الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه :

«إنّ من أصلنا العمل بالأصل ، حتّى يثبت الناقل ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمائعات».

فلو لا كون الأصل إجماعيّا ، لم يحسن من المحقّق قدس‌سره ، جعله وجها لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا.

وأمّا الشهرة

______________________________________________________

ازالة النّجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه).

فانّ السيد المرتضى قال : ومن مذهبنا جواز ازالة النجاسة بالمضاف ، فأثار هذا الكلام السؤال بانّه : كيف ينسب السيد الى المذهب ما لا نصّ فيه؟ فاجاب المحقق عنه : بأنّ هذه الدعوى ليست مبتنية على تتبع الأدلة من الكتاب ، أو السنّة ، بل (ان من أصلنا :) أي : من قواعد الشيعة الإمامية (العمل بالأصل) أي : البراءة (حتّى يثبت النّاقل) أي : المانع عن ذلك الأصل (ولم يثبت المنع عن إزالة النّجاسة بالمائعات) المضافة ، فيدل اصل البراءة هذا على كفاية الازالة بالمضاف.

ولا يخفى : انّ ما ذكره وإن كان محل نظر صغرى ، إلا انّ مرادنا بالاستدلال على الحكم بالأصل ، هو : أن يتمسك بالأصل حيث لا يجد الدليل.

قال الشيخ المصنّف قدس‌سره : (فلو لا كون الأصل إجماعيّا ، لم يحسن من المحقّق قدس‌سره جعله) أي : جعل الأصل (وجها) أي : توجيها (لنسبة) السيد رحمه‌الله (مقتضاه) أي : مقتضى الأصل وهو : جواز إزالة النجاسة بالمائعات (إلى مذهبنا).

وعليه : فهذه كلّها إجماعات منقولة تدل على انّ عملهم يكون على البراءة في مورد فقدان النص.

(وأمّا الشهرة) في المسألة ، فقد ذكرنا : انّها شهرة محققة على انهم يعملون

٦١

فانّما تتحقّق بعد التتبّع في كلمات الأصحاب ، خصوصا في الكتب الفقهيّة. ويكفي في تحقّقها ذهاب من ذكرنا من القدماء والمتأخّرين.

الثالث : الاجماع العمليّ الكاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام ،

______________________________________________________

بالبراءة عند فقد النص (فانّما تتحقق بعد التّتبع في كلمات الأصحاب ، خصوصا في الكتب الفقهيّة) كما انّ بعضا منها يوجد أيضا في الكتب الاصولية ، أو في الكتب الاعتقادية.

(ويكفي في تحقّقها) أي : الشهرة (ذهاب من ذكرنا) أسمائهم في الاجماع (من القدماء المتأخرين) إليها ، فانّه إذا لم يحصل لنا من تتبع أقوالهم إجماع في المسألة فلا أقل من حصول الشهرة المحققة عليها.

ولا يخفى : انّ المراد بالشهرة هنا : الشهرة الفتوائيّة لا الشهرة الروائيّة ، وقد ذهب جمع من العلماء الى ان حجيّة الشهرة لقوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» (١) إذ التعليل يدل على عموم حجيّة الشهرة ، وإن لم تكن الشهرة في الرواية ، فانّ الشهرة الروائيّة كانت موردا للحديث المذكور ، والمورد لا يخصص الوارد.

إلى هنا تحقق وجود الاجماع المحصّل ، والاجماع المنقول ، والشهرة على انّ البراءة هي المحكمة في الشبهة الحكمية التحريمية.

(الثالث) من وجوه الاجماع : (الاجماع العمليّ) أي : انهم أجمعوا في عملهم على التمسك بالبراءة (الكاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام) فانّ عمل الأتباع

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٦٢

فانّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة بل في كلّ شريعة على عدم الالتزام والالزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وأنّ طريقة الشارع كان تبليغ المحرّمات دون المباحات وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان ، وكفاية عدم وجدان النهي فيها.

______________________________________________________

المقيّدين بالعمل بأقوال المتبوعين ، يدلّ على ان المتبوع راض بذلك ، وإلّا بأن لم يكن راضيا ، لما عمل الأتباع به.

(فانّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة) اي : من زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الى يومنا هذا (بل في كلّ شريعة) وقانون من القوانين الوضعية المتعارفة في العالم غير المتدين جار (على عدم الالتزام) بأنفسهم (والالزام) لغيرهم (بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان) فانّ احتمالهم ورود النهي لا يكفي لديهم للعمل بالاحتياط ، بل إنّهم مع احتمالهم ورود النهي إذا فحصوا ولم يجدوا عملوا بالبراءة.

