الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ويمكن عدمه ، لأنّ الحلّيّة في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ، ولقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله».

______________________________________________________

وعليه : فالتصرّفات الّتي دلّ الدليل على توقفها على الملك ، كالبيع ، والعتق ، والوطء ، وما أشبه ، لا تكون جائزة لاصالة عدم تحقق الملك الّا بالحيازة فيما يصح حيازته وهذا الأصل السببي حاكم على اصالة الحل لما عرفت : من انّه يمنع موضوع اصالة الحل الذي هو المشتبه ، لأنّ جريان الاستصحاب يخرجه عن موضوع المشتبه.

وأما التصرفات التي لا تتوقف على الملك ، كالأكل والجلوس وما أشبه فهي جائزة لأنّ أصالة عدم كونه ملكا له لا يضرّ في مثل هذه التصرّفات ، لعدم التلازم بين الملكية ، وأي تصرّف من التصرّفات.

هذا (ويمكن عدمه) أي : عدم جواز هذه التصرفات ، أيضا ، كما لا يجوز الوطي ونحوه ، وذلك لما يلي :

أوّلا : (لأن الحلّية في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء) فانّه باستقراء الأحكام الشرعية علمنا : انّ الحلية في التصرف في الأملاك لا بدّ لها من سبب ، والأسباب هي عبارة عن البيع ، والرّهن ، والاجارة ، والهبة ، والمزارعة ، والمضاربة ، والمساقات وما أشبه ذلك ، لا نعلم هنا بوجود شيء من هذه الاسباب.

ثانيا (ولقوله عليه‌السلام : لا يحلّ مال الّا من حيث أحلّه الله) (١) أي : من سبب أحلّ الله ذلك المال بذلك السبب.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٤٨ ح ٢٥ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٢٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٦ ب ١٢ ح ٣٣٤٧١ وفيه «وبه» بدل «حيث» ، المقنعة : ص ٢٨٣ (بالمعنى).

٣٤١

ومبنى الوجهين أنّ اباحة التصرّف هي المحتاجة إلى السبب

______________________________________________________

فكما انّ الملكية تتوقف على أحد الأسباب المعهودة : من الحيازة ، أو الارث ، أو الانتقال الى الشخص بعقد أو إيقاع أو ما أشبه ذلك ، كذلك حليّة التصرفات تتوقف بمقتضى الاستقراء على أحد الأسباب المعهودة المحلّلة : من حق التحجير ـ وان احتملنا نحن في الفقه : انّ تحجير الأرض الموات يوجب الملكية ، لا جواز التصرف فحسب كما هو المشهور (١) ، وحقّ المارّة ، والنثار في الأعراس ، والضيافة ، وإعراض المالك ، أو إعراض من بيده الإعراض ، كالمتولّي الذي يحق له الاعراض في مثل الحصير البالي ، والثوب الخلق ، وما أشبه ذلك.

وعليه : فلا يحلّ التصرف بدون هذه الأسباب ، وحيث لم نعلم بأحد هذه الأسباب لم يجز التصرف ، كما اذا لم نعلم بأحد أسباب الملك لم يجز التصرفات المتوقفة على الملك من البيع وما أشبه.

لكن ربّما يقال : انّ قوله عليه‌السلام «لا يحل مال الّا من حيث أحلّه الله» لا يدل على المنع ، لأنّه متعرض للحكم ، والدليل على الحكم لا يكون دليلا على الموضوع وجودا ولا عدما ، فاذا قال : «أكرم العالم» لا يكون أكرم معيّنا لكون زيد عالما أو ليس بعالم ، فالاستدلال بأكرم العالم على انّ زيدا عالم ، أو على ان زيدا ليس بعالم لا وجه له.

(ومبنى الوجهين) أي : وجه الحليّة حيث قلنا «يمكن القول به» ، وعدم الحليّة حيث قلنا : «ويمكن عدمه» ، التحقيق في الأصل الذي هو كبرى كلية لهذه الصغرى الجزئية فهل (ان اباحة التصرّف هي المحتاجة الى السّبب) المحلّل :

__________________

(١) ـ انظر موسوعة الفقه ج ٨٠ كتاب احياء الموات للشارح.

٣٤٢

فيحرم مع عدمه ولو بالأصل وأنّ حرمة التصرّف محمولة في الأدلّة على ملك الغير ، فمع عدم تملّك الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة.

ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة اللحم المردّد بين المذكّى والميتة ، فانّ أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة

______________________________________________________

من مختلف الأسباب كالملكية ، أو الاذن من المالك ، والاذن من الشارع كحق المارّة ، وبيوت من تضمنته الآية ، وما أشبه ذلك (فيحرم مع عدمه) أي : عدم ذلك السبب؟ (ولو) كان ذلك العدم (ب) سبب (الأصل) فاللازم في جواز التصرف أحد الأسباب المحللة.

