الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا.

ولا يتوهّم : «أنّه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة بل حسن الاحتياط بتركه» ، إذ لا ينفكّ ذلك

______________________________________________________

ـ لكن أذيته ليست بحد التحريم ـ يكره انقاذه ، فانّ الاحتياط في الانقاذ ، وفي عكسه بأن دار الامر بين كون الغريق كافرا محرّم الانقاذ أو حيوانا مستحب الانقاذ ، فان الاحتياط في ترك الانقاذ.

(و) بناء على (ظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا) أي : ان اخبار الاحتياط شامل لدوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بل وكذلك شامل لدوران الأمر بين الكراهة والوجوب.

(و) لا يقال : اذا دار أمر العبادة بين التحريم والاستحباب ، كالأذان في بعض الصلوات المستحبة ، وصلاة ليلة الرغائب ، حيث ورد بهما بعض الروايات الضعيفة ، لم يكن الاحتياط في الفعل ، اذ الاتيان بالعبادة غير الواردة قطعا تشريع محرم.

لأنّه يقال : يأتي بالعبادة رجاء ، والرجاء في قبال التشريع ، اذ التشريع معناه النسبة الى المولى ، والرّجاء معناه : عدم النسبة ، بل يأتي بالعبادة لاحتمال ارادة المولى ، فاذا ذهب زيدا ـ مثلا ـ الى دار عمرو قائلا له : انك طلبتني يكذبه عمرو ، اما اذا قال : احتملت انك تريدني ، لا يكذبه عمرو ، بل يستحسنه العقلاء.

والى هذا الاشكال والجواب أشار المصنّف بقوله : (لا يتوهم انه يلزم من ذلك) أي حسن الاحتياط بالترك (عدم حسن الاحتياط) بالفعل (فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة ، بل حسن الاحتياط بتركه) فيدور امره بين الحرمة والاستحباب ، فيكون الاحتياط في الترك لا في الفعل. (اذ لا ينفك ذلك) أي :

٢٦١

عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما ، لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحققه. ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع. ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات وفي الثوبين المشتبهين وغيرهما ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إنشاء الله تعالى.

______________________________________________________

احتمال كونه عبادة (عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما) فاللازم الترك لتغليب جانب الحرام على جانب الاستحباب.

وانّما قلنا : لا يتوهم (لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحققه) أي : تحقق موضوع التشريع ، فانّ الاحكام تابعة لموضوعاتها (و) التشريع لا يتحقق في المقام ، اذ (مع اتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال) ورجاء طلب المولى لها لا جازما بأن المولى أمر بها (لا يتحقق موضوع التشريع) لما عرفت : من ان التشريع هو النسبة الى المولى ، وهذا ليس بنسبة وانّما بالرجاء والاحتمال.

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان الرجاء في مقابل التشريع فالرجاء لا بأس به (قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال) أي : مع احتمال الحرمة (كما في الصلاة الى أربع جهات) مع وضوح : ان الصلاة الى دبر القبلة محرّمة (و) كذا (في الثوبين المشتبهين وغيرهما) من موارد العلم الاجمالي الذي احد طرفيه محرّم ، كالصلاة بوضوءين من ماءين أحدهما مضاف ، حيث ان الصلاة بلا طهور محرمة ، ففي الحديث ، «إما يخاف الذي يصلي من غير طهور أن يخسف الله به الأرض».

هذا (وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله تعالى).

٢٦٢

الرابع :

نسب الوحيد البهبهاني قدس‌سره ، إلى الأخباريّين مذاهب أربعة فيما لا نصّ فيه : التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة ، فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد وكون اختلافها في التعبير ،

______________________________________________________

نعم ، لو دار الأمر بين واجب وحرام ، فلا احتياط في احد الطرفين بل التخيير.

اللهم الّا اذا كان أحدهما أهم لا بحد المنع عن النقيض ، فانّه يحتاط باتيان الأهم ، أما اذا كان على حدّ المنع من النقيض وجب قطعا ، كما اذا دار امر الغريق بين كونه مرجع تقليد يثلم موته في الاسلام ثلمة ، أو كافر عادي يحرم انقاذه ، لأنه يحارب المسلمين محاربة ضعيفة ، فانّه يقدّم الانقاذ ، وفي عكسه من دوران الأمر بين مسلم عادي ورئيس الكفار الذي يهدم الاسلام لو بقي فيقدم ترك الانقاذ.

