الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

الاباحة ، كالسيّد المرتضى ، تعويلا على قاعدة اللطف وأنّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه ، لكن ردّها في العدّة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف.

والجواب : بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر ،

______________________________________________________

الاباحة ، كالسيد المرتضى) القائل باصالة الاباحة ثانيا وبالعرض.

وانّما قال بأصالة الاباحة (تعويلا على قاعدة اللطف) فقاعدة اللطف عندهما مخرجة عن أصالة الحظر ، التي يقولان بها أولا وبالذات (و) المراد بقاعدة اللطف : (انّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه) فلما لم يبيّن ، دلّ ذلك على عدم وجود المفسدة في الفعل.

(لكن ردها) أي : رد الشيخ قاعدة اللطف المذكورة هنا (في العدة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ، ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف) أي :

ان الشارع لا يبيّن لأن في بيانه مفسدة ، فعدم البيان انّما هو لوجود المفسدة في البيان ، لا لعدم المفسدة في الشيء ، فلا يدل عدم البيان على عدم المفسدة.

مثلا : الظالم يريد قتل زيد وفي سفر زيد مفسدة : هي خسارة الف دينار ، لكن المولى لا يقول له : لا تسافر ، لأنه اذا قال له : لا تسافر ، علم الظالم وجود زيد في البلد فيأتي ليلا ويقتله ، ولذا لا يبين المولى لزوم عدم سفره ، فعدم بيان المولى بوجود المفسدة في السفر لا يكون معناه : انّه لا مفسدة في السفر.

(والجواب :) أولا : انّا لا نسلم الحظر ، فانّ العقل يدل على ان المولى في غاية الكرم ، فلا مانع عنده من التصرّف في الكون تصرفا غير ضار بأحد ، فاذا ثبت عدم تضرر أحد في التصرّف ثبتت الاباحة العقلية.

ثانيا : انا نقول : (بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر) المحتمل بمعنى :

٢٢١

أنّه إن اريد ما يتعلق بأمر الآخرة من العقاب فيجب على الحكيم تعالى بيانه ، فهو مع عدم البيان مأمون ، وإن اريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتبة مع الجهل أيضا ، فوجوب دفعها غير لازم عقلا ، إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة ،

______________________________________________________

ان العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل كما يرى وجوب دفع الضرر المقطوع به ، ولعل قول المصنّف بعد التسليم : انّما اراد أن يشير الى ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ليست كلية ؛ وذلك لما نرى من اقدام العقلاء على الاضرار حتى الكثير منها.

ثمّ بعد التسليم نقول : (انّه ان اريد) بالضرر المحتمل : الواجب الدفع وهو : (ما يتعلق بأمر الآخرة من العقاب) بأن احتمل بأنّ في شرب التتن ـ مثلا ـ عذابا في الآخرة ، (فيجب على الحكيم تعالى بيانه) لقبح العقاب بلا بيان عقلا وشرعا ـ على ما تقدّم ـ (فهو) أي ، العقاب (مع عدم البيان مأمون) فلا احتمال للضرر الاخروي (وان اريد غيره) أي : غير العقاب الاخروي من الضرر المحتمل بان كان (ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة) الاخروية بل كان (من اللوازم المترتبة) على المحرمات الواقعية حتى (مع الجهل أيضا) مثل المرض المترتب على شرب الخمر وما أشبه ذلك (فوجوب دفعها غير لازم عقلا) فانّ القاعدة العقلية القائلة بوجوب دفع الضرر المحتمل لا تجري في كل مكان (اذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع) به (اذا كان لبعض الدواعي النفسانية) والتراجيح العقلائية.

مثلا : تراهم يركبون البحار مع احتمال الغرق ، لكون ذلك عندهم أهم ، بأن كان

٢٢٢

وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد.

وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتب عليه العقاب ، لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ،

______________________________________________________

لأجل التجارة المربحة ، أو لأجل السياحة المفرحة ، أو ما أشبه ذلك ، وهذا بالنسبة الى الاضرار الكثيرة الدنيوية ، فكيف بالأضرار القليلة؟ ولهذا ترى البعض يمشون في الشمس وان كان يوجب صداع رأسهم ، ويمشون حفاة وان كان يوجب ذلك جرح أرجلهم ، الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

(وقد جوّز الشارع ، بل أمر به في بعض الموارد) فانّ الشارع أمر بكثير مما فيه الضرر ، وذلك من باب الأهم والمهم ، أو ما أشبه ، فقد أمر بالخمس ، والزكاة ، والجهاد ، والقصاص ، والحدود ، والالتزام بالقوانين التي فيها ضرر مالي على الانسان ، مثل نفقة الزوجة والأقرباء ، الى غير ذلك ، والعقل أيضا يؤيده.

