الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث والفواحش (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) يدلّ على حرمة امور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها.

ومنشأ التوهّم المذكور ملاحظة تعلّق الحكم

______________________________________________________

الموضوعية من جهة قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» لا يدع مجالا لجريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ، في الخمر المشتبه كذلك توهم وجوب البيان في الشبهة الحكمية من جهة العمومات الدالّة على المحرمات ، لا يدع مجالا لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الحكمية أيضا.

وانّما لا تجري القاعدة في الشبهة الحكمية أيضا (لأن العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش) وقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١)) جار في محتمل التحريم كشرب التتن بالنسبة الى الخبائث ، والتزويج بمن ارتضعت معه عشر رضعات بالنسبة الى الفواحش ، وشرب العصير التمري الذي ليس بخبيث ولا فاحشة ، وانّما يحتمل دخوله في : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ.)

وعليه : فانّ كل واحد من هذه العمومات (يدل على حرمة امور واقعيّة) من الخبيث الواقعي ، والفاحشة الواقعية ، والمنهي عنه الواقعي ، و (يحتمل كون شرب التتن منها) فيجب اجتنابه مقدمة للعلم بامتثال التكليف في جميع الافراد الواقعيّة وكذلك بالنسبة الى التزويج وشرب العصير على ما ذكرناه.

(ومنشأ التوهّم المذكور) في الشبهة الحكمية باحتمال دخول هذه الامور في تلك العمومات (ملاحظة تعلّق الحكم) أي : حكم التحريم والاجتناب والنهي

__________________

(١) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

٣٢١

بكلّيّ مردّد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه ، فيتخيّل أنّ الترديد في المكلّف به مع العلم بالتكليف فيجب الاحتياط.

ونظير هذا التوهّم قد وقع في الشبهة الوجوبيّة حيث تخيّل أنّ دوران ما فات من الصلاة بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدّمة العلميّة ،

______________________________________________________

(بكليّ مردّد بين مقدار معلوم) كالخبائث المعلومة ، والفواحش المعلومة ، والمنهيّات المعلومة (وبين أكثر منه) كالتتن والمثالين الآخرين (فيتخيّل) أي : المتوهّم (ان الترديد) انّما هو (في المكلّف به مع العلم بالتكليف) فلا يكون من الشك في التكليف فتجري البراءة بل من الشك في المكلّف به (فيجب الاحتياط) لانّ الشكّ في المكلّف به موجب للاحتياط المانع هذا الاحتياط من جريان قاعدة القبح.

لكن قد تقدّم جواب هذا الاشكال : بانّ البيان انّما يحصل بالعلم بالحكم والموضوع معا علما اجماليا أو تفصيليا ، ولا علم اجمالي ولا تفصيلي في المقام ، كما انّه ليس في المقام ما هو بمنزلة العلم ، كالخبر الواحد الصحيح ، والبيّنة ، وما أشبه ، وحيث لا علم فلا يكون الشك في المكلّف به ، بل انّما هو شك في التكليف ، والشكّ في التكليف مجراه البراءة.

(ونظير هذا التوهّم) الحاصل في الشبهة التحريمية الحكمية والموضوعية مع سبق الكلام فيهما (قد وقع في الشبهة الوجوبية) الموضوعية ، وكذلك في الشبهة الوجوبية الحكمية ، ففي الموضوعية (حيث تخيّل ان دوران ما فات من الصلاة بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية) لأن الشارع

٣٢٢

وقد عرفت ، وسيأتي اندفاعه.

______________________________________________________

قال في بيان وجوب قضاء ما فات : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (١) وهو بيان للحكم الكليّ ، وهذا الحكم الكليّ بيان لجميع الأفراد الواقعيّة.

وعليه : فاذا شك في أنّ الذي فاته خمس أو عشر وجب عليه قضاء العشر ، لأنّ التكليف معلوم ، والمكلّف به مردّد بين الأقل والأكثر ، فيجب الاتيان بالأكثر مقدمة للعلم بامتثال التكليف في جميع الأفراد الواقعيّة ، وكذلك بالنسبة الى الشبهة الحكمية الوجوبية ، كما اذا شك في وجوب الدعاء عليه عنه رؤية الهلال بعد ورود العمومات الموجبة للأفراد الواقعية مثل قوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (٢) وغير ذلك على التقريب المتقدّم.

(وقد عرفت وسيأتي اندفاعه) وحاصل الاندفاع : انّه من الشك في التكليف وليس من الشك في المكلّف به ، لأنّا نعلم بالأقل ونشك في الأكثر ، فيكون الأكثر مجرى البراءة ، وذلك لعدم وجود العلم الاجمالي.

أمّا بالنسبة الى قضاء ما فات ، فهناك أقوال :

الأول : وجوب الأكثر.

