الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ومنه ، يظهر فساد ما انتصر به بعض المعاصرين للمستدلّ ، بعد الاعتراف بما ذكرنا من ظهور القضيّة في الانقسام الفعليّ ، فلا يشمل مثل شرب التتن من : «أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام واشتبه قسم ثالث منه ، كاللحم ، فانّه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الخنزير ، فهذا الكلّيّ

______________________________________________________

ب (ومنه) أي : من أنّ قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» بيان لمنشا الشبهة ، فيختص بالشبهة الموضوعيّة ولا يشمل الشبهة الحكميّة (يظهر فساد ما انتصر به بعض المعاصرين) وهو النراقي ، فقد انتصر (للمستدل) وهو السيد الصدر (بعد الاعتراف) من هذا المعاصر (بما ذكرنا : من ظهور القضيّة في الانقسام الفعلي ، فلا يشمل مثل شرب التتن) الذي ليس فيه الانقسام الفعلي ، ممّا يدل على ان هذا المعاصر لم يرتض بالترديد الذي ذكره السيد الصدر.

ولا يخفى : انّ استثنائه لشرب التتن أيضا محل تأمّل لما تقدّم : من انّه يمكن تصوير الانقسام فيه ، فان قسما من الشرب حلال ، وقسما منه حرام ، وقسما لا يعلم حكمه ، فهناك ـ مثلا ـ ثلاث سيجارات : أحدها : حشي بنجا فهو حرام ، والآخر : حشي بالبنفسج فهو حلال ، والثالث : لا نعلم انه حلال أو حرام فهو حلال بمقتضى الرواية.

ثم بيّن المصنّف كيفية انتصار هذا المعاصر بقوله : (من انّا نفرض شيئا له قسمان : حلال وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه) بالشبهة الحكمية التي هي محل الكلام بين الاصوليين والأخباريين ، والاصوليون يستدلون بهذا الحديث على حليتها (كاللّحم) الكليّ (فانّه شيء فيه حلال وهو لحم الغنم ، وحرام وهو لحم الخنزير) وقسم ثالث يشتبه بأنّه حلال أو حرام كلحم الحمار (فهذا الكلّي

٤١

المنقسم حلال ، فيكون لحم الحمار حلالا حتّى تعرف حرمته».

وجه الفساد : أنّ وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار ولا دخل له في هذا الحكم أصلا ، ولا في تحقق الموضوع ،

______________________________________________________

المنقسم : حلال ، فيكون لحم الحمار حلالا حتى تعرف حرمته) (١) فتتركه.

(وجه الفساد) لكلام النراقي هو : (ان) قوله عليه‌السلام في الخبر المتقدم : فيه حلال وحرام ، إنما هو بيان لسبب الشبهة ، و (وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار) فانّ القسمين لو كانا معا حلالا أو كانا معا حراما لشككنا أيضا في لحم الحمار.

وإنّما نشك في لحم الحمار ، لفقد النصّ ، أو لإهماله ، أو لتعارضه ، فلا تشمل الرواية مثل لحم الحمار (ولا دخل له) أي : لوجود القسمين (في هذا الحكم) بحلية لحم الحمار (أصلا). فانّ من الواضح : ان حلية الغنم وحرمة الخنزير ، لا يؤثران في حكم الشرع بحلية لحم الحمار (ولا) دخل لهذين القسمين (في تحقق الموضوع) للحكم بالحلية ، إذ موضوع الحكم بالحلّية هو : الشك الناشئ ، من فقدان النص ، أو اهمال النّص ، أو تعارض النصين وليس هو وجود القسمين في الشيء.

لكن ربّما يقال : انّ في كلام المصنّف نظر ، فانّ لوجود القسمين دخل في الشك في القسم الثالث ، فانّه إذا علمنا انّ للشارع في الطيور حلالا وحراما ، وعرفنا الحلال في الحمام ، والحرام في الطاوس ، ولم نعرف قسما ثالثا فشككنا في انّه من أي منهما كان له دخل ، فهو كما إذا علمنا بأنّ للشارع في لحم الغنم

__________________

(١) ـ مناهج الاحكام للنراقي : ص ٢١٤ ، بحر الفوائد : ح ٢ ص ٢٢.

٤٢

وتقييد الموضوع بقيد أجنبيّ لا دخل له في الحكم ولا في تحقّق الموضوع مع خروج بعض الأفراد منه ، مثل شرب التتن ، حتّى احتاج هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه ، ممّا يوجد في نوعه قسمان معلومان بالاجماع

______________________________________________________

حلالا هو المذكى ، وحراما هو الميتة ، ولم نعرف قسما ثالثا فشككنا انّه من أي منهما ، فمنشأ الشك في القسم الثالث في المثالين هو وجود القسمين ، وإلّا لو كان كل الطيور حلالا ، أو كل الطيور حراما ، لم نكن نشك في القسم الثالث ، وهو الغراب ، كما انّه كذلك لو كان كل اللحوم للأغنام حلالا ، أو كل اللحوم للأغنام حراما.