(وانّ حرمة التّصرّف محمولة في الأدلة على ملك الغير) أو نحوه كالتصرف في الوقف وما أشبه (فمع عدم تملّك الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة) فيجوز التصرّف في هذا الشيء المردّد بين كونه مال نفسه أو مال غيره.

والحاصل : انّه هل الأصل حرمة التصرف الّا ما خرج ، أو اباحة التصرف الّا ما خرج؟ والمسألة الفرعيّة الجزئية التي ذكرناها : من أنّه لا يعلم هل هو ملكه أو ملك الغير من صغريات هذه الكبرى الكلّية.

أما اذا تردّد في ملك الغير انّه مباح له أم لا : اباحة مالكية؟ كما اذا لم يعلم هل أنّه من نثار العرس أم لا؟ أو اباحة شرعيّة كما اذا لم يعلم هل انّه من موضوع حق المارّة وبيوت من تضمنته الآية أم لا؟ فالأصل عدم جواز التصرّف لاستصحاب عدم اباحة المالك أو الشارع هذا الشيء له ، ذكر هذا الفقهاء في بابه وألمع اليها العروة في المجلد الثاني ، والمقصود من ذكره هنا : الاشارة الى الأصل في المسألة لا الخصوصيّات الفقهية.

(ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة) لوجود الأصل الحاكم عليها (اللّحم المردّد بين المذكى والميتة ، فان أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة

٣٤٣

حاكمة على اصالتي الاباحة والطهارة.

وربما يتخيّل خلاف ذلك ، تارة لعدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ، واخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت

______________________________________________________

حاكمة على اصالتي الاباحة والطهارة) وانّما نقول انّ أصالة عدم التذكية مقتضية للحرمة والنجاسة ، لأنه علم من الشرع التّلازم بينهما ، خلافا لما تقدّم عن الشهيد والمحقّق حيث جعلوا التفكيك بينهما ، فقالوا بحرمة اللّحم وبطهارته.

(وربّما يتخيّل خلاف ذلك) أي : عدم حكومة أصالة عدم التذكية على أصل الاباحة وأصل الطهارة وذلك (تارة لعدم حجيّة استصحاب عدم التذكية) كما نقل عن المدارك ، فاذا لم يجر اصالة عدم التذكية كان المقام من الشبهة في الطهارة أو الاباحة ؛ فيجري فيه قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر» (١) وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام» (٢).

(وأخرى لمعارضة أصالة عدم التّذكية باصالة عدم الموت) حتف الأنف ، وهذه عبارة مروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعلّه لأنّ المذكى تخرج روحه من أوداجه ، وغير المذكى تخرج روحه من أنفه ، وهذا من باب الغالب ، والّا فالحيوان الذي ذبح بدون الشرائط الشرعيّة أو جرح جرحا قاتلا يكون أيضا ميتة ، كما ان الميتة لا يلزم خروج روحها عن أنفها ، اذ من الممكن سد أنفها والضغط عليها حتى تموت ، كما كان يفعله خلفاء الجور بأعدائهم ممّا هو مذكور

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٨٥ ب ١٢ ح ١١٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١ ص ١٩٠ ب ٤ ح ٣١٨.

(٢) ـ وقريب من هذا الحديث في الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ وح ٣٩ والمحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

٣٤٤

والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة.

والأوّل : مبنيّ على عدم حجّيّة الاستصحاب ولو في الامور العدميّة.

______________________________________________________

في التواريخ.

وعلى أي حال : فالموت حتف الأنف كناية عن الموت الطبيعي أي : بدون ذبح أو جرح أو قتل أو ما أشبه ذلك (والحرمة والنجاسة من أحكام الميّتة) فاذا تردّد الأمر بين أن يكون ميتة أو مذكى ، لا نتمكن أن نرتّب عليه أحكام الميتة من الحرمة والنجاسة كما لا نتمكن أن نرتّب عليه أحكام المذكى من الحليّة والطهارة ، فيتساقط الأصلان الموضوعيّان ، ونرجع الى الاصل الحكمي وهو : أصالة الحل المستفادة من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١) وقوله : «كلّ شيء مطلق» (٢) وما أشبه ذلك ممّا تقدّم في أدلة البراءة.

(والأوّل) : أي : عدم حجيّة استصحاب عدم التذكية (مبنيّ على عدم حجيّة الاستصحاب ولو في الامور العدميّة) فانّ جماعة قالوا بعدم حجيّة الاستصحاب مطلقا ، لا في الامور الوجودية ، ولا في الامور العدمية ، وجماعة قالوا بعدم حجيّة الاستصحاب في الامور الوجودية فقط ، أما في الامور العدميّة فيجري فيها الاستصحاب.

