الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-06-6
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ويرد على الكلّ انّ غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النّهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعا ،

______________________________________________________

قال في الأوثق : «ولعلّ وجه تأمل المصنّف في دلالتها هو : كون المراد بالبينة هي : المعجزات الباهرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمقصود من الآية : بيان علّة ما وقع منه تعالى من نصرة المسلمين ، لأنّ الآية قد نزلت في بيان قصة غزوة بدر ونصرة المسلمين فيها ، كما يشهد به ما قبلها من قوله سبحانه :

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ...)(١)» (٢).

أقول : لكن وجه النزول مورد ، والمورد لا يخصّص ، بل من عادة القرآن الحكيم كثيرا كما شاهدنا : انّه يذكر علّة عامة لشيء خاص ، فدلالة الآية على البراءة ظاهرة.

ثم انّ المصنّف بعد إيراده على دلالة الآيات المذكورات ، أشكل على جميعها باشكال واحد جامع للكل حيث قال : (ويرد على الكلّ :) انّها لا تقاوم أدلة الاحتياط حتى على فرض دلالتها.

وانّما لا تقاوم أدلة الاحتياط لأن هذه الآيات على فرض دلالتها تدل على انّه لا عقاب إذ لا بيان ، والحال انّ أدلة الاحتياط تدلّ على وجود البيان كما قال (إنّ غاية مدلولها) أي : مدلول الآيات المذكورات ، هو (: عدم المؤاخذة على مخالفة النّهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده) أي : وجود النهي (واقعا).

__________________

(١) ـ سورة الانفال : الآية ٤٢.

(٢) ـ أوثق الوسائل : ص ٢٥٨ أصالة البراءة.

٣٢١

فلا ينافي ورود الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم.

ومعلوم انّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلّا عن دليل علميّ.

وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل ، بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

إذن : فالآيات المباركة تدل على انتفاء المؤاخذة على التكليف الوجوبي أو التحريمي من دون بيان (فلا ينافي ورود) البيان من الشارع بسبب أدلة الاحتياط بمعنى : وجود (الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التّحريم) من أدلة الاحتياط.

(ومعلوم : انّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب) وهو الاخباري (لا يقول به) أي : بوجوب الاجتناب (إلّا عن دليل علمي) إن لم يكن علما ، والدليل العلمي هو : أخبار الاحتياط (وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل) الدال على الاحتياط.

(بل هي) أي : هذه الآيات (من قبيل الأصل بالنسبة اليه) أي : الى الدليل ، وكما إنّ الأصل يرتفع بالدليل كذلك هذه الآيات لا موضوع لها بعد ورود أدلة الاحتياط ، فانّ موضوع الآيات الدالة على البراءة هو عدم البيان ، وأخبار الاحتياط تدلّ على وجود البيان ، فلا موضوع للآيات بعد أخبار الاحتياط (كما لا يخفى).

لكن يرد على ذلك ما يلي :

أوّلا : النقض بالشبهات الموضوعية والشبهات الوجوبية ، مع انّ الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط فيهما.

ثانيا : الحل بأنّ أخبار الاحتياط ظاهرة في الاستحباب ، مثل قوله عليه‌السلام : «أخوك

٣٢٢

ومنها : قوله تعالى ، مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ملقّنا إيّاه طريق الردّ على اليهود ، حيث حرّموا بعض ما رزقهم الله تعالى افتراء عليه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.)

______________________________________________________

دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١) وغيره ممّا هو ظاهر في ندبية الاحتياط لا وجوبه ، وبقرينة سياق سائر أخبار الاحتياط لهذه الأخبار ، تحمل سائر أخبار الاحتياط على الاستحباب أيضا ، فلا دليل وارد على الآيات حتى يقال : انّ الاحتياط بيان.

وبهذا البيان يرفع اليد عن ظاهر الروايات الدالة على الاحتياط ، الى غير ذلك ممّا ذكرناه في مباحث الاصول.

(ومنها) أي : من الآيات الدالة على البراءة (قوله تعالى مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملقّنا إيّاه) ومعلّما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (طريق الرّد على اليهود حيث حرّموا بعض ما رزقهم الله تعالى) ، فانّ اليهود قالوا : انّ بعض الطيبات محرمة عليهم ، وكان هذا التحريم من اليهود (افتراء عليه) تعالى ، فانّه تعالى علّم الرسول كيف يرد على اليهود بقوله :

((قُلْ)) يا محمّد لليهود وغير اليهود (: (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ...)(٢)) الى آخر الآية ، وحيث إنّ الآية ، المباركة في مقام ردّ اليهود ، لا في مقام حصر المحرّمات في المذكورات حصرا

__________________

(١) ـ الأمالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، الأمالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

(٢) ـ سورة الأنعام : الآية ١٤٥.