التنبيه (الرابع : نسب الوحيد البهبهاني قدس‌سره الى الأخباريين مذاهب أربعة فيما لا نص فيه) من الشبهة الحكمية التحريمية ، لما عرفت سابقا من ان الاختلاف بين الاصوليين والأخباريين في هذه الشبهة فقط ، أما في غيرها من الشبهات الثلاث الأخر : حكمية وجوبية ، أو موضوعية وجوبية ، أو تحريمية ، فالكل متفقون على البراءة فيها.

والمذاهب الأربعة هي : (التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة) فان كلّ طائفة من الأخباريين عبّر بأحد هذه التعبيرات (فيحتمل رجوعها الى معنى واحد) بأن يكون من الاختلاف في اللفظ وارادة الجميع معنى واحدا (وكون اختلافها في التعبير) فقط.

٢٦٣

لأجل اختلاف ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة : فبعضهم ركن إلى أخبار التوقف ، وآخر إلى أخبار الاحتياط ، وثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنّب المحرّمات ، كحديث التثليث ،

______________________________________________________

وانّما اختلفوا في التعبير (لأجل اختلاف ما ركنوا) واستندوا (اليه من ادلة القول بوجوب اجتناب الشبهة) التحريمية (فبعضهم ركن الى أخبار التوقف) كقوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١) ولذا عبّر بالتوقف (و) ركن بعض (آخر الى أخبار الاحتياط) ولذا عبّر بالاحتياط لقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٢).

(و) ركن بعض (ثالث الى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنب المحرّمات كحديث التثليث) في قوله عليه‌السلام : «من ترك الشّبهات نجى من المحرّمات» (٣) ، فالترك مقدمة للحرام الواقعي المحتمل ، فيكون حكما ظاهريا من الشارع

__________________

(١) ـ كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، انظر الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٠ ح ٩ ، المحاسن : ص ٢١٥ ح ١٠٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٥ ب ١٢ ح ٣٣٤٦٥ ، وكرواية مسعدة بن زياد في نكاح الشبهة ، انظر تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٤٧٤ ب ٣٦ ح ١١٢ ، ووسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٩ ب ١٢ ح ٣٣٤٧٨.

(٢) ـ الأمالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، الأمالي للمفيد : ص ٢٨٣ المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٢٦٤

ورابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث أنّها مشتبهات ، فانّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعيّ الحرمة.

______________________________________________________

بالوجوب ، مثل : ايجاب الشارع اراقة الإناءين الذين أحدهما نجس ، فان اراقة غير النجس الواقعي واجبة ظاهرا لا واقعا لفرض انّه ليس بنجس ، وكذا وجوب اجتناب امرأتين إحداهما ليست زوجته وإحداهما زوجته واشتبهتا ، فانّ وجوب اجتناب الزوجة ظاهري لا واقعي.

(و) ركن بعض (رابع الى أوامر ترك المشتبهات من حيث انها مشتبهات) فيكون التحريم واقعيا ، لأن ظاهر بعض الأخبار كما تقدّم : ان ارتكاب الشبهة اقتحام في الهلكة ، وقد عرفت : انّ المنصرف من الهلكة العقاب الاخروي ، فيكون مثل هذه الأخبار ظاهرة في الحرمة الواقعية (فانّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعي الحرمة).

وإنّما قال هؤلاء بالحرمة الواقعية لمثل موثقة حمزة بن الطيّار فانّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه عليه‌السلام حتى اذا بلغ موضعا منها قال له : «كفّ واسكت» ، ثم قال ابو عبد الله عليه‌السلام : «انّه لا يسعكم فيما نزل بكم ممّا لا تعلمون الّا الكف عنه والتثبت ، والرّد الى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه الى القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١)» (٢) ، ولمثل قوله عليه‌السلام : «حقّ الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» (٣).

__________________

(١) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٠ ح ١٠.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٤٣ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٣ ب ٤ ح ٣٣١٠٨.

٢٦٥

والأظهر أنّ التوقف أعمّ بحسب المورد من الاحتياط ، لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس

______________________________________________________

والحاصل أنّ الكل أراد معنى واحدا ، ولكن باعتبارات مختلفة ، فان من عبّر بالتوقف ، اعتبر ان الاجتناب : توقف عن الاقتحام في الهلكة.

ومن عبّر بالاحتياط اعتبر ان الاجتناب : أخذ بالأمر الذي لا ريب فيه.

ومن عبّر بالحرمة ظاهرا فباعتبار ان التتن ـ مثلا ـ له حكم واقعي لا يعلمه ، وانّما حكمه الظاهري الاجتناب ، ومن عبّر بالحرمة واقعا فباعتبار ان المشتبه أيضا من المحرمات ، فانّ المشتبه وان كان له حكم واقعي على خلافه أولا وبالذات ، لكن ذلك الحكم الواقعي لعدم وصوله الى المكلّف غير منجّز عليه ، فالحكم الواقعي الثانوي لهذا المكلّف هو التحريم ، كحالة الاضطرار والكراهة ونحوهما ، حيث ان الحكم الواقعي يسقط عندها ويكون الحكم الثانوي واقعيا.