الثاني : كفاية الأقل.

الثالث : الاتيان بالقدر المظنون الذي يكون في الغالب بين الأقل والأكثر.

الرابع : انّه لو نسى لتسامحه اذا كتب فوائته في ورقة ثم ألقاها في الماء عمدا ، فاللازم عليه الأكثر : لأن احتمال التكليف المنجّز منجّز والّا فالأقل.

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٢ ص ٥٤ ح ١٤٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٣ ص ١٦٣ ب ١٣ ح ١٤ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٨٩ ص ٩٢ ب ٢ ح ١٠ (بالمعنى).

(٢) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

٣٢٣

فان قلت : انّ الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه ، لاحتمال كونه محرّما ، فيجب دفعه.

قلنا : إن اريد بالضرر العقاب وما يجري مجراه من الامور الاخرويّة فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، وإن اريد ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان ، كما في المضارّ الدنيويّة ،

______________________________________________________

الخامس : الفرق بين أن يكون القضاء بالأمر الأول فيجب الأكثر ، وأن يكون بأمر جديد فيجب الأقل ، وتفصيل الكلام في الفقه.

(فان قلت) : انه يلزم الاتيان بالأكثر في الشبهة الوجوبية ، وترك الأكثر في الشبهة التحريمية ، ل (ان الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه ، لاحتمال كونه محرّما فيجب دفعه) في الشبهة التحريميّة كشرب محتمل الخمريّة وشرب التتن ولاحتمال كونه واجبا فيجب فعله في الشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤية الهلال وكالإتيان بالفائتة المحتملة ، فالبيان الشرعيّ وان لم يكن موجودا الّا أن البيان العقليّ موجود باحتمال الضرر ، وكلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

(قلنا : ان أريد بالضّرر : العقاب وما يجري مجراه من الامور الاخرويّة) كالصعوبات بعد الموت ، وانحطاط الدرجة والوقوع في العتاب ، وما أشبه ذلك (فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان) فانا لا نسلم انّ الضرر المحتمل الاخروي المبيّن عدمه من الشارع يجب دفعه ، فان قاعدة قبح العقاب من غير بيان حاكمة على وجوب دفع الضرر الاخروي اطلاقا.

(وان اريد ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان كما في المضار الدنيويّة) فانها آثار وضعية للأشياء تترتب عليها ، سواء علم بها الانسان أو لو يعلم ، عصى أو لم يعص؟ فشارب الخمر يتعرّض للسكر سواء شربها عالما بها أو جاهلا ، ناسيا

٣٢٤

فوجوب دفعه عقلا لو سلّم كما تقدّم من الشيخ وجماعة لم يسلّم وجوبه شرعا ، لأنّ الشارع صرّح بحلّيّة كلما لم يعلم حرمته ، فلا عقاب عليه ، كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعيّ الغير المتعلّق بأمر المعاد ، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام.

______________________________________________________

أو شاكا وحتى لو أوجر في حلقه ، وكذلك حال تارك الواجب ، حيث تفوته المصلحة أو يقع في المفسدة وان كان تركه عن جهل أو نسيان أو إلجاء كمن لم يركب السفينة عند الشاطئ حيث يرتفع ماء البحر في الليل فيغرقه ، أو يأتي الحيوان فيأكله ، أو ما أشبه ذلك.

وعليه : (ف) فنقول أولا : لا يجب دفعه عقلا ، الّا اذا كان الضرر كثيرا ولم يعارض بشيء أهمّ منه ، ولذا يخاطر العقلاء بركوب البحر وما أشبه لأرباح هي أهم في نظرهم من هذه الأضرار والمخاطر.

ونقول ثانيا : على فرض التنزّل (وجوب دفعه عقلا لو سلم كما تقدّم من الشيخ وجماعة لم يسلّم وجوبه شرعا ، لأنّ الشارع صرّح بحلية كلّما لم يعلم حرمته ، فلا) أثر شرعي على الارتكاب في محتمل الحرمة ، أو الاجتناب في محتمل الوجوب من (عقاب) أو غيره (عليه).

هذا ، و (كيف) يكون ممنوعا شرعا ، (و) الحال (قد يحكم الشرع) بملاحظة مصالح اخروية أو دنيوية أهمّ (بجواز ارتكاب الضّرر القطعي غير المتعلق بأمر المعاد) كالجهاد الموجب للجرح والقتل وتسليم النفس للشهادة والقصاص ، وبذل المال خمسا وزكاة وما أشبه ذلك (كما هو) أي : كون الضرر دنيويا (المفروض في الضرر المحتمل في المقام) أي : في ارتكاب محتمل الحرمة ، أو في اجتناب محتمل الوجوب.

