الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

مع أنّ دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع قابلة للمنع ، بل المحرّمات الخارجيّة المعلومة أكثر بمراتب من المحرّمات الكلّيّة المعلوم تحريمها.

______________________________________________________

لا يمكن أن يشمل الموضوعيّة في ضمن شموله للحكمية أيضا ، فان النبوي شامل لكلتيهما.

مثلا : اذا كان هناك ألف عالم في الفقه ، وخمسة علماء في الاصول ، فقال المولى : أكرم العلماء ، لم يختص قول المولى بعلماء الاصول ، لأن عالم الاصول نادر ، وحمل كلام المولى على النادر خلاف اسلوب المحاورة ، أما اذا قلنا انّه شامل لكل من علماء الفقه والاصول فلا محذور فيه.

(مع) انّ هناك إشكالا ثالثا على كلامكم ، فان تخصيصكم رواية التثليث بالشبهات الحكمية من جهة ندرة كون الحلال البيّن والحرام البيّن في الامور الموضوعيّة ، ممّا يكون معنى كلامكم : عدم ندرة الحلال البيّن والحرام البيّن في الامور الحكمية غير تام ، بل المحرّمات الموضوعيّة الخارجيّة البيّنة أكثر من المحرّمات الكلية الحكمية البيّنة ، فالمليارات من أفراد القمار ، والخمر ، والزنا ، والسرقة ، والرّبا ، كلّها من المحرّمات الخارجيّة الموضوعيّة البينة ، وليس المحرمات الكلية البينة بهذا المقدار الكثير ، فقد ذكر بعضهم : انّ كلّ المحرّمات الشرعية تقارب السبعمائة فقط.

وعليه : ف (ان دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم ، أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع ، قابلة للمنع) فليس أحدهما نادرا والآخر غير نادر (بل المحرّمات الخارجيّة) الموضوعيّة (المعلومة أكثر بمراتب من المحرمات الكلية المعلوم تحريمها) أي : من اصول المحرمات ممّا هي حكمية وليست بموضوعية.

٣٦١

ثم قال : «ومنها : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب تعارض الأدلّة وعدم النصّ ،

______________________________________________________

(ثم قال : ومنها :) أي : من الأدلة الشرعية ، التي يستفاد منها التفصيل بالبراءة في الشبهة الموضوعيّة والاحتياط في غيرها (ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل : الحرمة : والاباحة بسبب تعارض الادلة) فانّ في بعض الروايات : بانّه اذا تعارضت الأدلة يحتاط ، كما في مرفوعة زرارة حيث يسأل من الإمام الباقر عليه‌السلام عن الخبرين المتعارضين ويقول : «قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر ، قلت : فانّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر» (١) ، فان هذا الخبر دليل على الاحتياط في الشبهة الحكمية حيث انّ السؤال والجواب منصبّان على الشبهة الحكمية لا الموضوعيّة ، فان شأن الإمام عليه‌السلام بيان الأحكام ، والراوي إنّما سأل عن تعارض الخبرين ، وتعارض الخبرين إنّما يكون في الأحكام لا في الموضوعات.

(وعدم النص) أي : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب عدم النص ، كالأخبار الآمرة بالتوقف والاحتياط حتى يأتي منهم البيان ، مثل قوله عليه‌السلام : «أرجه حتّى تلقى إمامك» (٢) وما أشبه ذلك ممّا تقدّم جملة منها.

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ح ٥٧ ب ٢٩ ، جامع احاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٣٦٢

وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعيّ».

أقول : ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي ، وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلّة التوقف والاحتياط ، إلّا أنّ الانصاف أنّ دلالتها على الاباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب.

______________________________________________________

(وذلك) الذي ذكرناه في تعارض النصين وفقدان النص (واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعي) (١) لأن نفس الحكم هو الذي يكون في مورد فقد النص أو تعارض النصين.

(أقول :) في الشبهة الحكمية وان ورد الدليل على التوقف والاحتياط مع فقد النص أو تعارض النصين ، كما ذكره الشيخ الحرّ رحمه‌الله ، الّا انّ ما ورد بالتوقف أو الاحتياط معارض بما دل على التوسعة والبراءة ، والجمع بين الدليلين يوجب حمل التوقف والاحتياط على الاستحباب في غير مورد الشك في المكلّف به ، ونحوه ، ممّا يجب فيه الاحتياط ، فدليل الحرّ معارض بأقوى منه.

وعليه : فان (ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض) بين النصين (وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي) وهو فقدان النص (وان لم يكن في الكثرة بمقدار أدلة التوقف والاحتياط) لأنّ ما دل على أدلة التوقف والاحتياط أكثر عددا مما دل على التخيير والتوسعة ، (الّا أن الانصاف أنّ دلالتها) أي : دلالة أخبار التخيير والتوسعة (على الاباحة والرّخصة ، أظهر من دلالة تلك الأخبار) أي أخبار الاحتياط والتوقف (على وجوب الاجتناب) لأنّه مقتضى الجمع بينهما ، اذ لو

__________________

(١) ـ الفوائد الطوسية : ص ٥١٩.