(والاظهر : أن) هذه الأقوال ليست عبارات شتّى لأمر واحد ، بل هي مختلفة معنى ايضا ، فانّ بين التوقف والاحتياط ـ مثلا ـ عموم من وجه ، فالتوقف يشمل ما لا يمكن فيه الاحتياط كدوران الأمر بين المحذورين ، اذ اللازم في مثل هذا المقام : الصلح أو القرعة في الماليات ونحوها ، كما ان الاحتياط يشمل ما لا يمكن فيه التوقف ، لأن الاحتياط يشمل محتمل التحريم ، ومحتمل الوجوب ، والاخباريون لا يقولون بالتوقف في محتمل الوجوب.

وعليه : فان (التوقف) أي : عدم الاقتحام في الهلكة المحتملة (أعم بحسب المورد من الاحتياط لشموله) أي : شمول التوقف كل (الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس) فاذا تردد مال بين أن يكون لزيد أو لعمرو ، أو امرأة بين أن تكون زوجة زيد أو زوجة عمرو ، أو ولد بين أن يكون ابنا لزيد أو لعمرو ،

٢٦٦

ممّا يجب فيها الصلح او القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ.

والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة او وجوب الجزاء

______________________________________________________

فان هذه الموارد كلها لا يمكن الاحتياط فيها ، بينما يمكن التوقف عندها بمعنى : ترك الاقتحام في الهلكة.

فان قلت : فما ذا يصنع من تردّد في هذه الموارد؟.

قلت : هذه الموارد وأمثالها (ممّا) لا يمكن فيها الاحتياط (يجب فيها الصلح أو القرعة) بما فيه الصلح القهري الذي قال به الجواهر وغيره.

وربما يقال في بعض الموارد بأمر ثالث وهو : اجبار الحاكم المتنازعين في زوجة ، أو المتنازعتين في زوج على الطلاق ، أو اجبار الحاكم المتنازعين في تولية الوقف بالتقسيم بأن يكون سنة بيد هذا وسنة بيد ذاك ، الى غير ذلك.

إذن : (فمن عبّر به) أي : بالتوقف (أراد وجوب التوقّف) بعدم المضي وعدم الاقتحام في الهلكة (في جميع الوقائع الخالية عن النص العام والخاص) سواء أمكن الاحتياط أم لا ، ومن الواضح : انه يلزم خلوّ الواقعة عن نص عام أو نص خاص ، والّا لم يكن من المشتبه في شيء.

هذا هو وجه أعميّة التوقف عن الاحتياط.

(والاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به) أي : بالاحتياط (أراد : الأعم من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب) فمحتمل الحرمة كالشبهة التحريمية الحكمية ، ومحتمل الوجوب (مثل وجوب السورة) في باب الأقل والأكثر الارتباطيين (أو وجوب الجزاء) والكفارة على نفرين صادا صيدا واحدا ،

٢٦٧

المردّد بين نصف الصيد وكلّه.

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالأولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعيّ ، فالحرمة ظاهريّة ، والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة ، أو

______________________________________________________

فهل عليهما كفارتان أو كفارة واحدة بالتنصيف؟ فيكون المقام من الأمر (المردد بين نصف الصيد وكلّه) في باب الأقل والأكثر الاستقلاليين.

والحاصل : ان بعض موارد الاحتياط فيه التوقف ، والبعض الآخر ليس فيه التوقف ، فهو أعمّ من التوقف ، فهذا هو وجه اعميّة الاحتياط عن التوقف.

(وأما) الفرق بين (الحرمة الظاهرية و) الحرمة (الواقعية فيحتمل) أن يكون (الفرق بينهما) على ما يلي :

أولا : (: بأنّ المعبّر بالأولى ، قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي) كما تقدّم : من ان شرب التتن قطعا محكوم بحكم واقعي ، لكن حيث لا نعلم ذلك الحكم ، جعل الشارع له حكما ظاهريا هو : حرمة الاقتحام (فالحرمة ظاهرية) لشرب التتن في قبال الحكم الواقعي المجهول عندنا.

(والمعبّر بالثانية) أي : بالحرمة الواقعية (قد لاحظها) أي : لاحظ الحرمة (من حيث عروضها لمشتبه الحكم) فحكم التتن حكما ثانويا هو الحرمة فيما اذا كان التتن مشتبه الحكم (وهو) أي : المشتبه الحكم بما هو (موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعية) له.