(وعلى تقدير الاستقلال) بأن سلمنا : ان العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل (ف) نقول : (ليس) هذا الحكم العقليّ (ممّا يترتب عليه العقاب) في صورة الشك في الضرر (لكونه من باب الشبهة الموضوعية) فان في شرب التتن ـ مثلا ـ جهتان :

الجهة الاولى : احتمال التحريم وهذه شبهة حكمية ، اختلف فيها الأخباريون والاصوليون ، فالأخباريون على الاحتياط ، والاصوليون على البراءة.

الجهة الثانية : احتمال الضرر الدنيوي المستلزم لاحتمال الحرمة ، كاحتمال أن يكون ضارا بصحة الانسان ، أو ضارا بماله ، أو ما أشبه ذلك ، واحتمال الضرر

٢٢٣

لأنّ المحرّم هو مفهوم الاضرار ، وصدقه في هذا المقام مشكوك ، كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاصّ ، والشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريّين أيضا ، وسيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعيّة إنشاء الله تعالى.

______________________________________________________

الدنيوي شبهة موضوعية تحريمية ، وقد تقدّم : ان الشبهة الموضوعية يتفق فيها الأخباريون والاصوليون على عدم وجوب الاجتناب.

وإنّما لا يترتب عليه العقاب (لأن المحرّم) عقلا (هو مفهوم الاضرار ، وصدقه) أي : صدق مفهوم الاضرار (في هذا المقام) أي : في الأعمال المحتملة الضرر مثل شرب التتن (مشكوك) فيه (ك) الشك في (صدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاص).

وعليه : فان الاصوليين والأخباريين وان اتفقوا على تحريم شرب المسكر ، الّا انّه اذا شك في أن هذا المائع الخاص في هذا الاناء الخاص هل هو مسكر أم ليس بمسكر من باب الشبهة الموضوعية؟ فلا يقول أحد من الأخباريين والاصوليين بوجوب الاجتناب عنه ، لأنه شبهة موضوعية (والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين أيضا) أي :

كالاصوليين.

(وسيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعية إن شاء الله تعالى) كما وقد ظهر : انّ الدليل الثاني للعقل كالدليل العقليّ الأول للأخباريين لا يقوم أيضا بالدلالة على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية.

٢٢٤

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

المحكيّ عن المحقق التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني. ولا بدّ من حكاية كلامه قدس‌سره ، في المعتبر والمعارج حتّى يتضح حال النسبة.

______________________________________________________

هذا (وينبغي التنبيه على امور) :

الأمر (الأول) : قد تقدّم الكلام : بانّ في الشبهة الحكمية التحريمية قولان :

الأول : البراءة وهو مقالة الاصوليين.

الثاني : الاحتياط وهو مقالة الأخباريين.

وهناك قول ثالث نسبه بعض الى المحقق ، وهو التفصيل بين ما يعم به البلوى ، فلا يلزم فيه الاحتياط ، بل يجري فيه البراءة كما يقول به الاصوليون ، وبين ما لا يعم به البلوى ، فيلزم فيه الاحتياط كما يقول به الأخباريون ، والمصنّف أراد بيان بطلان نسبة هذا القول الى المحقق فقال : (المحكيّ عن المحقق) صاحب الشرائع (: التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما يعم به البلوى) أي : يبتلي الانسان به كثيرا (وغيره) أي : ما لا يبتلي الانسان به كثيرا (فيعتبر) أصل البراءة (في الأوّل) وهو ما يعم به البلوى (دون الثاني) وهو ما لا يعلم به البلوى.

ثم قال : (ولا بد من حكاية كلامه قدس‌سره في المعتبر والمعارج حتى يتضح حال النسبة) وانها نسبة غير صحيحة ، فان المحقق قائل بالبراءة مطلقا كسائر

٢٢٥

قال في المعتبر : «الثالث ، يعني من أدلّة العقل ، الاستصحاب ، وأقسامه ثلاثة :

الأوّل : استصحاب حال العقل ، وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة كما يقال : الوتر ليس واجبا ،

______________________________________________________

الاصوليين وذلك لأنه (قال في المعتبر : الثالث : يعني : من أدلة العقل ، الاستصحاب).