مثلا : اذا لم يكن زيدا بالغا وشككنا في بلوغه ، فالأصل عدم البلوغ ، هذا في

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٤ ح ٤٢٠٨ ، تهذيب الأحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٨ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٥ ح ١٦ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٤ (بالمعنى).

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

٣٤٥

والثاني مدفوع ، أوّلا : بأنّه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ، ولا يتوقف على ثبوت الموت حتّى ينفى

______________________________________________________

الأمر العدمي ، واذا كان زيد حيا وشككنا في بقائه حيا فالأصل بقائه حيا ، وهذا في الأمر الوجودي ، ويترتب على كلّ من الأصلين امور شرعية ، فانّه اذا لم يكن بالغا لا تجب عليه الصلاة والصّيام ونحوهما ، واذا كان حيّا يترتب عليه وجوب الاتفاق على زوجته ، وعدم جواز تقسيم أمواله ، أو تزويج نسائه ، كما لا يجوز له أن يتزوج فيما اذا شك في موت زوجته باختها أو الخامسة ، أو ما أشبه ذلك.

وكيف كان : فالأول : مبني على عدم حجيّة الاستصحاب وهو غير تامّ ، لأنّ الاستصحاب ـ كما يأتي ـ حجّة في الامور الوجودية والعدمية ، بل جريان الاستصحاب في الامور العدمية مجمع عليه كما نسب الى بعضهم وانّما الخلاف في الاستصحاب في الأمر الوجودي.

(والثاني) : أي : تعارض الاستصحابين الذي ذكره بقوله : «واخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية باصالة عدم الموت» (مدفوع) لما يلي :

(أوّلا : بأنه يكفي في الحكم بالحرمة) والنجاسة (عدم التذكية ولو بالأصل) فان المستشكل ذكر : «ان حكم الحرمة والنجاسة يتوقف على الموت حتف الأنف» أي : على أمر وجودي ، وحيث نشك في هذا الأمر الوجودي لا نتمكن من استصحابه ، لأنا لا نعلم انه مات حتف أنفه.

وفيه : ان حكم الحرمة والنجاسة لا يتوقف على الموت حتف الأنف بل يتوقف على عدم التذكية ، وعدم التذكية محرز بالأصل ، فاذا شككنا في التذكية نقول : الأصل عدم التذكية واذا أجرينا اصالة عدم التذكية ، ترتب على هذا الأصل الحرمة والنجاسة (ولا يتوقف على ثبوت الموت) حتف الأنف (حتى ينفى)

٣٤٦

بانتفائه ولو بحكم الأصل ، والدليل عليه استثناء (ما ذَكَّيْتُمْ) من قوله (وَما أَكَلَ السَّبُعُ ،) فلم يبح الشارع إلّا ما ذكّي ،

______________________________________________________

الحكم بالحرمة والنجاسة (بانتفائه) أي : بانتفاء الموت (ولو بحكم الاصل) «لو» : وصلية مرتبطة بقوله : «بانتفائه».

والحاصل : ان الحلّ والطّهارة ، والحرمة والنجاسة مترتبان على أمرين : أحدهما : وجودي وهو : المذكى المترتّب عليه الحل والطهارة والآخر عدمي وهو : غير المذكى المترتب عليه الحرمة والنجاسة.

ومن الواضح : ان غير المذكى من قبيل الاعدام فيستصحب ، وليس المذكى والميتة من قبيل الضدّين حتى يلزم فيهما التعارض الأصلين وتساقطهما ، فهما من قبيل الأبيض وغير الأبيض ، لا من قبيل الأبيض والأسود.

(والدليل عليه) أي : على أن التذكية وجودي ، والموت حتف الأنف عدمي (استثناء (ما ذَكَّيْتُمْ)) في القرآن الحكيم ، (من قوله) تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) (١) فلم يبح الشارع الّا ما ذكّي) لوضوح : ان الوجود لا يستثنى الّا من العدم ، كما ان العدم لا يستثنى الّا من الوجود ، فيقال : لم يأتني أحد الّا زيد ، كما يقال : جاءني القوم الّا زيدا ، ولا يستثنى من الوجود وجود ، فلا يقال : جاءني عمرو الّا زيدا ، ومعنى الآية المباركة : يحرم كل حيوان زهق روحه ، الّا ما ذكّيتم فتدل الآية على أن المذكى وجودي وما قبله وهو المستثنى منه عدمي ، فاذا شكّ في التذكية كان الأصل عدمها.

والحاصل : انّ الميتة هو غير المذكى ، لا أن الميتة عنوان ، والمذكى عنوان

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٣.

٣٤٧

وإناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه وغيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية ، فاذا انتفى بعضها ولو بحكم الأصل انتفت الاباحة.