ثانيا : (أو) يحتمل ان يكون الفرق بينهما بكون المعبّر بالحرمة الظاهرية من المخطئة القائلين : باحتمال الحلية في الواقع ، والمعبّر بالحرمة الواقعية من

٢٦٨

بملاحظة أنّه إذا منع الشارع المكلّف ، من حيث انّه جاهل بالحكم من الفعل ، فلا يعقل إباحته له واقعا ، لأنّ معنى الاباحة الاذن والترخيص ، فتأمّل.

ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الاباحة ، إلّا أنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء من باب قبح التصرّف فيما يختصّ بالغير بغير إذنه.

______________________________________________________

المصوبة القائلين : بامتناع اجتماع الحكم الواقعي والظاهري وذلك (بملاحظة : انّه اذا منع الشارع المكلّف من حيث انّه جاهل بالحكم من الفعل ، فلا يعقل اباحته له واقعا ، لأن معنى الاباحة : الاذن والترخيص).

ومن الواضح : ان المنع والترخيص متناقضان ، فالعالم له الاباحة والجاهل له الحرمة ، فهو مثل ما يقال : من أن العالم عليه الجهر في صلاة الصبح ، والجاهل يجوز له الاخفات ، ولهذا لو أخفت الجاهل لم يكن عليه اعادة ولا قضاء.

(فتأمّل) فانّه خلاف اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل.

ثالثا : (ويحتمل الفرق) بين الحرمة الظاهرية والحرمة الواقعية (بأن القائل بالحرمة الظاهرية يحتمل أن يكون الحكم في الواقع : هي الاباحة ، الّا أن أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا. والقائل بالحرمة الواقعية انّما يتمسك في ذلك باصالة الحظر في الأشياء) فالقائل بالتحريم واقعا يذهب الى ان الأصل في الأشياء الحظر ، فيحرم واقعا ، والقائل بالتحريم ظاهرا يذهب إلى أن الأصل في الأشياء الاباحة ، لكن حيث قال الشارع : «احتط» يحرم ظاهرا.

وانّما يكون الأصل في الأشياء الحظر (من باب قبح التصرف فيما يختص بالغير ، بغير اذنه) والتتن من ملك الله سبحانه وتعالى الذي له كلّ شيء في

٢٦٩

ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع.

والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا ، فان كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلّا فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا ، بل معناه أنّه ليس فيه إلّا الحرمة الواقعيّة على تقدير

______________________________________________________

الكون ، ولم نعلم انّه اباحة لنا ، فهو محرم علينا واقعا.

ثمّ ان هذا الاحتمال الثالث من الفرق بين الظاهري والواقعي كان من جهة الدليل ، بينما الاحتمال الأول كان الفرق فيه من جهة الموضوع ، والاحتمال الثاني كان الفرق فيه من حيث المكلّف وتقسيمه الى جاهل وعالم ، وهناك احتمال رابع يكون الفرق فيه من حيث العقاب ، فمن يقول بالحرمة الظاهرية يرى عقاب الشارب وان كان مباحا واقعا ، ومن يقول بالحرمة الواقعية يرى عدم العقاب اذا كان مباحا واقعا. والى هذا الاحتمال الرابع أشار المصنّف بقوله : (ويحتمل الفرق :

بانّ معنى الحرمة الظاهرية : حرمة الشيء في الظاهر ، فيعاقب عليه مطلقا) أي (وان كان مباحا في الواقع) وذلك لأن الأخبار أوجبت في المشتبهات الاجتناب ، فاذا لم يجتنبها الانسان عاقبه المولى عليها وان كانت في الواقع مباحا ، لانّه خالف الأمر المولوي الذي أمره بالاجتناب.

(والقائل بالحرمة الواقعية يقول : بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا) وانّما المعيار الواقع (فان كان في الواقع حراما ، استحق المؤاخذة عليه ، والّا فلا) مؤاخذة عليه.

(وليس معناها) أي : الحرمة الواقعية (: ان المشتبه حرام واقعا) اذ الشيء لا يتغير عمّا عليه في الواقع بالعلم والجهل (بل معناه) أي : معنى قول القائل بالحرمة الواقعية (: انه ليس فيه) أي : في المشتبه (الّا الحرمة الواقعية على تقدير

٢٧٠

ثبوتها ، فانّ هذا أحد الأقوال للأخباريّين في المسألة ، على ما ذكره العلّامة الوحيد المتقدّم ، في موضع آخر ، حيث قال ، بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم : ب «أنّه لا يدلّ على الحظر ووجوب التوقف ، بل مقتضاه أنّ من ارتكب الشبهة واتفق كونه حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ،

______________________________________________________

ثبوتها) أي : على تقدير ثبوت الحرمة للتتن في الواقع.