٣٦٣

قال : «ومنها : أنّ ذلك وجه للجمع بين الأخبار لا يكاد يوجد وجه أقرب منه».

أقول : مقتضى الانصاف أنّ حمل أدلّة الاحتياط على الرجحان المطلق أقرب ممّا ذكره ، ثمّ قال : «ومنها أنّ الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام عليه‌السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، لعدم وجوب السؤال عنه ، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم ، لأنّه

______________________________________________________

علمنا بأخبار التوقف لم يبق مجال لأخبار التخيير والتوسعة ، بينما اذا علمنا بأخبار التخيير والتوسعة يمكن حمل أخبار التوقف والاحتياط على الاستحباب.

ثمّ (قال : ومنها :) أي : من الادلة التي يستفاد منها التفصيل بالبراءة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في غيرها (ان ذلك) التفصيل المذكور هو (وجه للجمع بين الأخبار) المتعارضة الدالّة على الاحتياط والبراءة إذ (لا يكاد يوجد وجه أقرب منه) أي : من هذا الجمع.

(أقول : مقتضى الانصاف : انّ حمل أدلة الاحتياط على الرّجحان المطلق أقرب ممّا ذكره) الشيخ الحرّ من الجمع المذكور.

(ثمّ قال : ومنها :) أي : من الأدلة التي يستفاد منها التفصيل بالبراءة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في غيرها (ان الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام عليه‌السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم) أي : الشبهة الموضوعيّة ، وذلك (لعدم وجوب السؤال عنه) أي : عن الإمام عليه‌السلام في الشبهة الموضوعيّة عند التمكن حتى يجب الاحتياط عند التعذر.

(بل علمهم بجميع أفراده) أي : أفراد المشتبه من الموضوعات الخارجيّة على كثرتها علما حضوريا (غير معلوم ، أو معلوم العدم ، لأنّه) أي : العلم الحضوري

٣٦٤

من علم الغيب فلا يعلمه إلّا الله وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاءوا أن يعلموا شيئا علموه» ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الفرق لا مدخل له ، فانّ طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه‌السلام ولا من غيره من الطرق

______________________________________________________

بجميعها (من علم الغيب فلا يعلمه الّا الله وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون اليه ، واذا شاءوا ان يعلموا شيئا علموه (١) ، انتهى).

ولا يخفى : انّ قول الحرّ رحمه‌الله : وان كانوا أي : النبيّ والائمة صلوات الله عليهم أجمعين يعلمون منه ما يحتاجون اليه ، وكذا قوله : وإذا شاءوا أن يعلموا شيئا علموه ، ينقض قوله : بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم ، أو معلوم العدم ، فانهم عليهم‌السلام باذن الله يعلمون كلّما شاءوا من الغيب لقوله سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٢).

(أقول) وجوب السؤال عن الإمام عليه‌السلام في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعيّة وان كان صحيحا ، الّا انّه لا يوجب تقييد الطائفتين المطلقتين من الأخبار حتى يقال : انّ أخبار التوقف للحكمية ، وأخبار البراءة للموضوعية ، وذلك لأنّ (ما ذكره من الفرق لا مدخل له) في التقسيم الذي ذكره الحرّ.

وعليه : (فان طريق الحكم لا يجب الفحص عنه) أي : لا يجب على الانسان الفحص في الشبهة الموضوعيّة (و) لا يجب فيه (ازالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه‌السلام ولا من غيره من الطّرق) وذلك على مبنى المصنّف ممّا سيأتي في التنبيه الرابع إن شاء الله تعالى : من انّه لا يجب الفحص في الشبهة الموضوعيّة حتى

__________________

(١) ـ الفوائد الطوسية : ص ٢٠.

(٢) ـ سورة الجن : الآيات ٢٦ ـ ٢٧.

٣٦٥

الممكن منها.

والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، إنّما يجب فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكّن من العلم. وأمّا مسألة مقدار معلومات الإمام عليه‌السلام من حيث العموم والخصوص وكيفيّة علمه بها من حيث توقفه على مشيّتهم أو على التفاتهم إلى نفس الشيء

______________________________________________________

في (الممكن منها).