(و) ممّا يؤيد ذلك (ان طريقة الشارع كان تبليغ المحرّمات دون المباحات) كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، وَالدَّمُ ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، وَالْمُنْخَنِقَةُ ، وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ، وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ، ذلِكُمْ فِسْقٌ ...) (١).

(وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة) من الشارع والإباحة (في الفعل إلى البيان ، وكفاية عدم وجدان النّهي فيها) من الشارع ، وعلى ذلك جرت سيرة المسلمين.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٣.

٦٣

قال المحقّق رحمه‌الله ، على ما حكي عنه : «إنّ اهل الشرائع كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات ، سواء علم الاذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول والمشروب أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ،

______________________________________________________

وهذا الكلام لسنا أوّل من قاله ، وانّما سبقنا إليه غيرنا ، فقد (قال المحقّق رحمه‌الله ، على ما حكي عنه : انّ أهل الشرائع كافة لا يخطّئون من بادر الى تناول شيء من المشتبهات) والمبادرة يراد بها : الارتكاب ، المسابقة (سواء علم الاذن فيها من الشرع ، أم لم يعلم).

فانّ المتشرعة لا يفرّقون بين ما هو معلوم الاباحة من الشرع ، وبين ما هو مشكوك الاباحة منه ، فيتناولون الشيء المشكوك الاباحة كما يتناولون الشيء المعلوم سواء كان في الأكل ، أو الشرب ، أو اللباس ، أو المسكن ، أو المركب ، أو الزوجة ، أو غير ذلك.

(ولا يوجبون عليه) أي : على المتناول (عند تناول شيء من المأكول ، والمشروب) والملبوس ، والمنكوح ، والمسكون ، وغيرها (ان يعلم التنصيص على اباحته) فلا يقولون : انّه يجب عليك العلم بالاباحة ، بل يقولون : انه يكفيك احتمال الاباحة إن لم يكن نصّ على التحريم.

كما (ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم) بأنّ كان قاصرا فتناول محرّما من المحرمات ، فلا يقولون له : انّ القاعدة اجتناب الشيء حتى تثبت الاباحة ، بل يقولون له : ان القاعدة التناول إلّا أن يثبت التحريم.

٦٤

ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الاذن» ، انتهى.

أقول : إن كان الغرض ممّا ذكر من عدم التخطئة بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم ، فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع ، لكنّه راجع إلى الدليل العقليّ الآتي ، ولا ينبغي

______________________________________________________

هذا (ولو كانت) المشتبهات المحتملة للتحريم (محظورة) أي : ممنوعة عند المتشرعة (لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الاذن ، انتهى) كلام المحقّق.

(أقول) : هل انّ مبنى كلام المحقّق في الشارع ، وانّه يقبح عليه مؤاخذة الجاهل بالحكم مع جهله بوجوب الاحتياط أيضا كما اذا كان الشخص جاهلا بأن التتن ـ مثلا ـ حرام عليه ، وجاهلا بأنّه يلزم عليه الاحتياط في الشبهة التحريمية؟

ان كان هذا مبنى كلامه ، فيرد عليه : ان اللازم على المحقّق حينئذ أن يجعل هذا دليلا عقليا لأن كافة العقلاء على ذلك وليس أهل الشرائع فقط.

أو : ان مبنى كلام المحقّق في المكلّف ، وانّه لا يجب عليه دفع الضرر المحتمل؟ ان كان هذا مبنى كلامه ، فسيجيء البحث عن ان العقل هل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، أو لا يحكم بوجوبه إن شاء الله تعالى.

والى المبنى الاوّل اشار المصنّف بقوله : (إن كان الغرض) للمحقق (ممّا ذكر : من عدم التخطئة) لمن يبادر الى تناول المشتبهات هو : (بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم؟) أي : انّ الشارع يقبح عليه أن يعاقب الجاهل بالتحريم (فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه) أي : على الجاهل (من الشارع) أي :

انّ العبد لم يبلغه الحكم ولم يبلغه وجوب الاحتياط عند جهله بالحكم.

(لكنّه) أي : قبح مؤاخذة الجاهل (راجع إلى الدّليل العقلي الآتي ، ولا ينبغي

٦٥

الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ، بل بناء كافّة العقلاء وإن لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك.