وعليه : (فان هذا) أي : العقاب على تقدير الحرمة الواقعية لا مطلقا (أحد الأقوال للأخباريين في المسألة على ما ذكره العلّامة الوحيد) البهبهاني (المتقدّم) ذكره (في موضع آخر) من كتابه غير الموضع الذي نسب فيه الى الأخباريين مذاهب أربعة (حيث قال) الوحيد (بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم) الذي جعل الأشياء بين : حرام بيّن ، وحلال بيّن ، وشبهات بين ذلك (١) (: بأنّه لا يدلّ على الحظر ووجوب التوقف) على نحو الأمر الشرعي المولوي ، حتى يكون العقاب على مخالفته مطلقا.

(بل مقتضاه) أي : مقتضى خبر التثليث : الارشاد بمعنى : (أنّ من ارتكب الشبهة واتفق كونه حراما في الواقع يهلك ، لا مطلقا) فانّ مرتكب الشبهة لا يهلك لو ارتكب الشبهة التي لم تكن حراما في الواقع ، لأنه في الحقيقة مرتكب للحلال وهو لا يعلم انه حلال.

__________________

(١) ـ كمقبولة عمر بن حنظلة في الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤ ومرسلة الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٧٤ ب ٢ ح ٥١٤٩ ووسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦١ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٠ وص ١٧٥ ب ١٢ ح ٣٣٥٣١.

٢٧١

ويخطر بخاطري أنّ من الاخباريّين من يقول بهذا المعنى» ، انتهى.

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر العقليّ والنقليّ بالاحتياط للارشاد ، من قبيل أوامر الطبيب ، لا يترتب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر.

نعم ، الارشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ، كما في بعض أوامر الطبيب ،

______________________________________________________

ثمّ قال الوحيد بعد ذلك : (ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريين من يقول بهذا المعنى ، انتهى) كلام الوحيد البهبهاني رحمه‌الله.

وكيف كان : فقد قال المصنّف : (ولعل هذا القائل) بالحرمة الواقعية من الأخباريين حيث قال : انه بمعنى : ان اتفق كونه حراما في الواقع يهلك المرتكب ، لا انه يهلك مطلقا وان كان حلالا في الواقع.

(اعتمد في ذلك) أي : في قوله هذا (على ما ذكرنا سابقا : من ان الامر العقلي والنقلي بالاحتياط : للارشاد) لا للمولوية.

وعليه : فأوامر الاحتياط انّما هي (من قبيل أوامر الطبيب ، لا يترتب على موافقتها) أي : على موافقة أوامر الطبيب (ومخالفتها ، عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به) أي : شرب الدواء من الصحة ـ مثلا ـ (أو تركه) أي : ترك شرب الدواء من بقاء المرض ـ مثلا ـ من دون ان يكون لنفس الامر أثر ، كما قال : (لو لم يكن أمر) أصلا.

(نعم ، الارشاد على مذهب هذا الشخص) من الأخباريين القائل بالحرمة الواقعية بهذا المعنى ، انّما هو (على وجه اللّزوم كما في بعض أوامر الطبيب ،

٢٧٢

لا للأولويّة ، كما اختاره القائلون بالبراءة.

وأمّا ما يترتب على نفس الاحتياط فليس إلّا التخلّص من الهلاك المحتمل في الفعل.

نعم ، فاعله يستحقّ المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوع من الانقياد

______________________________________________________

لا للأولوية كما اختاره القائلون بالبراءة) فانّهم يقولون بانها للارشاد على وجه الرجحان لا على وجه اللزوم.

وان شئت قلت : انّ هذا القائل يرى المرتكب فاعلا للحرام ان كان التتن ـ مثلا ـ في الواقع حراما ، أو متجرّيا ان كان التتن في الواقع حلالا ، بينما الاصولي يرى المرتكب غير عاص ولا متجر اطلاقا ، وانّما يقول بالثواب فقط للمحتاط بعدم شرب التتن.

ثمّ انّه قد تقدّم : انّ الأمر بالاحتياط ، إمّا ارشاد لزوميّ أو ارشاد استحبابي أو مولوي ، هذا في الأمر نفسه ، أما في الاحتياط نفسه بأن احتاط الشخص فلم يشرب التتن أو لم يحتط فشربها ، فما لهذا الشخص اذا ترك التتن؟ وما ذا عليه اذا شربه؟.

