الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

حرمة لحمه قبل التذكية ، ففيه ، أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فاذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة فيحتاج حرمته الى موضوع آخر ، ولو شكّ في قبول التذكية رجع الى الوجه السابق.

______________________________________________________

حرمة لحمه قبل التذكية) وذلك لأنّ أكل اللحم قبل الذبح كان حراما ، فنستصحب تلك الحرمة ، والفرق بين هذا وبين السابق ، أن السابق يقول : لا يذكّى ، وهذا يقول : لم نعلم انّه ذكّي أم لا؟ فنستصحب عدم تذكيته.

(ففيه : انّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه) أي : كون لحم هذا الحيوان (من الميتة) فانّ الانسان اذا قطع لحم حيوان حيّ ، كانت تلك القطعة ميتة (فاذا فرض) بسبب العمومات التي تقدّم بعضها (اثبات جواز تذكيته) بالشرائط الشرعية (خرج عن الميتة) ولا يصح حينئذ استصحابه لتغير الموضوع ، فان الحرمة حال الحياة كانت لكونه حيا ، والحرمة حال الممات انّ كانت فهي لأجل انّ الحيوان لا يذكى ، ومع اختلاف الموضوع لا يجري الاستصحاب كما قرّر في موضعه.

وعليه : (فيحتاج حرمته الى موضوع آخر) أي : ان قلنا : انّه بعد الموت حرام لا يمكن الاستناد في حرمته الى الاستصحاب حال الحياة ، بل يلزم أن يكون هناك دليل آخر لحرمته ، مثل انّه غير قابل للتذكية ، ولا دليل آخر عليه.

(ولو شك في قبول التذكية) أي : وانّ كان استصحاب الحرمة لاجل الشك في قبول التذكية بأن يقال : انّه في حال الحياة لم يذك ، فلا نعلم انّه بما صنعناه من ذبحه ذكّي أم لا؟ فنستصحب حرمته لعدم ذكاته (رجع) استصحاب الحرمة هذا (الى الوجه السّابق) أي : الى اصالة عدم قابليته للتذكية ، وقد مرّ جوابه.

٢٨١

وكيف كان ، فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والاباحة.

نعم ، ذكر شارح الروضة وجها آخر ، ونقله بعض محشّيها عن الشهيد في القواعد ، قال شارح الروضة : «إنّ كلّا من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فاذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر» ، انتهى.

ويمكن منع حصر المحلّلات بل المحرّمات محصورة ،

______________________________________________________

(وكيف كان : فلا يعرف وجه لرفع اليد عن اصالة الحلّ والاباحة) في هذا الحيوان المتولد بين طاهر ونجس.

ثمّ أشار المصنّف الى ثالث الوجوه بقوله : (نعم ، ذكر شارح الروضة) وهو الفاضل الهندي الذي كتب شرحا على كتاب شرح اللمعة ، وله كتاب آخر اسمه «كشف اللثام» ويعرف به ، فانّه ذكر (وجها آخر) ، لحرمة هذا الحيوان المتولد بين الطاهر والنجس (ونقله) أي : نقل ذلك الوجه (بعض محشيها) أي : بعض محشي الرّوضة (عن الشهيد) الأول (في القواعد) (١) فان للشهيد الأول كتابا يسمى : «القواعد» ، والوجه الآخر هو ما يلي :

(قال شارح الروضة : انّ كلا من النجاسات والمحلّلات محصورة) بمعنى : انّا لم نجد الّا نجاسة امور معينة كالعشرة مثلا ، وحليّة امور خاصة كالانعام الثلاثة مثلا (فاذا) شككنا في غير هذه الامور المعينة ممّا (لم يدخل في المحصور منها ، كان الأصل : طهارته وحرمة لحمه وهو ظاهر ، انتهى).

هذا ، (ويمكن منع حصر المحلّلات ، بل المحرمات محصورة) :

__________________

(١) ـ تمهيد القواعد : ص ٣٧.

٢٨٢

والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ، ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

ولو قيل : إنّ الحلّ إنّما علّق ، في قوله تعالى : «(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)» المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ،

______________________________________________________

قال سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (١) وقال سبحانه : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢) وقال سبحانه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٣) الى غيرها من الآيات والروايات الكثيرة الدالة على اصالة الحلية في كلّ شيء الّا ما خرج.