٣٢٥

فان قيل : نختار أوّلا : احتمال الضرر المتعلق بامور الآخرة ، والعقل لا يدفع ترتّبه من دون بيان ، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل ، كما صرّح به في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الاباحة ،

______________________________________________________

وعلى أي حال : فلا دليل على لزوم الاتيان بالزائد من المقطوع في الشبهة الوجوبية ، ولا في وجوب الترك بالنسبة الى الزائد في الشبهة التحريمية.

(فان قيل) : اذا شرب المكلّف محتمل الخمريّة ، قلتم أنتم : حيث لم يبيّن الشارع حرمته ، فلا عقاب عليه ، وذلك لقاعدة قبح العقاب من غير بيان.

قلنا : نحن نحتمل العقاب هنا ، فان الشارع انّما لم يبيّنه لمحذور في البيان وقد أوكل الشارع الأمر فيه الى العقل القائل بدفع الضرر المحتمل ، فيعاقبه يوم القيامة استنادا الى مخالفة عقله.

وعليه : فانّا (نختار أوّلا) : بأن المراد من احتمال الضرر : ليس احتمال الضرر الدنيوي في شرب المائع المحتمل كونه خمرا ، بل (احتمال الضرر المتعلّق بأمور الآخرة).

ان قلت : احتمال الضرر الأخروي مشمول أيضا لقبح العقاب بلا بيان.

قلت : (والعقل لا يدفع ترتبه) أي : ترتب الضّرر المتعلّق بأمور الآخرة (من دون بيان ، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول) الشارع (الأمر الى ما يقتضيه العقل) وحينئذ لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فيحكم العقل بلزوم الاحتياط عن هذا الفرد المشكوك حرمته من المائع ، وذلك دفعا للعقاب المحتمل وان كان العقاب من غير بيان.

(كما صرّح به) أي : بهذا الذي ذكرناه بقولنا : «احتمال الضّرر المتعلّق بامور الآخرة ...» الشيخ (في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الاباحة) فانّ

٣٢٦

من أنّه لو كان هناك في الفعل مضرّة آجلة لبيّنها.

وثانيا : نختار المضرّة الدنيويّة ، وتحريمه ثابت شرعا ، لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ،) كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة على دفع أصالة الاباحة ، وهذا الدليل ومثله

______________________________________________________

جماعة قالوا بأصالة الاباحة في الاشياء مستندين الى قبح العقاب من غير بيان ، وقالوا (من انّه لو كان هناك) أي : في مورد الشبهة (في الفعل مضرّة آجلة) أي : أخرويّة (ليبيّنها) الشارع ، فحيث لم يبيّنها فلا عقاب.

وردّهم الشيخ : بامكان أن يكون محذور في بيان الشارع فقد أوكل الشارع بيانه الى العقل ، والعقل يدل على التحريم لكونه ضررا محتملا ، والضرر المحتمل يرى العقل وجوب دفعه.

(وثانيا : نختار) بان المراد من احتمال الضّرر في الشبهة (: المضرّة الدنيوية ، و) أنتم قلتم ان احتمال هذا الضرر وان كان محرزا بالعقل ، لكنّه لا يجب دفعه شرعا ، لأنّ الشارع أذن فيه بقوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) وبسائر أدلّة البراءة.

قلنا : ذلك ممنوع ، لأنّ (تحريمه ثابت شرعا ، لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢) كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة : على دفع أصالة الاباحة) فان الشيخ استدل لردّ القائل بأصالة الاباحة بآية : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بناء على انّ التهلكة تشمل الدنيويّة والاخرويّة.

(وهذا الدليل) أي : الآية المباركة (ومثله) من الأدلّة الدالة على تحريم الشارع

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ١٥.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٩٥.

٣٢٧

رافع للحلّيّة الثابتة بقولهم : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام».

قلت : لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاخروي ،

______________________________________________________

القاء النفس في الضرر الدنيوي (رافع للحليّة الثابتة بقولهم) عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام) (١).

وانّما كانت آية التهلكة رافعة لدليل الحلّ ، لأن دليل الحلّ مغيّا بقوله عليه‌السلام : «حتى تعرف الحرام» ومع حكم العقل والشرع بوجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل يعرف الحرمة ، فيرتفع الحلّ لحصول الغاية ، فان حكم الغاية دائما مخالف لحكم المغيّا.

فاذا قال : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٢) كان معنى ذلك : انّه بعد مطلع الفجر ينتهي الحكم الثابت قبله ، الّا اذا كان هناك دليل على الدخول مثل قوله : أكلت السمكة حتى رأسها على ما ذكره الادباء والاصوليون في موضعه.

