الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه بعموم البلوى به ، لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع عن نشره في أوّل الأمر من الشارع او من خلفائه او من وصل إليه. لكن هذا الظنّ لا دليل على اعتباره ،

______________________________________________________

(نعم) عموم البلوى بضميمة عدم المانع من نشر الحكم يفيد الظنّ بالعدم ، لكن هذا الظن ليس بحجّة كسائر الظنون التي لا دليل على اعتباره ، فانّ المكلّف (قد يظن من عدم وجدان الدليل عليه) أي : على الحكم (بعدمه) أي : بعدم الحكم ، فعدم الدليل دليل على العدم (ب) سبب (عموم البلوى به) أي : بالحكم ، فانه لو كان لبان.

ومن المعلوم : ان عموم البلوى وحده لا يوجب الظن بعدم الحكم ، ولذا قال المصنّف : (لا بمجرده) أي : لا بمجرّد عموم البلوى (بل مع ظن عدم المانع عن نشره) أيضا فعدم الدليل ليس دليلا ظنيا على العدم ، وانّما له شرطان :

الأول : عموم البلوى.

الثاني : ظن عدم المانع من النشر (في أول الأمر من الشارع ، أو من خلفائه ، أو من وصل اليه) الحكم ، بأن نظن بعدم المانع من النشر في أول الاسلام من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك ـ مثلا ـ لمصلحة توجب السكوت ونظن بعدم المانع من النشر بالنسبة الى أوصيائه الاثني عشر عليهم‌السلام ، وذلك للتقية ـ مثلا ـ وقد يكون المانع من النشر هم الصحابة والتابعون والرواة من جهة الخوف ، أو الخيانة ، أو ما أشبه ذلك.

وعليه : فاذا ظننا بعدم المانع منضما الى كون الحكم عام البلوى فانا نظن حينئذ بعدم الحكم.

(لكن هذا الظن لا دليل على اعتباره) حتى يستدل به على البراءة.

٢٤١

ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقق ، فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقق ، مع أنّه غير تامّ في نفسه ، أجنبيّ عنه بالمرّة.

______________________________________________________

(ولا دخل له) أي : لهذا الظن (بأصل البراءة التي هي من الأدلة العقلية) فان أصل البراءة في المقام من الأدلة العقلية التي تقول بقبح التكليف والمؤاخذة عليه بلا بيان ، وهذا الظن بانتفاء التكليف لا دخل له بأصل البراءة.

(ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق) لوضوح : ان الظن بانتفاء التكليف في الواقع إنّما هو من اجل عدم الدليل ، لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي تقدّم من المحقق رحمه‌الله.

(ولا بكلام المحقق) لأنك قد عرفت : ان المحقق تمسك في البراءة بحكم العقل حيث قال : لأنه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، فالمحقّق تمسك بدليل العقل للبراءة لا بالظن المذكور.

وعلى هذا : (فما تخيّله المحدّث) الاسترابادي (تحقيقا لكلام المحقق) وانّ المحقق يفصل بين ما يعم به البلوى فيجري البراءة فيه ، وبين غيره فلا يجري البراءة فيه (مع انّه غير تام في نفسه ، أجنبي عنه بالمرّة) لأنّه كما عرفت : ليس كلام المحقق تفصيلا بين ما يعم به البلوى وغيره.

وانّما لم يكن تاما في نفسه ، لانّ فيه ما يلي :

أولا : انّه يمكن عموم البلوى ولا يظن المكلّف منه بالبراءة ، كما يمكن عدم عموم البلوى ويظن المكلّف بالبراءة ، فلا تلازم بين الأمرين.

ثانيا : انّه قد تقدّم : انّ عموم البلوى لا يفيد الظن إلّا بضميمة عدم المانع

٢٤٢

نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة الظنّ بها فيما بعد الشرع ، كما سيجيء عن بعضهم. لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقق.

ومن هنا

______________________________________________________

من النشر ، لا أنّه وحده مفيد للظن بالبراءة.

ثالثا : انّه على تقدير حصول الظن ليس بحجّة إذ لا دليل من العقل أو النقل على حجيّة مثل هذا الظن.

(نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة) الذي أشار اليه المحقق في كلامه ، حيث ان الانسان يتمكن من استصحاب البراءة قبل الشرع بأن يقول : ان التتن لم يكن حراما قبل الشرع ، وبعد الشرع لا نعلم بحرمته ، فالاستصحاب يقتضي عدم حرمته ، أو استصحاب حال الجنون والصغر ، حيث ان التتن في حالهما لم يكن محرما ، فاذا أفاق المجنون وكبر الصغير يستصحب عدم حرمة التتن ، فانه يستفاد من هذا الاستصحاب (الظن بها) أي : بالبراءة (فيما بعد الشرع) وفيما بعد البلوغ والافاقة.

(كما سيجيء عن بعضهم) إن شاء الله تعالى حيث انهم ذكروا : انّ البراءة مستندة الى هذا الظن الاستصحابي (لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق) فان سبب الظن بالبراءة حينئذ الاستصحاب ، لا لزوم التكليف بما لا يطاق (الذي ذكره المحقق) مستدلا بهذا الدليل على البراءة.

(ومن هنا) أي : ممّا ذكرناه : من ان الفرق بين عدم الدليل دليل العدم ، وبين استصحاب البراءة ، الذين ذكرهما المحقّق ليس الّا فرقا اعتباريا ، لأنّ في الدليل الأول لا يلاحظ الحالة السابقة ، وفي الثاني يلاحظ الحالة السابقة ، والحالة السابقة

٢٤٣

يعلم أنّ تغاير القسمين الأوّلين للاستصحاب في كلامه باعتبار كيفيّة الاستدلال ، حيث أنّ مناط الاستدلال في هذا القسم الملازمة بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة

______________________________________________________

وعدم الدليل ، كلاهما موجودان في محل واحد ويفيدان البراءة بتفاوت ملاحظة الحالة السابقة وعدم ملاحظتها.

ولذا قال المصنّف : ومنه (يعلم ان تغاير القسمين الأولين للاستصحاب في كلامه : باعتبار كيفية الاستدلال) اذ قد عرفت : ان المحقّق جعل في المعتبر أقسام الاستصحاب الجاري في الأحكام ثلاثة أقسام : استصحاب حال العقل ، وقاعدة عدم الدليل ، واستصحاب حال الشرع.

والأولان مشتركان في الظن بالبراءة في مورد البراءة ، فانّه اذا كان في السابق براءة ، ولم نعلم هل تبدّل الأمر من البراءة الى الاشتغال أو لم يتبدل؟ نستصحب البراءة ، وقد جعلهما المحقق قسمين لأمرين :

الأول : ان مناط الاستدلال في «عدم الدليل دليل العدم» هو : الملازمة ، ومناط الاستدلال في «الاستصحاب» هو : الحالة السابقة.

الثاني : ان بين الدليلين المذكورين عموما من وجه ، حيث تجري الملازمة سواء كانت حالة سابقة أم لا ، ويجري الاستصحاب سواء كانت ملازمة ام لا ، فانّه ربّما كانت الحالة السابقة ولا ملازمة ، كما فيما لا يعم به البلوى ، وربّما كانت الملازمة ولا حالة سابقة.

وأشار المصنّف الى الأمر السابق بقوله : (حيث ان مناط الاستدلال في هذا القسم) الثاني من الاستصحاب الذي ذكره المحقّق هو (الملازمة) عرفا وعادة (بين عدم الدليل وعدم الحكم) في الواقع (مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة

٢٤٤

السابقة ، فجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ؛ ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم.

ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة انّ الشيخ لم يقل بوجوب مضيّ المتيمّم الواجد للماء في أثناء

______________________________________________________

السابقة).

إن قلت : اذا كان المناط هو الملازمة ، فلما ذا جعل المحقق عدم الدليل من أقسام الاستصحاب؟.

قلت : (فجعله) أي : جعل عدم الدليل في كلام المحقق (من أقسام الاستصحاب) مع ما قد عرفت : من أن بينهما عموم من وجه (مبني على ارادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشك ولو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة) فالاستصحاب موجود في المورد وان لم يجعل دليلا ، وانّما جعل الدليل الملازمة المذكورة.

وكيف كان : (فيجري) هذا الدليل وهو الملازمة (فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة) وفيما علم فيه الحالة السابقة (ومناط الاستدلال في القسم الأوّل) الذي هو الاستصحاب (ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم) أي : في صورة عدم وجود الملازمة بين كون عدم الدليل دليل العدم.

(ويشهد لما ذكرنا : من المغايرة الاعتبارية) بين الاستصحاب وبين عدم الدليل دليل العدم (: ان الشيخ لم يقل بوجوب مضي المتيمم الواجد للماء في أثناء

٢٤٥

صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم.

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ، لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين.