أقول : ذكر المحقق ان مستند الأحكام خمسة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، ودليل العقل والاستصحاب ، ثمّ اعتبر الكتاب أولا ، والسنة ثانيا ، وألحق الاجماع بالسنة ، حيث قال : «وأما الاجماع فعندنا هو حجّة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله عليه‌السلام لما كان حجّة ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجّة لا باعتبار اتفاقهما ، بل باعتبار قوله عليه‌السلام ، انتهى ، ثم اعتبر دليل العقل ثالثا ، ثم ذكر الاستصحاب وألحقه تارة بالشرع الذي هو داخل في الكتاب والسنة ، وتارة بالعقل.

فتحصّل : ان الأدلة عند المحقق ثلاثة فقط ، وكأنّ المصنّف بهذا الاعتبار قال ما قاله ، فلا يستشكل عليه ، بأنّ المحقق جعل مدرك الأحكام خمسة ، فلما ذا قال المصنّف بأنه جعله ثلاثة؟ وكيف كان : فقد ذكر المحقق الاستصحاب (و) جعل (اقسامه ثلاثة) على النحو التالي :

(الأول : استصحاب حال العقل) بأن كان في السابق قد حكم العقل بشيء فنستصحبه (وهو التمسك بالبراءة الأصلية) أي : البراءة قبل الشرع ، أو البراءة حال الصغر والجنون ونحوهما ، وذلك (كما يقال) عند ما نشك في التكليف (: الوتر ليس واجبا) علينا ، فيما اذا شك في أن صلاة الوتر هل تجب علينا

٢٢٦

لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ومنه أن يختلف العلماء في حكم الدية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع ـ إلى أن قال :

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفائه. وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هنا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك

______________________________________________________

كما كانت تجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟.

فنقول : انّها لا تجب علينا ووجوبها على النبيّ إنّما كان من اختصاصاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك (لأن الأصل) أي : السابق على الشرع (براءة الذمة) من الوتر ، فنستصحب تلك البراءة.

(ومنه) أي : من استصحاب حال العقل : ما لو تردّد المكلّف بين الأقل والأكثر ، فانّ الأقل واجب قطعا ، أما الزائد على الأقل فيشك في وجوبه ، فيقال :

البراءة كانت اولا ، فنستصحب البراءة ، مثل (أن يختلف العلماء في حكم الدية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في دية عين الدابة المترددة) تلك الدية (بين النصف) أي : نصف قيمة الدابة كما قال به بعض (والربع) الذي قال به البعض الآخر ، (الى أن قال) المحقق :

(الثاني) من الأقسام الثلاثة للاستصحاب هو : استصحاب حال العقل أيضا ، وذلك ب (أن يقال : عدم الدليل على كذا) مثلا : عدم الدليل على حرمة شرب التتن (فيجب انتفائه) فلا يكون حراما.

(وهذا) أي : كون عدم الدليل دليل على العدم انّما (يصحّ فيما) يعم به البلوى بحيث (يعلم انّه لو كان هنا) ك (دليل لظفر به) عادة (اما لا مع ذلك) أي :

٢٢٧

فيجب التوقف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالاباحة ، لعدم دليل الوجوب والحظر.

الثالث : استصحاب حال الشرع ،

______________________________________________________

لا مع عموم الابتلاء ، كما اذا شذّ الابتلاء به (فيجب التوقف ، و) لكن (لا يكون ذلك الاستدلال) بعدم الدليل (حجة) فيه حتى يصحّ الاستناد اليه.

(ومنه) أي : من هذا القسم الثاني من الاستصحاب (: القول بالاباحة) عند الشك في التكليف ، سواء كان شكا في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية (لعدم دليل الوجوب والحظر) فيقال : انّه لا دليل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فهو مباح ، ولا دليل على حرمة شرب التتن فهو مباح ايضا.

ومن هذا الكلام يظهر : انّ المحقق لا يفصّل في البراءة بين ما يعم به البلوى وما لا يعم به البلوى ، وانّما يفصل في قاعدة عدم الدليل ، وان عدم الدليل انّما يكون حجّة فيما يعم به البلوى ، وليس حجّة فيما لا يعم به البلوى ، فلا يتمسك بهذا الدليل لأجل البراءة فيما لا يعم به البلوى بل يتمسك بأدلة اخرى للبراءة فيه ، وعلى أي حال : فهو كسائر الاصوليين قائل بالبراءة مطلقا.

