انّما استشهد بالآيتين على مشروعية القضاء لا على وجوبه ، فلا دلالة في الآيات على ما يذكره الأخباريون : من ان الشبهة التحريمية يحرم ارتكابها.

بل ان في مثل آية : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١) دلالة على الاستحباب ، اذ لو كان المراد بالتقوى هنا : التقوى الواجبة ، كانت واجبة مطلقا ، لا بقدر الاستطاعة العرفية التي هي ظاهر الآية.

(وأما) الجواب (عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى : العقاب معلوم العدم) لما تقدّم من الأدلة الأربعة التي تدل على انّ الشبهة التحريمية ليست محرّمة العمل ، لوضوح : قبح العقاب من دون بيان.

__________________

(١) ـ سورة التغابن : الآية ١٦.

١٠٠