هذا ، لكن سيأتي منّا : انّه يجب الفحص في الشبهة الموضوعيّة كما يجب الفحص في الشبهة الحكمية ، الّا ما خرج من الموضوعات : كالطهارة والنجاسة ، والحليّة والحرمة ، ولذا قال جماعة من الفقهاء : يجب على الانسان الفحص عن بلوغ ماله حدّ النصاب وعدمه في باب الزكاة ، وانّه مستطيع أم لا في باب الحج؟

وان ماله تعلق به الخمس أم لا في باب الخمس؟ وانّه هل يتمكن من الصوم أم لا في باب الصوم؟ وانّه هل يضره الماء أم لا في باب الوضوء والغسل؟ الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

(والرجوع الى الإمام عليه‌السلام انّما يجب فيما) أي : في الأحكام التي (تعلق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكّن من العلم) أو العلميّ ، فانّه إذا أردنا أن نعرف حكم الغراب هل هو حلال أو حرام؟ أو حكم وجوب صلاة الجمعة وعدم وجوبها ، أو ما أشبه ذلك ، وجب علينا الرجوع الى الإمام انّ كان حاضرا ، والرجوع الى الأخبار والكتاب والاجماع والعقل في حال غيبته عليه‌السلام.

(وأما مسألة مقدار معلومات الإمام عليه‌السلام من حيث العموم والخصوص) وانّها كم هي؟ وهل هي محيطة بكل الجزئيات أو ببعضها؟ (وكيفية علمه بها) أي : بتلك المعلومات (من حيث توقفه على مشيتهم ، أو على التفاتهم الى نفس

٣٦٦

أو عدم توقفه على ذلك ، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئنّ به النفس ، فالأولى ووكول علم ذلك إليهم ، صلوات الله عليهم أجمعين.

______________________________________________________

الشيء ، أو عدم توقفه على ذلك) بأن يكون علمهم حضوريا حاضرا لديهم دائما (فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك) أي : في باب علمهم عليهم‌السلام (ما يطمئن به النفس ، فالأولى : ووكول علم ذلك اليهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فانهم أعلم بمقدار علمهم وبكيفيّته.

لكن قال بعض : بأنّ علمهم محيط بجميع الكليات والجزئيات والكبير والصغير من حيث الكمية ، وهو حاضر لديهم دائما من حيث الكيفية وكذلك قدرتهم ، فهم كعزرائيل عليه‌السلام الذي لا يفوته شخص حضر أجله أو لم يحضر ، بل ربّما يقال : انّ لهم عليهم‌السلام مكانة كونية وقدرة عامّة سارية في جميع ذرات الكون كسريان قوة الجاذبة فيها ، غير انّ الجاذبة ليست مشرفة وقادرة ، وهم عليهم‌السلام مشرفون قادرون باذن الله تعالى ، ولذا ورد في الحديث : «لو لا الحجة لساخت الأرض» (١) قيل : وهذا هو مقتضى كون النبيّ والإمام خليفة الله سبحانه.

نعم ، من البديهي انّ علم الله وقدرته مستندان الى ذاته تعالى ، أمّا علمهم وقدرتهم فهما مستندان الى الله تعالى لا من ذواتهم ، وهذا هو مقتضى كونهم شهودا على الجميع ، ومقتضى ما في الأدعية مثل دعاء أيام رجب حيث جاء فيه : «أسألك بما نطق فيهم من مشيّتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك ، الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان ، يعرفك بها من عرفك ، لا فرق

__________________

(١) ـ علل الشرائع : ص ١٩٨ ، بصائر الدرجات : ص ٤٨٨ ، عيون أخبار الرضا : ص ٢٧٢ ، كمال الدين : ص ٢٠٤ ، غيبة النعماني : ص ١٤١.

٣٦٧

ثم قال : «ومنها : أنّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور ، لأنّ أنواعه محصورة ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، فاجتنابها غير ممكن ، لما أشرنا إليه من عدم وجود الحلال البيّن ولزوم تكليف ما لا يطاق.

والاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد ،

______________________________________________________

بينك وبينها إلّا أنّهم عبادك وخلقك ، فتقها ورتقها بيدك ، بدؤها منك وعودها اليك ، أعضاد وأشهاد ومناة وأذواد وحفظة وروّاد ، فبهم ملأت سماءك وأرضك حتّى ظهر أن لا إله إلّا أنت» (١) وفي دعاء آخر : «فبكم يجبر المهيض ، ويشفى المريض ، وما تزداد الأرحام وما تغيض» (٢) الى غير ذلك ممّا موضعه علم الكلام.

(ثمّ قال : ومنها) أي : من الأدلة التي يستفاد منها التفصيل المذكور : وهو البراءة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في الحكمية (: ان اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور ، لأنّ أنواعه محصورة) فموارد الشبهة الحكمية قليلة كشرب التتن والدّعاء عند الهلال فيمكن الاحتياط فيها (بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، فاجتنابها غير ممكن لما أشرنا اليه من عدم وجود الحلال البيّن) في كثير من الموضوعات (ولزوم تكليف ما لا يطاق) امتثاله ، وقد تقدّم : انّه انّما يكون ممّا لا يطاق : لانّ التكليف بالشيء الذي لا يعلمه الانسان تكليف بما لا يطاق.

