الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

الأخبار المساوقة لهذا الخبر الشريف الظاهرة في الاستحباب لقرائن مذكورة فيها :

منها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقف.

ومنها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في مرسلة الصدوق أنّه خطب وقال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك. فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».

______________________________________________________

وانّما هو للأعم من الالزام والاستحباب : (الأخبار المساوقة) والمرادفة في اللفظ والمعنى (لهذا الخبر الشريف) المتقدم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الظاهرة) أي : تلك الأخبار المساوقة (في الاستحباب ، لقرائن مذكورة فيها) أي : في تلك الأخبار.

(منها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقف) حيث قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لكلّ ملك حمى وحمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، لو أنّ راعيا رعى الى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات» (١).

(ومنها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في مرسلة الصدوق : انّه خطب وقال : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم ، فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها) (٢)

__________________

(١) ـ الامالي للطوسي : ص ٣٨١ ح ٨١٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٨.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٧٤ ب ٢ ح ٥١٤٩ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٥٤٨ ح ١٥ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٧٥ ب ١٢ ح ٣٣٥٣١.

٢٠١

ومنها : رواية أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «قال : قال جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى. ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه.

ومنها : ما ورد من : «أنّ في حلال الدّنيا حسابا وفي حرامها عقابا وفي الشّبهات عتابا».

______________________________________________________

وحيث قد تقدّم وجه ظهورهما في الاستحباب لا داعي الى تكراره.

(ومنها رواية أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : قال جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه) أي : طلبت نفسه منه (الى ان يرعاها) أي : يرعى غنمه (في الحمى) وقد تقدّم معنى «الحمى» ، ثم قال : (ألا وانّ لكل ملك حمى وان حمى الله محارمه) (١) فانّه من المعلوم ان الرعي حول الحمى ليس بمحرّم عند الملوك والأمراء ، وانّما المحرّم عندهم هو الرعي في نفس الحمى ، فالنهي عن الرعي حول الحمى للتنزيه ولئلا يقع في الحمى ، لا انّه محرم بنفسه.

(ومنها : ما ورد من انّ في حلال الدنيا حسابا ، وفي حرامها عقابا ، وفي الشبهات عتابا) (٢) ومن الواضح : انّ العتاب غير العقاب ، فيدل على انّ ارتكاب الشبهات لا يوجب العقاب.

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٩ ب ١٢ ح ٣٣٥١٥ ، كنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥٢.

(٢) ـ كفاية الأثر : ص ٢٢٧ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ١٣٩ ب ٢٢ ح ٦.

٢٠٢

ومنها : رواية فضيل بن عياض : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من النّاس؟ قال : الذي يتورّع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء ، فاذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه».

وأمّا العقل فتقريره بوجهين :

______________________________________________________

(ومنها : رواية فضيل بن عياض قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من النّاس؟) وهذا للاستفهام ، بمعنى أي الناس يكونون ورعين متقين؟.

(قال : الذي يتورّع عن محارم الله ، ويجتنب هؤلاء) الظلمة وعمالهم وأموالهم ، لأن في الاختلاف اليهم والتصرف في أموالهم أو تناولها شبهات (فاذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام) الواقعي (وهو لا يعرفه) (١) أي : من غير علمه بذلك ، وهذا الخبر يدل على ان الشبهة ليست محرّمة بذاتها ، وانّما هي مقدمة للوقوع في الحرام ، فلو كانت الشبهة حراما بنفسها لم يحتج الى ان يستدل الإمام عليه‌السلام للنهي عنها بأنها تنتهي الى الحرام. وحيث انتهى المصنّف من الدليلين الأولين للأخباريين وهما : الكتاب والسنّة ، شرع في بيان الدليل الثالث لهم وبيان رده فقال :

(وأما العقل) فان الأخباريين قد استدلوا بالكتاب والسنة فقالوا : بأنهما يدلان على وجوب الاحتياط الشرعيّ ، واستدلوا بالعقل وقالوا : بأنّه يدل على وجوب الاحتياط العقليّ ، وفي الشبهة التحريمية الحكمية قالوا : بانه يجب الاجتناب شرعا وعقلا اما انّه كيف يكون ذلك؟ (فتقريره بوجهين) كما قال :

__________________

(١) ـ معاني الأخبار : ص ٢٥٢ ح ١ ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٣٦٠ ، وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ٢٥٨ ب ٣٧ ح ٢١٥٠٦ وج ٢٧ ص ١٦٢ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٣.