وإن كان الغرض منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ، حتّى لو فرض عدم قبحها لفرض العقاب من اللوازم القهريّة لفعل الحرام ـ مثلا ـ

______________________________________________________

الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع) كما فعله المحقّق ، حيث استدل على ذلك بخصوص أهل الشرائع (بل بناء كافّة العقلاء) حتى (وإن لم يكونوا من أهل الشرائع : على قبح ذلك) أي : قبح العقاب بدون البيان والى المبنى الثاني اشار المصنّف بقوله : (وان كان الغرض منه) أي : غرض المحقّق من هذا الكلام (: انّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل) أي : بناء العقلاء على ان للعبد أن يرتكب ما لم يعلم حرمته (حتى لو فرض عدم قبحها) أي : قبح المؤاخذة فانّ كلا منا ليس في الشارع وانّه يؤاخذ أو لا يؤاخذ ، أو يقبح مؤاخذته أو لا يقبح مؤاخذته ، بل كلامنا في العبد من حيث انّه يجوز له ارتكاب ما هو محتمل الضرر أو لا يجوز له ذلك؟.

إن قلت : كيف يتصور ويفرض عدم قبح مؤاخذة الجاهل عقلا؟ بعبارة اخرى : كيف يمكن أن نقول : بأن مؤاخذة الجاهل جائزة؟.

قلت : (لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام ـ مثلا ـ) فإنّ بعضهم قالوا : بأنّ العقاب تابع لفعل الحرام ، فحال العقاب حال السكر من اللوازم القهرية لشرب الخمر ، فانّ شارب الخمر سواء شربها عمدا أو جهلا لا بد وأن يسكر ، وبعض قالوا : بأن الانسان إذا ارتكب الحرام يعاقب ، لأن العقاب ثمرة الحرام سواء كان فاعل الحرام قاصرا أو مقصرا.

٦٦

أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممّن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا لم يزل بناؤهم على ذلك ، فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

(أو فرض المولى) مولى اعتباطيا لا يعمل بموازين العقل (في التكاليف العرفيّة) بأن كان المولى (ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا) كما هو الغالب في قوانين عالم اليوم التي وضعها من يسمون أنفسهم بالعقلاء ، فانّ من يدخل البلد ـ مثلا ـ بدون إجازة الدولة ، يعاقبونه بالسجن أو الغرامة وإن لم يكن يعلم ذلك الداخل بقانون البلد ، إلى غير ذلك من قوانينهم الكثيرة التي تشمل العالم والجاهل والقاصر والمقصر ، وعليه : فلو فرض بناء العقلاء على جواز الارتكاب ، فانّه (لم يزل بناؤهم على ذلك) أي على تحويز الارتكاب وقوله : «لم يزل» ، جواب قوله : «لو فرض».

وكيف كان : فان كان غرض المحقّق : انّ العقلاء يجوّزون ارتكاب الجاهل ولو فرضنا انّه لا يقبح عقابه ومؤاخذته (فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل) وانّه هل لمن يريد الارتكاب ، جواز الارتكاب عقلا إذا احتمل الضرر أو عدم جواز الارتكاب؟ (وسيجيء الكلام فيه) أي : في وجوب أو عدم وجوب دفع الضرر المحتمل (إن شاء الله تعالى) في بحث الشك في المكلّف به.

ولعل الأوجه في هذا الباب هو : ان دفع الضرر المحتمل انّما لا يجب إن كان الضرر المحتمل قليلا ، أو كان من باب الأهم والمهم ، كما إذا احتمل الغني خسارة درهم ، أو احتمل راكب السفينة الغرق ، والّا فانّ العقل يحكم بوجوبه.

ثم ان المصنّف بعد أن ذكر الكتاب والسنّة والاجماع دليلا على البراءة في الشبهة التحريميّة ، شرع في الدّليل الرابع فقال :

٦٧

الرابع من الأدلّة :

حكم العقل بقبح العقاب على شيء

من دون بيان التكليف

ويشهد له حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه.

ودعوى : «أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقليّ ، فلا يقبح بعده المؤاخذة» ،

______________________________________________________

(والرّابع من الأدلة) على البراءة في الشبهة التحريميّة : (حكم العقل بقبح العقاب على شيء ، من دون بيان التكليف) فإنّ المولى إذا لم يبين التكليف وجوبيا أو تحريما ، يقبح عقلا عقوبة المرتكب ، فعدم البيّان هو موضوع البراءة العقليّة (ويشهد له) أي : يشهد لحكم العقل هو (: حكم العقلاء كافة : بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما) أي : فعل الحرام الذي ارتكبه العبد ، ممّا (يعترف) المولى (بعدم إعلامه أصلا) أي : بعدم إعلام المولى العبد (بتحريمه) أي : بتحريم ذلك الفعل ، فاذا اعترف المولى : انّه لم يبين لعبده الحكم اصلا ، أو بينه لكن لم يصل إلى العبد ، ولم يوجب عليه الاحتياط ، فانّ العقلاء يرون عقاب المولى لمثل هذا العبد في ارتكابه للمحرم الواقعي قبيحا.