نعم ، قوله : «انّ النجاسات محصورة» تام ، فانّ الأصل في الأشياء الطهارة الّا ما خرج.

والحاصل : انّ النجاسات والمحرمات محصورة في الشريعة وما عدا ما بيّن فيها من النجاسة والحرمة يحكم بطهارته وحليته ، فلا دليل على حرمة هذا الحيوان المتولّد بين الكلب والشاة.

(و) عليه : فان كلا من (العقل والنقل دل على اباحة ما لم يعلم حرمته ولذا) الذي ذكرناه : من عدم حصر المباحات فيما علم اباحته نرى الفقهاء (يتمسكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الاطعمة والاشربة).

ثم اشار المصنّف الى رابع الوجوه بقوله : (ولو قيل : انّ الحلّ انّما علق في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (٤)) على الطيّب (المفيد) ذلك التعليق (للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام).

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٤.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٩.

(٣) ـ سورة النساء : الآية ٢٤.

(٤) ـ سورة المائدة : الآية ٤.

٢٨٣

فكلّ ما شك في كونه طيّبا ، فالأصل عدم إحلال الشارع له.

قلنا : إنّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش ، فاذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ،

______________________________________________________

فان في الآية استفهام قال سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (١) فهو مثل : انّ يقول ما ذا أشتري؟ فيقول : التفاح ، فانّه يدل على الحصر ، فلا يقال : انّه من مفهوم اللقب.

وعليه : (فكلّما شك في كونه طيبا ، فالأصل عدم احلال الشارع له) اذ لو قلنا : انّه طيب فهو حلال ، كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فيكون مثل ما اذا قال : اكرم العالم ، ولم نعلم انّ زيدا عالم ، أو ليس بعالم ، فنكرمه تمسكا بأكرم العالم.

لو قيل ذلك (قلنا) : هذا الاستدلال باطل لوجوه ثلاثة :

الأول : (انّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث) والمراد بالخبيث : امّا ما ينفّر الطبع ، وإما ما يضر ، (والفواحش) ما يكون فاحشا ومتعديا في القبح ، حيث قال سبحانه : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (٢).

وقال سبحانه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (٣) والحرمة في المقام منحصرة في الخبيث.

وعليه : (فاذا شك فيه) أي : في شيء انّه خبيث أم لا؟» (فالاصل عدم التحريم) فانّه اذا شككنا في شيء انّه خبيث أو ليس بخبيث ، ثم تمسكنا بحرمته

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٤.

(٢) ـ سورة الاعراف : الآية ١٥٧.

(٣) ـ سورة الاعراف : الآية ٣٣.

٢٨٤

ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الاباحة ، وعموم قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ،) وقوله عليه‌السلام : «ليس الحرام إلّا ما حرّم الله» ،

______________________________________________________

بقوله سبحانه : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (١) كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

(و) انّ قلت : في المقام يتعارض أصلان ، أصل عدم الحليّة للشك في الطيّب ، وأصل عدم الحرمة للشك في الخباثة ، فلا نتمكن من استعمال هذا الحيوان المردّد بين الشاة والكلب.

قلت : (مع تعارض الأصلين) المذكورين (يرجع الى أصالة الاباحة) لأنّ الاصلين يتساقطان ، فنرجع الى الأصل الذي هو فوقهما.

(و) الى (عموم قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ)(مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) (٢) فالمستثنى منه في الآية المباركة يشمل محل الكلام.

(و) الى (قوله عليه‌السلام : «ليس الحرام الّا ما حرّم الله») في كتابه ، وذلك فيما تقدّم من رواية ابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، انّه سأل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر القنافذ والخفاش والحمير والبغال ، فقال : «ليس الحرام الّا ما حرّم الله في كتابه» (٣) بناء على ارادة استعماله في الأكل ونحوه ، لا أن يراد به تحريم التذكية

__________________

(١) ـ سورة الأعراف : الآية ١٥٧.

(٢) ـ سورة الانعام : الآية ١٤٥.

(٣) ـ تهذيب الأحكام : ج ٩ ص ٤٢ ب ٤ ح ١٧٦ (بالمعنى) ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٣٨٢ ح ١١٨ وفيه عن (حريز) ، وسائل الشيعة : ج ٢٤ ص ١٢٣ ب ٥ ح ٣٠١٣٦.