٢٠٣

احدهما :

انّا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة يجب ـ بمقتضى قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ونحوه ، ـ الخروج عن عهدة تركها

______________________________________________________

(أحدهما) : قاعدة الاشتغال وذلك (انا نعلم اجمالا) بالضرورة (قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة : بمحرّمات كثيرة) فان كلّ مسلم يعرف : انّ في الشرع محرمات كثيرة (يجب بمقتضى قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) ونحوه) من الآيات والأخبار والعقل (الخروج عن عهدة تركها) وذلك بأن يترك جميع تلك المحرمات.

هذا ، ولعله كان من الأولى أن لا يذكر المصنّف الآية المباركة ضمن الدليل ، لوضوح : ان الدليل المركب من العقل والشرع لا يسمّى عقليا كما لا يسمّى شرعيا ايضا ، بل هو مركب منهما ، كما انّ الباب المركب من الحديد والخشب لا يسمى باحدهما خاصة.

وقد ذكرنا في بعض الشروح السابقة أن قول المشهور : ان النتيجة تتبع أخسّ المقدمتين غير دقيق ، اذ النتيجة تابعة لكلتا المقدمتين ، فلا تختص بالمقدمة الأخس ولا بالمقدمة الأرفع ، بل هي بينهما.

مثلا : اذا كان البناء الحديدي يبقى عشر سنوات والبناء الخشبي يبقى أربع سنوات ، فاذا ركب البناء منهما على التساوي ، بأن يكون كلّ من الحديد والخشب فيه نصفا ، يبقى سبع سنوات ، اذ لا وجه لان تكون النتيجة تابعة لهذا وحده أو لذاك وحده.

__________________

(١) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

٢٠٤

على وجه اليقين بالاجتناب او اليقين بعدم العقاب ، لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينية باتفاق المجتهدين والأخباريين وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرّمات الواقعيّة ،

______________________________________________________

وعلى كلّ حال : فحيث نعلم بوجود محرمات كثيرة ، يجب علينا ان نتركها جميعا ، لوضوح : انّ التكليف كما يتنجّز بالعلم التفصيلي كذلك يتنجّز بالعلم الاجمالي ، والخروج عن عهدة الترك يكون على وجهين :

الأول : (على وجه) يحصل معه (اليقين بالاجتناب) وذلك بأن نترك كل ما يحتمل حرمته حتى نتيقن بأنا اجتنبنا عن تلك المحرمات.

الثاني : (أو) تكون على وجه يحصل معه (اليقين بعدم العقاب) وذلك بان نرتكب فقط ما قام الدليل المعتبر على حليته : كراهة ، أو استحبابا ، أو اباحة ، فان الكل حلال ، فاذا علمنا بالدليل المعتبر قطعنا بعدم العقاب فيما ارتكبناه.

هذا وانّما نحتاج الى اليقين بالاجتناب ، أو اليقين بعدم العقاب (لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية) فانّه اذا علم الانسان بأنه كلّف لا يكون له مخرج عن ذلك التكليف الّا اذا علم بالبراءة يقينا أو قام عنده دليل معتبر ولو لم يتيقن بمضمونه ، وذلك (باتفاق المجتهدين والأخباريين) جميعا ، قوله : «باتفاق» ، متعلق بقوله «الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية».

(و) من الواضح : انّه (بعد مراجعة الأدلة) الشرعية والاطلاع على جملة من المحرمات (والعمل بها) أي : بترك تلك المحرمات المقطوعة (لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية) لأنا نحتمل انّ المحرمات ـ مثلا ـ مائة والذي ظفرنا عليها تسعون ، فكيف نقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات؟.

٢٠٥

فلا بد من اجتناب كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ على حلّيّته ، إذ مع هذا الدليل نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعا.

فان قلت : بعد مراجعة الأدلّة يعلم تفصيلا بحرمة امور كثيرة ولا يعلم إجمالا بوجود ما عداها فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقّن ، حتّى يجب الاحتياط. وبعبارة أخرى : العلم الاجماليّ قبل الرجوع إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجماليّ.

______________________________________________________

وحينئذ : (فلا بدّ من) الاحتياط ب (اجتناب كل ما يحتمل أن يكون منها) أي :

من تلك المحرمات (اذا لم يكن هناك دليل شرعيّ على حليته) أمّا اذا قام دليل شرعيّ على حليته فلا يلزم الاجتناب عنه (اذ مع هذا الدليل) الشرعيّ القائم على حليته (نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعا) فيثبت بهذا مراد الأخباريين القائلين : بلزوم اجتناب محتمل التحريم في الشبهة الحكمية.