______________________________________________________

صلاته) لم يقل به (لأجل الاستصحاب) أي : استصحاب كفاية التيمم الثابت قبل وجدان الماء (وقال به لأجل ان عدم الدليل) على انتقاض التيمم (دليل العدم).

فان الشيخ قال : الفاقد للماء اذا وقف للصلاة متيمما ، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة يتم صلاته ، ولا تنقض صلاته لأجل وجدان الماء ، بدليل انّه لا دليل من الشرع على الانتقاض ، فلم يستدل الشيخ باستصحاب بقاء التيمم ، ممّا يتبين منه : انّهما أمران لا أمر واحد.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول من الفارق بين الاستصحاب وبين الملازمة.

وأشار الى الفارق الثاني الذي ذكرناه : من كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه بقوله : (نعم ، هذا القسم الثاني) وهو الملازمة يكون (أعم موردا من الأوّل) الذي هو الاستصحاب فان بينهما عموما من وجه (لجريانه) أي : جريان قانون عدم الدليل دليل العدم (في الأحكام العقلية وغيرها) أي : غير الأحكام العقلية (كما ذكره جماعة من الاصوليين) حيث انهم قالوا : بجريان قاعدة : عدم الدليل دليل العدم ، في المسائل الفقهية والاصولية والكلامية.

ثمّ الظاهر : ان مراده ب «الأحكام العقلية» هو من أمثال : عدم الدليل على التخصيص أو التقييد دليل العدم ، وذلك فيما اذا كان عام أو مطلق لم نعلم بأنهما هل قيّدا بشيء أم لا؟ الى غير ذلك ، فان عدم الدليل دليل العدم ، يجري في امثال هذه الامور ، بينما لا يجري الاستصحاب فيما لم يكن له حالة سابقة أو لم نعلم هل كان له حالة سابقة أم لا؟.

٢٤٦

والحاصل : أنّها لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقق ، قدس‌سره ، على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاواه في المعتبر.

الثاني :

مقتضى الأدلّة المتقدّمة كون الحكم الظاهريّ في الفعل المشتبه الحكم

______________________________________________________

(والحاصل : انها) الضمير للشأن والقصة (لا ينبغي الشك في ان بناء المحقق قدس‌سره على التمسك بالبراءة الأصلية مع الشك في الحرمة) من غير فرق بين ما يعم به البلوى وما لا يعم به البلوى ، فليس هو على ما قاله المحدّث الاسترابادي : من انّه مفصل بينهما (كما يظهر من تتبع فتاواه في المعتبر) فنسبة التفصيل اليه في غير محله. هذا تمام الكلام في التنبيه الأول.

التنبيه (الثاني :) ان مفاد ما ذكرناه من أدلة البراءة : الاباحة الظاهرية ، بمعنى الاصل ، فان قوله عليه‌السلام «كلّ شيء مطلق» (١) ونحوه ، يفيدها ، سواء ظن بالاباحة الواقعية ، أم ظن بالحرمة الواقعية أم لم يظن بشيء منهما ، اذ الظن لا اعتبار به ، فلا يكون حجّية البراءة لحجّية الظن ليكون أمارة ، بل حجّية البراءة لعدم القطع باشتغال الذمة بالتكليف فيكون اصلا عمليا ، كما قال :

(مقتضى الأدلة المتقدمة) مثل «كلّ شيء مطلق» ونحوه (كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم) من الشبهة التحريمية حيث انها محل الكلام

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

٢٤٧

هي الاباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع.

فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو أفاده لم يكن معتبرا ، إلّا أنّ الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلّة الظنيّة ،

______________________________________________________

(هي : الاباحة) الشرعية بمعنى الأصل أي : (من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع) حتى يكون أمارة ، فانّه وان ظننا بتحريمه واقعا ، أو ظننا بعدم تحريمه ، أو لم نظن بشيء ، فلا اعتبار بهذه الظنون ايجابا وسلبا في حجّية البراءة حتى تكون البراءة أمارة ، فالبراءة اصل من الاصول العملية.

وعليه : (فهذا الأصل) أي : أصل البراءة (يفيد القطع بعدم اشتغال الذمة) فعلا ، لأنّه التكليف العملي للانسان ، فان حكم البراءة ايضا تكليف ـ كما لا يخفى ـ.