إن قلت : انّه حيث يلزم دفع الضرر المحتمل ، وعقل العبد يقول به ، فليحتمل العبد الضرر في ارتكاب شيء كان هذا الأمر العقلي بيانا فلو ارتكبه الا يقبح عقاب المولى له كما قال المصنّف : (ودعوى : انّ حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل بيان عقليّ ، فلا يقبح بعده) ، أي : بعد هذا البيان العقليّ (المؤاخذة)

٦٨

مدفوعة : بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كليّة ظاهريّة وإن لم يكن

______________________________________________________

من المولى لعبده ، والحاصل ان دفع الضرر المحتمل بيان ، فاذا ارتكب العبد ما هو محتمل الضرر ، وعاقبه المولى عليه لم يكن من المولى عقاب بلا بيان ، بل كان العقاب مع البيان العقلي ، ولا فرق في البيان بين كونه شرعيا أو عقليّا.

قلت : هذه الدعوى (مدفوعة) وذلك لأنّ في المقام قاعدتين :

الاولى : «قبح العقاب بلا بيان».

الثانية : «دفع الضرر المحتمل واجب».

لكنّ القاعدة الاولى لا تدع مجالا للقاعدة الثانية ، لأن الضرر المحتمل يرتفع بسبب عدم البيان ، فلا يحتمل العبد الضرر ، إذ يقول العبد للمولى : إنّك لم تبيّن ، فلم أحتمل الضرر ، وعليه : فالدعوى مدفوعة (ب) سبب (انّ الحكم المذكور) أي : دفع الضرر المحتمل (على تقدير ثبوته) وحكم العقل بوجوبه (لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه) إذ اللازم على المولى : إما أن يبيّن انّ التتن حرام ، واما أن يوجب الاحتياط حتى يكون الاحتياط بيانا ، وحيث لم يبيّن حرمة التتن ، ولا وجوب الاحتياط ، فلا بيان من المولى ، وإذ لم يكن بيان ، فلا يخاف العبد الضرر المحتمل.

إذن : فليس وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا واقعيا للتكليف المجهول (وإنما هو) أي : وجوب دفع الضرر المحتمل (بيان لقاعدة كلية ظاهرية) إذ العقل قد يبيّن قاعدة واقعيّة مثل : حرمة ظلم الناس ، وقد يبيّن قاعدة ظاهرية مثل : وجوب دفع الضرر المحتمل ، ووجوب الاحتياط في أطراف الشبهة (وإن لم يكن

٦٩

في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده

______________________________________________________

في مورده) أي : في مورد هذا الحكم العقلي (تكليف في الواقع) أي : حكما واقعيا بالاجتناب عنه ـ مثلا ـ.

فانّ العقل يقول اجتنب عن الإناءين الذين أحدهما : سم ، ومعنى ذلك : اجتنب عن الاناء الأحمر وعن الاناء الأبيض ، فلو اجتنب عن الاناء الأحمر كان هذا حكما عقليّا ظاهريا ، لانّه قد لا يكون السم في مورد الاناء الأحمر ، وكذا إذا قال :

ادفع الضرر المحتمل ، حيث سمع بأنّ في السفر الكذائي ضررا ، فسافر ولم يكن في الواقع ذلك الضرر المذكور ، فانّه لا تكليف له في الواقع ، وانّما يصل إلى المقصد بسلام ، ولهذا كان مثل هذا الحكم العقلي حكما ظاهريا لا حكما واقعيا.

وعليه : (فلو تمت) قاعدة دفع الضرر المحتمل وقلنا : انّ العقل يحكم بهذه القاعدة الظاهرية (عوقب على مخالفتها) أي : على مخالفة هذه القاعدة الظاهرية ، لا على مخالفة الواقع ، لفرض انّه لم يكن في الاناء الذي شربه سم حتى يضره الواقع ، وكذا لم يكن في الطريق ضرر حتى يتضرر بمخالفة الواقع ، فدفع الضرر المحتمل تكليف ظاهري ، ويعاقب لو خالفه حتى (وان لم يكن تكليف في الواقع) في مورده باجتناب التتن ـ مثلا ـ.

(لا) انّه يعاقب (على التكليف المحتمل على فرض وجوده) أي : وجود ذلك التكليف المحتمل يعني : انه لو كان التتن في الواقع حراما ، لم يكن العقاب على شرب التتن لانّه لم يصله حرمة التتن وانّما يكون العقاب على انّه لما ذا خالف وجوب دفع الضرر المحتمل؟.