(فان قلت) : اذا علمنا بوجود محرمات واطلعنا على مائة محرم ـ مثلا ـ فمن أين لنا انّ المحرمات التي نحن مكلفون بها أكثر من تلك المائة؟ فلا اشتغال يقيني بالأكثر حتى يلزم البراءة اليقينية عن ذلك الأكثر ، فانه (بعد مراجعة الأدلة يعلم تفصيلا بحرمة امور كثيرة) مثلا : مائة محرّم (ولا يعلم اجمالا بوجود ما عداها) أي : ما عدا هذه المائة (فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقن حتى يجب الاحتياط) في الزائد على تلك المائة ـ مثلا ـ.

(وبعبارة اخرى : العلم الاجمالي) إنّما هو (قبل الرجوع الى الأدلة) التي حصلنا بسبب تلك الأدلة على مائة محرم (وأما بعده) أي : بعد الرجوع الى الأدلة (فليس هنا علم اجماليّ) بالأكثر من ذلك الذي علمناه من المائة في المثال ، لانحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بالنسبة الى المائة ، وشك بدوي بالنسبة

٢٠٦

قلت : إن اريد من الأدلّة ما يوجب العلم بالحكم الواقعيّ الأوّلي ، فكلّ مراجع في «الفقه» يعلم أنّ ذلك غير ميسر ، لأنّ سند الأخبار لو فرض قطعيّا لكن دلالتها ظنيّة ،

______________________________________________________

الى الزائد ، فنجري في الزائد البراءة ، فلا يستقيم حينئذ دليلكم : من انّ الاشتغال اليقيني يحتاج الى البراءة اليقينية.

(قلت) : اذا كنا نحصل على قدر المعلوم بالاجمال من الأدلة تم كلامكم ، لكنا لا نحصل على قدر المعلوم بالاجمال ، اذ الذي نحصل عليه انّما هو بسبب ظواهر الأدلة الظنيّة ، والأدلة الظنّية لا توجب انحلال العلم ، فهو مثل ان نعلم انّا مكلفون باعطاء دينار لانسان اسمه عليّ ، ثم حصل الظنّ بأن ذلك الانسان هو علي بن الحسين ، فهل نعلم ان عليّ بن الحسين هو الدائن؟ كلا ، وانّما نظنّ انّه هو الدائن.

وعليه : فالعلم الاجماليّ باق على حاله ، ولم ينحل باعطاء الدينار لعليّ بن الحسين ، ويجب علينا ان نعمل بهذا الظن لقيام الدليل على وجوب العمل به ، لكن بالاضافة الى هذا المظنون يلزم علينا ان نجتنب كل محتمل الحرمة ، فهو مثل لزوم اعطاء كل عليّ دينارا حتى نتيقن ببراءة الذمة. وكيف كان : فانه (ان اريد من الأدلة) التي بسببها ينحل العلم الاجمالي (: ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأولي) وبذلك ينحل العلم الاجمالي؟.

(ف) فيه : ان (كلّ مراجع في «الفقه» يعلم : ان ذلك غير ميسر) لوضوح : ان الأدلة الظنية لا توجب العلم بالمحرمات ، بل الأدلة انّما توجب الظن بها على الأغلب ، فانّه وان كان الظن حجّة لكنّه ليس علما (لأن سند الأخبار لو فرض قطعيا ، لكن دلالتها ظنّية) ومن المعلوم : انّه انّما يحصل العلم بسبب الأخبار

٢٠٧

وإن اريد منها ما يعمّ الدليل الظنّي المعتبر من الشارع فمراجعتها لا يوجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالا ، إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي إلّا وجوب الأخذ بمضمونه ، فان كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات ، وان كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات.

وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعيّة في مضامين تلك الأدلّة حتّى يحصل العلم بالبراءة

______________________________________________________

اذا كان قطعي السند ، وقطعي الدلالة ، وقطعي المضمون.

(وان اريد منها) أي : من الأدلة التي توجب انحلال العلم (: ما يعمّ الدليل الظنيّ المعتبر من الشارع) بأن يقال : ان الظنّ بالمحرمات يوجب انحلال العلم الاجمالي بها؟.

(ف) فيه : ان (مراجعتها) أي : مراجعة تلك الأدلة الظنية المعتبرة عند الشارع (لا يوجب) انحلال العلم الاجمالي ب (اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم اجمالا) وإنّما لا يوجب الانحلال (اذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي الّا وجوب الأخذ بمضمونه) والأخذ بمضمون الظنون لا يوجب علما بالواقع حتى يطرد ذلك العلم الاجمالي بوجود المحرمات (فان كان) متعلق الظنّ (تحريما ، صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات ، وان كان تحليلا ، كان اللازم منه عدم العقاب على فعله ، وان كان في الواقع من المحرمات).