٣٢٣

فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرّمات التي أوحى الله إليه. وعدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فيما أوحي إليه وإن كان دليلا قطعيّا على عدم الوجود إلّا أنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة.

______________________________________________________

حقيقيا ، فلا يقال : إنّ هذه الآية تدلّ على عدم تحريم ما لم يذكر في القرآن الحكيم ، فانّ الحصر الاضافي إنّما يكون بالنسبة لا بالاطلاق ، كما قرّر ذلك في علم العربية والبلاغة.

وكيف كان : (ف) انّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعليم الله سبحانه وتعالى (أبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرمات الّتي أوحى الله اليه) فدلّت هذه الآية المباركة على عدم وجوب الاجتناب عمّا لم يوجد على حرمته دليل ، وحيث لم يدلّ على حرمة التتن ، أو حرمة ترك الدعاء عند رؤية الهلال دليل ، فالتتن ليس بحرام ، وكذلك ترك الدعاء ليس بحرام.

(و) إن قلت : فرق بين عدم وجداننا ، لأن عدم وجداننا ناشئ عن الجهل بالواقعيات ، وبين عدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ عدم وجدانه ناشئ عن العلم بالواقعيات ، فاذا لم يكن ما لم يجده الرسول حراما ، لا يكون ذلك دليلا على عدم حرمة ما لم نجده نحن حراما.

قلت : (عدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فيما أوحي إليه وإن كان دليلا قطعيّا على عدم الوجود ، إلّا إنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة) فانّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إني «لا أجد» فليس بحرام ، ولم يقل : انّه ليس في الواقع فليس بحرام.

إذن : فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل على إنّ كل عدم وجدان بعد الفحص ، يوجب

٣٢٤

لكنّ الانصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان إشارة الى المطلب.

وأمّا الدلالة فلا ، ولذا قال في الوافية : «وفي الآية إشعار بأنّ اباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع».

مع أنّه لو سلّم دلالتها ،

______________________________________________________

عدم التكليف بالحرمة ، فانّ في العدول عن التعبير ب «ليس» الى التعبير ب «عدم الوجود» ، دلالة على كفاية مجرّد عدم الوجدان في عدم التكليف بالحرمة.

(لكنّ) المصنّف لم يرتض دلالة الآية على البراءة ، لأنّه ردّ الدلالة بقوله : و (الانصاف : انّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التّعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان اشارة الى المطلب) الذي قلناه : من إنّ عدم الوجدان يدلّ على عدم الوجود إذا كان بعد الفحص وليس صراحة في المطلب.

(وأمّا الدّلالة) الصريحة في الآية المباركة على انّ عدم الوجدان دليل على عدم الوجود (فلا ، ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من عدم دلالة الآية صراحة وانّما فيه مجرّد إشارة ، لا يمكن الاستناد اليها.

(قال في الوافية) ما لفظه : (وفي الآية) مجرّد (إشعار بأنّ إباحة الاشياء) التي لا دليل على حرمتها (مركوزة في العقل قبل الشّرع) ففي الوافية جعل الآية مشعرة لا دليلا ، ومن الواضح : انّه لا يمكن استناد الاصولي الى الاشعار في ادعائه البراءة.

(مع إنّه لو سلم دلالتها) أي : دلالة الآية في نفسها فهي لا تنفعنا ، للفرق بين عدم وجدان الرّسول وعدم وجداننا ، لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم بعدم اختفاء حكم عليه ممّا أوحى الله تعالى اليه ، فعدم وجدان الرسول دليل البراءة ، لعدم الصدور منه تعالى ، وليس بالنسبة الينا كذلك ، فنحن نعلم بأنّه كانت أحكام في الشريعة

٣٢٥

فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الأحكام يوجب عدم التحريم ، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام الله تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالإجماع العمليّ على هذا المطلب.