ثم قال المحقق في بيانه لأقسام الاستصحاب : (الثالث : استصحاب حال الشرع) بأن يكون هناك شيء مشروع في الزمان الأوّل ، ثمّ لا نعلم هل انّه في الزمان الثاني باق أم لا؟ فنستصحب ذلك ، كما اذا كان في الصباح متطهرا ، ثم شك في انّه هل أحدث أم لا؟ حيث يستصحب الطهارة ، أو تعلم المرأة بانّها كانت في الصباح حائضا ، ثم لا تعلم هل الحيض مستمر أم لا؟ فانها تستصحب الحيض ،

٢٢٨

فاختار أنّه ليس بحجة» ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره.

وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه : «أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فاذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك ، فيجب نفيه ، وهذا الدليل لا يتمّ

______________________________________________________

وهكذا (فاختار انّه ليس بحجة) (١) وسيأتي الكلام حول مذهب المحقق بالنسبة الى الاستصحاب في موضعه إن شاء الله تعالى.

(انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره) وقد عرفت : انّه لا يفصّل بين أقسام الشبهة الحكمية التحريمية ، وانّما يجري في الكل البراءة.

هذا (وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه : ان الأصل) أي : القاعدة (خلوّ الذمة عن الشواغل الشرعية) أي : الذمة لا تكون مشغولة بواجب أو محرّم شرعيّ بدون العلم أو الدليل على ذلك.

وعليه : (فاذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا) بأن قال ـ مثلا ـ التتن حرام ، أو قال الدعاء عند رؤية الهلال واجب (جاز لخصمه) الذي لا يقول بمقالته (أن يتمسك بالبراءة الأصلية ، فيقول) التتن ليس بحرام ، والدعاء عند رؤية الهلال ليس بواجب بدليل انّه (لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك) أي : ليس هناك دليل على هذا الحكم التحريمي في التتن ، والوجوبي في الدعاء (فيجب نفيه) والبراءة منه.

(و) لكن (هذا الدليل) أي : جعل عدم الدليل دليلا على العدم (لا يتم

__________________

(١) ـ المعتبر : ص ٦.

٢٢٩

إلّا ببيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وتبيّن عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لكان عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت الدلالات منحصرة فيها ،

______________________________________________________

الّا ببيان مقدمتين) على النحو التالي :

(إحداهما : انّه لا دلالة عليه شرعا) ويكون ذلك (بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعية) وينحصر في الكتاب والسنة والاجماع والعقل ـ مثلا ـ (وتبيّن عدم دلالتها) أي : تلك الادلة (عليه) أي : على حرمة التتن ـ مثلا ـ وحينئذ يكون عدم الدليل دليلا على العدم ، فهو مثل أن يكون للمدرسة غرف أربع بلا وجود مرفق آخر للمدرسة ، فاذا لم يجد الانسان زيدا في تلك الغرف دل ذلك على عدم وجوده في المدرسة أصلا.

(والثانية : أن يبيّن انّه لو كان هذا الحكم ثابتا لكان عليه احدى تلك الدلائل ، لأنه لو لم يكن عليه دلالة) ولم يبين الشارع حرمة للتتن ، ولا وجوبا للدعاء ، لا ببيان خاص ولا ببيان عام (لزم التكليف) من الشارع (بما لا طريق للمكلّف الى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق) والتكليف بما لا يطاق لا يصدر من الحكيم قطعا.

هذا (ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلة) التي ذكرناها من الكتاب والسنة والاجماع والعقل والاستصحاب (لما كانت الدلالات منحصرة فيها) أي :

٢٣٠

لكنّا بينّا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم» ، انتهى.

وحكي عن المحدّث الأسترآباديّ في فوائده :

______________________________________________________

في هذه الأدلة التي ذكرناها.

(لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق) الخمسة.

(وعند ذلك) أي : عند تمام المقدمتين المذكورتين (يتم كون ذلك) أي : كون عدم الدليل (دليلا على نفي الحكم (١) ، انتهى) كلام المحقق قدس‌سره ، وقد تبيّن : ان هذه العبارة من المحقق في المعارج كعبارته في المعتبر لا تدل على تفصيله في الشبهة الحكمية بين ما هو محل الابتلاء فالأصل البراءة ، وما ليس محل الابتلاء فالأصل الاحتياط.