وبالنتيجة : لا يحصل العلم بمتعلق الظن حتى يسبب هذا العلم انحلال العلم الاجماليّ (و) ذلك لأنّ (هذا المعنى) الذي ذكرناه في الظن المعتبر (لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعية من مضامين تلك الأدلة حتى يحصل العلم بالبراءة)

٢٠٨

بموافقتها ، بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرّمات المعلومة إجمالا.

وليس الظنّ التفصيليّ بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيليّ بها ، لأنّ العلم التفصيليّ بنفسه مناف لذلك العلم الاجماليّ والظنّ غير مناف له ، لا بنفسه

______________________________________________________

عن التكاليف الواقعية علما بالبراءة (ب) سبب (موافقتها) لتلك الأدلة.

وعليه : فالظنّ بالمحرمات لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجود المحرمات الواقعية (بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرمات) الواقعية التي نعلم بانها اجمالا مائة ـ مثلا ـ لأنا نحتمل وجود محرمات أزيد من المائة. ومن المعلوم : ان الظنّ لا يطرد الاحتمال ، فاذا وجدت المائة في مؤديات الأمارات المظنونة لا يظن بالبراءة عن جميع المحرمات ، (المعلومة إجمالا) كما لا يظن بالبراءة عن المحرمات المحتملة الأخر.

(و) ان قلت : أليس الظن المعتبر كالعلم ، فاذا كان كالعلم كان حال الظن المعتبر حال العلم في انحلال العلم الاجمالي بالمحرمات؟.

قلت : (ليس الظن التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال) المحرمة وهي المائة ـ مثلا ـ (كالعلم التفصيلي بها) أي : بتلك المائة من المحرمات (لأن العلم التفصيلي بنفسه مناف لذلك العلم الاجمالي) فانّ المحرمات المعلومة تفصيلا عين المحرمات المعلومة اجمالا ، بخلاف الظنّ بالمحرمات ، فانّ الظنّ بالمحرمات تفصيلا ليس عين المحرمات المعلومة اجمالا.

والحاصل : ان العلم يطرد العلم ، أما الظنّ فلا يطرد العلم (و) ذلك لأن (الظن غير مناف له) أي : لذلك المعلوم بالاجمال (لا بنفسه) لاحتمال أن يكون هناك

٢٠٩

ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور.

نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الأدلّة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤدّاها بحيث يكون هو المكلّف به كان ما عدا ما تضمّنته الأدلّة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به ، فلا يجب الاحتياط فيها.

______________________________________________________

محرمات في الواقع لم يصل الظن اليها (ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور).

والمراد بالوجه المذكور : ما ذكره قبل أسطر بقوله «ليس معنى اعتبار الدليل الظنيّ الّا وجوب الأخذ بمضمونه ، فان كان تحريما ، صار ذلك كأنه أحد المحرمات ، وان كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله ، وان كان في الواقع من المحرمات» ، وعلى هذا : فالظن ليس شأنه الّا ذلك فلا يكون طاردا للعلم الاجمالي.

(نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الادلة) الظنية على نحو السببية لا الطريقية ، ومعنى السببية ما ذكره المصنّف بقوله :

(بحيث انقلب التكليف) الواقعي (الى العمل بمؤدّاها) أي : بمؤدّى هذه الأدلة الظنية عند مخالفتها للواقع (بحيث يكون هو المكلّف به) بعد قيام الدليل ، وذلك بأن يسقط سائر الواقعيات عن كونها واقعيات عند عدم قيام الدليل عليها (كان ما عدا ما تضمّنته الأدلة) الظنية (من محتملات التحريم) حينئذ (خارجا عن المكلّف به) بعد عدم قيام الدليل على تلك المحتملات التحريم.

وعليه : (فلا يجب الاحتياط فيها) أي : في تلك المحتملات التحريم ، وذلك لأنّ العلم الاجماليّ قد سقط بعد قيام الأدلة ، وبعد فرض كون الشارع لا يريد الواقعيات وانّما يريد هذه الأدلة فقط ، فانّ الشارع قد أثبت في الواقع

٢١٠

وبالجملة : فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالا بوجود محرّمات فيها ، ثمّ قامت البيّنة على تحريم جملة منها وتحليل جملة ، وبقي الشكّ في جملة ثالثة ، لانّ مجرّد قيام البيّنة على تحريم البعض لا يوجب العلم ولا الظنّ بالبراءة من جميع المحرّمات.

نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ، بمعنى أنّه أمر بتشخيص

______________________________________________________

ـ مثلا ـ حرمة الخمر ، والخنزير ، والميتة ، فاذا قام الدليل على حرمة الأولين فقط ، وقال الشارع : كلّما لم يقم عليه دليل ليس حراما ، فان الميتة تسقط عن الحرمة واقعا ، وحينئذ : يكون الدليل الظني المعتبر سببا لانحلال العلم الاجمالي ، لكن هذا تصويب لا نقول به.

(وبالجملة : فما نحن فيه) من التكاليف التي يعلم الانسان بوجود حلال وحرام فيها (بمنزلة قطيع غنم يعلم اجمالا بوجود محرمات فيها) لأنها موطوءات ـ مثلا ـ (ثم قامت البينة على تحريم جملة منها) كالأغنام البيض (وتحليل جملة) كالأغنام السود ، (وبقي الشك في جملة ثالثة) كالأغنام الصفر.

وإنّما يبقى الشك في جملة ثالثة (لأنّ مجرد قيام البينة على تحريم البعض لا يوجب العلم ، ولا الظن بالبراءة من جميع المحرمات) فان تكاليف الشريعة لو كانت ألفا ـ مثلا ـ وعلمنا بأن مائة منها محرمة ، فاذا قام الخبر المعتبر على تحريم مائة خاصة من بين الألف ، لم يوجب ذلك انحلال العلم الاجمالي ، لاحتمال ان بعض هذا الخارج عن المائة محرم أيضا ، لاشتباه الخبر في التعيين وان كان الخبر معتبرا اذ الخبر لا يوجب أكثر من الظن ، فلم ينحل العلم الاجمالي.

(نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام) أي : قال الشارع : ان المحرمات الواقعية انحصرت في مؤدّيات البينة (بمعنى : انّه) أي : الشارع (أمر بتشخيص

٢١١

المحرّمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق ، رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قام عليه البيّنة ، لا الحرام الواقعيّ.

والجواب : أوّلا :

______________________________________________________

المحرّمات المعلومة) بالعلم الاجمالي (وجودا وعدما بهذا الطريق) فيكون معنى جعل الشارع البينة حجّة : انّ مؤدّيات البينة هو الواقع وما سوى مؤدّياتها حلال وهو ما ذكرناه : من انه تصويب وباطل عندنا.

فاذا كان كذلك (رجع التكليف الى وجوب اجتناب ما قام عليه البينة ، لا الحرام الواقعي) فيكون الشارع حينئذ قد رفع يده عن الحرام الواقعي ، وجعل مؤدى البينة محرما فقط ، فاذا علمنا بمؤدى البينة حصل لنا اليقين بالبراءة ، لأن ذلك يوجب العلم بأن المحرم هو مؤدى البينات فقط وأما غير مؤدّى البينات فليس محرّما.

ولا يخفى : أن قولنا : «نعم» الى آخره ليس على طريق المخطئة بل على طريق المصوبة ، وهو مردود عندنا ، فيكون مردوديته دليلا مؤيدا للأخباريين القائلين بوجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية وان قامت الأدلة على تحريم جملة من الاشياء.

(والجواب) عن هذا الاشكال بما يلي :

(أولا) : ان الشارع حيث جعل الأحكام الواقعية وجعل الطرق للأداء اليها ، فهو يتصور على ثلاثة أقسام :

الأول : ان يريد الواقع فقط.

الثاني : ان يريد الطريق فقط.

الثالث : ان يريد الواقع الذي أدّى اليه الطريق.

٢١٢

منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلّا بما أدّى إليه الطرق الغير العلميّة المنصوبة له ، فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا مؤدى هذه الطرق من حيث هو حتّى يلزم التصويب أو ما يشبهه ،

______________________________________________________

أمّا الاول : فهو لا يكون اذا التكليف غير الواصل عبث ، واما الثاني : فهو خلاف أدلة اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، فهو تصويب باطل ، فلا يبقى الّا الثالث.

واذا قلنا بالثالث ، فالعلم الاجمالي بوجود محرمات في الواقع ينحل بقيام الطريق على جملة من المحرمات ، لانّا لا نعلم بعد قيام هذه الطرق على هذه الجملة ، هل بقي في الواقع شيء حرّمه الشارع ام لا؟.

والى هذه الاقسام اشار المصنّف وقال ب (منع تعلق تكليف غير القادر) أي : من لم يقدر (على تحصيل العلم) بالمحرمات الواقعية (الّا بما ادّى اليه الطرق غير العلمية المنصوبة له) من قبل الشارع (فهو) أي : المكلّف العاجز عن الواقع (مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق) المنصوبة له.