______________________________________________________

آخر ، حتى يكونا أمرين وجوديين متقابلين كالأبيض والأسود على ما عرفت.

لا يقال : يظهر من بعض الآيات والروايات : ان الموت وجودي أيضا كقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١) وكقوله عليه‌السلام على ما جاء في بعض الروايات من ان الموت يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش فيذبح ما بين النّار والجنّة ، ثم يقال لأهل النار : خلود ولا موت ، ويقال لأهل الجنة خلود ولا موت.

فانّه يقال : كون الموت وجوديّا على فرض تسليمه بأن لم تكن الآية والرّواية كناية ، لا ينافي ترتب الأحكام الشرعية من النجاسة والحرمة على الأمر العدمي وهو : عدم التذكية ، وكلامنا الآن في الأحكام الشرعية لا في حقيقة الموت والحياة.

هذا (واناطة اباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه ، وغيره من الامور الوجودية المعتبرة في التذكية) في قوله سبحانه : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أهريق دم وذكر اسم الله عليه ، فكلوا منه ما خلا السّنّ والظّفر» (٣) الى غير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين (فاذا انتفى بعضها ولو بحكم الاصل انتفت الاباحة) إذ تعليق الاباحة بهذه الشروط ظاهر في حرمة ما ليس كذلك ، ولا يهم أن تسمّى ميتة أو لا تسمى به ، وقول المصنّف :

__________________

(١) ـ سورة الملك : الآية ٢.

(٢) ـ سورة الانعام : الآية ١١٩.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٥٧ (بالمعنى).

٣٤٨

وثانيا : أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ، إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ، بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا.

وتمام الكلام في الفقه.

______________________________________________________

«واناطة» عطف على قوله : «استثناء (ما ذَكَّيْتُمْ)».

(وثانيا) : اذا سلّمنا انّ موضوع الحلّ والطهارة : المذكى ، وموضوع الحرمة والنجاسة : الميتة ، لم ينفع القائل بتعارض الاستصحابين ، اذ (انّ الميتة عبارة عن غير المذكّى) لا أنّه أمر وجودي كما أراده القائل حيث قال : الميتة أمر عدمي والمذكى أمر وجودي فاذا لم نعلم بانّ الحيوان مات بهذه الكيفية أو بهذه الكيفية ، تعارض الاستصحابان وتساقطا ، فلا يمكن اثبات الحرمة والنجاسة كما لا يمكن اثبات الطهارة والحلّية.

(اذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه) موتا طبيعيا أو بالسمّ وما أشبه (بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا) فالميتة أمر عدمي لا أمر وجودي فيصحّ استصحاب عدم التذكية ، ولا يعارضه استصحاب عدم الموت ، فكلّما حصلت الشرائط حلّت وطهرت ، وكلّما حصلت الشرائط ، وكلّما لم تحصل الشرائط ولو بفقد شرط واحد حرمت ونجست ، سواء مات حتف الأنف أو مات بالذبح بدون بعض الشروط.

وعليه : فقد تحقق مما ذكرناه في الميتة والمذكى : انه كل ما لم يعلم ان الحيوان من أيّهما كان الأصل عدم التذكية ، فيترتب على هذا الاصل النّجاسة والحرمة.

نعم ، يشترط أن لا يكون من يد مسلم ، أو في أرضه أو في سوق المسلمين ، أو ما أشبه ذلك ، مما قرّره الشارع من الأمارات (وتمام الكلام في الفقه).

٣٤٩

الثاني :

إنّ الشيخ الحرّ ، أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الاخباريين ، وحاصله أنّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه ،

______________________________________________________

التنبيه (الثاني) : لا يخفى ان الاصوليين قسّموا الشّبهة الى قسمين :

الأول : الشبهة الحكميّة ، وهو الاشتباه في الحكم الكليّ الناشئ من فقدان النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، سواء كانت الشبهة بلا واسطة ، كالشكّ في وجوب صلاة الجمعة أو حرمة العصير الزبيبي ، أو مع الواسطة ، كالشكّ في حرمة التتن للشّكّ في دخوله في الخبائث ، وكالشّكّ في وجوب الصوم المنذور في السفر للشك في دخوله في (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (١) لكن الحرّ رحمه‌الله جعل الشبهة بالواسطة قسما ثالثا ، ولم يجعله من الشبهة الحكمية ، بينما هو أيضا من الشبهة الحكمية ، كما هو واضح.

القسم الثاني : الشبهة الموضوعيّة التي منشؤها اشتباه الامور الخارجيّة ، وتحتاج في رفعها الى استطراق باب العرف.