(وحكي عن المحدّث الاسترابادي في فوائده) انّه فهم من كلام المحقق التفصيل الذي نسب اليه : من الحكم بالبراءة في الشبهة التحريمية التي تعم بها البلوى دون ما لا تعم بها البلوى ، فانّ فيما لا تعم به البلوى يلزم الاحتياط ، وعلله : بانّه اذا عمّت البلوى به ولم يرد التحريم عنهم عليهم‌السلام فيه ، دلّ عدم ورود التحريم على العدم ، بخلاف ما لا تعم به البلوى من الشبهات التحريمية.

نعم ، على مسلك العامة لا فرق في البراءة بين كون الشبهة ممّا يعم بها البلوى ، وغيرها ، لأنهم يرون انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن كل الأحكام لكل الأفراد ، فاذا لم نعلم بتحريم شيء معناه : لا تحريم له ، سواء كان ممّا يعم به البلوى أم لا ، بخلاف الشيعة الذي يرون ان جملة من الأحكام بيّنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام فقط ،

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ٢١٢.

٢٣١

«أنّ تحقيق هذا الكلام هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم‌السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ، لعموم البلوى بها ، فاذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعا عاديا بعدمه ،

______________________________________________________

لانّه هو الخليفة من بعده ، وعليه بيان ما لم يبيّنه الرسول للناس.

وأجاب المصنّف عن هذا التفصيل : بأنه لا نسلم حرمة الشبهة التحريمية بعد عدم وصول دليل على تحريمها ، اذ اللازم في التكليف أن يوصل المولى الحكم الى العبد بدليل أو أصل ، فاذا لم يصل ، لم يكن تكليف ، من غير فرق بين أن تكون الشبهة ممّا يعم بها البلوى ، أو غير ما يعم بها البلوى ، كما قال بذلك الاصوليون فانّهم يجرون البراءة في الشبهة التحريمية مطلقا.

وعلى أي حال : ففي التفصيل المذكور ما يلي :

أولا : لم يقل به المحقق ـ كما عرفت ـ.

ثانيا : لا دليل عليه ، وان ذكره المحدث الاسترابادي ونسبه الى المحقق.

هذا ، وقد ذكر المحدث المذكور : (ان تحقيق هذا الكلام) الذي ذكره المحقق مفصلا في مسألة البراءة (هو : ان المحدّث الماهر اذا تتبع الأحاديث المروية عنهم عليهم‌السلام في مسألة) كانت معروفة لدى الناس ومحل ابتلائهم بحيث (لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر) بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وذلك (لعموم البلوى بها) أي : بتلك المسألة.

وعليه : (فاذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم) المخالف للأصل (ينبغي أن يحكم قطعا عاديا بعدمه) أي : يطمئن الانسان الى انّه لا حكم خلاف الأصل في تلك المسألة ، والّا لبيّنوه ، ولسأل الرواة عنهم عليهم‌السلام.

٢٣٢

لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام ـ كما في المعتبر ـ كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم‌السلام ، في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة وكان همّهم وهمّ الائمة ، إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّما يسمعون منهم في الاصول ، لئلا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ،

______________________________________________________

وإنّما يقطع بالعدم (لأن جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم) أي : من أولئك الأفاضل هم (تلامذة الصادق عليه‌السلام) والباقون منهم تلامذة سائر الأئمة ، وقد ذكرنا نحن في كتاب : «الحرية الاسلامية» (١) جملة كبيرة من تلامذتهم عليهم‌السلام.

(كما في المعتبر) حيث ذكر المحقق فيه ذلك ، فان كثيرا من علمائنا (كانوا ملازمين لأئمتنا عليهم‌السلام في مدة) حضور الائمة عليهم‌السلام بين الناس ، سواء حضورا ظاهرا كالامامين الصادقين عليهم‌السلام ، أو حضورا مشوبا بشيء من الاستتار ، كما في زمان الإمام المهدي عليه‌السلام في غيبته الصغرى ، وتلك المدة (تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الائمة إظهار الدين عندهم ، وتأليفهم) عطف على «اظهار الدين» ، أي : كان همّ أصحاب الائمة عليهم‌السلام أن يؤلّفوا ويكتبوا (كلّما يسمعون منهم في الاصول) الأربعمائة التي هي مذكورة في كتبنا ، حيث أنهم كتبوا ما سمعوه منهم في أربعمائة كتاب وسموها : ب «الاصول الأربعمائة».