ان قلت ذلك؟ (قلت :) أوّلا : لا نسلم جواز عقاب الآخرة بدون البيان وان كان عدم البيان لوجود محذور في البيان ، وذلك للنّصّ في قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) على عدم العقاب اطلاقا بدون البيان ، سواء كان عدم البيان فيه لمحذور أو بدون محذور ، فان الله سبحانه وتعالى لا يعذّب الّا بعد البيان.

ثانيا : (لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاخروي) من الشارع

__________________

(١) ـ وقريب من هذا الحديث في الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ وح ٣٩ والمحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

(٢) ـ سورة القدر : الآية ٥.

(٣) ـ سورة الاسراء : الآية ١٥.

٣٢٨

إلّا أنّ قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» بيان لعدم الضرر الاخرويّ ، وأمّا الضرر الغير الاخرويّ ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع ، وآية التهلكة مختصة بمظنّة الهلاك

______________________________________________________

(الّا ان قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» بيان لعدم الضرر الاخروي) فنطمئن بعدم العقاب الاخروي ، فقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» ينفي التّهلكة ، لا أن آية التهلكة تنفي قوله عليه‌السلام «كلّ شيء لك حلال».

(وأما الضرر غير الاخروي ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع) كما تقدّم قبل أسطر (وآية التهلكة) الذي زعمه المستشكل رافعة للحل الثابت بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» (مختصّة بمظنة الهلاك) فلا تشمل احتمال الهلاك.

وعليه : فاذا علم بالضرر الدنيوي وجب الاجتناب ، وكذا اذا ظنّ به ظنا عقلائيا ، وذلك للاجماع ونحوه ، على أن الظن في باب الضرر قائم مقام العلم ، أما اذا لم يكن علم ولا ظن عقلائي بالضرر فلا حرمة في الارتكاب فيكون مورد «التهلكة» العلم والظن ، ومورد «كل شيء لك حلال» صورة احتمال الضرر بلا علم ولا ظن وكلامنا الآن في احتمال الضرر ، وذلك بأن نحتمل كون هذا المانع خمرا فلا يجب الاجتناب عنه بحكم رواية : «كلّ شيء لك حلال».

هذا ، ولكن ربّما يقال : على كلام المصنّف يلزم أن يكون احتمال الضرر أيضا مانعا من ارتكاب المشتبه وان كان وهما ، ولذا قالوا : بأن الذي يحتمل ـ مثلا ـ ضرر الوضوء ، أو الغسل ، أو الصوم ، يتيمم ، ويفطر اذا كان الاحتمال عقلائيا ، ولعل الأوثق اشار الى هذا الاشكال حيث قال :

«لعل الوجه في كلام المصنّف : ـ مختصة بمظنة الهلاك ـ هو فهم العلماء لما قيل كما هو ظاهر المصنّف هنا ايضا : من استقرار بنائهم على عدم وجوب دفع

٣٢٩

وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر بأنّ سلوك الطريق الذي يظنّ معه العطب معصية ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك. وكذا في باب التيمم والافطار لم يرخّصوا إلّا مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشكّ.

نعم ، ذكر قليل من متأخّري المتأخّرين انسحاب حكم الافطار والتيمّم مع الشكّ أيضا ،

______________________________________________________

الضرر المحتمل ، والّا فتعليق الحكم بالهلكة الواقعيّة يقتضي : وجوب الاجتناب عن الهلكة المحتملة أيضا» (١).

ثم أن المصنّف رحمه‌الله أيّد كون احتمال الضرر ليس محرّم الارتكاب ، بل الظنّ بالضرر هو المحرّم ارتكابه بقوله : (وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر : بأنّ سلوك الطريق الذي يظن معه العطب) و «العطب» على وزن «فرس» ، بمعنى الهلاك أما نفسا بأن يقتل ، أو عضوا بأن يقطع يده ، أو قوة بأن يذهب نور بصره ـ مثلا ـ فسلوكه (معصية ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك) ، فيكون سفره حراما عند الظن بالعطب ، لا في صورة مجرد الاحتمال.

(وكذا) صرّح الفقهاء (في باب التيمم والافطار) : بانّ المبيح للتيمم هو الظن بالضرر في الوضوء أو الغسل ، والمبيح للافطار هو الظنّ بالضرر من الصوم ، و (لم يرخّصوا الّا مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة ، دون الشك) والوهم.

(نعم ، ذكر قليل من متأخري المتأخرين انسحاب) أي : جريان (حكم الافطار والتيمم مع الشك أيضا) بل احتمال الضرر ـ كما عرفت سابقا ـ

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٢٨٨ الحكم بعدم وجوب الاحتياط عقلا لا ينافي حسن الاحتياط.

٣٣٠

لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم في الأدلّة بخوف الضرر الصادق مع الشكّ ، بل مع بعض أفراد الوهم أيضا.