ثمّ إنّ في كلام الحرّ مواضع للتأمّل ذكر المصنّف جملة منها بعد أن ذكر كلام الحرّ بقوله : (ان الشيخ الحرّ أورد في بعض كلماته اعتراضا على) أصحابه (معاشر الأخباريين ، وحاصله : انّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه؟).

والمراد بالشبهة في نفس الحكم : الشبهة الحكمية ، وبالشبهة في طريق

__________________

(١) ـ سورة الانسان : الآية ٧.

٣٥٠

حيث أوجبتم الاحتياط في الاوّل دون الثاني؟ وأجاب بما لفظه :

«إنّ حدّ الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعيّ ، أعني الاباحة. وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعيّ ما اشتبه موضوع الحكم ، كاللحم المشترى من السوق لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بحكم المذكّى والميتة ، ويستفاد هذا التقسيم من أحاديث الائمة ومن وجوه عقلية مؤيّدة لتلك الأخبار ، ويأتي بعضها إنشاء الله تعالى ،

______________________________________________________

الحكم : الشبهة الموضوعيّة (حيث أوجبتم الاحتياط في الأول دون الثاني) مع انّ كليهما شبهة تقتضي القاعدة الاحتياط فيهما معا أو البراءة فيهما معا؟.

(وأجاب بما لفظه : ان حدّ الشبهة في الحكم) أي : الشبهة الحكمية (ما اشتبه حكمه الشرعي أعني : الاباحة) بأن لم نعلم أنّ الشارع هل أباح هذا الشيء أو حرّمه؟ (وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعي) أي : الشبهة الموضوعيّة (وما اشتبه موضوع الحكم) بأن علمنا أنّ هناك حلالا وحراما ، لكن لا نعلم هل هذا المصداق من المصداق الحلال أو من المصداق الحرام؟ (كاللحم المشترى من السوق لا يعلم انّه مذكى أو ميتة مع العلم بحكم المذكى والميتة) وانّ المذكى حلال والميتة حرام.

(ويستفاد هذا التقسيم) أي : وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ، وعدمه أي : الحليّة والبراءة في الشبهة الموضوعيّة (من أحاديث الائمة) عليهم‌السلام (ومن وجوه عقلية مؤيدة لتلك الأخبار) مثل «قبح العقاب بلا بيان» بالنسبة الى الشبهة الموضوعيّة ، ومثل : «دفع الضرر المحتمل» بالنسبة الى الشبهة الحكمية (ويأتي بعضها) أي بعض هذه الأحاديث والوجوه العقليّة (إن شاء الله تعالى) فيما بعد.

٣٥١

وقسم متردّد بين القسمين ، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الأنواع ، وليس اشتباهها بسبب شيء من الامور الدنيويّة كاختلاط الحلال بالحرام ، بل اشتباهها لأمر ذاتيّ ، أعني اشتباه صنفها في نفسها ، كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه انواعه في أفراد يسيرة وبعض افراد الخبائث الذي ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض

______________________________________________________

(وقسم متردّد بين القسمين) وهذا هو القسم الثالث الذي اضافه الحرّ رحمه‌الله (وهي) الشبهة في (الأفراد التي ليست بظاهرة الفردية لبعض الأنواع) بأن لم يعلم هل هذا من الحرام أو من الحلال؟ كالخمر غير المسكر مثلا حيث لا نعلم هل انّه من مطلقات المائعات المحلّلة ، أو من مطلقات الخمر المحرم؟ (وليس اشتباهها بسبب شيء من الامور الدنيوية كاختلاط الحلال بالحرام) فانّه ليس كاللحم المشترى من السوق لا نعلم انّه من الحرام الميتة أو من الحلال المذكى.

(بل اشتباهها لأمر ذاتي أعني : اشتباه صنفها في نفسها) أي : انّ صنف هذا الشيء مشتبه هل هو حلال أو حرام؟ مثل الخمر غير المسكر ، فانّا نعلم أنّ الخمر المسكر حرام ، ونعلم انّ سائر المائعات مثلا حلال ، لكن لا نعلم هل انّ الشارع حرّم الخمر غير المسكر والحقه بالخمر المسكر ، أو لم يحرّمه والحقه بسائر المائعات؟.

وهكذا في الأمثلة الاخرى (كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه) لأنّا نعلم انّ الغناء في الجملة حرام (واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة) كالصوت المطرب فقط ، والصوت المرجّع فيه فقط ، والصوت الجامع لهما ، فانّ الجامع نعلم بحرمته ، أما لو كان مطربا وحده ، أو مرجّعا فيه وحده ، فلا نعلم بحرمته.

(وبعض أفراد) أي : أصناف (الخبائث الذي ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض

٣٥٢

أفراده ، حتى اختلف العقلاء فيها ، ومنها شرب التتن.