(وتقييد) هذا مبتدأ خبره «مستهجن» يأتي فيما بعد مما حاصله : ان تقييد الإمام عليه‌السلام (الموضوع) في الخبر المتقدّم ، والموضوع ، هو : كل شيء (بقيد أجنبي) والمراد : انّه اجنبيّ عن الموضوع وعن الحكم حيث قال عليه‌السلام : فيه حلال وحرام (لا دخل له) اي لهذا القيد (في الحكم) أي : في حلية لحم الحمار (ولا في تحقيق الموضوع) أي : الشك في لحم الحمار ، لأنّه نشك في لحم الحمار فنقول : بالحلية حسب ما قاله النراقي وغيره.

هذا (مع خروج بعض الأفراد منه) أي : هناك قسم ليس من هذا القبيل باعتراف النراقي نفسه (مثل : شرب التتن) إذ النراقي انّما ألحق شرب التتن بالحمار في المثال ليساوي الاجماع ، لا انه جعله من نفس «كل شيء فيه حلال وحرام» (حتى احتاج هذا المنتصر) وهو النراقي (إلى إلحاق مثله) أي : مثل التتن (بلحم الحمار وشبهه ، ممّا يوجد فيه نوعه قسمان معلومان).

فان النراقي ألحق التتن بلحم الحمار لا بشمول الدليل للتتن ، بل (بالاجماع

٤٣

المركّب مستهجن جدّا لا ينبغي صدوره من متكلّم فضلا عن الإمام عليه‌السلام.

هذا ، مع أنّ اللازم ممّا ذكر عدم الحاجة إلى الاجماع المركّب ، فانّ الشرب فيه قسمان : شرب الماء

______________________________________________________

المركّب) وهو : ان كلّ من قال بحلية لحم الحمار قال بجواز شرب التتن ، وكل من قال بحرمة لحم الحمار قال بحرمة شرب التتن ، فليس لنا ان نفصّل بينهما فنقول بحلية لحم الحمار وحرمة شرب التتن.

وحيث انّ الرواية شملت حلية لحم الحمار ، فلا بدّ ان نقول بحلية جواز شرب التتن.

وعليه : فهذا التقييد (مستهجن جدا لا ينبغي صدوره من متكلم) عادي (فضلا عن الإمام عليه‌السلام) فإنّ الإمام لو قصد شمول الرواية للشبهة الحكمية لم يذكر القيد الذي لا ينفع في باب هذه الشبهة بل يوجب خروج بعض افراد الشبهة ، مثل : شرب التتن ، فانه لو أراد شمول الرواية للشبهة الحكمية كان اللازم أن يقول : كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام ، كما ورد في رواية اخرى ، وعلى هذا : فالرواية السابقة المقيدة بقوله : فيه حلال وحرام خاصة بالشبهة الموضوعية ولا تشمل الشبهة الحكمية.

(هذا) هو الاشكال الأوّل من المصنّف على النراقي ، واما الاشكال الثاني عليه ـ والظاهر انه وارد عليه ، كما ألمعنا إليه سابقا ـ فهو ما أشار إليه بقوله : (مع انّ اللازم ممّا ذكر) حيث فرضنا شيئا له قسمان : حلال وحرام ، كما فرضنا بالنسبة إلى لحم الحمار فانّه مشتبه بين قسمين حلال هو الغنم ، وحرام هو الخنزير فاللازم منه (عدم الحاجة إلى الاجماع المركّب) في حكم التتن أيضا وذلك بفرض القسمين فيه كما قال : (فان الشرب) كليّ (فيه قسمان : شرب الماء ،

٤٤

وشرب البنج وشرب التتن كلحم الحمار بعينه ، وهكذا جميع الأفعال المجهولة الحكم.

وأمّا الفرق بين الشرب واللحم بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

______________________________________________________

وشرب البنج) والأوّل : حلال كلحم الغنم ، والثاني : حرام كلحم الخنزير.

(وشرب التتن) الذي هو القسم الثالث يكون حينئذ (كلحم الحمار بعينه) فإنّه مشكوك بأنّه حلال أو حرام ، فاللازم أن يكون التتن كلحم الحمار في الحلية ، لأنه قسم ثالث داخل في كليّ الشرب ، كما ان لحم الحمار قسم ثالث داخل في كليّ اللحم.

(وهكذا) يمكن فرض القسمين لا في التتن فقط بل في (جميع الأفعال المجهولة الحكم).