(لا) ان العاجز مكلّف (بالواقع من حيث هو) واقع ، سواء أدّى اليه الطريق أو لم يؤدي اليه ، لما عرفت : من أنّ الواقع الذي لم يؤد اليه الطريق اذا كلف به الانسان كان عبثا.

(ولا) ان العاجز مكلف بحسب (مؤدى هذه الطرق من حيث هو) وان لم يصادف الواقع (حتى يلزم التصويب) الذي يقول به العامّة (أو ما يشبهه) أي : يشبه التصويب كقول الاشاعرة : بأن الأحكام الواقعية مختصة بالعالمين ولم تشرّع الّا لهم ، والمعتزلة : بأن الحكم الواقعي مشترك بين العالم والجاهل ، الّا أنّ الأمارة ان صادفت الواقع يكون الواقع منجّزا على الجاهل كالعالم ، وان خالفت الأمارة

٢١٣

لأنّ ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ، وتوضيحه في محلّه. وحينئذ فلا يكون ما شكّ في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.

______________________________________________________

الواقع ينقلب الحكم الواقعي الى المؤدى ، وهذا الأخير هو مراد المصنّف بقوله : «أو ما يشبهه».

وانّما قلنا : انّ العاجز عن الواقع غير مكلّف بالواقع ـ وهو القسم الاول ممّا يتصور من جعل الأحكام وجعل الطرق ـ ولا بمؤدّى هذه الطرق من حيث هو ـ وهو القسم الثاني منه ـ (لان ما ذكرناه) من القسم الثالث وهو : ان الانسان مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق (هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره) لما دلت عليه الأدلة من اشتراك العالم والجاهل في الأحكام ، فيبطل التصويب بكلا قسميه.

(و) هو المتحصّل أيضا من (ثبوت التكليف بالعمل بالطرق) التي جعلها الشارع للتأدية الى تلك الأحكام الواقعية المشتركة بين العالم والجاهل ، المستلزم ذلك لجعل البدل (وتوضيحه) أي : توضيح هذا القسم الثالث تمّ (في محله) ومكانه.

(وحينئذ) أي : حين كان الانسان مكلفا بالواقع لكن من طريق الأدلة والأمارات لا بالواقع البحت ولا بالطريق البحت (فلا يكون ما شك في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلا على تقدير حرمته واقعا) أي : ليس الانسان مكلفا بالواقع الذي لم يصل اليه.

وعليه : فتنحصر المحرّمات في مؤديات الطرق ، فيكون ما حصل عليه بسبب الظن من المحرمات موجبا لانحلال العلم الاجمالي بالمحرمات الواقعية ،

٢١٤

وثانيا ، سلّمنا التكليف الفعليّ بالمحرّمات الواقعيّة ، إلّا أنّ من المقرّر في الشبهة المحصورة ، كما سيجيء إنشاء الله ، أنّه إذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الاجماليّ اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ،

______________________________________________________

فلا يحتمل الحرمة بعد ذلك في غير مؤديات الطرق حتى يقول الأخباريون : يلزم الاجتناب عن كل محتمل الحرمة كشرب التتن تحصيلا للبراءة اليقينية من العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، اذ بعد عدم احتمالنا لحرمة خارجة عن الذي ادّى اليه الطرق ينحل العلم الاجمالي المذكور.

هذا تمام الكلام في ان الظن التفصيلي بحرمة جملة من الامور ، هو كالعلم التفصيلي بها يوجب انحلال العلم الاجمالي.

(وثانيا : سلمنا) ان الظن التفصيلي ليس كالعلم التفصيلي موجبا للانحلال ، وذلك لانا نقبل (التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية) حتى بعد جعل الأمارات والطرق (الّا أنّ) هذا العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة غير مؤثر.

وانّما يكون هذا العلم الاجمالي غير مؤثر ، بل هو كالجهل رأسا في انّه لا يوجب احتياطا ، لأنّ (من المقرر في الشبهة المحصورة كما سيجيء إن شاء الله) تعالى (انّه اذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الاجمالي اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر).

مثلا : اذا كان هناك اناءان أحدهما نجس وهو الاناء الأحمر ، والآخر طاهر وهو الاناء الأبيض ، ثم وقعت قطرة نجس في أحدهما ، فانّه لا يوجب الحكم بنجاسة الأبيض اذ لم نعلم بانّ هذه القطرة احدثت لنا تكليفا جديدا ، وذلك لاحتمال

٢١٥

لاحتمال كون المعلوم الاجماليّ هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة الحلّ في البعض الآخر غير معارضة بالمثل ،

______________________________________________________

أن تكون تلك القطرة وقعت في الاناء الأحمر النجس سابقا ، والعلم الاجمالي إنّما يوجب الاجتناب عن جميع اطرافه فيما اذا علمنا انّه أحدث تكليفا جديدا.