٢٨٥

مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا ، بل الطيّب ما لا يستقذر ، فهو أمر عدميّ يمكن إحرازه بالأصل عند الشك ، فتدبّر.

______________________________________________________

على المعنى الذي ذكرناه سابقا.

الوجه الثاني من وجوه بطلان الدليل الرابع : ما أشار اليه بقوله : (مع انّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا) لأن الطيب والخبيث عنوانان عرفيان علق عليهما الحكم.

فاذا رأينا العرف يقولون : انّ هذا الحيوان طيب يكفي في الحكم بحليته ، فان الموضوعات تؤخذ من العرف والأحكام تؤخذ من الشرع ، والطيّب سواء كان بمعنى ما لا يتنفّر منه الطبع ، أو بمعنى ما لا يضر فهو شيء يعرفه العرف.

فاذا قال العرف : هذا شيء طيّب كفى في الحكم بحليته ، سواء كان من اللحوم أو غير اللحوم.

الثالث : انّ الطيّب ليس بأمر وجودي حتى لا يمكن احرازه بالأصل (بل الطيّب ما لا يستقذر) عرفا ، أو ما لا يضر ـ على ما عرفت ـ (فهو أمر عدمي يمكن احرازه بالأصل عند الشك) فاذا شككنا انّ هذا الشيء قذرا أم لا؟ نقول : انّه ليس بقذر ، لأنّ القذر أمر وجودي ، وفي الامور الوجودية لا يجري الاستصحاب ، بخلاف الامور العدمية فيجري أصل عدم الخباثة فيحكم بالحل بمقتضى الآية المباركة.

(فتدبّر) حيث ارجاع كثير من الامور الوجودية الى الامور العدمية ، فيجري الاستصحاب فيها.

٢٨٦

السادس :

حكي عن بعض الاخباريين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو :

«أنه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد الله تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة. فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما ثبت من المعلوم. فان اشتبه عليّ شيء عملت بالاحتياط. فيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار. هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل

______________________________________________________

التنبيه (السادس : حكي عن بعض الأخباريّين) وهو السيد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله (كلام لا يخلو ايراده عن فائدة) لأنّه تعرّض لنقد البراءة التي يقول بها الاصوليون (وهو انّه هل يجوّز أحد) من العقلاء (أن يقف) في القيامة للحساب (عبد من عباد الله تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم واقتفي أثره) أي : اتّبع ما وصل اليّ من قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

(و) كنت أعمل بكل (ما ثبت من المعلوم) فانّ بعض الاشياء بيّن رشده كأكل لحم الشاة فارتكبه ، وبعضها بيّن غيّه كأكل لحم الخنزير فأجتنبه ، وبعضها مشتبه (فان اشتبه عليّ شيء) كشرب التتن ودعاء الهلال ـ مثلا ـ (عملت بالاحتياط) في هذا المشتبه ، ومع ذلك (فيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط) لعمله (فيؤمر به الى النار ويحرم مرافقة الأبرار).

كلا لا يكون هكذا (هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل

٢٨٧

في الدين في الجنّة مخلدين وأهل الاحتياط في النار معذّبين» ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى على العوامّ فضلا عن غيرهم أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة ، وأمّا الافتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط ، لاحتمال

______________________________________________________

في الدين) كالعامل بالبراءة (في الجنة مخلدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين ، انتهى كلامه) رفع مقامه.

(أقول) : ان كان السيد الجزائري يريد بكلامه هذا : حسن العمل بالاحتياط فهو في محله ، لأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، وان كان يريد به حسن الفتوى بالاحتياط ، فهو ليس في محله ، لانّ الاحتياط هنا في ترك الفتوى بالاحتياط.

هذا بالاضافة الى ما سيأتي في أخير كلام المصنّف من الالماع الى انّ الأصل في الشريعة اليسر دون العسر ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) ومن الواضح : انّ الاحتياط في الموارد المشتبهة من العسر وليس من اليسر.