لا يقال : فرق بين التتن ولحم الحمار ، إذ اللحم كليّ قريب للغنم والخنزير والحمار ، بخلاف الشرب فهو كليّ بعيد ، إذ الشرب له قسمان :

شرب المائع ، والتدخين الذي يصطلح عليه بالشرب أيضا ، والتدخين له أقسام ، فيدخل لحم الحمار في كلّي اللحم ، لانّه جنس قريب إلى لحم الحمار ، بخلاف شرب التتن فانّه لا يدخل في كليّ الشرب لأنه جنس بعيد بالنسبة اليه.

لأنه يقال : (وأمّا الفرق بين الشرب واللّحم : بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن) وشرب البنج مثلا (بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي ان يصغى إليه) لوضوح :

عدم الفرق بين القريب والبعيد ، إذ للتتن أيضا جنس قريب وهو التدخين كما تقدّم : من انّه على ثلاثة اقسام : قسم محرم هو : التدخين بالبنج ، وقسم محلل

٤٥

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف الحرام منه» ، معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ، ومعلوم أنّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّيّة لحم الحمار.

______________________________________________________

وهو : التدخين بالبنفسج ، لأنّه نافع لبعض الأمراض ، وقسم مشكوك فيه وهو : التدخين بالتتن.

وعليه : فلو أغمضنا النظر عن أصل الاشكال الذي ذكرناه على النراقي ، فلا ينبغي الفرق بين التتن ولحم الحمار ، وفي شمول الرواية لهما ، كما لا حاجة في إدخال التتن في حكم الاباحة بما ذكره من الاجماع المركب.

(هذا كلّه) هو أول الاشكالين على النراقي ، حيث أشرنا إليه بقولنا : وجه الفساد : ان وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار ، وهناك إشكال آخر على النراقي أشار إليه المصنّف بقوله :

(مضافا إلى انّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف الحرام منه» : معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء) فانّ المصنّف استظهر من الرواية : انّ هذا اللحم حلال حتى تعرف انّه غير مذكى ، فهناك لحمان : مذكى وميتة ، الأوّل : حلال ، والثاني : حرام ، والثالث : لا يعرف انّه حلال أو حرام ، فيحكم بحليته حتى يعرف انّه من الميتة الذي هو القسم الحرام من القسمين.

وعليه : فاذا شك الانسان في لحم ، فهو له حلال حتى يعرف انّه داخل في القسم الثاني الذي هو الميتة ، وليس كذلك لحم الحمار ، فانّه لا يكون له حلالا حتى يعرف انّه لحم الخنزير ، لانه واضح (ومعلوم انّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّية لحم الحمار) فانّه لا يعقل أن يقال اللحم الذي فيه حلال كالغنم ، وحرام كالخنزير ، هو لك حلال عند الشك في لحم الحمار حتى تعرف

٤٦

وقد اورد على الاستدلال :

______________________________________________________

انّه حرام لكونه لحم الخنزير.

لكن يمكن أن يقال في ردّ هذا الاشكال بما يلي :

أوّلا : من أين لزوم دخول اللحم المشكوك في العنوان الثاني حتى يشمله الخبر ، بل الخبر يشمل ذلك كما يشمل ما لم يكن اللحم المشكوك داخلا في أحد القسمين؟.

وثانيا : من الممكن أن يقال على تقدير القسمين أيضا : انّ ما خلقه الله من اللحوم قسم منه حلال وقسم منه حرام ، فاذا شك في لحم الحمار يحكم بحليته حتى يعلم بكونه داخلا في القسم الحرام.

وإلى هنا انتهى كلام المصنّف في الاشكال على النراقي الذي جعل الخبر أعمّ من الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، حيث انّ المصنّف يرى انّ الخبر لا يشمل إلا الشبهة الموضوعيّة فقط ، فلا يكون دليلا على البراءة التي ذكرها الاصوليون ، واستشهدوا بهذا الخبر له.

ثم انّ المحقق القميّ أشكل على الاصوليين الذين جعلوا الخبر دليلا على البراءة في الشبهة الحكمية بالاضافة الى كونه دليلا على البراءة في الشبهة الموضوعيّة : بأنّه يلزم من شمول الخبر للقسمين من الشبهة استعمال اللفظ في معنيين ، فتارة يراد بقوله : «فيه حلال وحرام» الشبهة الحكمية أي : ما يحتمل انّه حلال أو حرام كالتتن ، وتارة يراد به : الشبهة الموضوعيّة أي : ما لا يعلم انّه مذكى أو ميتة ، وإنّما يكون استعمالا للفظ في معنيين ، لأنّه تارة يكون بمعنى الترديد ، وأخرى بمعنى التقسيم ، والى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : (وقد أورد) المحقق القميّ (على الاستدلال) أي : استدلال السيد الصدر بهذه الرواية

٤٧

«بلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» ، في معنيين ، أحدهما أنّه قابل للاتصاف بهما.