والى ذلك أشار المصنّف بقوله : (لاحتمال كون المعلوم الاجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا) بأن ينطبق الحرام الجديد وهو النجاسة بسبب وقوع قطرة نجسة على ذلك الذي علمنا انّه نجس سابقا.

وعليه : (فاصالة الحلّ في البعض الآخر) وهو الاناء الأبيض في المثال (غير معارضة بالمثل) فان العلم الاجمالي انّما يؤثر اذا تعارض اصلان ، أصل في هذا الطرف ، وأصل في ذاك الطرف ، كما اذا كان هناك اناءان كلاهما طاهر ، ثم وقعت قطرة نجس في أحدهما ، فان أصل الطهارة في الاناء الأبيض معارض بأصل الطهارة في الاناء الأحمر ، فيتساقط الأصلان ويلزم الاجتناب عن كلا الإناءين تحصيلا للعلم الاجمالي.

ولكن ليس كذلك اذا علم بنجاسة الاناء الأحمر سابقا قبل أن تقع القطرة في أحدهما ، لأن أصل الطهارة في الاناء الابيض لا يعارض بأصل الطهارة في الاناء الأحمر ، لأنّا نعلم ان الاناء الأحمر نجس فكيف يجري فيه أصل الطهارة؟.

هذا فيما اذا كان العلم بنجاسة الاناء الأحمر قبل ان تقطر القطرة ، وكذا اذا كان الاناءان طاهرين فقطرت في أحدهما قطرة لم نعلم انها قطرت في أي منهما ، لكن قامت البينة على انها قطرت في الاناء الأحمر ، فانّ قيام البينة يوجب انحلال العلم الاجمالي والحكم بطهارة الاناء الأبيض.

٢١٦

سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الاجماليّ ، كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا ، فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فانّه لا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلا ، ام كان لاحقا ، كما في مثال الغنم المذكور ، فانّ العلم الاجماليّ غير ثابت بعد العلم التفصيليّ بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إنشاء الله تعالى ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

______________________________________________________

ولهذا وصف المصنّف عدم التعارض بالمثل بقوله (سواء كان ذلك الدليل) الآخر الموجب لاجتناب بعض أطراف العلم الاجمالي (سابقا على العلم الاجمالي ، كما اذا علم) أولا (نجاسة أحد الإناءين تفصيلا) كنجاسة الاناء الأحمر في مثالنا (فوقع) بعد ذلك (قذرة في أحدهما المجهول ، فانّه) أي : بوقوع هذا القذر في أحدهما المجهول (لا يجب الاجتناب عن الآخر) وهو الاناء الأبيض في مثالنا ، وذلك لاصالة الطهارة الجارية في الاناء الأبيض السلمية عن المعارض ، (لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلا) فالعلم الاجمالي غير مؤثر على ما عرفت.

(أم كان لاحقا ، كما في مثال الغنم المذكور) ومثال الإناءين المذكورين (فان العلم الاجمالي) الموجود قبل قيام البينة على أن أحدهما نجس (غير ثابت) ولا مؤثر (بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها) كالاناء الأحمر في المثال وذلك (بواسطة وجوب العمل بالبينة) الذي أقامها الشارع مقام العلم (وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى) فيما بعد.

(وما نحن فيه من هذا القبيل) فانّ ما ذكرناه كان على نحو الكبرى الكلية في باب العلم الاجمالي ، وحيث قد عرفت الكبرى نقول في انطباقها على ما نحن فيه من العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، ثم قيام الأمارة بتعيين تلك

٢١٧

الوجه الثاني :

انّ الأصل في الأفعال الغير الضروريّة الحظر. كما نسب إلى طائفة من الاماميّة ، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الاباحة ،

______________________________________________________

المحرمات : انّه كما ذكرناه في مثال : قطرة نجس قطرت في أحد الإناءين ، ثم قامت البينة بنجاسة الاناء الأحمر حيث ينحلّ بها العلم الاجمالي.

وانّما قلنا : انّه كمثال القطرة لأنّ العلم الاجمالي بحرمة جملة من الامور ثابت قبل مراجعة الأدلة ، وبأداء تلك الأدلة الى حرمة الامور المذكورة ينحل العلم الاجمالي في المحرمات بسبب قيام الأدلة عليها الكاشفة عن سبق المحرمات على العلم الاجمالي ، فتكون كالبينة القائمة على حرمة الاناء الأحمر الكاشفة عن سبق حرمة الاناء الأحمر على وقوع قطرة النجس في أحدهما.