وعلى أيّ حال : فانّه (لا يخفى على العوام فضلا عن غيرهم انّ أحدا لا يقول بحرمة) العمل على (الاحتياط ولا ينكر حسنه وانّه سبيل النّجاة) لأنّ الاحتياط حسن على كل حال.

(وأمّا الافتاء بوجوب الاحتياط) بمعنى انّ الفقيه يفتي لمقلديه بوجوب الاحتياط (فلا اشكال في) عدم حسنه و (انّه غير مطابق للاحتياط ، لاحتمال

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

٢٨٨

حرمته ، فان ثبت وجوب الافتاء فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم ، وإلّا فالاحتياط في ترك الفتوى ، وحينئذ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فان التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ،

______________________________________________________

حرمته) فانّه كيف يفتي الانسان بشيء يحتمل حرمته؟ واذا أراد الفقيه أن يحتاط فيما لم يعلم انّ الحكم فيه هل هو البراءة ، أو الاحتياط؟ فعليه أن لا يفتي بشيء ، لا أن يفتي بالاحتياط ، وذلك لأن الافتاء امّا هو واجب على الفقيه ، أو غير واجب ، وفي كلا التقديرين محذور ، أشار الى الاول بقوله :

(فان ثبت وجوب الافتاء) على الفقيه (فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم) لأنّ الشارع ان أوجب الاحتياط كان الواجب على الفقيه أن يفتي بالاحتياط ، وان حكم بالبراءة فالواجب على الفقيه أن يفتي بالبراءة ، ويحرم عليه الافتاء بالاحتياط.

ثمّ اشار الى الثاني بقوله : (والّا) بان لم يثبت وجوب الافتاء عليه ، (فالاحتياط في ترك الفتوى) بالاحتياط.

وانّ شئت قلت : انّ ثبت لدى المستنبط البراءة أو الاحتياط أفتى به ، وانّ لم يثبت لديه أحدهما ، فان وجب عليه الافتاء كان من دوران الأمر بين المحذورين ويكون من التخيير ، وانّ لم يثبت عليه وجوب الافتاء فالاحتياط أن لا يفتي أصلا.

(وحينئذ) أي : حين لم يفت الفقيه بشيء ، لأنّه لا يجب عليه الافتاء (فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله) اذ لا مجال لمن يريد العمل ولا فتوى للمستنبط في المسألة الّا من الرجوع الى عقله (فان التفت الى قبح العقاب من غير بيان) أي : دلّه عقله على ذلك (لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه) لأن العقل حجّة

٢٨٩

وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه. كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كلّ تقدير فلا ينفع قول الأخباريّين له إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصوليّ له إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه.

______________________________________________________

باطنة كما انّ الأنبياء والائمة عليهم‌السلام حجة ظاهرة (١).

(وان لم يلتفت اليه) أي : الى قبح العقاب من غير بيان (واحتمل العقاب ، كان مجبولا على الالتزام بتركه) ومجبولا أي : محكوما بالجبلة والفطرة على ذلك ، فهو (كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا) فانّ فطرته تدله على وجوب الاجتناب عن ذلك الطريق.

(وعلى كل تقدير : فلا ينفع قول الأخباريين له) أي : للجاهل (: انّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضّرر المحتمل ، ولا قول الاصولي له : انّ العقل يحكم بنفي البأس) والبراءة (مع الاشتباه) وذلك لأنّ المفروض انّ هذا الجاهل لا يتمكن من استفتاء العالم الفرض انّ العالم يمتنع عن الجواب ، فيكون هذا الجاهل مجبورا الى الرجوع الى عقله.

ومن الواضح : انّه لا فرق بين عقل العالم وعقل الجاهل فيما يرجع فيه الى حكم العقل ، ولا يتعبد أحد بعقل الآخر ، وكون الفقيه أهل خبرة دون الجاهل

__________________

(١) ـ اشارة الى الحديث «انّ لله على الناس حجّتان ، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» بحار الأنوار : ج ١ ص ١٣٧ ب ٤ ح ٣٠ ، وورد شبيه ذلك في الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦ ح ١٢.

٢٩٠

وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ، والافتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقن من الأمرين في البين ،

______________________________________________________

لا ينفع عند تضارب الفقيهين ، فهو كما اذا سأل الجاهل عن طريق النجف فقال أحد السائقين الخبيرين : انّ الطريق من طرف الشرق ، وقال الآخر : انّه من طرف الغرب ، فهل ينفع قول أحدهما بحجّة انّه عالم وانّ السائل جاهل؟.

(وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط) علمه على الاحتياط ما دام لم يستلزم وسوسة ونحو ذلك (والافتاء بوجوبه من الاخباريين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين) فكل من الأخباريين والمجتهدين يفتي بالاحتياط أو بالبراءة من باب الأدلة التي يراها دالة على مذهبه ، ولا يحق لأحد منهما الاشكال على الآخر : بأنّه لما ذا يسلك هذا المسلك بعد اقتناعه بوجود الأدلة على مسلكه.

نعم ، لكل واحد منهما البحث مع الآخر حتى يظهر انّ الحق في هذا الجانب أو في ذاك الجانب ولا يصح لاحد منهما انّ يتهم الآخر بالتساهل في الدين ، أو التشدّد فيه.

هذا (ولا متيقن من الأمرين في البين) لوضوح : انّه لو كان متيقنا لم يذهب الطائفة الثانية الى خلاف ذلك المتيقن ، وانّما كل طرف يستظهر من الأدلة ما يختاره.

لا يقال : الافتاء بالاحتياط مطابق للاحتياط لأنّه ان كان شرب التتن في الواقع حراما مثلا فقد سلم المحتاط من محذور الحرام ، وان كان حلالا لم يكن في تركه محذور ، لأن الحلال يختار الانسان بين فعله وتركه بمجرد ارادته.

٢٩١

ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقلّ من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لا يخفى.

فما ذكره هذا الأخباريّ من الانكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، والله العالم وهو الحاكم.

______________________________________________________

لأنه يقال : (ومفاسد) الالزام و (الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه كما لا يخفى) لما تقدّم : من انّ الشرع مبنيّ على التسهيل.

قال سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) وقال سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

هذا ، مضافا الى انّ التشديد على الناس يوجب التنفّر عن الدين ، فالتسهيل أقرب ، وفي رواية : «انّ الأمر على شيعتنا أوسع ممّا بين ذه وذه ، وقد أشار الإمام عليه‌السلام الى السماء والأرض» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انّ هذا الدّين رفيق فأوغل فيه برفق ، فانّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (٤).

وعليه : (فما ذكره هذا الأخباري من الانكار) أي : الاستفهام الانكاري المتقدّم منه بقوله : «هيهات هيهات أن يكون أهل التساهل في الدين في الجنّة مخلّدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين» ، (لم يعلم توجهه الى أحد ، والله العالم وهو الحاكم).

__________________

(١) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٣) ـ تأويل الآيات : ص ١٧٦ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٦٠ ص ٤٦ ب ٣٠ ح ٢٧.

(٤) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ١١٠ ب ٢٦ ح ٢٧٠ (بالمعنى) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٢ ص ٩٤ وفيه (متين) بدل (رفيق).

٢٩٢

المسألة الثانية :

ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب

من جهة إجمال النصّ

إمّا بأن يكون اللفظ الدالّ على الحكم مجملا ، كالنهي المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة ،

______________________________________________________

«فصل»

هذا ، بالاضافة الى نقض كلامه بالشبهة الموضوعيّة وجوبيّة أو تحريميّة ، والشبهة الحكمية الوجوبية ، فاذا قيل له بوجوب الاحتياط في هذه الثلاث ، فما أجاب عنها كان هو جواب الاصولي في الشبهة الحكمية التحريمية.

قد تقدّم : انّ الشك في الشبهة التحريمية ينقسم الى أربعة مسائل ، لأن الشك امّا من جهة : فقدان النص ، أو اجمال النص ، أو تعارض النصّين ، أو الامور الخارجيّة ، وقد تقدّم الكلام في المسألة الاولى التي هي عبارة عن الشك من جهة فقدان النص ، وبقي الكلام في الأقسام الثلاثة الأخر فنقول :

اما (المسألة الثانية) من المسائل الأربع فهي : (ما اذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة اجمال النّص) بأن علمنا انّ هذا الشيء إمّا حرام أو مستحب أو مكروه ، أو مباح؟.