وبعبارة أخرى : يمكن تعلّق الحكم الشرعيّ به ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما ، والثاني ، أنّه منقسم إليهما ،

______________________________________________________

على البراءة في الشبهة الحكمية إضافة إلى شمول الرواية للشبهة الموضوعيّة (بلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» في معنيين) ومن المعلوم : ان استعمال اللفظ في معنيين ، إما محال كما قاله الآخوند ، وإما خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة ولا قرينة في المقام كما قاله مشهور الاصوليين وأما المعنيين : فهما عبارة عمّا يلي :

(أحدهما : انّه) أي : انّ قوله عليه‌السلام : «كل شيء» (قابل للاتصاف بهما) أي : بالحلال والحرام بمعنى الترديد.

(وبعبارة أخرى : يمكن تعلق الحكم الشرعي) من الحلال والحرام (به) أي : بقوله : «كل شيء» (ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما) أي : ما لا يقبل الحكم الشرعي أصلا ، كالأفعال الاضطرارية ، والأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلّف ـ كما تقدّم في كلام السيد الصدر ـ.

وعلى هذا : فقوله : «فيه حلال وحرام» هو بمعنى الترديد كشرب التتن ، وهي الشبهة الحكمية.

(والثاني : انّه) أي : ان قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء» (منقسم إليهما) أي : إلى الحلال والحرام فيكون هناك قسم حلال كالمذكى ، وقسم حرام كالميتة ولا قسم مشكوك الموضوع ، فلا يعلم انّه داخل في القسم الحرام أو في القسم الحلال وهو الشبهة الموضوعية فيخرج بهذا المعنى ما علم انه حلال لا حرام فيه أو حرام

٤٨

ويوجد النوعان فيه إمّا في نفس الأمر أو عندنا ، وهو غير جائز ، وبلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» ، في المعنيين أيضا ، لأنّ المراد حتّى تعرف من الادلّة الشرعيّة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه وتعرف من الخارج من بيّنة أو غيرها

______________________________________________________

لا حلال فيه ، كما ذكره السيد الصدر أيضا.

(و) بعبارة أخرى : كل شيء فيه حلال وحرام يعني : (يوجد النوعان فيه أمّا في نفس الأمر) أي : فعلا هو منقسم الى قسمين ، ولا نعلم انّ هذا المشكوك داخل في القسم الحرام ، أو في القسم الحلال ، كما في الشبهات الموضوعية من مثال المذكى والميتة واللحم المشكوك بينهما.

(أو عندنا) أي : انا نتردد في ان هذا المشكوك حلال أو حرام بدون وجود القسمين فيه ، كما في الشبهات الحكمية.

(وهو) أي : استعمال اللفظ في أكثر من معنى (غير جائز).

هذا هو الاشكال الأوّل من المحقّق القميّ على السيد الصدر ، وله اشكال ثان عليه ، وهو : ان استعمال اللفظ في معنيين يلزم أيضا في قوله عليه‌السلام : «حتى تعرف الحرام» فانّه يكون حينئذ بمعنى : أن تعرف انّه داخل في القسم الحرام كما في الميتة والمذكى في الشبهة الموضوعيّة ، وتعرف انّ حكمه الحرمة من الخارج كما في التتن في الشبهة الحكميّة ، وإلى هذا الاشكال الثاني أشار المصنّف بقوله :

(وبلزوم استعمال قوله عليه‌السلام : «حتى تعرف الحرام منه بعينه» في المعنيين أيضا) وذلك غير جائز (لأن المراد : حتى تعرف) الحرمة (من الأدلّة الشرعيّة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه) في الشبهات الحكمية (وتعرف من الخارج : من بيّنة أو غيرها) كاخبار ذي اليد ، وسوق المسلمين وأرضهم ، وما أشبه ذلك

٤٩

الحرمة ، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمّل» ، انتهى.

وليته أمر بالتأمّل في الايراد الأوّل أيضا ، ويمكن إرجاعه إليهما معا ، وهو الأولى.

هذه جملة ما استدلّ به من الأخبار.

والانصاف : ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما

______________________________________________________

(الحرمة ، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه) في الشبهات الموضوعية.