هذا ما أراده المصنّف بقوله : (وأما ما يترتب على نفس الاحتياط) بأن ترك شرب التتن ـ مثلا ـ حذرا من الوقوع في الحرام (فليس الّا التخلص من الهلاك المحتمل في الفعل) فاذا كان التتن حرام واقعا فشربه هلك ، وإذا لم يشربه لم يهلك.

(نعم ، فاعله) أي : فاعل الاحتياط الذي ترك شرب التتن ـ مثلا ـ (يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه) أي : في الاحتياط (نوع من الانقياد) والطاعة.

٢٧٣

ويستحقّ عليه المدح والثواب. وأمّا تركه فليس فيه إلّا التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه.

بل عرفت في مسألة حجّيّة العلم المناقشة في حرمة التجرّي بما هو أعظم من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب

______________________________________________________

ومن المعلوم : انّ امتثال التكاليف المعلومة ، طاعة حقيقية ، أما امتثال مثل أمر الاحتياط فيما لم يكن التتن حراما في الواقع فهو انقياد ، والانقياد حسن (ويستحق عليه المدح) عند العقلاء ، بل (والثواب) أيضا على ما تقدمت الاشارة اليه.

(وأما تركه) أي ترك الاحتياط بأن شرب التتن ـ مثلا ـ (فليس فيه الّا التجري بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى) فان التتن اذا كان حلالا واقعا ومشتبها ظاهرا فشربه الشخص فقد ارتكب محتمل الحرمة ، ويكون متجريا (ولا دليل على حرمة التجري على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه) أي : على فعل محتمل الحرمة بدون أن يكون حراما في الواقع لأنّا قد سبق منّا في أول الكتاب أن التجري ليس بحرام.

(بل عرفت في مسألة حجّية العلم) من مباحث القطع في أول الكتاب (المناقشة في حرمة التجري بما هو أعظم من ذلك) فاذا كان التجري الأعظم ليس بمحرّم ولا مسقط عن العدالة ـ مثلا ـ فالتجري الأصغر بطريق أولى ليس بمحرم.

والتجري الأعظم هو ما ذكره بقوله : (كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركب) بينما هو لم يكن في الواقع حراما ، فانّه لو فعله لم يكن مستحقا للعقاب ، وانّما كان متجريا وله قبح فاعلي لا فعليّ ، فهو مثل من ينوي السوء

٢٧٤

ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا ، وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إنشاء الله تعالى.

______________________________________________________

ولا يعمله ، فله قبح فاعلي وليس له قبح فعليّ.

ان قلت : بناء على قولكم : لا حرمة في التجري بارتكاب محتمل الحرمة الذي هو حلال في الواقع يلزم ان لا يكون في عدم ارتكابه ثواب ، فكيف تقولون : بأن في الاحتياط ثوابا ، مع انّه بين الثواب والعقاب تلازم في طرفيّ أمر واحد؟ فانّ من صلّى يثاب ومن ترك يعاقب ، ومن شرب الخمر يعاقب ، ومن ترك الشرب يثاب ، كما ورد في الحديث ، وهكذا.

قلت : (ولا يلزم من تسليم استحقاق الثّواب على الانقياد بفعل الاحتياط) وقوله : «بفعل» متعلق بقوله : «الانقياد» ، أي : لو انقاد فاحتاط لا يلزم منه (استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتّجري) و «استحقاق» فاعل «لا يلزم» وذلك لعدم التلازم بينهما.

وعليه : فان من يتجرأ (بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا) لا يعاقب عليه ، والسبب هو : انّ الانقياد عنوان غير عنوان الاطاعة ، والتلازم انّما هو بين الطرفين في عنوان الاطاعة والمعصية ، والانقياد خارج عن مثل ذلك العنوان ، وقد دلّ الدليل على الثواب عليه ، بينما لم يدل الدليل على حرمة التجري والعقاب عليه ، ولا غرابة ، فكثيرا ما يكون ثواب على طرف ولا عقاب على طرفه الآخر ، كالفاعل للمستحب يثاب بينما التارك له لا يعاقب.

هذا ، (وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى).

٢٧٥

الخامس :

______________________________________________________

أما الدليل في الثواب على الانقياد ، فهو التحسين عقلا الملازم للتحسين شرعا ، لقاعدة الملازمة وتحسين الشرع هو ثوابه ، قال سبحانه : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (١) مضافا الى مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) وما أشبه ذلك ، ممّا هو كثير في الأحاديث الكريمة.

التنبيه (الخامس) : لا يخفى : انّه لو كان أصلان في شيئين أحدهما في الموضوع والآخر في الحكم ، قدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي ، ولا يبقى مجال للأصل الحكمي أصلا ، فاذا كان هناك ماء لا نعلم بانّه طاهر أو نجس وغسلنا به ثوبا نجسا ، فهناك أصلان : الأول : الأصل الجاري في الماء وهو الطهارة ، لفرض : انّه كان سابقا طاهرا ، فنجري استصحاب الطهارة فيه.