والاجمال (إما بأن يكون اللفظ الدال على الحكم) والمراد بالحكم : الحرمة وغير الوجوب (مجملا ، كالنهي المجرد عن القرينة) الدالة على انّه هل قصد به الحرمة أو الكراهة ـ مثلا ـ وذلك فيما (اذا قلنا باشتراكه) أي : باشتراك النهي (لفظا بين الحرمة والكراهة) فان بعض الاصوليين يرون النهي مشتركا بين الحرمة

٢٩٣

وإمّا بأن يكون الدالّ على متعلق الحكم كذلك ، سواء كان الاجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا باجماله فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة ،

______________________________________________________

والكراهة ، لاستعماله تارة في الحرمة واخرى في الكراهة ، فاذا ورد نهي ولم نعرف من القرينة الخارجية انّ المراد به الحرمة أو الكراهة كان مجملا ، فيدور الأمر بين أن يكون الشيء الفلاني المتعلق بهذا النهي حراما أو مكروها.

وكذلك الحال اذا قلنا بأنّ النهي ليس مشتركا لفظيا بين الحرمة والكراهة ، وإنّما هو مشترك معنوي بينهما ، أو انّه موضوع للحرمة ويغلب استعماله في الكراهة ، أو موضوع للكراهة ويغلب استعماله في الحرمة.

(وأما بأن يكون الدال على متعلق الحكم كذلك) أي : مجملا ، وذلك بأن لم يكن اللفظ الدال على الحكم مجملا ، وانّما يكون اللفظ الدال على موضوع الحكم مجملا مرددا بين أمرين ، فانّه اذا كان المتعلق مجملا سرى الاجمال منه الى الحكم.

مثلا : اذا قال : لا تكرم الفاسق ، وشك في انّ المراد منه كلّ أقسام الفسق صغيرة وكبيرة ، أو مرتكب الكبيرة فقط؟ فيكون حرمة اكرام مرتكب الصغيرة مشكوكا ، وذلك لاجمال متعلق التكليف وموضوعه ، فيسري اجمال الموضوع الى الحكم ، فيكون الحكم مجملا مشتبها فيه (سواء كان الاجمال في وضعه) اللّغوي (كالغناء اذا قلنا باجماله) فانّ اللغويين اختلفوا في معناه وانّه هل هو الصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع فيه ، أو الصوت الجامع لهما؟.

وعليه : (فيكون المشكوك في كونه غناء) وهما المعنيان الأوّلان (محتمل الحرمة) لأن المتيقن هو الصوت المطرب المرجّع فيه ، أما الصوت المطرب وحده ، أو المرجّع فيه وحده فهو محتمل الحرمة ، فيرجع فيه الى البراءة.

٢٩٤

أم كان الاجمال في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به ، والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الأولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

______________________________________________________

والحاصل : انّ الأمر انّما يكون فيما إذا كان هناك قدر متيقن وقدر زائد على ذلك القدر المتيقن ، فالقدر المتيقن يؤخذ به ، والقدر الزائد يكون مشكوكا فيه ويكون حكمه البراءة لا الاحتياط.

(أم كان الاجمال في المراد منه) من جهة الشك في أنّ المولى هل أراد المعنى الحقيقي والمجازي ، أو الحقيقي فقط؟ أو المولى أراد المعنى المنقول منه والمنقول اليه ، أو أراد أحدهما فقط؟ أو كان اللفظ مشككا ، له أفراد مختلفة في الجلاء والخفاء ، فلم يعلم هل المولى أراد الافراد الخفية أيضا أو أراد الافراد الجلية فقط؟.

(كما اذا شك في شمول الخمر للخمر غير المسكر ولم يكن هناك اطلاق يؤخذ به) فانّه اذا كان اطلاق أخذ به قطعا ، فلو أن خمرا ازيل اسكاره بالشمس أو الهواء أو بالوسائل الطبيّة ، فهل يبقى حراما أو لا؟ وذلك فيما اذا لم يكن استصحاب ونحوه ، أما اذا كان استصحاب ونحوه فهو واضح.

والحاصل : إنّ الشك في هذا المقام ناتج من الشك في انّ المولى كم أراد من هذا الموضوع؟ هل أراد بعض الأفراد ، أو أراد جميع الأفراد؟.