ثم قال المحقّق القميّ : (فليتأمّل) إشارة إلى انّه ممكن دفع الاشكال الثاني : بأنّ المعرفة قد استعملت في معنى واحد وهو العلم ، إلّا أن طرق المعرفة مختلفة ، فربّما تكون المعرفة من الدليل الشرعي ، وربّما تكون المعرفة من الامور الخارجية وعليه : فالإشكال الثاني عند المحقق القميّ أيضا وارد على السيد الصدر (انتهى) كلام المحقّق القميّ أعلى الله مقامه :

قال المصنّف رحمه‌الله : (وليته) أي : ليت المحقق القميّ (أمر بالتأمّل في الايراد الأوّل أيضا) بأنّه من الممكن أن يكون قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» قد استعمل في معنى واحد وهو ما فيه الاشتباه الّا انّ ما فيه الاشتباه قد يكون منشؤه : إجمال النّص ، أو فقدانه ، أو تعارض النصين ، وقد يكون منشأة : الامور الخارجية.

هذا (ويمكن إرجاعه) أي : إرجاع التأمّل الذي امر به المحقّق القميّ (إليهما) أي : إلى كلا الايرادين (معا ، وهو الأولى) أي : ارجاع التأمّل إلى كلا الايرادين يكون أولى هكذا ذكر بعض الشراح والمحشين وجه التأمّل في كلام المصنّف ، لكن لنا في كون مراد المصنّف من التأمّل ما ذكروه تأمّل.

وكيف كان : فانّ (هذه جملة ما استدل به من الأخبار) على البراءة.

(والانصاف : ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما

٥٠

لا نصّ فيه في الشبهة بحيث لو فرض تماميّة الأخبار الآتية للاحتياط وقعت المعارضة بينهما. لكن بعضها غير دالّ إلّا على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به ، فلا تعارض ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجّيّة سندا ودلالة.

______________________________________________________

لا نصّ فيه في الشبهة) الحكمية مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه النهي» (١) وغير ذلك (بحيث لو فرض تماميّة الأخبار الآتية للاحتياط) ممّا استدل بها الأخباريون للاحتياط في الشبهة التحريمية (وقعت المعارضة بينهما) لأن كلّ شيء مطلق يقول : ما لم يكن نهي فهو حلال ، وخبر الاحتياط يقول : يلزم الاحتياط وإن لم يكن نهي.

(لكن بعضها) أي : بعض أخبار البراءة (غير دال إلّا على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به) أي بالاحتياط (فلا تعارض) هذه الأخبار الدالة على البراءة (ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت) أخبار الاحتياط (للحجّية) بأن تمت دلالتها ، وسندها ، وجهة صدورها بحيث كانت كما قال : حجّة (سندا و) نصّا ، أو ظاهرا (دلالة) وصادرة لأجل بيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها.

بل يلزم أن يقال حينئذ : انّ أخبار الاحتياط حاكمة على هذه الأخبار الدالة على البراءة كما سيجيء ، وإلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات والأخبار على البراءة.

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

٥١

وأمّا الاجماع فتقريره على وجهين :

الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريّين على أنّ الحكم ـ فيما لم يرد فيه دليل عقليّ أو نقليّ على تحريمه من حيث أنّه مجهول الحكم ـ هي البراءة وعدم العقاب على الفعل.

وهذا الوجه لا ينفع إلّا بعد عدم تماميّة ما ذكر من الدّليل العقليّ والنقليّ للحظر والاحتياط ، وهو نظير حكم العقل الآتي.

______________________________________________________

(وأمّا الاجماع فتقريره على وجهين) بالنحو التالي :

(الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريين على انّ الحكم) العلميّ (فيما لم يرد فيه دليل) عام أو خاص (عقليّ أو نقليّ على تحريمه) أي : تحريم الشيء المشكوك في انّه حرام أو حلال (من حيث انّه مجهول الحكم : هي البراءة وعدم العقاب على الفعل).

الضمير : «هي» راجع ، إلى قوله : «الحكم» ، وانّما انّث الضمير باعتبار البراءة ، فانّ الضمير الذي يتوسط بين مذكر ومؤنث يجوز فيه التذكير والتأنيث.

(وهذا الوجه) من الاجماع الذي هو إجماع فرضي (لا ينفع إلّا بعد عدم تمامية ما ذكر : من الدّليل العقليّ والنّقليّ للحظر والاحتياط) إذ لو تمّ ما استدل به الأخباريون على الاحتياط من العقل أو النقل ، لم يكن مجال لهذا الاجماع.

(وهو) أي : هذا الاجماع الفرضي يكون (نظير حكم العقل الآتي) فيما بعد ، الدال على البراءة ، فانّ العقل انّما يدل على البراءة إذا لم يكن دليل للاحتياط ، أما إذا كان هناك دليل على الاحتياط لم يكن مجال لحكم العقل.

٥٢

الثاني : دعوى الاجماع على أنّ الحكم ـ فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ـ عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب.

وتحصيل الاجماع بهذا النحو من وجوه :

الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه فانّك لا تكاد تجد من زمان المحدّثين إلى زمان أرباب التّصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط.