(و) انّ قلت : انّه يرتكب بقدر الضرورة ، ويجتنب ما عدا ذلك في الشبهات الموضوعيّة.

قلت : (الاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد

__________________

(١) ـ مفاتيح الجنان : ص ١٨٨ أدعية أيام رجب ، ط دار الاضواء ، الدعاء والزيارة للشارح : ص ٢٨١.

(٢) ـ مفاتيح الجنان : ص ١٩٠ الزيارة الرجبية.

٣٦٨

لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات» ، انتهى.

اقول : لا ريب أنّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لا يخلو من أمارات الحلّ والحرمة ، كيد المسلم والسوق وأصالة الطهارة وقول المدّعي بلا معارض والاصول العدميّة

______________________________________________________

لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات) (١) بالمساكن والملابس والمشارب والمطاعم والمراكب والمناكح وغيرها ، وهذا ضروري البطلان عند المتشرعة ، وخلاف سيرة المسلمين منذ فجر الاسلام الى اليوم.

والحاصل : إنّ الاحتياط في الشبهات الحكمية لا يلزم منه محذور لقلة الشبهة ، بخلاف الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة فانها كثيرة جدا ، بل سارية في كلّ الموضوعات على ما ذكره الشيخ الحرّ سابقا ، فيلزم منه محذور اختلال النظام وأشد أنواع العسر والحرج ، ولذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعيّة (انتهى) كلامه.

(أقول) لا نسلّم كثرة المشتبه في الشبهات الموضوعيّة اذ (لا ريب انّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لا يخلو عن أمارات الحلّ والحرمة ، كيد المسلم ، والسوق ، وأصالة الطهارة ، وقول المدّعي بلا معارض ، و) البينة بلا معارض ، وقول أهل الخبرة ، وما أشبه ذلك ممّا هو كثير.

وكذا لا تخلو عن (الاصول العدمية) مثل : أصالة عدم الزوجية ، وأصالة عدم

__________________

(١) ـ الفوائد الطوسية : ص ٥١٩.

٣٦٩

المجمع عليها عند المجتهدين والاخباريين على ما صرّح به المحدّث الأسترآباديّ ، كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ، وبالجملة فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات لقلّتها.

قال : «ومنها : أنّ اجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا ،

______________________________________________________

الطلاق ، وأصالة عدم الموت ، وأصالة عدم التذكية ، وما أشبه ذلك ممّا هو جار في الفقه من أوّله الى آخره.

ومن المعلوم : انّ الاصول العدميّة هو (المجمع عليها عند المجتهدين والأخباريين على ما صرّح به المحدّث الاسترابادي كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب) فانّ الكثرة الكبيرة جدا من الشبهات الموضوعيّة واجدة لأمارة الحلّ أو الحرمة ، وهي مقدمة على أصل الاحتياط الذي اختاره الأخباريون ، وعلى البراءة التي اختارها الاصوليون ، لأنّ الأمارة حاكمة على الاصول ، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

(وبالجملة : فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات) من الشبهات الموضوعيّة (لقلتها) أي : لقلة تلك الموارد ، فلا يتم كلام الحرّ حيث قال : بأنّ الشارع أباح الشبهة الموضوعيّة لكثرة مواردها وأوجب الاحتياط في الشبهة الحكمية لقلة مواردها.

وعليه : فاللازم أن نقول بالبراءة في كلتا الشبهتين : الحكمية والموضوعيّة ، أو بالاحتياط في كلتيهما ، وقد عرفت : انّ مقتضى القاعدة : البراءة ، لأن الجمع بين الطائفتين من الأخبار يقتضي ذلك.

(قال : ومنها) أي : من الشواهد على الجمع الذي ذكرناه بين الشبهة الحكمية فالاحتياط ، والشبهة الموضوعيّة فالبراءة (: انّ اجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا)

٣٧٠

ولا يتمّ إلّا باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعيّ ومن الأفراد الغير الظاهرة الفرديّة ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به وكان مقدورا فهو واجب ، إلى غير ذلك من الوجوه ، وإن امكن المناقشة في بعضها ، فمجموعها في مثل ذلك كاف شاف في هذا

______________________________________________________

لأنّ العقل يرى وجوب اطاعة المولى والنقل كذلك ، فقد ورد متواترا في الآيات والروايات وجوب الاجتناب عن المحرمات ، لأن من لم يجتنب عن المحرّمات يعاقب في الدنيا والآخرة (ولا يتم) الاجتناب عن كلّ حرام واقعي (الّا باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعي) كالتتن وكالغراب حيث لا نعلم هل هو حرام أو حلال؟.