وإنّما كتبوا هذه المؤلفات (لئلا يحتاج الشيعة الى سلوك طريق العامة)

__________________

(١) ـ وهو من الكتب التي ألّفها الشارح في العراق عام ١٣٨٠ ه‍ وطبع عام ١٤٠٩ ه‍ من قبل دار الفردوس في لبنان.

٢٣٣

وليعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى. فانّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة ، لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم ، كما في الروايات المتقدّمة. ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع ـ إلى أن قال ـ ولا يجوز التمسّك به

______________________________________________________

من العمل بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، والرأي ، وما أشبه ذلك ، مما يؤدي الى تمويه الحقّ والانحراف عن الدين.

(وليعمل) الشيعة (بما في تلك الاصول) الأربعمائة (في زمان الغيبة الكبرى) حيث انهم عليهم‌السلام أخبروا بأن للمهدي عليه‌السلام غيبتان : غيبة صغرى تربوا على سبعين عاما ، وغيبة كبرى تمتد طويلا الى أن يظهره الله سبحانه وتعالى ليملأ به الأرض قسطا وعدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا.

وعليه : (فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة) عليهم‌السلام (لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم كما في الروايات المتقدمة) عن كتاب الفوائد المدنية ، ولهذا أمروا اصحابهم بكتابة أحاديثهم وبحفظها حتى تصل الى الشيعة في العصور المتأخرة.

إذن : (ففي مثل تلك الصورة) أي : صورة عموم البلوى بالشبهة ، ولم يكن من الائمة عليهم‌السلام شيء خلاف الأصل فيها (يجوز التمسك) في اثبات البراءة وعدم الحكم بالتحريم ، تمسكا (بأن نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل) في المسألة العامة البلوى (دليل) شرعي (على عدم ذلك الحكم في الواقع) فلم يكن في تلك المسألة حكم يخالف الأصل ، فيتمسك بالبراءة فيها.

(الى أن قال) المحدّث الاسترابادي (ولا يجوز التمسك به) أي : بكون عدم

٢٣٤

في غير المسألة المفروضة إلّا عند العامّة القائلين بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر عند أصحابه كلّما جاء به وتوفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره وما خصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به» ،

______________________________________________________

الدليل دليلا على العدم لإثبات البراءة (في غير المسألة المفروضة) وهي الكثيرة الابتلاء (الّا عند العامة القائلين : بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر عند) جميع (أصحابه كلما جاء به) مما يعم به البلوى ، وممّا لا يعم به البلوى.

(و) القائلين : بأنه قد (توفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره) أي : على نشر كلّما جاء به ، وتلك الجهة الواحدة هي جهة كلّ المسلمين.

(و) القائلين أيضا : بانه (ما خصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره) فمن الممتنع اختفاء أي حكم من الأحكام ، سواء كان مما يعم به البلوى أو مما لم يعم به البلوى.

(و) القائلين أيضا : بانه (لم يقع بعده) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما اقتضى اختفاء ما جاء به) (١) من الأحكام.

بخلاف الشيعة الذين يقولون : بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّ عليا عليه‌السلام بأحكام كثيرة لم يكن له وقت بيانها واظهارها لجميع الناس ، فقد علمه ألف باب من العلم يفتتح من كل باب ألف باب (٢).

__________________

(١) ـ الفوائد المدنية : ص ١٤٠.

(٢) ـ الخصال : ص ٦٤٧ ح ٣٥ ، تاريخ ابن كثير : ج ٧ ص ٣٦٠ ، تاريخ ابن عساكر : المجلد الثاني في ترجمة الإمام علي ح ١٠٠٣.

٢٣٥

انتهى.

أقول : المراد بالدليل المصحّح للتكليف ، حتّى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى

______________________________________________________

كما ان الشيعة يقولون بما يقوله القرآن : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١) من انّه بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صارت الفتنة مما اقتضى اختفاء كثير مما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اما عنادا ، وإما خوفا.