______________________________________________________

(الثاني : دعوى الاجماع) الحدسي الذي لا يضره مخالفة الأخباريين ، فانّ الاجماع الحدسي عبارة عن : اتفاق جماعة من العلماء ينتقل الذهن من اتفاقهم إلى رأي المعصوم عليه‌السلام ، ولا يحتاج مثل هذا الاجماع إلى اتفاق الكل كما ذكر في مبحث الاجماع ، وهذا الاجماع إنّما هو (على انّ الحكم فيما لم يرد) فيه (دليل) خاص أو عام (على تحريمه) واقعا (من حيث هو) فانّ شرب التتن من حيث هو ، له حكم ، ومن حيث انه مشكوك ، له حكم ، وحكمه (: عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب) وذلك للبراءة.

(وتحصيل الاجماع بهذا النحو) أي : الاجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام حدسا (من وجوه) تالية :

(الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه) والاصول ، وهذا يسمى : بالاجماع المحصّل في قبال الاجماع المنقول ، الذي ينقله فقيه واحد أو أصولي واحد (فإنّك لا تكاد تجد من زمان المحدّثين) وهم أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وتابعيهم الّذين كتبوا الأحاديث (إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى : من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط).

فلا ترى أحدا من مثل : شيخ الطائفة ، والمفيد ، والمرتضى ، وابن البرّاج ،

٥٣

نعم ، ربما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط بعدم وجوبه فيها.

ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول.

فمنهم ثقة الاسلام الكلينيّ رحمه‌الله ، حيث صرّح في ديباجة الكافي ب «أنّ الحكم فيما اختلف فيه الأخبار التخيير».

______________________________________________________

وغيرهم يعتمد في الحكم بالحرمة على الاحتياط ، وانّما يستندون في الحرمة كاستنادهم في الوجوب إلى الأدلة الأربعة.

(نعم ، ربّما يذكرونه) أي : يذكرون الاحتياط (في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط) في الشبهة التحريميّة وهم الأخباريون (بعدم وجوبه فيها) أي : بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية.

وعلى اي حال : فذكرهم للاحتياط انّما هو للتأييد لا للاستناد ، سواء ذكر الاحتياط في الشبهة الوجوبية أو في الشبهة التحريميّة.

ثم انّ المصنّف تطرّق لذكر بعض كلماتهم فقال : (ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول) أي : القول بالبراءة فيما لم يكن على حرمته دليل صريح من الأدلة الأربعة (فمنهم : ثقة الاسلام الكليني رحمه‌الله حيث صرّح في ديباجة الكافي : بانّ الحكم فيما اختلف فيه الأخبار) اي اختلف بالتعارض هو (: التخيير) فاذا ورد ـ مثلا ـ خبر بقول : «ثمن العذرة سحت» (١) ،

__________________

(١) ـ تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٢٠ ح ٢٢٢٨٤.

٥٤

ولم يلزم الاحتياط مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان ، وما لم يرد فيه نصّ بوجوبه في خصوص ما لا نصّ فيه ، فالظاهر أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا.

______________________________________________________

وخبر آخر يقول : «لا بأس ببيع العذرة» (١) يكون المكلّف مخيرا بين الأمرين.

هذا (ولم يلزم) الكليني رحمه‌الله (الاحتياط) في باب تعارض الأخبار (مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان) فقد قال الامام عليه‌السلام في مورد تعارض الأخبار : «خذ بما وافق الاحتياط منهما».

(و) حيث (ما لم يرد فيه نصّ بوجوبه) أي : بوجوب الاحتياط (في خصوص ما لا نصّ فيه) يكون حال ما لا نصّ فيه مثل حال تعارض الأخبار ، فكما في مورد تعارض الأخبار ، كذلك لا احتياط في مورد عدم النصّ.

ثم إنّ الكليني رحمه‌الله لما قال : بالبراءة في صورة التعارض ، ولم يعمل بما ورد فيها من النص الخاص بالاحتياط ، لا بد وان يقول : بالبراءة في صورة فقدان النّص الذي هو محل البحث ، بطريق أولى ، والأولوية من جهة : انّ في مورد تعارض النصين يوجد نص بالتحريم ، وفي مورد فقدان النص ، لا يوجد نص بالتحريم ، فاذا كان الحكم بالبراءة في مورد يكون فيه نص على التحريم ، كان الحكم بالبراءة في المورد الذي لا نص فيه بطريق أولى.

وعليه : (فالظاهر : انّ كل من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك) في تعارض النصين (قال به) أي : بعدم وجوب الاحتياط (هنا) أي : في صورة فقدان النص ،

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ وح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

٥٥

ومنهم الصدوق رحمه‌الله ، فانّه قال : «اعتقادنا أنّ الأشياء على الاباحة حتّى يرد النهي». ويظهر من هذا موافقة والده ومشايخه ، لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم ، بل ربما يقول : «الذي أعتقده وافتي به» ، واستظهر من عبارته هذه أنّه من دين الإماميّة.