الثاني : الأصل الجاري في الثوب وهو بقائه على النجاسة.

لكن اذا أجرينا الأصل الموضوعي في الماء ثبت كون الماء طاهرا ، ومن المعلوم : انّ الماء الطاهر يطهّر النجس ، فلا يبقى مجال للشك في طهارة الثوب حتى يمكن التمسك في الثوب ، باستصحاب بقاء نجاسته ، وهذا ما يصطلحون

__________________

(١) ـ سورة يونس : الآية ٢٦.

(٢) ـ تهذيب الأحكام : ج ١ ص ٨٣ ب ٤ ح ٦٧ وج ٤ ص ١٨٦ ب ١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٤٨ ب ٥ ح ٨٩ وج ٦ ص ٥ ب ١ ح ٧١٩٧ وح ٧١٩٨ وج ١٠ ص ١٣ ب ٢ ح ١٢٧١٣ ، مستدرك الوسائل : ج ١ ص ٩٠ ب ٥ ح ٥٨.

٢٧٦

انّ أصالة الاباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعيّ حاكم عليها ، فلو شك في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية

______________________________________________________

عليه : بالأصل السببي والمسببي ، فالأصل السببي جار في الموضوع ، والأصل المسببي جار في الحكم ، وكلّما جري الأصل السببي لا يبقى مجال لجريان الأصل المسببي على ما سيأتي في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا ، فاذا ذبحنا حيوانا بشرائط الذبح مع علمنا بأن ذلك الحيوان قابل للتذكية ، لا نشك بعد ذلك في طهارة هذا الحيوان الميّت بعد ذبحه ، أما اذا ذبحنا حيوانا ولا نعلم بأنه قابل للتذكية ، أم لا؟ كما اذا ذبحنا قردا فانّه لا نتمكن أن نحكم بطهارة ميتته بعد ذبحه ، لأن الحيوان بعد الموت بدون علم بتذكيته نجس ، فأصل النجاسة يبقى ولا حاكم عليه حتى نقول بطهارة ميتة القرد ـ مثلا ـ بعد ذبحه.

وبذلك ظهر : (انّ اصالة الاباحة في مشتبه الحكم) أي : في الشبهة الحكمية التحريمية التي هي محل بحثنا في باب البراءة (انّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها) أي : على أصالة الاباحة فاذا كان لم يبق مجال للاباحة.

فلو شككنا في حلّ مال كان سابقا للغير ولم نعلم بانتقاله الينا ، أو كونه في بيت من تضمنته الآية ، أو ما أشبه ذلك ، لا نحكم بحليته لاصالة بقاء حرمته ، فأصل بقاء الحرمة لا يدع مجالا للحلّية المستفادة من أدلّة البراءة.

وهكذا ، لو شككنا في حليّة امراة كانت محرّمة علينا من جهة أن الوكيل نكحها أم لا ، كان الأصل حرمتها ، لأنها كانت محرّمة ونشك في حليتها ، واذا جرى هذا الأصل لم يجر اصالة الاباحة ، فأصالة الاباحة متوقفة على عدم جريان أصل الحرمة.

وعلى هذا (فلو شك في حلّ أكل الحيوان مع العلم بقبوله التذكية) كخروف

٢٧٧

جرى أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة ، لأصالة عدم التذكية ، لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ وهي مشكوكة ، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة.

______________________________________________________

شرب لبن كلب لا نعلم هل انّه حرام بذلك كالجلّال أو لم يحرم؟ (جرى اصالة الحلّ) لأنه كان حلالا قبل الشرب ، فلم نعلم بحرمته بسبب الشرب.

(وانّ شك فيه) أي : في الحلّ (من جهة الشك في قبوله للتذكية) اذ الحيوان على ثلاثة أقسام :

قسم قابل للتذكية كالشاة.

وقسم غير قابل للتذكية كالكلب.

وقسم مشكوك فيه كالحيوان المتولّد من كلب وشاة ، فان كان يشبه الكلب حكم بعدم صلاحيته للتذكية ، وانّ كان يشبه الشاة حكم بصلاحيته للتذكية ، وان كان شبيها بالخنزير فكالأول ، أو شبيها بالغزال فكالثاني ، وان لم يشبه شيئا من الأربعة (فالحكم الحرمة لاصالة عدم التذكية).