٧٠

فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة ، بل قاعدة القبح واردة عليها ، لأنّها فرع احتمال الضرر ، أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها ،

______________________________________________________

وعلى هذا : (فلا تصلح القاعدة) أي : قاعدة دفع الضرر المحتمل (لورودها على قاعدة القبح المذكورة) أي : قاعدة قبح العقاب بلا بيان (بل قاعدة القبح واردة عليها) أي : على دفع الضرر المحتمل ، فانّه لما قبح العقاب بلا بيان ، والمولى لم يبين حرمة التتن لا بالصراحة ولا بإيجاب الاحتياط ، فلا احتمال للضرر حتى يجب دفع الضرر المحتمل ، وذلك (لأنها) أي : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل (فرع احتمال الضّرر) الاخروي (أعني : العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان) على ما عرفت.

إذن : (فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو : ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف) أو بيانه وجوب الاحتياط ، أما لو شك في التكليف بعد الفحص وعدم الظفر بالحكم الشرعي ، وكذا عدم الظفر بوجوب الاحتياط ، فلا عقاب فيه قطعا.

وإنّما يكون العقاب محتملا فيما إذا بيّن الشارع التكليف فخالفه ، أو بين الشارع التكليف (فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة) سواء كان الاشتباه في الامور الخارجية ، كالإناءين المشتبهين ممّا يسمّى بالشبهة الموضوعيّة ، أو كان الاشتباه بين حكمين إلزاميين ممّا يسمّى بالشبهة الحكميّة كالاشتباه بين وجوب الظهر أو الجمعة (وما يشبهها) أي : ما يشبه الشبهة المحصورة ، كالشبهة التي أمر الشارع بالاجتناب عنها ، كما في الدماء ، والفروج ،

٧١

هذا كلّه إن أريد بالضرر العقاب.

وإن اريد بها مضرّة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ترتّبها على العلم ، فهو وإن كان محتملا ، لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلّا أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين.

______________________________________________________

والأموال ، على ما ذكروا من وجوب الاحتياط فيها.

(هذا كله) أي : كون قاعدة القبح واردا على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل (إن أريد بالضرر : العقاب) الاخروي ، وقد تبيّن : انّه لا عقاب في الآخرة ، لانّه لا بيان.

(و) أما (إن أريد بها) أي : بقاعدة دفع الضرر المحتمل (مضرة أخرى غير العقاب) كالأضرار الدنيوية ، مثل : ضرر شرب الخمر على صحته وسلامته أو المضرات الاخروية غير العقاب مثل : كون جمود العين سببا لقسوة القلب ، وقسوة القلب مانعة عن الارتقاءات المعنوية ، فلا ترتفع به.

إذن : فالمضرات الأخر ، كالآثار الوضعية (التي لا يتوقف ترتبها على العلم) بالحرمة ، لوضوح : ان السكر يعرض الانسان إذا شرب الخمر ، سواء علم بأنّها خمر أم لا ، وكذلك إذا جمدت عينه بقسوة قلبه وقساوة القلب مانعة عن الارتفاعات المعنويّة (فهو وإن كان محتملا ، لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلّا انّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين).

والحاصل : ان قولكم : شرب التتن فيه ضرر محتمل ، ودفع الضرر المحتمل

٧٢

______________________________________________________

واجب بحكم العقل ، إن أردتم بالضرر المحتمل : العقاب ، فقد تبيّن انّه لا عقاب عليه ، وإن أردتم بالضرر المحتمل : المضرات الدنيوية ، ككون شرب التتن موجبا لبعض الأمراض ، فهذه شبهة موضوعية لأنا لا نعلم هل ان في التتن ضررا بالغا أو لا ، والشبهة الموضوعية لا يجب الاحتياط فيها عند كل من الاصوليين والأخباريين.

وعليه : فلا يتمكن الأخباري أن يقول : ان احتمال الضرر الدنيوي ـ مثلا ـ في التتن ، يوجب الاحتياط فيه بعدم شربه.

وانّما قلنا ضررا بالغا ، لأنّ الضرر غير البالغ لا يجب دفعه ، ولذا قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا فاطمة عليها‌السلام في العبادة حتى تورمت قدماهما ، وسافر الحسن عليه‌السلام إلى الحج راجلا حتى قرحت رجله ، واشتغل السّجاد والكاظم عليهما‌السلام بالعبادة حتى صارا كالشن البالي ، إلى غير ذلك.

وكذا يجوز للانسان بلا إشكال أن يمشي في الشمس ـ مثلا ـ وإن سبّب ذلك صداعه ، وهذا مبحث فصلناه في قاعدة لا ضرر.