وأمّا السيّدان ، فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة

______________________________________________________

ومن الواضح : ان صورة فقدان النص تشمل صورة إجمال النص ولو بالملاك.

(ومنهم الصدوق رحمه‌الله) فانّ كلامه ظاهر بالبراءة فيما لا نصّ على تحريمه أيضا (فانّه قال : اعتقادنا انّ الاشياء ، على الاباحة حتّى يرد النهي) فانّ هذا الكلام نص على انه إذا لم يكن نهي كان محلا للاباحة ، والاباحة عبارة أخرى عن البراءة.

(ويظهر من هذا) حيث قال : اعتقادنا (: موافقة والده ومشايخه) أيضا على القول بالبراءة فيما لا نص فيه (لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة) وهي قوله : اعتقادنا (مع مخالفته) أي : الصدوق (لهم) أي : لوالده ومشايخه.

(بل ربّما يقول) الصدوق رحمه‌الله فيما يتفرّد به : ان (الذي اعتقده وأفتي به ، و) ربّما يقول : اني (استظهر من عبارته هذه : انه) أي : كون الاشياء على الاباحة ، ما لم يكن هناك دليل خاص أو عام على التحريم فاستظهر منه ، واعتقد بانّه (من دين الاماميّة) وذلك لتعارف قوله : اعتقادنا فيما إذا طابق نظره نظر والده ومشايخه ، لا ما تفرد به : انّه من دين الامامية.

(وامّا السيّدان) : المرتضى ، وابن زهرة ، قدس‌سرهما (فقد صرّحا : باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة) كشرب التتن في الشبهة الحكميّة ، واللحم المشتبه بين المذكى والميتة في الشبهة الموضوعية.

٥٦

وصرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد أنّه متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل.

وأمّا الشيخ قدس‌سره ، فانّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس‌سره ، إلى أنّ الأصل في الأشياء من طريق العقل الواقف ، إلّا أنّه صرّح في العدة ب «أنّ حكم الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف ، لكنّه لا يمتنع أن يدلّ دليل سمعيّ على أنّ الأشياء على الاباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب» ، انتهى.

وأمّا من تأخّر عن الشيخ ، كالحلّيّ والمحقّق والعلّامة والشهيدين وغيرهم ، فحكمهم بالبراءة يعلم من مراجعة كتبهم.

______________________________________________________

(وصرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد : انه متى فرضنا عدم الدليل) ومرادهما بالدليل : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع (على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل) وقد تقدّم منهما انّ حكم العقل عندهما هو الاباحة.

(وأمّا الشيخ قدس‌سره : فانّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس‌سره إلى انّ الأصل في الأشياء من طريق العقل : الواقف) في الحكم : لا الحظر ، ولا الاباحة (إلّا انه صرّح في العدّة : بان حكم الاشياء من طريق العقل وان كان هو الوقف ، لكنّه لا يمتنع ان يدل دليل سمعي) أي : شرعي (على انّ الأشياء على الاباحة بعد أن كانت على الوقف) عقلا (بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب ، انتهى) فالأصل الأولي. بحكم العقل ، وإن كان الوقف ، إلّا ان المستفاد من الدليل السمعي هو الاباحة.

(وأمّا من تأخر عن الشيخ : كالحلّي ، والمحقّق ، والعلّامة ، والشهيدين ، وغيرهم ، فحكمهم بالبراءة) في الشبهة الحكمية (يعلم من مراجعة كتبهم) فانّهم حكموا بالبراءة في الشبهة التحريميّة.

٥٧

وبالجملة : فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط ، وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة.

ثمّ إنّه ربما نسب إلى المحقّق قدس‌سره ، رجوعه عمّا في المعارج إلى ما في المعتبر من التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، وأنّه لا يقول بالبراءة في الثاني. وسيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالف للواقع ،

______________________________________________________

(وبالجملة : فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط ، وان كان ظاهر المعارج) للمحقّق (نسبته) أي : نسبة القول بالاحتياط (إلى جماعة) ولعلهم كانوا من العلماء الذين لم يصل الينا تأليفهم ، أو لم تكن لهم تأليفات.

(ثم انّه ربّما نسب إلى المحقق قدس‌سره رجوعه) أي : رجوع المحقّق (عمّا في المعارج إلى ما في المعتبر من التفصيل) فانّ الناسب قال : ان المحقق وان اختار في المعارج : البراءة ، لكنّه عدل في المعتبر عنه الى التفصيل (بين ما يعمّ به البلوى) أي : يكثر به الابتلاء (وغيره ، وانّه لا يقول بالبراءة في الثاني) أي : فيما لا يكثر الابتلاء به ، وانّما يقول بالبراءة في الأول الذي يعمّ به البلوى.