(والحكم في ذلك كلّه) من الاجمال لجهة الاشتراك في اللفظ ، أو الاشتراك في متعلق الحكم ، أو في خفاء المراد (كما في المسألة الاولى) وهو : جريان البراءة عن التحريم في الجميع (والأدلة المذكورة من الطرفين) : الأخباري والاصولي (جارية هنا) أيضا كما كانت جارية في المسألة الاولى ، وهو :

٢٩٥

وربّما يتوهّم : أنّ الاجمال إذا كان في متعلّق الحكم ، كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ، كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم ، وهو فاسد.

______________________________________________________

مورد فقدان النص.

(وربّما يتوهم : انّ الاجمال اذا كان في متعلق الحكم) وموضوعه (كالغناء ، وشرب الخمر غير المسكر ، كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم) أي :

شبهة موضوعية وليست شبهة حكمية ، فاللازم أن يذكر ذلك في مسألة الشبهة الموضوعية لا في مسألة الشبهة الحكمية ، فلما ذا ذكره المصنّف في هذا المقام الذي هو بحث الشبهة الحكمية؟.

(و) لكن هذا التوهّم (هو فاسد) لوضوح : انّ مناط الشبهة الحكمية انّ تكون الشبهة ناشئة من فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، فيحتاج المكلّف فيها الى استطراق باب الشارع ، بينما مناط الشبهة الموضوعية أن تكون الشبهة ناشئة عن اشتباه الامور الخارجية والمكلّف محتاج فيها الى استطراق باب العرف.

ومن المعلوم : إنّ الشبهة في الغناء والخمر محتاج الى استطراق باب الشارع ، لأنا لا نعلم هل الشارع حكم بتحريم كل خمر وكل غناء ، أو حكم بتحريم بعض منهما؟.

ولو راجعنا العرف فيهما لم يعرف الجواب ، وانّما الشارع هو الذي يعرف الجواب عنهما ، فالشبهة فيهما شبهة حكمية وليست شبهة موضوعية.

٢٩٦

المسألة الثالثة :

أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة

تعارض النصّين وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما

والأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط ، لعدم الدليل عليه ، عدا ما تقدّم من الوجوه التي عرفت حالها ، وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين ،

______________________________________________________

(المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين) بأن يكون هناك نصان : أحدهما : يدل على الحرمة ، والآخر : يدل على الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة (وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما) أي : لأحد النصين على الآخر ، بأن لم يكن لأحدهما من حيث السند ، أو الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو المضمون ، مزية ملزمة ، اذ المزية اذا لم تكن ملزمة لم تكن مزية في هذا الباب ، فاذا تعارض النصان ولم يكن لأحدهما مرجّح على الآخر ، عملنا بالبراءة فيجوز لنا أن نعمل بهذا أو بذاك.

ولهذا قال المصنّف : (والأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط) والعمل فيه بالبراءة ، وذلك (لعدم الدليل عليه) أي : على الاحتياط في تعارض النصين (عدا ما تقدّم من الوجوه التي عرفت حالها) من أدلة التوقف عند الشبهة والاحتياط ، وقد تقدّم : عدم دلالتها على الاحتياط الذي يقول به الأخباريون (و) عدا (بعض ما ورد في خصوص تعارض النصين) حيث انّ بعض الروايات الواردة في تعارض النصين دالّ على الاحتياط.

٢٩٧

مثل ما في غوالي اللئالي من مرفوعة العلامة ، إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام ، «قال : قلت : جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ فقال : يا زرارة! خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشّاذّ النادر ،

______________________________________________________

وعليه : فدليل الأخباريين بالاحتياط في المقام منحصر في هذين الأمرين :

الأوّل : الأدلة السابقة التي ذكرناها.

الثاني : بعض الروايات الواردة بالاحتياط في صورة تعارض النصين مع عدم مزية لأحدهما على الآخر.

(مثل : ما في غوالي اللئالي) والظاهر : انّه بالغين كما هو المشهور لا بالعين كما ذكره المحدّث النوري رحمه‌الله (من مرفوعة العلّامة الى زرارة عن مولانا ابي جعفر عليه‌السلام قال : قلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان) ولعلّ الفرق بينهما : إنّ الخبر يراد به : النقل عن رسول الله ، أو عن الأنبياء والاولياء السابقين أو عن الله سبحانه وتعالى.