لكنّ الانصاف إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه ، كالحكم بدفع الضرر المتيقن كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمّيّة إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه ، لكن

______________________________________________________

(لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم) بوجوب الافطار والتيمم (في الأدلة بخوف الضرر الصادق مع الشك ، بل بعض أفراد الوهم أيضا) وهو الوهم الموجب لتوقف العقلاء عن المسير ، لأن الوهم قد يكون عقلائيا ، فلا يسير العقلاء في مورد الوهم ، وقد لا يكون عقلائيا ، فيسير.

ثمّ انه حيث نفى المصنّف اعتناء العقلاء بالضرر المشكوك فيه ، اذ العقلاء يرتكبون مشكوك الضرر ، رجع عن نفيه ذلك بقوله : (لكنّ الإنصاف : الزام العقل بدفع الضرر) الدنيوي (المشكوك فيه ، كالحكم) من العقل (بدفع الضرر المتيقّن) وذلك للفرق بين الدليل العقلي والدليل الشرعي ، فان الدليل الشرعيّ لا يفيد الّا وجوب دفع الضرر الدنيوي المقطوع أو المظنون ، أما العقل فيرى وجوب دفع الضرر حتى المشكوك منه.

(كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمّية) فان مجرد احتمال السمّ في المائع وان لم يكن علما ولا ظنا ، يوجب اجتناب العقلاء عنه ، ففرق بين حكم العقل وحكم الشرع.

وعليه : فانّه (اذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه) في المائع المحتمل وجود السم فيه ، نرى العقلاء يجتنبون عنه ولا يتناولونه.

(لكن) لا يخفى : انّ ايجاب العقل دفع الضرر المقطوع والمظنون ،

٣٣١

حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيويّ من حيث هو ، كما يحكم بوجوب دفع الاخروي كذلك : إلّا أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيويّ عنوان يترتب

______________________________________________________

أو المشكوك والموهوم انّما هو فيما اذا كان العقلاء يرون دفع الضرر الموهوم كما في الامور المهمّة بأن قال الطبيب للمريض ـ مثلا ـ اذا غسلت وجهك احتمل عمى عينك احتمالا واحدا في عشرة ، فان هذا الاحتمال موهوم لكن العقلاء يعتنون به.

والاعتناء بهذا الاحتمال انّما هو فيما اذا لم يكن نفع يساوي الضرر أو يزيد عليه ، والّا فقد يبيحه الشارع في كلّ الأقسام الأربعة لذلك النفع المصادف لهذا الضّرر ، فليس حكم العقل بدفع الضرر المشكوك مطلقا على ما ذكرناه في قولنا :

«والانصاف الزام العقل بدفع الضرر ...» ولذا نقول : «كلّ شيء لك حلال» يشمل الضّرر المشكوك والموهوم ، فلا تشملهما آية التهلكة بخلاف من قال : بان آية التهلكة تدفع رواية «كلّ شيء لك حلال».

وانّما نقول بتقديم «كلّ شيء لك حلال» على آية التّهلكة في المشكوك والموهوم ، لأنّا لو قدّمنا آية التهلكة لم يبق لقوله «كلّ شيء لك حلال» مورد.

وعليه : فانّ (حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن) والمظنون ، أو المشكوك والموهم (انّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوي من حيث هو) ضرر أي : انا اذا لاحظنا الضرر بما هو ضرر يرى العقل وجوب دفع هذه الاضرار الأربعة (كما يحكم) العقل (بوجوب دفع) الضرر (الاخروي كذلك) أي : من حيث هو ضرر في كلّ أقسامه الأربعة.

(الّا انه قد يتّحد مع الضرر الدنيوي) في كلّ أقسامه الأربعة (عنوان يترتب

٣٣٢

عليه نفع اخرويّ ، فلا يستقلّ العقل بوجوب دفعه ، ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها له في الجهاد والاكراه على القتل او على الارتداد.

وحينئذ : فالضرر الدنيويّ المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ،

______________________________________________________

عليه) أي : على ذلك العنوان (نفع) دنيوي كالتجارة المربحة ، أو (اخروي) بالفوز بالجنة كفارة الذنوب وارتفاع الدرجة (فلا يستقل العقل بوجوب دفعه) أي : دفع هذا الضرر الدنيوي أو الاخروي ، وذلك للتساوي بين الضرر والربح ، أو زيادة الربح على الضرر (ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها) أي : تعريض النفس (له) أي : للضرر (في الجهاد ، والاكراه على القتل أو على الارتداد) فانّه اذا أكره الانسان على قتل الغير لا يجوز له قتله ، بل عليه أن يتحمّل الضرر وان كان الضرر هو القتل ، وذلك لأنّه لا تقيّة في الدّماء كما هو المشهور بين الفقهاء ، وكذا لو أكره على الارتداد ، يجوز له ترك الارتداد وتحمّل الضرر وان كان قتلا ، ويجوز له ايضا فعل الارتداد تقية حيث قال سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١).