______________________________________________________

خفيت علينا من جهة التقية ، أو من جهة إحراق الظالمين كتب الشيعة وقتل رواتهم ومحدّثيهم ممّا سبّب فقدنا لكثير من الأحاديث ، فعدم وجداننا ليس دليل البراءة وعدم التحريم ، فكيف يمكن قياس عدم وجداننا بعدم وجدان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ، والى هذا أشار بقوله : (فغاية مدلولها : كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الأحكام ، يوجب عدم التحريم) بالنسبة الى الرسول (لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام الله تعالى) بالنسبة الينا (بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا) فلا يقاس عدم وجدان الرسول بعدم وجداننا.

لكن يمكن الجواب عن إشكال المصنّف نقضا وحلا :

أمّا نقضا : فلأنّه لو اشكل على البراءة وعدم الاحتياط : باختفاء كثير من الاحكام ، لا شكل على عدم الاحتياط في كل الأحكام ، لاحتمالنا وجود شرائط وأجزاء للصلاة ، والصيام ، والحجّ ، والمعاملات ، وغيرها لم تصل إلينا ، فيجب علينا الاحتياط إذن في كل أمر محتمل ، وهذا ما لا يقول به أحد.

وأمّا حلا : فلأن الأحكام المختفية لا نعلم إنّها كانت من قبيل الواجبات والمحرمات.

وعليه : فالآية باقية على دلالتها من البراءة ، حتى نعلم بأنّ كل الذي اختفى علينا كان في الواجبات والمحرمات ، والمفروض عدم علمنا بذلك.

(وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالاجماع العملي على هذا المطلب)

٣٢٦

ومنها : قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.)

يعني مع خلوّ ما فصّل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.

ولعلّ هذه الآية أظهر من سابقتها ، لأنّ السابقة دلّت على أنّه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما

______________________________________________________

أي : على البراءة إنشاء الله تعالى.

(ومنها) أي من الآيات التي استدل بها على البراءة (قوله تعالى : (وَما لَكُمْ)) والخطاب للمسلمين ((أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا)) ذبح ذبحا شرعيّا ، وحين الذبح ((ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ؟)(١)) فانّ المشركين واليهود كانوا يحرّمون بعض أقسام الذبائح ، والمسلمون في أول عهدهم بالاسلام كانوا يتجنبون عن تلك المحرّمات التي كانت عند اليهود والمشركين لاعتمادهم على التحريم قبل إسلامهم ، فوبّخهم الله سبحانه وتعالى على ذلك ، وبيّن لهم المحرّمات ليكون أكل ما عدا ذلك حلالا لهم.

وعليه : فالمحرّم ما فصّلته الآية (يعني : مع خلوّ ما فصّل ، عن ذكر هذا الّذي يجتنبونه) لا وجه لاجتنابهم وعدم أكلهم منه ومن سائر المطعومات ، فتدلّ الآية على انّ كل شيء لم يبيّن حرمته يكون حلالا ، ومن يحرّمه يكون مستحقا للتوبيخ.

(ولعلّ هذه الآية أظهر من سابقتها) أي : من قوله سبحانه ، (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...)(٢) ووجه الأظهرية ما ذكره المصنّف بقوله :

(لأنّ السّابقة دلّت على انّه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما

__________________

(١) ـ سورة الأنعام : الآية ١١٩.

(٢) ـ سورة الانعام : الآية ١٤٥.

٣٢٧

أوحى الله سبحانه إلى النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذه تدل على أنّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصّل وإن لم يحكم بحرمته فيبطل وجوب الاحتياط أيضا ، إلّا أنّ دلالتها موهونة من جهة أخرى ، وهي أنّ ظاهر الموصول العموم ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع

______________________________________________________

أوحى الله سبحانه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فالآية السابقة كانت تدلّ على حرمة التشريع ، بينما هذه الآية تدلّ على حرمة الاجتناب.

مثلا : الآية السابقة تقول : لا تقولوا التتن حرام (وهذه) الآية تقول : لا تترك التتن بل اشربه ، فالآية هذه (تدلّ على انّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصّل) حرمته في الشريعة (وإن لم يحكم) التارك (بحرمته).

وعليه : فالآية السابقة تدلّ على حرمة التشريع كما صنعه اليهود ، وهذه الآية تدلّ على حرمة مطلق التزام الترك ، سواء كان الترك بعنوان الاحتياط ، كما صنعه جمع ، أو بعنوان التشريع ، كما صنعه اليهود (فيبطل وجوب الاحتياط أيضا) لأنّ الاحتياط حينئذ منهيّ عنه.