(وسيجيء الكلام في) بطلان (هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء الله تعالى) الكاشفة عن ان المحقّق باق على قوله في المعارج : من أن الأصل البراءة.

(ومما ذكرنا) : من ذهاب المتقدمين والمتأخرين إلى الحكم بالبراءة في الشبهة التحريميّة (يظهر : انّ تخصيص بعض) الفقهاء (القول بالبراءة بمتأخري الإماميّة) فقط دون متقدميهم (مخالف للواقع) إذ قد عرفت : انّ الإماميّة

٥٨

وكأنّه ناش عمّا راى من السيّد رحمه‌الله ، والشيخ رحمه‌الله ، من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد. ويؤيّده ما في المعارج من نسبة القول برفع الاحتياط على الاطلاق إلى جماعة.

الثاني : الاجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة ، فانّها قد تفيد القطع بالاتفاق.

وممّن استظهر منه دعوى ذلك ، الصدوق رحمه‌الله ، في عبارته المتقدّمة عن اعتقاداته.

______________________________________________________

من المتقدمين والمتأخرين مطبقون على القول بالبراءة.

(وكأنه) أي : كأن نسبة التخصيص بالمتأخرين (ناش عمّا رأى) هذا الناسب (من السيد رحمه‌الله والشيخ رحمه‌الله من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد) التي ارتأوا الحظر فيها ، وذلك من باب التأييد والاستناد لما رأوه ، لا من باب وجوب الاحتياط.

(ويؤيده) أي : يؤيد كون التخصيص بالمتأخرين خلاف الواقع (: ما في المعارج : من نسبة القول برفع الاحتياط على الاطلاق إلى جماعة) أي : انّ المعارج نسب القول بالاحتياط إلى جماعة فقط ، ممّا ظاهره : ان المشهور يقول بالبراءة ، وقوله : رفع الاحتياط ، بمعنى : نسبته ، لأن النسبة إذا كانت إلى جماعة سابقة تسمّى رفعا ، ولهذا تسمّى الرواية الساقطة بعض اسنادها بالمرفوعة.

(الثاني) من وجوه دعوى الاجماع (: الاجماعات المنقولة) في كلمات الأصحاب (والشهرة المحقّقة) التي يجدها الانسان عند مراجعة كلماتهم (فانّها قد تفيد القطع بالاتفاق) من جميع العلماء.

(وممّن استظهر منه دعوى ذلك). اي : الاجماع المذكور ، هو (الصدوق رحمه‌الله ، في عبارته المتقدّمة عن) كتاب (اعتقاداته) حيث قال رحمه‌الله : اعتقادنا : انّ الأشياء

٥٩

وممّن ادّعى اتفاق المحصلين عليه الحلّيّ في أوّل السرائر حيث قال ، بعد ذكر الكتاب والسنّة والاجماع : «إنّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسألة الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسّك بدليل العقل» ، انتهى.

ومراده بدليل العقل ، كما يظهر من تتبّع كتابه ، هو أصل البراءة.

وممّن ادّعى إطباق العلماء المحقّق في المعارج في باب الاستصحاب ، وعنه في المسائل المصريّة أيضا في توجيه نسبة السيّد إلى مذهبنا جواز

______________________________________________________

على الاباحة فانّ هذا إجماع منقول على البراءة.

(وممّن ادّعى اتفاق المحصّلين) أي : اجماع العلماء (عليه) أي : على القول بالبراءة هو : ابن ادريس (الحلّي في أوّل السرائر حيث قال ، بعد ذكر الكتاب والسّنة والاجماع) وانّها أدلة للأحكام : (انّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسألة الشرعيّة عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة) أي : عن مدركها (التمسك بدليل العقل ، انتهى).

هذا ولم يرد ابن إدريس من دليل العقل ما يذكره المتأخرون من الأدلة العقليّة في الأحكام الشرعيّة مطلقا ، بل كما ذكره المصنّف : (ومراده بدليل العقل ، كما يظهر من تتبع كتابه : هو أصل البراءة) فانّ الحلي رحمه‌الله من عادته الرّجوع إلى البراءة عند فقد الثلاثة ، والجمع بين هذين الكلامين منه ، يدل على ان مراده من دليل العقل : البراءة.

(وممّن ادعى إطباق العلماء : المحقّق في المعارج في باب الاستصحاب) كما رأيناه في كتابه (و) نقل (عنه) أي : عن المحقّق (في) رسالته المسمّاة باسم : (المسائل المصريّة أيضا في توجيه نسبة السيّد) المرتضى (إلى مذهبنا : جواز

٦٠