(وحينئذ) أي : حين قلنا : بأن ايجاب العقل دفع الضرر انّما هو فيما اذا لم يكن معارض بنفع مساو أو بنفع أهمّ (فالضرر الدنيوي المقطوع ، يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة) كما تقدّم من الأمثلة المذكورة بل وكذلك العقل قبل الشرع يبيح أيضا مثل هذا الضّرر المقطوع اذا كان ذلك الضّرر مصادفا لمصلحة أهمّ أو لمصلحة مساوية للضرر.

__________________

(١) ـ سورة النحل : الآية ١٠٦.

٣٣٣

فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز.

______________________________________________________

وعليه : فان كان بالنسبة الى الضرر المقطوع هكذا (فإباحته) أي : الشارع ، بل العقل أيضا كما ذكرنا (للضّرر المشكوك) اباحة (لمصلحة) مثل مصلحة : (الترخيص على العباد ، أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز) فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشق على امتي لأمرتهم بالسواك» (١).

وفي رواية مروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال مخاطبا لعائشة : «لو لا قومك حديثوا عهد بالإسلام لهدّمت الكعبة ولجعلت لها بابين» (٢).

وقوله الآخر فيما يروى عنه : «ان جماعة من اصحابه تآمروا على قتله في ليلة العقبة لكنّه عفا عنهم ولم يقتلهم لئلا يقول الناس : نصر رسول الله قوم حتى اذا قوي أمره قتلهم» (٣) ممّا يدل على انّ المصلحة المساوية أو الأهم قد توجب رفع الحكم.

وبذلك تبيّن حال الأقسام الأربعة للضرر العقلي والشرعي ، وكل واحد ربّما ينطبق عليه نفع عقليّ أو شرعي ، فاذا كان ذلك النفع مساويا للضرر أو أهمّ ، أباح

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢٢ ح ١ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ٢١ ح ٤٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢ ص ١٧ ب ٣ ح ١٣٤٦ وج ١٩ ب ٥ ح ١٣٥٤.

(٢) ـ سفينة البحار : ج ٦ ص ٥٧٧ باب العين بعده الياء ، العمدة : ص ٣١٧ ح ٥٣٢ حديث حريق الكعبة (بالمعنى) ، السيوطي : ص ٩٥ باب ابتداء.

(٣) ـ للاطلاع على سلوكيات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجع كتاب «لأوّل مرّة في تاريخ العالم» ، وكتاب «اسلوب حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام» وكتاب «السبيل الى انهاض المسلمين» للشارح.

٣٣٤

فان قلت : إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة فيظنّ الضرر فيجب دفعه

______________________________________________________

العقل والشرع ذلك الضرر.

ومن الواضح : ان المصالح المنطبقة على الأضرار الجابرة لها ، قد يدركها العقل من دون حاجة الى تذكر الشرع ، كشرب المسكر للتداوي في الأمراض المهلكة ونحوها ، وقد لا يدركه الّا بتذكير الشرع مثل : اذن الشرع بارتكاب الشبهة مستندا الى قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) والى قوله سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) وما أشبه ذلك.

هذا ، ولكنّ الكلام الآن في الثبوت لا في مقام الاثبات.

ثمّ انّ المصنّف ذكر أوّلا : عدم لزوم دفع الضرر المشكوك ، وبعدها أنصف وقال : «لكن الانصاف وجوب دفع الضرر المشكوك» ثم عدل الآن الى بيان وجه آخر للكلام الأول وانه لا يلزم دفع الضرر المشكوك ، فأشار اليه بقوله :

(فان قلت :) : أن الضرر المظنون ولو بظن غير معتبر ، واجب الدفع ، وحيث ان حال الشك حال الظنّ ، فاللازم أن يكون الضرر المشكوك واجب الدفع أيضا ، فانه (اذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة) كالخبر الواحد (على الحرمة ، فيظن الضرر ، فيجب دفعه) كما إذا قام شاهد واحد بأن هذا الإناء خمر وظنّنا صحة قوله ، فانّه لا يلزم الاجتناب عنه شرعا ، لأنّ الموضوعات تحتاج في اثباتها الى شاهدين ، والمفروض انّه شاهد واحد ، فلا يكون قوله حجّة في كونه خمرا ، لكن مع ذلك يجب الاجتناب عن هذا الاناء من جهة الظن بالضرر.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٢) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

٣٣٥

مع انعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر.