(لا) انّ اصل البراءة يفيد (الظن بعدم الحكم واقعا) ليكون أمارة وذلك لما عرفت : من انّه قد يظن بعدم الحكم واقعا ، وقد يظن بالحكم واقعا ، وقد لا يظن بشيء منهما (ولو) فرض انّه قد (أفاده) أي : افاد الظن بعدم الحكم واقعا (لم يكن معتبرا) هذا الظن لما تقدّم من : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (١) كما في القرآن الحكيم ، فلا يكون البراءة أمارة ، بل اصلا.

(الّا ان الذي يظهر من جماعة) من الأصحاب اللذين سوف نذكر إن شاء الله اسماء بعضهم (كونه) أي : كون اصل البراءة (من الأدلة الظنية) عندهم ، فيكون عندهم أمارة لا أصلا.

__________________

(١) ـ سورة النجم : الآية ٢٨.

٢٤٨

منهم صاحب المعالم ، عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجّيّة الخبر الواحد ، ومنهم شيخنا البهائيّ قدس‌سره.

ولعلّ هذا هو المشهور بين الاصوليين ، حيث لا يتمسّكون فيه إلّا باستصحاب البراءة السابقة ، بل ظاهر المحقق ، في المعارج الاطباق على التمسّك بالبراءة

______________________________________________________

(منهم : صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدمات الدليل الرّابع الذي ذكره لحجيّة الخبر الواحد) فانّ صاحب المعالم استدل لحجيّة خبر الواحد بآية النفر ، وآية النبأ ، والاجماع ، وجعل دليل الانسداد دليلا رابعا ، لافادة حجّية خبر الواحد ، وذكر للانسداد مقدمات جعل أولها : انسداد باب العلم بالأحكام ، واستدل له دفعا لتوهم الاعتراض : بأن الأدلّة لا تفيد الّا الظن ، فكذا اصالة البراءة لا تفيد الّا الظنّ ممّا يظهر منه : انّه يرى البراءة أمارة لا أصلا ، على خلاف ما نراه نحن ، حيث نرى البراءة أصلا.

والحاصل : ان حجيّة البراءة عند صاحب المعالم من باب الظن.

(ومنهم : شيخنا البهائي قدس‌سره) فانّه يرى ان حجيّة البراءة من باب الظنّ ، فهي عنده أمارة وليست اصلا.

(ولعلّ هذا هو المشهور بين الاصوليين) القدامى (حيث لا يتمسكون فيه) أي : في أصل البراءة (الّا باستصحاب البراءة السابقة) فان الاستصحاب عندهم هو «ابقاء ما ظنّ ببقائه» ، فيكون حجية الاستصحاب عندهم باعتبار حجيّة هذا الظن.

(بل ظاهر المحقق في المعارج الاطباق) من العلماء (على التمسك بالبراءة

٢٤٩

الأصليّة حتّى يثبت الناقل ، وظاهره ، أنّ اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة.

والتحقيق : أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والاجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ ، وإنّما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة وحكم العقل.

______________________________________________________

الأصلية حتى يثبت الناقل) من تلك البراءة الى تكليف مخالف للبراءة : من وجوب أو حرمة ، والمراد بالبراءة الأصلية : هي البراءة قبل الشرع ، أو البراءة في حال الصغر والجنون ـ مثلا ـ.

(وظاهره : ان اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها) أي : كون البراءة (هي الحالة السابقة الأصلية) فيظن ببقاء تلك الحالة الى أن يثبت خلافها (والتحقيق انّه) ليس بأمارة لما يلي :

أولا : انّه لا يحصل الظن بالبقاء في كثير من موارد الاستصحاب.

ثانيا : (لو فرض حصول الظن من الحالة السابقة) لبقاء تلك الحالة الى الحالة اللاحقة (فلا يعتبر) هذا الظنّ ، فانّ الظن بالبقاء لا اعتبار به وجودا ولا عدما (والاجماع) من العقلاء على حجيّة الاستصحاب (ليس على اعتبار هذا الظن) ليكون أمارة بدليل أنهم يستصحبون ، ولو لم يحصل لهم ظن (وانّما هو على) مجرد (العمل على طبق الحالة السابقة) أي : انّ العقلاء مجمعون على ابقاء الحالة السابقة على ما كان ، سواء حصل لهم ظن أم لا ، وليس اجماعا منهم على انه لكونه ظنا يكون حجة.

بل (ولا يحتاج اليه) أي : الى هذا الظن ، ولا الى الاجماع المذكور من العقلاء (بعد قيام الأخبار المتقدمة) الدالة على البراءة (و) بعد (حكم العقل) بقبح

٢٥٠

الثالث :

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها.