وهذا النوع يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها.

وهذه التفاصيل يستفاد من مجموع الأحاديث ، ونذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها ، منها قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» ،

______________________________________________________

أفراده) أي : بعض أفراد ذلك النوع (حتى اختلف العقلاء فيها) أي في هذه الاصناف ، فلا يعلمون أنّه داخل في الخبائث حتى يحرم ، أو ليس بداخل في الخبائث حتى لا يحرم.

(ومنها) أي : من تلك الأصناف التي اختلف العقلاء في دخولها في هذا الكليّ أو ذاك الكليّ (شرب التتن) حيث لا يعلم انّه خبيث فيحرم ، أو ليس خبيثا فلا يحرم (وهذا النوع) الثالث كما مثّلناه في شرب التتن (يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها) فانّ الأخبار الآمرة باجتناب الشبهات تشمل مثل شرب التتن.

(وهذه التفاصيل) التي ذكرناها وجعلنا في بعضها البراءة ، وفي بعضها الاحتياط (يستفاد من مجموع الأحاديث) الواردة في الباب بعد ضمّ بعضها الى بعض وملاحظة وجوه الجمع بينها (ونذكر ممّا يدل على ذلك) أي : بعض الاحكام التي ذكرناها للأقسام الثلاثة المتقدمة (وجوها) من الروايات ومن الأدلة العقلية.

(منها : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١)) ،

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، تهذيب الأحكام : ج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٥ ح ١٦ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠.

٣٥٣

فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم إلى أن قال وإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة لم يصدق عليها أنّ فيها حلالا وحراما».

أقول : كان مطلبه أنّ هذه الرواية وأمثالها مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة ، وإلّا فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية ،

______________________________________________________

فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم) أي : الشبهة الموضوعيّة ولهذا حللنا نحن الحرّ الشبهة الموضوعيّة ، فلا يجب الاحتياط فيها ، بل هي مجرى البراءة (الى انّ قال) رحمه‌الله في بيان عدم صدق هذا الحديث على الشبهة الحكمية : (واذا حصل الشك في تحريم الميتة) فرضا (لم يصدق عليها أن فيها حلالا وحراما) (١) فهذا الحديث يشمل الشبهة الموضوعيّة دون الشبهة الحكمية.

(أقول : كأنّ مطلبه) أي : الحرّ رحمه‌الله (ان) أخبار الاحتياط مطلقة شاملة لجميع أنواع الشبهة : في الحكم ، أو الموضوع ، أو التكليف ، أو المكلّف به ، و (هذه الرواية وأمثالها) أي : رواية : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» ورواية : «كلّ شيء لك حلال» وما أشبه ذلك (مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة) حيث انّ تلك الأخبار المطلقة قد خصّصت بهذه الأخبار بالنسبة الى الشبهة الموضوعيّة ، فالشبهة الموضوعيّة خارجة عن وجوب التوقف والاحتياط.

(والّا) أي : وان لم يكن مطلب الحرّ رحمه‌الله ذلك الذي ذكرناه (فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية) فلو أنّ

__________________

(١) ـ الفوائد الطوسية : ص ٥١٨.

٣٥٤

مع أنّ سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص من حيث اشتمالها على العلّة العقليّة لحسن التوقف والاحتياط ، أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة.

______________________________________________________

الحرّ رحمه‌الله اراد انّ «كلّ شيء لك حلال» ونحوه يصدق في الشبهة الموضوعيّة يشكل عليه : بانّه يشمل الشبهة الحكمية أيضا ، فلا بدّ وأن يقول بما ذكرناه من انّ أخبار الحليّة تخصص أخبار الاحتياط ، فتكون النتيجة : انّ أخبار الاحتياط للحكمية وأخبار الحلّ للموضوعية.

هذا (مع أن سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص) فانّه على قوله ، يلزم أن يكون أخبار الاحتياط أعمّ وأخبار الحلّ أخص ، وأن أخبار الحلّ مخصّصة لأخبار الاحتياط ، والحال انّ أخبار الاحتياط لا يمكن تخصيصها عقلا (من حيث اشتمالها) أي : أخبار الاحتياط (على العلة العقلية لحسن التوقف والاحتياط ، أعني : الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة) حيث قال عليه‌السلام : «من أخذ بالشّبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» (١) وقوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٢) وما اشبه ذلك.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢.

(٢) ـ كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، انظر الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٠ ح ٩ ، المحاسن : ص ٢١٥ ح ١٠٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٥ ب ١٢ ح ٣٣٤٦٥ وص ١٧١ ب ١٢ ح ٣٣٥٢٠ ، ورواية مسعدة بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٤٧٤ ب ٣٦ ح ١١٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٩ ب ١٢ ح ٣٣٤٧٨.