قلنا : الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظنّ بالضرر ، أمّا الاخرويّ فلأنّ المفروض عدم البيان فيقبح ، وأمّا الدنيوي فلأنّ الحرمة لا تلازم الضرر الدنيويّ ، بل القطع بها أيضا لا يلازمه ،

______________________________________________________

وعليه : فالظنّ بالضرر كاف في وجوب الاجتناب ـ على ما عرفت ـ وذلك بضميمة قوله : (مع انعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشك والظنّ غير المعتبر) فانه اذا وجب اجتناب الاناء في صورة الظنّ بالضرر وجب اجتنابه في صورة الشك لعدم القول بالفصل.

وإن شئت قلت : الشّك كالظنّ والظنّ واجب الاجتناب ، فالشك أيضا كذلك والنتيجة : انه اذا شككنا في إناء انّه خمر أم لا؟ وجب الاجتناب عنه.

هذا هو مدعى من يقول من الأخباريين بوجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، فينفيه الاصوليون بقولهم : (قلنا) : انكم قستم الشك بالضرر على الظنّ بالضرر ، حيث قلتم : ان الظن بالضرر يأتي من الظنّ بأن الاناء خمر ، لكن قولكم هذا غير تام ، اذا الظنّ بانّ الاناء خمر لا يستلزم الظن بالضّرر.

وعليه : فانّ (الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظن بالضرر ، أمّا) الضرر (الاخروي ، فلأنّ المفروض عدم البيان فيقبح) العقاب عليه لعدم اعتبار هذا الظنّ في اثبات الحرمة ، فلا بيان في البين ، وحيث لا بيان ، فلا يكون العقاب مظنونا بل ولا موهوما لأنه إذا لم يكن بيان فلا عقاب قطعا.

(وأمّا) الضرر (الدنيوي ، فلأن الحرمة لا تلازم الضرر الدنيوي) اذ لا دليل على التلازم بينهما (بل القطع بها) أي : بالحرمة (أيضا لا يلازمه) أي : الضرر

٣٣٦

لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلق بالامور الأخروية.

ولو فرض حصول الظّنّ بالضرر الدنيويّ فلا محيص عن التزام حرمته ، كسائر ما ظنّ فيه الضرر الدنيويّ من الحركات والسكنات.

______________________________________________________

الدنيوي (لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلق بالأمور الاخروية) فلا تلازم بين القطع بالحرمة ، ولا الظنّ بالحرمة ، ولا الشك في الحرمة ، مع الظنّ أو القطع أو الشك في الضرر الدنيوي.

وعليه : فاذا شككنا في الحرمة في الاناء المشكوك خمريته نحتمل الضرر الدنيوي ، لا انه نقطع بالضرر الدنيوي أو نظن به حتى يقال : اذا ظننتم بالحرمة وجب عليكم الترك لظنّكم حينئذ بالضّرر الدنيوي الّذي يجب الاجتناب عنه ، فمن أين تثبتون انّ الاناء المشكوك الخمريّة يجب الاجتناب عنه؟.

(ولو فرض حصول الظنّ بالضرر الدنيوي) في بعض موارد قيام ظن غير معتبر على الخمرية (فلا محيص عن التزام حرمته) أي : حرمة ذلك المظنون ضرره (كسائر ما ظن فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسكنات).

والحاصل : انّه اذا سلّمنا انّ كلّ مظنون الضرريّة ضررا دنيويا يجب الاجتناب عنه ، فلا نسلّم انّ كلّ مظنون الحرمة يجب اجتنابه ، لا مكان الظنّ بالحرمة دون الظنّ بالضرر الدنيوي ، فاذا لم يجب الاجتناب عن مظنون الحرمة لم يجب الاجتناب عن مشكوك الحرمة بطريق أولى.

٣٣٧

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

انّ محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة المحكومة بالاباحة ما إذا لم يكن أصل موضوعيّ يقضي بالحرمة ، فمثل المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ أصالة عدم العلاقة الزوجيّة المقتضية للحرمة بل استصحاب الحرمة حاكمة على أصالة الاباحة.

______________________________________________________

هذا : (وينبغي التنبيه على امور) تالية :

(الأول : ان محلّ الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالاباحة) أي : نقول بالاباحة في الشبهة الموضوعية (ما اذا لم يكن أصل موضوعي) جار في الموضوع (يقتضي بالحرمة) فاذا كان هناك أصل موضوعي يقتضي الحرمة لم يكن محكوما بالاباحة ، كالمائع المردّد بين الخلّ والخمر فيما لم يكن سابقا خمرا حتى يستصحب خمريّته أو خلا حتى يستصحب خليته ، لأنه اذا جرى الاستصحاب لم يكن مجال لبراءته أيضا ، لأنّ الاستصحاب كاشف ولو في الجملة ، بينما البراءة حكم ما ليس له حكم.

وعلى هذا : (فمثل المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محل الكلام) فلا تجري أصالة الاباحة فيها حتى يجوز وطيها.