هذا ، وقد أفتى جماعة من الفقهاء : بأن الضرر في الصوم الواجب ـ مثلا ـ اذا كان بالغا حرم الصوم ، وإن كان الضرر قليلا وجب الصوم ، وإن كان الضرر معتدا به غير بالغ ، تخيّر بين الصيام وعدم الصيام ، مثلا : إنّه اذا صام اصيب بصداع خفيف مقدار ساعة ، فانّه يجب عليه الصوم. وقد يصاب ـ بصداع شديد أسبوعا فانّه يحرم عليه الصوم ، وقد يصاب يوما بصداع غير خفيف فانّه يجوز له أن يصوم ويجوز له ان يفطر ويقضي.

وكذلك قالوا بالنسبة إلى الوضوء ، والغسل ، والقيام في الصلاة ، وغير ذلك

٧٣

فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود. فلا بدّ على كلا القولين إمّا من منع وجوب الدفع وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر ،

______________________________________________________

من الأحكام الشرعية ، والسر في ذلك : ان «لا ضرر» يرفع الضرر الكثير ، أما الضرر المتوسط فيتعارض مع دليل ذلك الحكم ، وأما الضرر الخفيف فيتقدّم دليل ذلك الحكم على دليل لا ضرر ، على بحث ذكروه في «الفقه».

وعلى أي حال : (فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة) غير العقاب الاخروي (لكان هذا) الوجوب (مشترك الورود) علينا نحن الاصوليين ، وعلى الأخباريين أيضا ، لأن الاصوليين لا يوجبون دفع الضرر المحتمل في الشبهة الحكمية ولا في الشبهة الموضوعية وجوبية كانت أو تحريميّة ، والأخباريين لا يوجبون دفع الضرر المحتمل في الشبهة الموضوعيّة مطلقا وفي الشبهة الحكمية الوجوبية منها فقط دون التحريميّة ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو وجوب الصلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذكر اسمه.

(فلا بدّ على كلا القولين :) قول الاصوليين وقول الاخباريين من معالجة الأمر بأحد أمرين : (إما من منع وجوب الدفع) للضرر المحتمل غير العقاب الاخروي (وأمّا من دعوى ترخيص الشارع واذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر) أي : ان المشكوك كونه مصداقا للضرر يجب دفعه عقلا ، إلّا انّ الشارع أذن في ارتكابه ، ومعنى الاذن في ارتكابه : انه لو كان في الواقع ضرر تداركه الشارع بمصلحة على قدره.

مثلا : إذا احتمل العبد انّ في سفره ضررا بمقدار عشرة دنانير يأخذه العشّار منه ، منعه العقل عن السفر ، فاذا أجاز المولى له السفر ، كان معنى ذلك : ان المولى

٧٤

وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إنشاء الله تعالى.

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس‌سره ، في الغنية : «أنّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق» ، وتبعه بعض من تأخّر عنه فاستدلّ به في مسألة البراءة ، والظاهر أنّ المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ،

______________________________________________________

اما يعلم انّ العشار لا يأخذ منه الدنانير فلا يتضرر العبد واما يعلم انّ العشار يأخذ منه الدنانير ، لكنّه يتداركه بالتعويض عنها ، هذا (وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إنشاء الله) تعالى.

(ثم انّه ذكر السيد أبو المكارم) وهو : ابن زهرة (قدس‌سره في الغنية) دليلا عقليا آخر على البراءة غير ما تقدّم من قبح العقاب بلا بيان ، وهو : (انّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق) ومن الواضح : انّ التكليف بما لا يطاق محال ، فاللازم الحكم بالبراءة في الشبهة الحكمية التحريميّة ، بل في كلّ الشبهات الأربع : من الموضوعية ، والحكمية ، والتحريميّة ، والوجوبيّة.

(وتبعه بعض من تأخر عنه) كالمحقق وغيره (فاستدل به في مسألة البراءة) وقال ـ مثلا ـ : إنّ تكليف الجاهل بالاجتناب عن التتن في الشبهة الحكمية أو بالاجتناب عن اللحم المشكوك كونه مذكى أو ميتة في الشبهة الموضوعيّة ، تكليف بما لا يطاق والتكليف بما لا يطاق ممتنع من الشارع فيكون حكمه البراءة.

ولكن حيث ان التكليف بالاجتناب ممّا يطاق ، لا مما لا يطاق ، فسره المصنّف بقوله : (والظاهر : انّ المراد به : ما لا يطاق الامتثال به واتيانه بقصد الطّاعة) لا ما لا يطاق الاتيان به ، كالطيران إلى السماء بلا وسيلة ، أو جمع النقيضين ، فمعنى كلامهم هو : ان الجاهل لا يقدر على ترك التتن بقصد الاطاعة حتى يحصل

٧٥

كما صرّح به جماعة من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم ، وإلّا فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف.

و

______________________________________________________

على الامتثال ، وذلك لأنّ قصد الطاعة لا يمكن في حق من لم يصل إليه إنّ المولى اراد منه ترك التتن.