وعليه : فالفرق عند هذا المحدّث بين الشيعة والعامة هو : ان العامة يرون ان كلّ حكم لم يصل من الرسول يجوز فيه البراءة ، بينما الشيعة يخصون ذلك بما يعم به البلوى.

(انتهى) كلام المحدّث الاسترابادي في وجه التفصيل بالبراءة فيما يعم به البلوى من الشبهة الحكمية التحريمية ، وبالاحتياط فيما لا يعم به البلوى منها.

(أقول) : انّ المحقق لا يريد التفصيل بين الشبهة الحكمية التي تعم بها البلوى ولم يرد فيها نص حيث البراءة ، وبين الشبهة الحكمية التي لا تعم بها البلوى حيث الاحتياط ، بل يريد المحقق التمسك بأصالة البراءة بحكم العقل بقبح العقاب بما لا يطاق ، وقبح العقاب من دون بيان ، فالتكليف عنده غير منجّز مطلقا سواء كان مما يعم به البلوى بالشبهة أم لا يعم البلوى بها.

وعليه : فان (المراد بالدليل المصحّح للتكليف) الذي يصح للمولى ان يكلف العبد بسبب ذلك الدليل (حتى لا يلزم) منه (التكليف بما لا طريق للمكلف الى

__________________

(١) ـ سورة آل عمران : الآية ١٤٤.

٢٣٦

العلم به ، هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه والاستفادة منه ، فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني أصلا او كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه او يمكن لكن بمشقّة رافعة للتكليف ، او تيسّر ولم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ ، فانّ الحكم الفعليّ في جميع هذه الصور قبيح على

______________________________________________________

العلم به) أي : لا يلزم التكليف بما لا يطاق (هو) ما يلي :

أولا : (ما تيسّر للمكلّف الوصول اليه) أي : الى ذلك الدليل.

(و) ثانيا : ما تيسّر للمكلّف (الاستفادة منه) بأن تم دلالة ذلك الدليل على مراد المولى.

إذن : (فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني اصلا) حيث لا تكليف (أو كان ولم يتمكن المكلّف من الوصول اليه) حيث انه لا تمكن للمكلف من الوصول الى ذلك ، وحينئذ اذا كلفه المولى وعاقبه على الترك بدون ايجاب الاحتياط عليه ، كان ذلك من المولى قبيحا عقلا.

(أو يمكن) الوصول اليه (لكن بمشقة رافعة للتكليف) فإن المولى رفع مثل هذا الفحص عنه لدليل العسر والحرج والضرر وما أشبه.

(أو تيسر ولم يتم دلالته في نظر المستدل) لما عرفت : من لزوم تمام دلالة الدليل في نظر المستدل.

بل ينبغي أن يقال أيضا : بعدم التكليف فيما اذا لم يتم جهة صدوره في نظر المستدل وذلك بأن كان نظره بان الحكم صدر تقية.

وعليه : (فان الحكم الفعلي) أي : تنجز التكليف على مثل هذا المكلّف (في جميع هذه الصور) التي ذكرناها (قبيح) عقلا وشرعا ، لأنه كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، بالاضافة الى ما تقدّم من الآيات والروايات والاجماع (على

٢٣٧

ما صرّح به المحقق قدس‌سره ، في كلامه السابق ، سواء قلنا بأنّ وراء الحكم الفعليّ حكما آخر يسمّى حكما واقعيّا وحكما شأنيّا على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس وراءه حكم آخر ، للاتفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعليّ.

وحينئذ : فكلّ ما تتبّع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره

______________________________________________________

ما صرح به المحقق قدس‌سره في كلامه السابق) حيث قال : «ان أهل الشرائع كافة لا يخطّئون من بادر الى تناول شيء من المشتبهات» الى آخر كلامه.

إذن : فاللازم في تحقق التكليف الذي ان تركه العبد استحق العقاب هو : وجود دليل جامع للشرائط ، وأما مجرد وجوب التكليف في الواقع فانه لا يسبب تكليفا على العبد ، ولقد تقدّم منّا : ان التكليف غير الواصل يمكن أن لا يكون تكليفا اذا لم يكن له أثر ، لأنه لغو (سواء قلنا : بأن وراء الحكم الفعليّ حكم آخر يسمى حكما واقعيا وحكما شأنيا على ما هو مقتضى مذهب المخطئة ـ) حيث انهم يقولون : ان لله سبحانه في كل واقعة حكما قد يصل اليه المكلّف وقد لا يصل اليه (أم قلنا : بأنه ليس ورائه حكم آخر) على ما هو مذهب المصوبة.