٣٥٥

فحملها على الاستحباب أولى.

ثم قال : «ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات ، وهذا إنّما ينطبق على الشبهة في نفس

______________________________________________________

ولا يعقل أن يقال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة الّا في الشبهة الموضوعيّة ، فانّ تعليل الحكم بعلة عقليّة يجعل الحكم جاريا في جميع الأفراد وآبيا عن تخصيص الحكم ببعض الأفراد ، لأنّ ذلك يوجب وقوع التهافت بين العلّة وبين التخصيص ، فهل يصح أن يقال مثلا الظلم حرام لأنّه خسة النفس الّا ظلم الانسان جاره؟ أو يقال : الاحسان حسن لأنه يوجب رفعة النفس الّا إحسان الانسان لأولاده؟.

وعلى هذا (فحملها) أي : حمل أخبار الاحتياط من أول الأمر (على الاستحباب أولى) وذلك بأن يقال : أن أخبار الاحتياط تدلّ على مطلق طلب الاحتياط ، وانّه حسن على كلّ حال ، سواء في الشبهة الحكمية ، أو الشبهة الموضوعيّة ، أو الشبهة البدوية ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، لكن دلّ الدليل من الخارج عقلا وشرعا على أن في بعض الموارد يجب هذا الاحتياط مثل موارد العلم الاجمالي ، ومثل الشبهة الحكمية قبل الفحص ، الى غير ذلك.

(ثمّ قال) الحرّ رحمه‌الله : (ومنها :) أي : من الروايات التي يستفاد منها التفاصيل التي ذكرناها (قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات») بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن ارتكب الشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (١) (وهذا انّما ينطبق على الشبهة في نفس

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٤.

٣٥٦

الحكم وإلّا لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ولا يعلم أحدهما من الآخر إلّا علّام الغيوب ، وهذا ظاهر واضح».

أقول :

______________________________________________________

الحكم) أي : الشبهة الحكمية ، فلا يشمل الشبهة الموضوعيّة ، ولهذا نقول : بأن الشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب فيها.

(والّا لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ، ولا يعلم أحدهما من الآخر الّا علّام الغيوب) فانّه لو لم يكن المراد بخبر «التثليث» ما ذكرناه من الاختصاص بالشبهة الحكمية ، بل كان لبيان حال الموضوعات أيضا ، لم يصح تثليث الامور لعدم علم احد بالحلال البيّن والحرام البيّن ، وذلك لأنّه ما من جزئي خارجي الّا ويحتمل فيه الحرمة من جهة من الجهات.

مثلا : الماء الحلال مشتبه ، لانّه يحتمل أن يكون للناس وقد غصب ، كما يغصب بعض من بعض الأنهار والآبار وما أشبه ذلك ، وكذلك كون هذه الدار مغصوبة مشتبه أيضا ، لاحتمال أن يكون الغاصب والمغصوب منه قد تراضيا بجهة من الجهات ، وهكذا في سائر الموضوعات (وهذا ظاهر واضح) (١) فاللازم أن نخصّص احاديث التثليث بالشبهات الحكمية.

(أقول :) هذا الاستدلال محل نظر من وجهين :

الأوّل : انّ الشبهة الحكمية الوجوبية لا يجب فيها الاحتياط باتفاق العلماء ، فلو التزمنا من الأوّل بدلالة هذه الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية الأعم من الوجوبية والتحريمية ، لزم تخصيصها بالشبهة الحكمية الوجوبية ، ومن

__________________

(١) ـ الفوائد الطوسية : ص ٥١٩.

٣٥٧

فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص أنّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلّتهم ظاهرة في حصر ما يبتلى به المكلّف من الأفعال في ثلاثة : فان كانت عامّة للشبهة الموضوعيّة أيضا صحّ الحصر ، وإن اختصّت بالشبهة الحكميّة كان الفرد الخارجيّ المردّد بين الحلال والحرام

______________________________________________________

الواضح : انّ أخبار التثليث آبية عن التخصيص ، ولذا اعترض عليه المصنّف بقوله : و (فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص :) لأنّ اقتصار أخبار التثليث على الشبهات الحكمية مع ان عللها شاملة للشبهات الموضوعية مستلزم لتخصيصها ، وذلك غير معقول كما تقدّم فاللازم من أول الأمر أن نقول : انّ المراد بأخبار التثليث حسن الاحتياط لا وجوبه.

ومن المعلوم : انّ حسن الاحتياط جار في جميع الموارد من الشبهة الحكمية والموضوعيّة ، الوجوبية والتحريمية.