(كما صرّح به) أي : بأنّ المراد بما لا يطاق هو : الامتثال بقصد الطاعة (جماعة من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم) فقد قالوا : ان تنجيز التكليف مشروط بالعلم ، إذ لو لا العلم لما أمكن الامتثال وقصد الطاعة.

(وإلّا) بان لم يكن مراد هؤلاء ذلك الذي ذكرناه من المعنى : (ف) واضح : ان (نفس الفعل) أي : مجرد إتيان الواجب وترك الحرام المحتملين ، كالدعاء عند رؤية الهلال المحتمل الوجوب ، وترك التتن المحتمل الحرمة (لا يصير مما لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف) بهما.

(و) لا يقال : كيف حملتم كلام ابن زهرة على قولكم : الاتيان بقصد الطاعة ـ كما تقدّم ـ والحال انّ كلامه محتمل لأربعة أمور :

الأوّل : انّه يريد : ما ذكرتم من المعنى.

الثاني : انّه يريد : ان مطلق صدور الفعل عن الجاهل بالتكليف محال ولو بدون قصد الطاعة.

الثالث : انّه يريد : إنّ الاتيان بالتكليف برجاء كونه مطلوبا محال.

الرابع : انّه يريد : إنّ صدور الفعل من الجاهل أحيانا صدفة لا لداعي التكليف محال.

وحيث انّ كلامه محتمل لهذه الامور الأربعة ، فما الداعي لحمل كلامه

٧٦

احتمال : «كون الغرض من التكليف مطلق

______________________________________________________

على الأمر الأوّل الذي بينتموه؟.

لأنّه يقال : الاحتمالات الثلاثة الأخر ، لا يمكن أن تكون مرادا لابن زهرة ، إذ يرد على الثاني والثالث منها : ان المولى إن أمر بالاحتياط في صورة شك العبد بالتكليف ، كفى في تحريك العبد إلى الطاعة ، وإن لم يأمره بالاحتياط ، فالتكليف المشكوك لا ينفع في التحريك لا تحريكا قطعيا كما في الثاني ، ولا تحريكا رجائيا كما في الثالث.

قال الآخوند رحمه‌الله : وذلك حيث انّه لا يعقل أن يكون التكليف المجهول باعثا وداعيا إلى المأمور به ، وزاجرا ومانعا عن المنهي عنه ، ومجرد الفعل أو الترك بدون أن يكون الأمر أو النهي داعيا أو زاجرا لا يكاد أن يكون امتثالا ، مع إنّ الغرض من التكليف مطلقا ولو توصليا هو الامتثال بحيث لو لم يكن للمكلّف من قبل نفسه بعث أو زجر صار هو باعثه أو زاجره ، ولا ينافي ذلك سقوط التكليف في التوصليات بمجرّد الفعل أو الترك كما لا يخفى ، انتهى.

ويرد على الرابع : ان التكليف بقصد اتيان العبد أحيانا صدفة عبث ، لأن العبد قد يترك التتن بنفسه أحيانا وصدفة فلا داعي لمثل هذا التكليف.

هذا ، وقد أشار المصنّف إلى الثاني بقوله : «واحتمال كون الغرض ...» ، وإلى الثالث بقوله : «أو يكون الغرض ...» ، وإلى الرابع بقوله : «وصدور الفعل ...».

ثم أجاب عن الثاني والثالث بقوله : «مدفوع ...».

وعن الرابع بقوله : «لا يمكن أن يكون ...».

وعلى أيّ حال : فان (احتمال كون الغرض من التكليف) في كلام ابن زهرة : حيث قال : ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق هو : (مطلق

٧٧

صدور الفعل ولو مع عدم قصد الاطاعة ، أو يكون الغرض من التكليف مع الشكّ فيه إتيان الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الاتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوبا للآمر.

وهذا ، ممكن من الشاكّ وإن لم يمكن من الغافل» ، مدفوع ؛ بأنّه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة ،

______________________________________________________

صدور الفعل ولو مع عدم قصد الاطاعة) كما في التوصليات.

(أو : يكون الغرض من التكليف مع الشك فيه) أي : مع ان العبد شاك في ان المولى كلّفه أو لم يكلفه هو : (اتيان الفعل) في محتمل الوجوب ، أو الترك في محتمل التحريم (بداعي حصول الانقياد بقصد الاتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوبا للآمر) وذلك رجاء بأن يكون مقصود الشارع هو تحريم التتن ، وايجاب الدعاء عند رؤية الهلال.