وهل الأوامر الشرعيّة للاستحباب ، فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ،

______________________________________________________

العقاب بلا بيان ، فهما دليلان كافيان لإثبات البراءة والاباحة الظاهرية ، فيما لم يصل من الشارع حكم فيه ، سواء كانت شبهة حكمية تحريمية أو حكمية وجوبية أو موضوعية وجوبية أو تحريمية على ما عرفت.

التنبيه (الثالث) : هل أوامر الاحتياط ارشادية بحتة ، فلا ثواب في فعلها اطلاقا ، كمثل أوامر الطبيب؟ أو مولوية استحبابية ، فاذا وافقها الانسان أثيب على الموافقة ، وان لم يكن الاحتياط موافقا للواقع؟.

هذا ، ومن المعلوم : انّه (لا اشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها) فان الأخبار والعقل دلا على رجحان الاحتياط (و) لكن الكلام في انّه (هل الأوامر الشرعية للاستحباب؟) بعد وضوح : ان الأوامر العقلية ارشادية بحتة ، وانّما الكلام في الأوامر الواردة في الشرع بالاحتياط والتوقف وما أشبه ذلك.

فان كانت تلك الأوامر للاستحباب (فيثاب عليه) أي : على امتثال تلك الأوامر الشرعية (وان لم يحصل به) أي : بسبب الاحتياط (الاجتناب عن الحرام الواقعي) فالإنسان الذي يجتنب عن شرب التتن ـ مثلا ـ هل يثاب عليه لانه أطاع

٢٥١

او غيري ، بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمر به إرشاديا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتبة على الفعل او الترك ، نظير أوامر الطبيب ، ونظير الأمر بالاشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع

______________________________________________________

امر الاحتياط وان كان التتن في الواقع مباحا ، أو لا يثاب عليه لأنّه في اطاعة أمر الطبيب لا ثواب في نفس هذه الطاعة؟.

(أو غيري) مقدمي ، وهذا عطف على قوله : «الأوامر الشرعية للاستحباب» (بمعنى : كونه) أي : كون الاحتياط (مطلوبا لأجل التحرز عن الهلكة المحتملة) وقد تقدّم سابقا : ان المراد بالهلكة المحتملة غير العقاب ، لأنه لا عقاب على مخالفة أمر الاحتياط ، اذ المحكّم في المسألة : البراءة.

(و) انّما يكون الاحتياط مطلوبا لاجل (الاطمئنان بعدم وقوعه فيها) أي : في الهلكة المحتملة (فيكون الأمر به) أي : بالاحتياط (ارشاديا لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى الخاصية المترتّبة على الفعل أو الترك) فهو مثل الذي يوجر في حلقه الدواء حيث يترتّب على ذلك صحته الجسدية ، فيكون أوامر الاحتياط على الارشادية (نظير أوامر الطبيب) الذي ليس في الأمر مصلحة ذاتية.

(ونظير الأمر بالاشهاد عند المعاملة ، لئلا يقع التنازع) حيث قال سبحانه : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (١) فان الاشهاد بنفسه ليس ذا مصلحة ، وانّما المصلحة في متعلقه ، وهو عدم التنازع بعده ، وكذلك حاله حال الكتابة بالنسبة الى المعاملات ، فالكتابة بنفسها لا مصلحة فيها ، وانّما المصلحة في متعلقها.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٨٢.

٢٥٢

وجهان ، من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب ، ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فانّ الظاهر منها كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط.

والظاهر أنّ حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط على تقدير كونه إلزاميّا لمحض الاطمئنان ؛ لدفع احتمال العقاب.

وكما إذا تيقّن بالضرر

______________________________________________________

وعليه : فالأوامر الشرعية بالاحتياط يحتمل فيها (وجهان) وهذا جواب قوله : «وهل الأوامر الشرعية للاستحباب ... أو غيري؟» فانّ هنالك قولين ووجهين :

(من ظاهر الأمر بعد فرض عدم ارادة الوجوب) فانّ ظاهر الأمر : الوجوب ، فاذا صرفناه عن الوجوب للأدلّة الأخر ، يلزم أن نحمله على الأقرب الى المعنى الظاهر ، وهو : الاستحباب المولوي ، فيثاب مطيع أمر الاحتياط.

(ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فانّ الظاهر منها) أي : الظاهر من تلك الأخبار (: كونها مؤكدة لحكم العقل بالاحتياط) فان الأخبار تأكيدية وليست بتأسيسية ، لأنّ العقل قبل هذه الأخبار يقول بحسن الاحتياط.