(و) كذا بالاجتناب (من الأفراد غير الظاهرة الفردية) وذلك فيما كان الشك بين الأقلّ والأكثر كما تقدّم من مثال الغناء ، حيث نعلم انّ المطرب المرجّع فيه حرام ، ونشكّ في انّ الزائد على ذلك كالمطرب وحده ، والمرجّع فيه وحده ، هل هو حرام أو حلال؟ فحيث حرّم الشارع الغناء يجب الاجتناب عن جميع أفراده المتيقنة والمشكوك فيها.

والحاصل : انّ الاجتناب عن الحرام واجب (وما لا يتم الواجب الّا به وكان مقدورا فهو واجب) ومن الواضح : انّه لا يتم الاجتناب عن جميع المحرّمات الّا بالاجتناب عن المحرّمات المحتملة ، كالتتن والغناء وما أشبه ذلك.

ثم قال الشيخ الحرّ : (الى غير ذلك من الوجوه) التي تؤيد ما ذكرناه : من تقسيم الشبهة الى الحكمية والموضوعيّة والتفصيل بين حكمهما ، فانّه (وان أمكن المناقشة في بعضها) لا يضرنا ذلك (فمجموعها في مثل ذلك) التفصيل الذي ذكرناه بين الشبهتين : الحكمية والموضوعيّة دليل (كاف شاف في هذا

٣٧١

المقام والله أعلم بحقايق الأحكام» ، انتهى.

أقول : الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم ،

______________________________________________________

المقام ، والله أعلم بحقائق الأحكام (١) ، انتهى) كلام الحرّ رحمه‌الله تعالى.

(أقول :) اذا تمّ ما ذكره : من وجوب الاجتناب عن محتمل الحرمة في الشبهة الحكمية من باب المقدمة لزم عليه أن يقول باجتناب محتمل التحريم في الشبهة الموضوعيّة أيضا لأنه مقدمة ، فانّ الشارع حيث قال : الخمر حرام ، وكانت هناك افراد محتملة الخمرية ، فانّه لا يحصل لنا العلم باجتناب الخمر الّا باجتناب كل الأفراد المتيقنة والمحتملة ، بل الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة أولى من الاجتناب في الشبهة الحكمية ، لأنّا لا نعلم بحرمة التتن أصلا ، أما الخمر فانّا نعلم بحرمته يقينا.

وعليه : فلا يوجد في الشبهة الحكمية كالتتن حرام مقطوع به ومقدمة حرام مشكوكة ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة فانّه يوجد فيها حرام مقطوع به ومقدمة حرام مشكوكة ، فان الحرام المتيقن ما قاله الشارع : من انّ الخمر حرام ، ومقدمته المشكوكة : الأفراد المحتملة الخمرية.

إذن : ف (الدليل المذكور) الذي أقامه الحرّ من وجوب اجتناب محتمل الحرمة من باب المقدمة العلمية لاجتناب كل حرام واقعي اذا كان دليلا بالنسبة الى الشبهة الحكمية فهو (أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم) أي : الشبهة الموضوعيّة ، لانّ هناك علم بوجوب اجتناب كلّ حرام واقعي ، وهنا

__________________

(١) ـ الفوائد الطوسية : ص ٥٢٠.

٣٧٢

بل لو تمّ لم يتمّ إلّا فيه ، لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلّا بدليل حرمة ذلك الشيء او أمر وجوب إطاعة الأوامر والنواهي ، ممّا ورد في الشرع وحكم به العقل. فهي كلّها تابعة لتحقق الموضوع ، أعني الأمر والنهي ، والمفروض الشكّ في تحقق النهي.

______________________________________________________

لا علم بوجوب اجتناب التتن مثلا فللخمر الواقعي مقدّمة علمية وهو محتمل الخمرية ، بينما ليس لشرب التتن حرمة واقعية نعلمها حتى يجب الاجتناب عن أفرادها المحتملة مقدّمة لمحرّم واقعي.

(بل لو تمّ) هذا الدليل في نفسه (لم يتم الّا فيه) أي : في الشبهة في طريق الحكم وهي الشبهة الموضوعيّة لا في الشبهة في الحكم ، وذلك (لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت الّا بدليل حرمة ذلك الشيء) كحرمة الخمر (أو أمر وجوب إطاعة الأوامر والنّواهي ممّا ورد في الشرع) حيث قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وقال سبحانه : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢) (وحكم به العقل) لأنّ العقل حاكم بوجوب الطاعة والاجتناب عن المعصية.