مثلا : ان الشاك في هذا الحرام ذاك في ذلك الواجب ، يلتزم بترك الأوّل ، وفعل الثاني من باب الرجاء والاحتياط (وهذا) أيّ : الرجاء والاحتياط (ممكن من الشاك وان لم يمكن من الغافل) ومن الجاهل جهلا مركبا.

وعليه : فهذان الوجهان : الثاني والثالث من احتمالات كلام الغنية (مدفوع : بانّه ان قام دليل) من الخارج (على وجوب اتيان الشّاك في التكليف) بأن يقول الدليل الخارجي للشاك في التكليف : «احتط لدينك» (١) أي : يجب عليك الاتيان (بالفعل لاحتمال المطلوبية) رجاء ، ويجب عليك ترك الفعل لاحتمال

__________________

(١) ـ الامالي للطوسي ص ١١٠ ح ١٦٨ ، الامالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

٧٨

أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل وإلّا لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور.

والحاصل : أنّ التكليف المجهول لا يصلح ، لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف ، لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.

______________________________________________________

المبغوضية احتياطا (أعني ذلك من التكليف بنفس الفعل) فان دليل الاحتياط يكفي في تكليف الشاك بترك التتن ـ مثلا ـ أو بفعل الدّعاء عند رؤية الهلال ، فلا حاجة إلى توجّه نفس التكليف الواقعيّ لكلّ من ترك التتن وفعل الدعاء إلى الشاك.

(والّا) بان لم يقم دليل من الخارج يقول بوجوب الاحتياط ، فانه (لم ينفع التكليف المشكوك) بنفسه (في تحصيل الغرض المذكور) : من حمل العبد وتحريكه نحو التكليف الواقعيّ المجهول ، فان التكليف الواقعيّ المجهول ما دام كونه مجهولا ومشكوكا ما لم يقم عليه دليل خارجي بالاحتياط لا يكون بنفسه محركا للفعل رجاء والترك احتياطا ، كما عرفت ذلك في كلام الآخوند.

(والحاصل) من هذه الصور الثلاث التي اخترنا منها الصورة الأولى ، ورددنا الصورتين الباقيتين (: انّ التكليف المجهول لا يصلح ، لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا) أي : لا يعقل كون التكليف المجهول محركا للعبد نحو الفعل والترك لا تعبدا ولا توصلا ولا احتياطا ولا رجاء.

ثمّ المصنّف أشار إلى الاحتمال الرابع لكلام الغنية وبعدها تعرّض لجوابه بقوله : (وصدور الفعل من الفاعل احيانا) وصدفه (لا لداعي التكليف ، لا يمكن ان يكون غرضا للتكليف).

٧٩

واعلم : أنّ هذا الدليل العقليّ ، كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقليّة ، معلّق على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط فلا يثبت به إلّا الأصل في مسألة البراءة ولا يعدّ من أدلّتها بحيث تعارض أخبار الاحتياط.

______________________________________________________

فلو قيل : ان الغرض من تكليف الجاهل : صدور الدعاء ، أو ترك التتن على نحو القضية الاتفاقية ، أي : اتفاقا وصدفة يصدر منه الفعل والترك وذلك من دون توجه الشاك إلى التكليف ، ومن دون أن يكون التكليف المجهول محركا ، كما في سائر المباحات ، حيث ان الانسان قد يرتكبه وقد لا يرتكبه صدفة.

قلنا : جعل هذا الأمر الأحياني والاتفاقي غرضا للتكليف عبث ، لوضوح : ان الدعاء قد يحصل أحيانا صدفة والتتن قد يترك أحيانا صدفة ، سواء كان في الواقع تكليف أم لم يكن؟.

وعليه : فلا يمكن أن يكون مراد ابن زهرة ومن تبعه من كلامه : بان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ، الّا ما ذكرناه : من الاحتمال الأوّل وهو : ان مراده : الامتثال به واتيانه بقصد الطاعة.

(واعلم : انّ هذا الدليل العقلي) الذي ذكره ابن زهرة (كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقلية) من الكتاب والسنّة والاجماع (معلّق على عدم تمامية أدلّة الاحتياط) ومع تماميتها لا يبقى مجال لهذا الدليل ، اذ موضوع هذا الدليل هو : التكليف بما لا طريق إلى العلم به ، والحال ان دليل الاحتياط يكون سببا للعلم.

وعليه : (فلا يثبت به) أيّ بهذا الدليل العقليّ الذي أقامه ابن زهرة (الّا الأصل في مسألة البراءة) أيّ : ان هذا الدليل العقليّ يدل على البراءة فيما اذا لم يكن هناك دليل على خلاف البراءة (ولا يعدّ من أدلتها) أيّ : من ادلة البراءة ، كما للاحتياط ادلة (بحيث تعارض أخبار الاحتياط).

٨٠