هذا (والظاهر : ان حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط على تقدير كونه الزاميا) أي : على تقدير كون أمر العقل بالاحتياط الزاميا (لمحض) الارشاد ، و (الاطمئنان ، لدفع احتمال العقاب) فكما ان أمر العقل ارشادي ، كذلك يكون أمر الشرع التابع له ، لأنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع. (وكما اذا تيقن بالضرر) هذا مبتدأ خبره قوله : «فكذلك طلبه» ، مما حاصله : ان العقل كما يلزم الانسان بالاطاعة حتى لا يقع في العقاب الاخروي ، كذلك يندب العقل الانسان الى الاطاعة حتى لا يقع في المحذور الدنيوي ، فكلا هذين الأمرين للعقل

٢٥٣

يكون إلزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقن ، فكذلك طلبه الغير الالزاميّ إذا احتمل الضرر ، بل وكما أنّ أمر الشارع بالاطاعة في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) لمحض الارشاد ، لئلّا يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته ثواب الطاعة ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك ،

______________________________________________________

ارشادي ، لكن الأول : ارشادي لازم ، والثاني : ارشادي مندوب.

وعليه : فاذا تيقن الانسان بالضرر الاخروي فيما اذا خالف الواجبات أو المحرمات المعلومة تفصيلا أو اجمالا (يكون الزام العقل) بالاطاعة ، حتى لا يقع في محذور ، ترك الواجب أو فعل المحرم ؛ وذلك (لمحض الفرار عن العقاب المتيقن) في الآخرة (فكذلك طلبه) أي : طلب العقل (غير الالزامي اذا احتمل) الانسان (الضرر) الذي هو ليس بعقاب وإنّما مفسدة دنيوية في فعل شيء أو ترك شيء يكون غير الزامي ، فامر العقل قد يكون واجبا ، وقد يكون مستحبا (بل) أمر الشرع كذلك.

واليه أشار المصنّف بقوله : (وكما ان أمر الشارع بالاطاعة) بالواجبات والمحرمات المعلومة اجمالا أو تفصيلا (في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) لمحض الارشاد ، لئلا يقع العبد في عقاب المعصية) الاخروية (ويفوته ثواب الطاعة) الاخروية.

هذا (ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك) فانّ الانسان الذي يخالف (أَطِيعُوا اللهَ) ليس عليه عقابان : عقاب ترك الصلاة ، وعقاب ترك (أَطِيعُوا اللهَ) كما انّه اذا صلّى لا يكون له ثوابان : ثواب (أَطِيعُوا اللهَ) وثواب اتيان الصلاة.

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

٢٥٤

فكذلك أمره بالأخذ بما يأمن معه من الضرر لا يترتب على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعيّ على تقدير تحققه.

ويشهد لما ذكرنا أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم

______________________________________________________

(فكذلك أمره) أي : أمر الشارع في أخبار الاحتياط (بالأخذ بما يأمن معه من الضرر) فانّه (لا يترتب على موافقته سوى الامان المذكور) أي : انّه لمحض الطلب الارشادي الى ما في متعلق الاحتياط ، فاذا كان في متعلقه ثواب أو عقاب وصل الانسان اليهما ، واذا لم يكن في متعلقه ثواب أو عقاب لم يكن له شيء من الأمان في متعلقه (ولا) يترتب (على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي) والّا فأمر الاحتياط لا شأن له اطلاقا.

وانّما يقع المخالف في الحرام الواقعي (على تقدير تحققه) أي : تحقق ذلك الحرام في الواقع ، فالارشاد الشرعي في اوامر الاحتياط الشرعية كالإرشاد العقلي في أوامر الاحتياط العقلية في انّه ، لا ثواب ولا عقاب في فعل الاحتياط ولا في ترك الاحتياط بنفسه.

(ويشهد لما ذكرنا :) من كون الأوامر الشرعية الاحتياطية للارشاد (ان ظاهر الأخبار) الدالة على الاحتياط (حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة : في التفصّي عن الهلكة الواقعية) فهي أوامر ارشادية ، فائدتها : النجاة من الهلكة الواقعية ان كانت هناك هلكة في الواقع تترتب على المخالفة.

وانّما كانت حكمة الاجتناب التفصّي (لئلا يقع) المكلّف (فيها) أي : في تلك الهلكة الواقعية (من حيث لا يعلم) لفرض : ان المكلّف لا يعلم ان هناك

٢٥٥

واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا.

ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلّا للارشاد ، لا يترتب على موافقتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به ، وهو الاجتناب عن الحرام او فوتها. فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ،

______________________________________________________

هلكة ، والّا فاذا علم ان هناك هلكة ، لم يكن من الاحتياط في شيء بل كان من الاطاعة للشيء المعلوم.

(و) يشهد لكون الأوامر ارشادية أيضا (اقترانه) أي : اقتران الاجتناب عن الشبهة في الروايات (مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا) فان الشارع جعل اجتناب الشبهة مقارنا لاجتناب الحرام ، فيما تقدّم من حديث فضيل حيث سأل أبي عبد الله عليه‌السلام عن الورع من الناس؟ فقال عليه‌السلام : الذي يتورع من محارم الله ويجتنب هؤلاء ، فاذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه.

(ومن المعلوم : ان الأمر باجتناب المحرمات) المعلومة اجمالا أو تفصيلا الوارد (في هذه الأخبار) حال هذا الأمر حال الأمر بالاطاعة (ليس الّا للارشاد ، لا يترتب على موافقتها سوى الخاصية الموجودة في المأمور به) الذي هو شأن الأمر الارشادي (و) المراد بالمأمور به : (هو الاجتناب عن الحرام أو فوتها) فان أطاع نجا من العقاب ، وان لم يطع وقع في العقاب وفاتته خاصية الاجتناب.

(فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته) أي : موافقة ذلك الأمر أو مخالفته (سوى ما يترتب على نفس الاجتناب) وعدم الاجتناب (لو لم يأمر به الشارع) فالحسن وعدم الحسن في ذات الشيء ، سواء أمر به المولى أو لم يأمر به ، كما ان الحسن وعدم الحسن في ذات الدواء سواء أمر به الطبيب أو لم يأمر به.

٢٥٦

بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام.

ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه ، من حيث أنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون حينئذ حال الاحتياط والأمر به حال نفس الاطاعة الحقيقيّة ، والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح او الثواب لو لا الأمر.

______________________________________________________

وعليه : فالاجتناب في نفسه حسن وان لم يأمر الشارع به (بل فعله) أي : فعل ذلك الاجتناب (المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام) فانه حسن ، وأمر الشارع لا يزيد هذا شيئا ، كما ان أمر الطبيب لا يزيد الدواء شيئا ، فالدواء يترتب عليه فائدته اذا شربه الانسان ، سواء أمر به الطبيب أو لم يأمر به الطبيب (و) بهذا ظهر :

ان أمر الاحتياط ، ارشادي لا مولوي.

نعم ، (لا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه من حيث انه انقياد واطاعة حكمية) فيترتب الثواب على هذا الاجتناب كما يترتّب الثواب على ترك شرب الخمر لان كليهما اطاعة ، فكما ان ترك شرب الخمر يوجب صدق الطاعة اطاعة حقيقية ، كذلك ترك شرب التتن يوجب صدق الطاعة لكنه طاعة حكمية.

(فيكون حينئذ) أي : حين كانت الأوامر الشرعية التي وردت في الاحتياط والتوقف وما أشبه للارشاد لا للمولوية ، وقلنا بترتب الثواب على نفس الاحتياط لا على موافقة الأوامر الاحتياطية (حال الاحتياط والأمر به حال نفس الاطاعة الحقيقية والأمر بها).

إذن : فالاحتياط بموازاة الاطاعة والأمر بالاحتياط في موازات الأمر بالطاعة (في كون الأمر) بالاحتياط (لا يزيد فيه) أي : في الاحتياط (على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لو لا الأمر) فسواء كان أمر أو لم يكن أمر ، يكون الاحتياط حسنا ، والأمر حينئذ يكون للارشاد فقط ، فكما انّه لو اجتنب انسان الشبهات يكون

٢٥٧

هذا ، ولكنّ الظاهر من بعض الأخبار المتقدمة ، مثل قوله عليه‌السلام : «من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات» ،

______________________________________________________

ممدوحا وان لم يكن أمر بالاحتياط ، كذلك إذا كان أمر بالاحتياط.

وعليه : فلا يكون الأمر بالاحتياط موجبا للثواب ، بل هو للارشاد المحض ، وانّما الموجب للثواب هو فعل الاحتياط بنفسه ، فيكون حال المقام حال من يشرب الدواء احتياطا بدون أمر الطبيب حيث انه ممدوح ، فاذا أمر الطبيب لا يكون اطاعة أمر الطبيب موجبا للمدح ، بل كان ارشادا محضا.