وانّ الحديث يراد به : ما قاله الائمة المعصومون من الأحكام فان الإمام عليه‌السلام قد يقول : قال رسول الله ، كذا ، فهذا خبر ، وقد يقول : انّ الحكم كذا ، فهذا حديث ، لأنه حادث وجديد وليس بخبر ، فاذا جاءنا (المتعارضان فبايّهما نعمل؟ فقال) عليه‌السلام : (يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشاذ النّادر).

والظاهر انّ قوله : «النادر» ، عطف بيان على «الشاذ» ، لا أن المراد «الشاذ» في قبال «النادر» ، لأنهما قد يطلق أحدهما على الآخر ، وقد يراد بكل واحد منهما

٢٩٨

فقلت : يا سيّديّ! إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ، فقال : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ، فانّ الحقّ فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف نصنع؟ قال : خذ بما فيه الحائطة لدينك

______________________________________________________

معنى خاصا ، كأن يقال : الشيخ المرتضى عالم نادر في الفقه ، ولا يقال : انّه شاذ ، وانّما يقال : الشاذ لمن خرج عن الطريقة المستقيمة فيقال : الشلمغاني شاذ.

وعلى أي حال : يقول زرارة : (فقلت : يا سيدي انّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم) فبأيهما نأخذ بعد كونهما مشهورين معا؟.

(فقال) عليه‌السلام : (خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : انّهما معا عدلان مرضيان موثقان عندي) فبأيهما نأخذ؟.

(فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه ، وخذ بما خالفهم فان الحق فيما خالفهم) والسّر فيه : انّهم كانوا يتعمدون ما هو خلاف الائمة عليهم‌السلام ـ كما لا يخفى على من راجع التاريخ ـ فكان ما يخالفهم هو قول الائمة عليهم‌السلام ، وسيأتي الالماع اليه في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

(قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف نصنع؟) مثلا : خبر يقول بوجوب الجمعة ، وآخر بحرمتها ، والعامة لهم في المسألة أيضا نفس القولين ، أو أن العامة يقولون بالاستحباب ممّا يخالف الروايتين معا؟.

(قال) عليه‌السلام : (خذ بما فيه الحائطة لدينك) وهذه الفقرة هي محلّ الكلام بين الاخباريين والاصوليين في انّه هل يجب الاحتياط حينئذ كما يقوله الاخباريون

٢٩٩

واترك ما خالف الاحتياط ، فقلت : إنّهما موافقان للاحتياط او مخالفان ، فكيف أصنع ، قال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» ، الحديث.

وهذه الرواية وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير ،

______________________________________________________

أو العمل على البراءة كما يقوله الاصوليون؟.

ثم اضاف عليه‌السلام : (واترك ما خالف الاحتياط) فاذا قال أحدهما بحرمة شرب التتن ـ مثلا ـ وقال الآخر باباحته ، فانّ الاحتياط في الترك.

(فقلت : انهما موافقان للاحتياط) بان يدل أحدهما على وجوب الظهر ـ مثلا ـ والآخر على وجوب الجمعة ، فان الاتيان بالظهر احتياط ، لأنّه مقطوع عدم الحرمة ، وكذلك الاتيان بالجمعة احتياط لأنّه مقطوع عدم الحرمة.

(أو مخالفان) للاحتياط ، بأن يدل أحدهما على استحباب الفعل ، والآخر على كراهته ، مع قيام دليل غير معتبر على وجوبه أو على حرمته ، فالاستحباب والكراهة كلاهما مخالفان للاحتياط الذي هو الاتيان قطعا لوجوبه ، أو الترك قطعا لحرمته ، وعليه : (فكيف أصنع) حينئذ؟.

(قال) عليه‌السلام : (إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر (١) ، الحديث. وهذه الرواية وان كانت أخصّ من) سائر (أخبار التخيير) لذكر الاحتياط في هذا الخبر دون سائر الأخبار ، وكلّما كانت القيود أكثر كان الخبر أخصّ ـ كما هو واضح ـ فاذا قال خبر : «أكرم العالم» ، وقال آخر : «أكرم العالم العادل» ، كان الخبر الثاني أخص من الخبر الاول.

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

٣٠٠