وانّما قلنا بأن الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح (للاتفاق) من الأخباريين والاصوليين (على ان مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو :

الحكم الفعليّ) فحيث لا حكم فعليّ لا تكليف ، وحيث لا تكليف لا ثواب ولا عقاب.

(وحينئذ) أي : حين كان المدار في التكليف والثواب والعقاب هو الحكم الفعلي (فكلّما تتبع المستنبط في الأدلة الشرعيّة) بأن لاحظ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، وسائر الأدلة الشرعية المعتبرة (في نظره) أي : في نظر المتتبع

٢٣٨

إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعليّ ، ولا فرق في ذلك بين العامّ البلوى وغيره ، ولا بين العامّة والخاصّة ، ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والاخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

______________________________________________________

(الى ان علم من نفسه : عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبع) لأنه علم بأنه لا يصل الى شيء ، أو علم بأن الزائد مشقة لا يريد الشارع منه.

(ولم يجد فيها ما يدل على حكم مخالف للأصل) الذي هو الاباحة ، كما اذا لم يجد في الأدلة حرمة شرب التتن ، أو لم يجد في الأدلة وجوب الدعاء عند رؤية الهلال (صح له) أي : لهذا المتتبع المستنبط (دعوى) البراءة وعدم التكليف ، والبراءة تفيد (القطع بانتفاء الحكم الفعلي) على هذا المستنبط المتتبع.

(ولا فرق في ذلك) أي : لعدم التكليف بعد عدم ظفره (بين العام البلوى وغيره ، ولا بين العامة والخاصة ، ولا بين المخطئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والاخباريين) لأن الجميع متفقون على ان الثواب والعقاب بدون البيان قبيح لا يصدر منه سبحانه غير أن الأخباريين يقولون بوجود البيان : وهو الدليل العام من أخبار التوقف والاحتياط والتثليث الدال على ان الشبهة التحريمية يجب الاجتناب عنها.

(و) كذلك (لا) فرق فيما ذكرناه : من انه لا تكليف فعليّ (بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع) السماوية.

(و) كذا لا فرق بين المولى الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى وبين (سائر الموالي بالنسبة الى عبيدهم) لأنّ ذلك حكم عقليّ فطري يعترف به الجميع.

٢٣٩

هذا ، بالنسبة إلى الحكم الفعليّ. وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ، فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقق قدس‌سره ، من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به.

______________________________________________________

ثمّ ان (هذا) الذي استدل به المحقق : من ان عدم الدليل دليل على العدم فالمحكم البراءة ، انّما يتم (بالنسبة الى) نفي (الحكم الفعلي) وانه لا حكم فعليّ بالنسبة الى هذا المكلّف.

(وأما بالنسبة الى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو سميناه حكما بالنسبة الى الكل) وقال المصنّف : لو سميناه حكما ، لأنه لا يسمّى حكما بدون الوصول ، فان الشارع لم يحكم به وان كان فيه الاقتضاء ، اذ لو حكم بما لا أثر له لعدم وصوله ، كان لغوا لا يصدر من العاقل فكيف من سيد العقلاء؟.

وعليه : (فلا يجوز الاستدلال على نفيه) أي : على نفي ذلك الحكم الواقعي الذي ليس بفعلي عن المكلّف (بما ذكره المحقق قدس‌سره : من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلف الى العلم به) ومن انّه تكليف بما لا يطاق وعقاب بلا بيان.

وإنّما لا يجوز ذلك (لأن المفروض عدم اناطة) الثواب والعقاب ، والمدح والذم ، و (التكليف به) أي بالحكم الواقعي الذي لم يصل الى العبد فان التكليف الواقعي الذي لا يريده المولى من العبد وجوده وعدم وجوده سواء ، فانه لا يلزم من مجرد التكليف الواقعي على القول بالتكليف الواقعي غير الواصل ان يكون تكليفا بما لا يطاق امتثاله ، أو عقاب بلا بيان ، أو ثوابا بلا وجه.

وممّا تقدّم ظهر : انه ليس وجه البراءة هو : مسألة عموم البلوى ، بل عدم الوصول بشرائطه ، دون ان يختلف فيه عموم البلوى وعدمه.

٢٤٠