وعليه : فالأمور ثلاثة :

الأول : الأوامر المولوية وفي اطاعتها الثواب.

الثاني : الأوامر الارشادية وليس في اطاعتها الثواب.

الثالث : الاحتياط وفيه الثواب سواء كان له أمر ارشادي أو لم يكن هناك أمر ارشادي.

(هذا) تمام الكلام في الاحتمالين الأولين وهما : أن يكون الأمر بالاحتياط مولويا ، أو يكون الأمر بالاحتياط ارشاديا ولا ثواب في الأمر وانّما الثواب في نفس الاحتياط.

(ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة) وجود الثواب بنفس الأوامر الاحتياطية كسائر الأوامر المولوية (مثل : قوله عليه‌السلام : «من ارتكب الشّبهات نازعته نفسه الى أن يقع في المحرّمات» (١)) الالهية.

__________________

(١) ـ كنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥٢ ، الاحتجاج : ص ٣٥٥ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٩ ب ١٢ ح ٣٣٥١٥ (بالمعنى).

٢٥٨

وقوله : «من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك» ، وقوله : «من يرتع حول الحمى اوشك أن يقع فيه» ، هو كون الأمر به للاستحباب ، وحكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ولازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الثواب المترتب على نفسه.

______________________________________________________

(وقوله) عليه‌السلام : («من ترك الشّبهات كان لما استبان له من الاثم أترك» (١)) أي : بطريق اولى ، (وقوله) عليه‌السلام : («من يرتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه») الى سائر ما يشبه هذه الروايات (٢) ، فان الظاهر منها (هو كون الأمر به للاستحباب) المولوي ، مثل سائر الأوامر المولوية التي يكون متعلقها مستحبا.

(وحكمته) أي : حكمة هذا الأمر المولوي الموجب للثواب في اطاعة الأمر (: أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة) فان ارتكاب الشبهات يقرّب الشخص من ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ويهوّنها في نظره ، فيتجرّأ على ارتكابها ، والنفس المتجرّية توجب الانحطاط والتقهقر.

إذن : فيرجح الاحتياط رجحانا مولويا لا ارشاديا محضا (ولازم ذلك : استحقاق الثواب على اطاعة أوامر الاحتياط) أيضا أي : (مضافا الى الثّواب المترتب على نفسه) أي : على نفس الاحتياط ، فاذا احتاط الشخص وصادف الواقع اثيب ثوابان : ثواب الاحتياط ، وثواب المتعلق.

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٧٤ ب ٢ ح ٥١٤٩ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٥٤٨ ح ١٥ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٧٥ ب ١٢ ح ٣٣٥٣١ وص ١٦١ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٠ (بالمعنى).

(٢) ـ كرواية أبي جعفر ، انظر وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٩ ب ١٢ ح ١٣٥١٥ وكنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥٢.

٢٥٩

ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة حتّى في مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناء على أن دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة

______________________________________________________

مثلا : لو اقتضى الاحتياط : الدّعاء عند رؤية الهلال ، فدعا عندها اعطي ثوابان : ثواب الدعاء المفروض انّه الواقع ، وثواب الاحتياط ، اما اذا لم يصادف الواقع ، بأن لم يكن الدعاء عند رؤية الهلال راجحا في الواقع ، اعطي ثواب واحد وهو ثواب الاحتياط.

(ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة ، حتى في مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم) أي : مطلقا فان افراد المسألة سبعة :

الأول : الدوران بين الحرمة والاستحباب.

الثاني : الدوران بين الحرمة والكراهة.

الثالث : الدوران بين الحرمة والاباحة.

الرابع والخامس والسادس : الدوران بين ثلاثة منها ، ولها ثلاث صور.

السابع : الدوران بين كل الأربعة.

لا يقال : ان الدوران بين الاستحباب والتحريم ، يكون من دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ الاستحباب راجح الفعل والتحريم راجح الترك.

لأنّه يقال : انّما نقول بحسن الاحتياط في هذه الصورة (بناء على ان دفع المفسدة الملزمة للترك ، أولى من جلب المصلحة غير الملزمة) فان المفسدة القوية أولى دفعها من جلب المنفعة الضعيفة.

مثلا : اذا دار الأمر بين أن يكون الغريق انسانا يجب انقاذه ، أو حيوانا مؤذيا

٢٦٠