وكذلك المرأة المردّدة بين المحرم وغير المحرم لا يجوز النظر اليها (لأن أصالة عدم العلاقة الزّوجية ، المقتضية للحرمة ، بل استصحاب) نفس (الحرمة حاكمة على اصالة الاباحة) وذلك ، لأنّ الشك في حليتها مسبّب عن الشك في ارتفاع الحرمة السابقة ، فان هذه المرأة بذاتها كانت محرمة على هذا الرجل قبل

٣٣٨

ونحوها المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير مع سبق ملك الغير له.

______________________________________________________

العقد قطعا ، فيشك في انّه هل عرض العقد حتى حلّت له أم لا؟ فيجري أصل عدم الزوجية أو يستصحب الحرمة الّذي هو استصحاب حكمي ، واذا جرى الاستصحاب الأوّل أو الاستصحاب الثاني لم يكن مجال لأصل الحلّ ، وذلك لأنّ الاستصحاب يرفع موضوع الشبهة فلا مجال للحكم بحلها.

وكذلك المرأة التي لا يعلم هل انّها من ذوات المحرم أم لا؟ اذ المحرمية في مثل أمّ الزوجة وبنت الزوجة وما أشبه : من زوجة الأب أو زوجة الابن أمر طارى فاذا لم نعلم طروها فالأصل العدم.

وربّما يقال في غيرهن كاحتماله انّها اخته أو أمه أو من أشبه : بجريان استصحاب العدم الأزلي ، أو يقال : انّ بناء العقلاء في النسب : العدم الّا ما علم بوجوب النسب فيه ، فاذا قال : اعط كلّ قرشي كذا ، لا يجوز له الاعطاء بدون تحقق قرشيته كما ذكروا في مسألة الحيض ونحوه.

ومثل : جريان الاستصحاب الموضوعي ممّا لا يدع مجالا لأصل الحلّ ، ما لو شك في جواز اراقة هذا الدّم حيث اشتبه انّه كافر أو مسلم.

وممّا تقدّم ظهر : ان قول المصنّف اذا لم يكن أصل موضوعي انّما هو من باب المثال ، لأن الأصل الحكمي أيضا كذلك لا يدع مجالا لاصالة الحلّ والاباحة.

(ونحوها : المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير ، مع سبق ملك الغير له) بخلاف ما اذا كان المال مرددا بين المباح وكونه ملك الغير ، فان في الأوّل : لا يجوز أجراء اصالة الحل والبراءة ، اذ الشّك في حله مسبب عن الشك في الشراء والهبة ونحوهما الرافع للحرمة ، فيستصحب عدم الشراء ، أو عدم الهبة ، أو نحوهما ، فاذا جرى هذا الاستصحاب لم يكن مجال لجريان أصالة الحل.

٣٣٩

وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه ، فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب أحكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقق الماليّة.

وأمّا إباحة التصرّفات الغير المترتبة في الأدلّة على ماله وملكه فيمكن القول به للأصل ،

______________________________________________________

(وأما مع عدم سبق ملك أحد عليه) كما اذا لا نعلم بانّ هذا المال من المباح أو من ملك الغير (فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتب أحكام ملكه عليه : من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقق المالية) لأنه «لا بيع الّا في ملك» كما في النّص ونحوه غيره.

نعم ، يمكن أن يقال : بجواز أخذه لنفسه ، لاصالة عدم صيرورته ملكا للغير فيما اذا لم يكن عليه آثار الملكية ، فاذا حازه جاز له بيعه ونحوه.

لا يقال : انّما يجوز حيازة المباح ، ولا يعلم انّ هذا مباح.

لأنّه يقال : كلّ ما ليس ملكا للغير فهو مباح ، اذ أصل سبب الملك : الحيازة ، فالحيازة توجب الدخول في الملك ، كما ان الاعراض عن الشيء يوجب الخروج عن الملك ، فاذا شكّ في انّه هل صار ملكا للغير بالحيازة أم لا؟ فالاصل عدمها ، ويتحقق بذلك موضوع المباح ، فاذا تحقق موضوع المباح جاز له قصد الحيازة ، فاذا قصد حيازته صار ملكه ، واذا صار ملكه جاز له اجراء البيع ، ونحوه عليه.

هذا بالنسبة الى جواز بيع المال المردّد بين كونه مال نفسه ومال الغير (وأما إباحة التصرّفات غير المترتّبة في الأدلّة على ماله وملكه) مثل شرب الماء والجلوس في الأرض ونحوهما ، حيث ليس هناك دليل على انّه لا يجوز الشرب الّا من مال نفسه ، ولا يجوز الجلوس الّا في ملك نفسه (فيمكن القول به) أي : بالجواز ، وذلك (للاصل) أي : اصل الاباحة والحليّة فيها.

٣٤٠