(الوجه الثاني) من الدليلين العقليين الذين أقامهما الأخباريون على وجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية الحكمية : (انّ الأصل) أي : القاعدة العقلية (في الأفعال غير الضرورية) وقال : غير الضرورية ، لانّ الضرورية سواء كانت تكوينية كالكون في الحيز وكالتنفس ، ام عقلية كالأكل وكالشرب الضروريين حكمها الجواز ، اما غير الضرورية فحكها عند الاخباريين : (الحظر) أي : المنع ، لأنّ العقل يرى ان الكون ملك للغير فلا يجوز التصرّف فيه الّا باذن مالكه.

(كما نسب) هذا القول بالحظر (الى طائفة من الإماميّة) أيضا ، وقد ذهب اليه جماعة من غير الإماميّة أيضا.

وعليه : (فيعمل به) أي : بهذا الأصل (حتى يثبت من الشرع الاباحة)

٢١٨

ولم يرد الاباحة فيما لا نصّ فيه. وما ورد على تقدير تسليم دلالته ، معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط ، فالمرجع إلى الأصل.

______________________________________________________

في الموارد الخاصة من قبيل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١).

وقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٢).

الى غير ذلك من الأدلة الكلية أو الأدلة الجزئية الدالة على الاباحة فالأدلة الجزئية مثل حلية البيع ، والأدلة الكلية مثل : ما دلّ على البراءة في الشبهة الموضوعية تحريمية أو وجوبية ، وما دل على البراءة في الشبهة الحكمية الوجوبية ، وفي غيرها ممّا لا دليل على البراءة فيه ، يكون التصرّف فيه من التصرف في ملك الغير ، فشرب التتن ـ مثلا ـ تصرف في ملك الغير ويحتمل فيه العقاب الاخروي ما لم يرد نص باباحته (ولم يرد الاباحة فيما لا نص فيه) من الشبهة الحكمية التحريمية ـ كشرب التتن في المثال ـ حتى يجوز ارتكابه ، فيبقى تحت الأصل.

(وما ورد) من أدلة البراءة والاباحة الشاملة للشبهة الحكمية التحريمية ، ففيها ما يلي :

أولا : لا نسلم دلالة تلك الأدلة على البراءة.

ثانيا : (على تقدير تسليم دلالته ، معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط) فيتساقطان ونبقى بلا دليل شرعي خاص على الاباحة ولا على الحظر (فالمرجع) حينئذ يكون (الى الأصل) الذي ذكرناه وهو : الحظر.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٢٤.

٢١٩

ولو نزلنا عن ذلك فالوقف ، كما عليه الشيخان قدس‌سرهما ، واحتجّ عليه في العدّة بأنّ الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم المفسدة فيه.

وقد جزم بهذه القضيّة السيّد أبو المكارم في الغنية ، وإن قال بأصالة

______________________________________________________

ثالثا : (ولو نزلنا عن ذلك) ولم نقل انّ الأصل في الأشياء الحظر (ف) اللازم ان نقول : ب (الوقف) أي : التوقف (كما عليه) أي : على الوقف (الشيخان قدس‌سرهما) والمراد بهما : الشيخ المفيد والشيخ الطوسي.

ومن المعلوم : ان نتيجة الوقف هو نتيجة الحظر في العمل ، وانّما الفارق بينهما : انّ الأول يقول شرب التتن حرام ، والثاني يقول : شرب التتن لا اعلم انّه حرام أو حلال ، لكن اللازم ان لا نشربه.

(واحتج عليه) أي : على الحظر الشيخ (في العدة بأنّ الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم المفسدة فيه) فانّ العقل يرى وجوب الاجتناب عن شيئين :

الأول : الاجتناب عمّا يقطع فيه المفسدة ، كالطريق الذي يعلم بأنّ فيه اسدا ـ مثلا ـ.

الثاني : الاجتناب عمّا لا يأمن وجود المفسدة فيه كالطريق الذي لا يعلم هل فيه أسد أو ليس فيه أسد؟ فاذا لم يأمن عدم وجود المفسدة فيه يرى العقل الاجتناب عنه.

(وقد جزم بهذه القضية) أي : قضية كون الاقدام على محتمل المفسدة ، كالاقدام على مقطوع المفسدة (السيد أبو المكارم في الغنية) فانّه متفق مع شيخ الطائفة على هذه القضية أولا وبالذات (وان قال بأصالة

٢٢٠