وعليه : (فهي) أي : دليل الحرمة ، والأمر بوجوب الطاعة (كلّها تابعة لتحقق الموضوع أعني : الأمر والنهي) بأن نعلم بالأمر كالأمر بالاجتناب عن الخمر ، وأن نعلم بالنهي كالنهي عن شرب الخمر (و) الحال انّ (المفروض الشك في تحقّق النهي) بالنسبة الى الشبهة الحكمية كشرب التتن ، فانا لا نعلم بحرمته والنهي عنه لا تفصيلا ولا اجمالا ، فأين دليل الحرمة والأمر بوجوب طاعة النهي حتى يثبت وجوب اجتناب الحرام ، فيقال : بأنّه يجب اجتناب المشتبه وهو التتن من باب

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

٣٧٣

وحينئذ : فاذا فرض عدم الدليل على الحرمة ، فأين وجوب ذي المقدّمة حتّى يثبت وجوبها.

نعم ، يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم ، بعد ما قام الدليل على

______________________________________________________

المقدمة لذلك الحرام؟.

والحاصل : انّه لا يوجد ذو المقدمة في المقام حتى يقال بوجوب مقدمته ، بخلاف محتمل الخمرية ، فانّ هناك ذي المقدمة موجود ، وهو ما قاله الشارع من وجوب اجتناب الخمر ، فاذا شككنا في ثالث انّه خمر أو ليس بخمر ، أمكن أن يقال : انّه يجب الاجتناب عن هذا الفرد المشكوك مقدمة.

(وحينئذ : فاذا فرض عدم الدليل على الحرمة) لشرب التتن مثلا في الشبهة الحكمية فلا حرام حتى يجب الاجتناب عنه كما قال : (فأين وجوب ذي المقدمة) أي : وجوب اجتناب الحرام؟ اذ ليس هناك حرام يجب الاجتناب عنه وأفراد محتملة التحريم (حتى يثبت وجوبها) أي : وجوب المقدمة بالاجتناب عن هذه الافراد المحتملة التحريم مقدمة لاجتناب الحرام.

لا يقال : يمكن تصور المقدمة وذي المقدمة في الشبهة التحريمية أيضا ، وذلك لانّ الشارع أراد منّا ترك كل حرام ، والعلم بترك كل حرام انّما يحصل لنا إذا تركنا مثل التتن شربا ، والغراب أكلا ، فالشبهة الحكمية تكون مقدّمة للمحرّمات التي يريد الشارع منّا تركها.

لأنّه يقال : ترك كل حرام ، ليس عنوانا خاصا في الشريعة ، وانّما المراد منّا هو ترك الخمر ، والقمار ، والرّبا ، وما أشبه ذلك ، وترك التتن ليس مقدمة لأي منها.

(نعم ، يمكن أن يقال) بتمامية الدليل الذي أقامه الحرّ (في الشبهة في طريق الحكم) أي : في الشبهة الموضوعيّة ، وذلك بأن يقال (بعد ما قام الدّليل على

٣٧٤

حرمة الخمر ، يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العامّ إلّا بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته.

لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا ، وأنّ التكليف بذي المقدّمة غير محرز إلّا بالعلم التفصيليّ او الاجمالي.

فالاجتناب عمّا يحتمل الحرمة احتمالا مجرّدا عن العلم الاجماليّ لا يجب نفسا ولا مقدّمة ،

______________________________________________________

حرمة الخمر : يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية) سواء المعلومة منها ، أم المجهولة على تقدير وجودها (ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العام) وهو : الاجتناب عن كل أفراد الخمر الواقعية (الّا بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته) وخمريته ، وبهذا يكون الترك لمحتمل الخمرية مقدمة لترك كلّ أفراد الخمر.

(لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا) في المسألة الرابعة بما حاصله : انّ التكليف انّما ينجز بالعلم بالصغرى والكبرى معا ، فاذا علمنا بالكبرى ولم نعلم بالصغرى لم يثبت التكليف (و) ذلك ل (أن التكليف بذي المقدمة غير محرز الّا بالعلم التفصيليّ أو الاجماليّ) يعني : يلزم أن نعلم أنّ هذا خمر فنجتنبه ، أو نعلم انّ الخمر بين هذين الإناءين في صورة العلم الاجماليّ فنجتنب هذا وذاك.

وعليه : (فالاجتناب عمّا يحتمل) فيه (الحرمة احتمالا مجرّدا عن العلم الاجمالي لا يجب نفسا) لعدم العلم التفصيلي بحرمته حتى يكون الاجتناب عنه واجبا نفسا (ولا مقدمة) لأنه لا علم اجمالي بأنّ الخمر في هذا أو في ذاك ، لفرض انّه شبهة بدوية ، فإنّا اذا علمنا بحرمة عشرة أواني ولم نعلم بحرمة الاناء

٣٧٥

والله العالم.

الثالث :

انّه لا شكّ في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا ، حتّى فيما كان هناك أمارة على الحلّ

______________________________________________________

الحادي عشر ، فلا علم فيه تفصيلا ولا اجمالا ، ولما لم يكن لا علم تفصيلي ولا اجماليّ فيه ، لم يجب الاجتناب عنه (والله العالم).