الوجه الثاني : (انّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلتهم) أي : أدلة الأخباريين القائلين بالاجتناب في الشبهة الحكمية (ظاهرة في حصر ما يبتلى به المكلّف من الأفعال في ثلاثة) اقسام : قسم حلال واضح ، وقسم حرام واضح ، وقسم مشتبه (فان كانت) روايات التثليث (عامة للشبهة الموضوعيّة أيضا ، صح الحصر) إذ لا يبقى قسم رابع خارج عن أخبار التثليث ، سواء كانت موضوعية أو حكمية ، ووجوبية أو تحريمية.

(وان اختصّت) روايات التثليث (بالشبهة الحكمية) كما ذكره الحرّ رحمه‌الله ، (كان الفرد الخارجي) أي : الشبهة الموضوعيّة (المردد بين الحلال والحرام) مثل ما إذا لم يعلم هل أن زوجته جائزة الوطي أو محرمة الوطي للدم الذي تراه

٣٥٨

قسما رابعا ، لأنّه ليس حلالا بيّنا ولا حراما بيّنا ولا مشتبه الحكم.

ولو استشهد بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه‌السلام : «إنّما الامور ثلاثة» ، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكميّة ، إذ المحصور في هذه الفقرة الامور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع ، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجيّ المشتبه أمرا رابعا للثلاثة.

______________________________________________________

مرددا بين دم البكارة ودم الحيض؟ فانّه يكون هذا الفرد المردّد (قسما رابعا ، لأنّه ليس حلالا بيّنا ولا حراما بيّنا ، ولا مشتبه الحكم) لأن روايات التثليث خاصة على قول الحرّ بالشبهة الحكمية وهذه شبهة موضوعية.

هذا (ولو استشهد) الحرّ رحمه‌الله على كون روايات التثليث خاصة بالشبهة الحكمية (بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه‌السلام : «انّما الامور ثلاثة») : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه الى الله ورسوله» (١) (كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية) لأنّه قد نصّ في هذه الرواية بأنّه يردّ حكمه الى الله ورسوله ، فتكون الشبهة حكمية لا موضوعية (اذ المحصور في هذه الفقرة) بقرينة «يردّ حكمه الى الله ورسوله» خصوص (الامور التي يرجع فيها الى بيان الشارع) فانّ الأحكام التي يسأل من الشارع ، منها بيّن الرشد ، ومنها بيّن الغي ، ومنها مشتبه ، وقد تقدّم : انّ الشبهات الموضوعيّة لا يرجع فيها الى الشارع ، وإنّما الى العرف.

وعليه : (فلا يرد اخلاله بكون الفرد الخارجي المشتبه أمرا رابعا للثلاثة) أي :

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢.

٣٥٩

وأمّا ما ذكره : «من المانع لشمول النبويّ للشبهة الموضوعيّة من أنّه لا يعلم الحلال من الحرام إلّا علّام الغيوب» ، ففيه : أنّه إن اريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى ، وإن اريد ندرتهما ، ففيه أنّ الندرة تمنع من اختصاص النبويّ بالنادر لا من شموله له ،

______________________________________________________

لا يستشكل عليه بما ذكرناه : من انّ الرواية غير حاصرة ، لأنّ له أن يجيب : بأن الرواية بقرينة «يرد حكمه» في صدد الشبهة الحكمية فقط ، بخلاف استدلاله بروايات «التثليث» التي عرفت انّها أعمّ من الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، فمن أراد اخراج الشبهة الموضوعيّة منها ، لزمه عدم كون الروايات حاصرة.

(وأما ما ذكره) الحرّ رحمه‌الله (من المانع) العقلي (لشمول النبوي للشبهة الموضوعيّة : من) ان الحلال والحرام دائما مشتبهان ، وانه ليس هناك حلال بيّن ، أو حرام بيّن ، ل (انه لا يعلم الحلال من الحرام الّا علّام الغيوب) وقد مثّلنا لذلك سابقا (ففيه) ما اشار اليه بقوله :

(انّه ان اريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى) لوضوح أن أشياء كثيرة من الموضوعات محلّلة : كالمياه ، وأراضي الموات ، والأسماك ، والطيور ، والوحوش ، والغابات ، والأتربة ، وغير ذلك من المحللات القطعية الكثيرة ، كما أن هناك الكثير من المحرمات القطعية مثل : الزنا ، والخمر ، والقمار ، وعبادة الاصنام ، وغير ذلك.

(وان اريد ندرتهما) أي : ندرة الحلال البيّن والحرام البيّن (ففيه) :

أولا : عدم الندرة كما عرفت.

ثانيا : (ان الندرة تمنع من اختصاص النبوي بالنادر ، لا من شموله له) فانّ النبوي لا يمكن أن يختص بالأمور الموضوعيّة لندرة الحلال البيّن والحرام البيّن ، لا أنه

٣٦٠