وانّما يكون الحكم الحرمة (لأن من شرائطها) أي : من شرائط التذكية (قابلية المحلّ) للتذكية ، فانّ التذكية انّما تتحقق في الحيوان بامور : كأن يكون الذابح مسلما ، وآلة الذبح حديدا ، وأن يوجّه الحيوان الى القبلة ، وان يذكر اسم الله عليه ، وان يكون قابلا للتذكية (وهي) أي قابليته للتذكية حسب الفرض (مشكوكة ، فيحكم بعدمها) أي : بعدم التذكية.

(و) بذلك يحكم ب (كون الحيوان ميتة) لانّه من الشك في بعض شرائط التذكية ، وكلّما شك في شرط منها ، فالأصل عدم تحقق التذكية ، كما لو شك في انّ الآلة كانت حديدا أو خشبا ، أو انّه ذبح الى القبلة أم لا ، أو انّ الذابح كان مسلما

٢٧٨

ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما ، فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل ، أنّ الأصل فيه الطهارة والحرمة.

______________________________________________________

أم لا ، وهكذا فيكون هذا الحيوان المتولّد منهما بعد الذبح محكوما بحرمته ونجاسته.

(ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما فيما اذا شك في حيوان متولّد من طاهر ونجس) كالمتولّد من الكلب والشاة في المثال المتقدّم ، و (لا يتبعهما في الاسم) بأن لا يسمّى شاة ولا كلبا (وليس له مماثل) معلوم الحكم ، فلم يكن كالخنزير المعلوم النجاسة والحرمة ، ولا كالغزال المعلوم الطهارة والحليّة قالا : (انّ الأصل فيه : الطهارة والحرمة) فهو لا يؤكل لحمه لكنّه طاهر.

قال الشهيد الثاني في مقام عدّ أقسام النجاسات : «الكلب والخنزير البرّيان وأجزائهما وان لم تحلّها الحياة ، وما تولّد منهما وان باينهما في الاسم وأما المتولد من أحدهما وطاهر فانّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فان انتفى المماثل ، فالأقوى طهارته وان حرم لحمه للأصل فيهما» وقريب منه كلام المحقق الثاني.

لكنه لا يخفى : انّ الحرمة والنجاسة هي القاعدة في مثل هذا الحيوان المشكوك التذكية ، لأن الأصل عدم التذكية ، وكل حيوان مات بدون تذكية شرعية حرم لحمه ويكون نجس ، وأصالة عدم التذكية لا تدع مجالا لاصالة الطهارة ، لأن أصل الطهارة مسببي وأصل عدم التذكية سببي ، وكلّما جرى الأصل السببي لم يكن مجال للأصل المسببي ـ على ما عرفت ـ.

ثم الكلام في انّه لما ذا الأصل الحرمة؟ ذكر المصنّف لها وجوها أشار الى أوّلها

٢٧٩

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ، فانّما يحسن مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كلّ حيوان إلّا ما خرج ، كما ادّعاه بعض.

وإن كان الوجه فيه أصالة

______________________________________________________

بقوله : (وان كان الوجه فيه) أي : في كون الأصل في هذا الحيوان الحرمة (اصالة عدم التذكية) لأنا لا نعلم هل ذكيّ أم لا؟ (فانّما يحسن) هذا الوجه (مع الشك في قبول التذكية وعدم عموم) في النص (يدل على جواز تذكية كل حيوان الّا ما خرج كما ادعاه) أي : ادعى هذا العموم (بعض) حيث قال بأن الأصل في كل حيوان انّه يذكى الّا ما خرج بالدليل ، كالكلب والخنزير ، فهذا الحيوان المشتبه داخل في هذا العموم.

ثم انهم استدلوا لذلك ببعض الروايات ، مثل رواية ابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام : انه سأل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر القنافذ والخفاش والحمير والبغال ، فقال : ليس الحرام إلّا ما حرّم الله في كتابه (١) ، وهذا الحديث يحتمل التقية ، لأنّ العامة يرون حلية كل حيوان الّا الخنزير ، وحتى في الكلب اختلفوا بين محلّل ومحرّم.

ويحتمل انّ يراد به : نفي تحريم التذكية ، فكل حيوان على هذا ، يصح تذكيته الّا ما خرج بالدليل ، لأن الكتاب لم يحرم تذكية أي حيوان ، فعند الشك في الحلّ والحرمة تجري اصالة الحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أصالة عدم التقية.

ثمّ أشار الى ثانيها بقوله : (وان كان الوجه فيه) أي : في أصل الحرمة (اصالة

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٤٢ ب ٤ ح ١٧٦ (بالمعنى) ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٣٨٢ ح ١١٨ وفيه عن (حريز) ، وسائل الشيعة : ج ٢٤ ص ١٢٣ ب ٥ ح ٣٠١٣٦.

٢٨٠