وعلى هذا : فأدلة البراءة محكّمة في مثل هذا الفرد المشكوك خمريته شكا بدويا من دون علم اجمالي ولا تفصيليّ.

التنبيه (الثالث :) لا ريب في رجحان الاحتياط اذ الاحتياط حسن على كلّ حال ، لكن حيث يلازم الاحتياط التام محذور اختلال النظام وغيره حاولوا الخروج من تلك المحاذير بذكر احتمالات ، فقالوا : نترك الاحتياط فيما يخل بالنظام ونأخذ بالاحتياط فيما لا يخل به ، أو نجعل ذلك بحسب الاحتمالات قوة في الظنّ وضعفا فيه ، أو بحسب الأهمية واللاأهمية من جهة المحتمل ، أو بحسب اختلاف وجود الأمارة وعدم وجودها ، احتمالات أربعة تعرّض لها المصنّف حيث قال : (انّه لا شك في حكم العقل والنّقل برجحان الاحتياط مطلقا حتى فيما كان هناك أمارة على الحلّ) من يد وسوق وغيرهما.

مثلا : اذا أصاب ثوب الانسان في السوق رشح من مائع يحتمل انّه بول ويحتمل انّه ليس ببول ، فانّه يشمله قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك طاهر» (١) لكنه من

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٨٥ ب ١٢ ح ١١٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١ ص ١٩٠ ب ٤ ح ٣١٨.

٣٧٦

مغنية عن أصالة الاباحة ، إلّا أنّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام ، كما ذكره المحدّث المتقدّم ، بل يلزم أزيد ممّا ذكره فلا يجوز الأمر به من الحكيم ، لمنافاته للغرض

______________________________________________________

المستحسن الاحتياط بغسله ، وكذا لو أخذ لحما من يد مسلم غير ملتزم ممّا يشك في انّه مذكّى أو ليس بمذكى ، فانّه من الأفضل أن يحتاط الانسان بالاجتناب عن مثل هذا اللحم مع وجود قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» (١) علما بأنّ الأمارة في الشبهات الموضوعيّة كاليد وسوق المسلمين (مغنية عن أصالة الاباحة) لأنك قد عرفت : انّ الأمارة دليل ، والأصل أصيل حيث لا دليل ، فانّه ما دامت الأمارة موجودة فلا تصل النوبة الى الاصل.

(الّا انّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع) أي : في جميع الموارد من الشبهة الموضوعيّة والحكمية ، الوجوبية منهما والتحريمية (موجب لاختلال النّظام كما ذكره المحدّث المتقدّم) وهو الشيخ الحرّ العامليّ رحمه‌الله (بل يلزم أزيد ممّا ذكره) إذا أراد الانسان الاحتياط التام لأنّه شيء لا يطاق (فلا يجوز الأمر به) أي : باستحباب الاحتياط في الكلّ (من الحكيم) تعالى ، كما أن العقل لا يحبّذ مثل هذا الاحتياط.

وانّما لا يأمر به الحكيم (لمنافاته للغرض) وهو بقاء النظام ، كما انّ العقل لا يحبّذه لأن العقل يرى انّ وجوب حفظ النظام أهم من كلّ شيء ، من غير فرق بين النظام العام لكلّ المجتمع ، أو النظام الخاص لفرد واحد ، فانّ اختلال النظام سواء كان عاما أو خاصا منفور منه شرعا وعقلا ، وحيث لا نتمكن من الاحتياط

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٣٧٧

والتبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتى يلزم الاختلال أيضا مشكل لأن تحديده في غاية العسر ، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأمّا المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياط فيها حرج

______________________________________________________

التام فلا بدّ من التبعيض في الاحتياط بأحد وجوه أربعة :

الأوّل : التبعيض بحسب الموارد بأن نقول : نحتاط حتى يلزم الاختلال للنظام ، فما قبل الاختلال حسن وما بعد الاختلال ممنوع (و) لكن (التّبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتّى يلزم الاختلال أيضا مشكل) لا يمكن القول به ، فانّه اذا كان هناك ألف احتياط مثلا وقلنا انّ لكل انسان أن يحتاط الى حدّ اختلال نظامه كان مشكلا ، وانّما كان هذا مشكلا (لأن تحديده) أي : استحباب الاحتياط بلزوم الاختلال (في غاية العسر) لأنا لا نعلم أي حدّ من الاحتياط لا يستلزم الاختلال؟ هل هو الاحتياط الى حد مائة ، أو الى حدّ مائتين ، أو الى حدّ خمسمائة ، أو الى حدّ تسعمائة ، أو غير ذلك؟.

ومن المعلوم أيضا : اختلاف الناس في مقدار ما يؤدي من الاحتياط الى اختلال نظامهم ، فهل هو بهذا القدر أو بذاك القدر؟ فلا يمكن للشارع ولا للعقل أن يجعل الاختلال ميزانا لاستحباب الاحتياط وعدم استحبابه.

الثاني : ما أشار اليه بقوله : (فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات) قوة وضعفا وتوسطا (فيحتاط في المظنونات) أي : في مظنون الحرمة دون غيره ، فالتتن ـ مثلا ـ والغراب ، والبصاق ، كل هذا محتمل التحريم ، لكن التتن مظنون التحريم ، والغراب مشكوك التحريم ، والبصاق موهوم التحريم ، فيحتاط في الأول دون الباقي.

(وأما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات اليها فالاحتياط فيها حرج

٣٧٨

مخلّ بالنظام.

ويدلّ على هذا العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا واستلزام كليته الاختلال ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع ، كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى يحتاط فيه وإلّا فلا.

______________________________________________________

مخلّ بالنظام) وهكذا بالنسبة الى الشبهات الموضوعيّة ، فاذا كان هناك مثلا ثلاث أواني أحدها أبيض مظنون الخمرية ، والآخر أحمر مشكوك الخمرية ، والثالث أصفر موهم الخمرية ، فانّه يترك مظنون الخمرية دون المشكوك والموهوم.

(ويدل على هذا) التبعيض (: العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا) على ما عرفت (واستلزام كليته) أي : كلية الاحتياط (الاختلال) في النظام ، مضافا الى أن الاحتياط في مشكوك الحرمة وموهومها دون مظنونها ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن تقديم مظنون الحرمة على مشكوكها وموهومها ، غير انّه لما كان أصل الاحتياط مستحبا لا واجبا ، كان ترجيح الموهوم والمشكوك على المظنون خلاف الأفضل ، لا أن اللازم ترجيح المظنون على المشكوك والموهوم.

الثالث : ما أشار اليه المصنّف بقوله : (ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات) من حيث الأهم والمهم (فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمة في نظر الشارع كالدّماء والفروج ، بل مطلق حقوق النّاس) مالا كان أو غير مال ، فانّ حقوق الناس أهم (بالنسبة الى حقوق الله تعالى يحتاط فيه ، والّا) بأن لم يكن بتلك الأهمية (فلا) يحتاط فيه.

مثلا : لو كان هناك في صفوف الكفار المحاربين كافر يحتمل كونه ذميا احتاط بعدم قتله ، ولو كانت هناك امرأة يحتمل كونها رضيعته احتاط بعدم الزواج منها ،

٣٧٩

ويدلّ على هذا جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح ، وأنّه شديد ، وأنّه يكون منه الولد.

منها : ما تقدّم من قوله عليه‌السلام : «لا تجامعوا على النكاح بالشبهة» قال عليه‌السلام : «فاذا بلغك انّ امرأة أرضعتك إلى أن قال : إنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

______________________________________________________

ولو كان هناك ماء ظاهر في انّه مباح لكن يحتمل كونه مال الناس احتاط في عدم التصرف فيه ، فانّه يحتاط في هذه الامور الثلاثة ويترك الاحتياط فيما لو احتمل أن عليه صلاة أو صوم أو حج حيث انّ هذه الثلاثة الأخيرة من حقوق الله سبحانه وتعالى.

وعليه : فاذا دار الأمر بين الاحتياط في حقوق الله أو في حقوق الناس ، قدّم الاحتياط في حقوق الناس ، وذلك لأن حق الناس حقان : حق الناس وحق الله ، بينما حق الله شيء واحد وهو حق الله فقط.

(ويدلّ على هذا) التبعيض بحسب المحتملات من حيث الأهمية وعدمها (جميع ما ورد من التأكيدات في) الدّماء ، والأموال ، وكذا التأكيد في (أمر النكاح ، وانّه شديد ، وانه يكون منه الولد) والذي (منها) أي : من هذه الروايات الواردة في التشديد في أمر النكاح (ما تقدّم من قوله عليه‌السلام : «لا تجامعوا على النكاح بالشبهة» (١) ، قال عليه‌السلام : فاذا بلغك) بطريق غير معتبر (انّ امرأة أرضعتك الى أن قال) عليه‌السلام : (: انّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).

هذا ، وإذا تعارض الأمر بين الاحتياط في الدّماء والأموال والفروج ، قدّم الاحتياط في

__________________

(١) ـ تهذيب الأحكام : ج ٧ ص ٤٧٤ ب ٣٦ ح ١١٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٢٥٩ ب ١٥٧ ح ٢٥٥٧٣ وج ٢٧ ص ١٥٩ ب ١٢ ح ٣٣٤٧٨.

٣٨٠