(إلّا انّ دلالتها) أي : الآية المباركة (موهونة من جهة أخرى وهي : انّ ظاهر الموصول : العموم) فان «ما» في قوله سبحانه : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)(١) ظاهر في العموم أي : فصّل الله سبحانه وتعالى للمسلمين جميع المحرّمات.

(فالتّوبيخ) منه سبحانه إنّما هو (على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع

__________________

(١) ـ سورة الانعام : الآية ١١٩.

٣٢٨

المحرّمات الواقعيّة وعدم كون المتروك منها.

ولا ريب أنّ اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا ، فالتوبيخ في محلّه.

والانصاف : ما ذكرنا ، من أنّ الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط ، لأنّ غاية مدلول الدالّ منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل

______________________________________________________

المحرّمات الواقعية ، وعدم كون المتروك منها) أي : ممّا فصّل فانّ الذبيحة الشرعية ليست من تلك المحرمات التي فصّلها الله سبحانه وتعالى.

(ولا ريب انّ اللازم من ذلك) أي : من تفصيل جميع المحرمات وعدم كون الذبيحة المتروكة من تلك المحرمات (العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا) لأنّا إذا علمنا بكل المحرّمات ، ورأينا إنّ الذبيحة المتروكة ليست من تلك المحرّمات ، علمنا بأن الذبيحة ليست من المحرمات وحينئذ(فالتوبيخ في محلّه) بخلاف ما إذا لم نعلم المحرمات تفصيلا ، كما هو حالنا بعد عدم علمنا بكل الأحكام ، لاختفائها من جهة تقية ، أو إحراق الكتب ، أو قتل الرّواة ـ كما تقدّم ـ.

لكنّك قد عرفت الجواب عن ذلك كلّه في الآية السابقة ، فلا حاجة الى تكراره.

اما المصنّف فقد قال : (والانصاف ما ذكرنا : من انّ الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط ، لأن غاية مدلول الدّال منها) أي : من هذه الآيات (هو : عدم التّكليف فيما لم يعلم خصوصا) تكليفا بالحرمة : كحرمة التتن ، أو تكليفا بالوجوب : كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

(أو عموما ب) سبب (العقل) مثل : دلالة العقل على وجوب دفع ضرر العقاب

٣٢٩

أو النّقل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد.

وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدّليل العقليّ أو النقليّ على وجوبه ، فاللازم على منكره ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما يدلّ على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه.

وأمّا الآيات المذكورة ، فهي كبعض الأخبار الآتية لا تنهض بذلك ،

______________________________________________________

المحتمل (أو النّقل) مثل : دلالة الأخبار على وجوب الاجتناب عن الشبهة.

(وهذا) أي : البراءة عند عدم البيان خصوصا أو عموما (ممّا لا نزاع فيه لأحد) سواء الاصولي أو الأخباري ، فانّ الكل متفقون على أنّه ما دام لم يكن بيان عموما ولا خصوصا ، فانّه يكون مجرى البراءة.

(وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبه) من الأخباريين (بزعم قيام الدّليل) العام (العقلي) وهو : وجوب دفع الضرر المحتمل (أو النقليّ) وهو : أدلة الوقوف عند الشبهة ونحوها (على وجوبه) أي : على وجوب الاحتياط.

إذن : (فاللازم على منكره) أي : منكر الاحتياط وهم الاصوليون (ردّ ذلك الدّليل) بأن يثبتوا انّه لا دليل عقلي ولا نقلي في مقام الشبهة.

(أو معارضته) أي : معارضة ذلك الدليل (بما يدلّ على الرّخصة ، وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه) حتى يتعارض دليل الأخباري مع دليل الاصولي فيتساقطان ويرجع الى الأصل العقلي السليم عن المعارض ، أو يكون دليل الاصولي أقوى فيكون مقدّما على دليل الأخباري ، فيحمل دليل الأخباري على الاستحباب.

(وأمّا الآيات المذكورة) دليلا للاصوليين على ما تقدّم بيانها (فهي كبعض الأخبار الآتية) للاصوليين (لا تنهض بذلك) أي : لا تتمكن من إبطال أدلة

٣٣٠

ضرورة أنّه لو فرض أنّه ورد بطريق معتبر في نفسه أنّه يجب الاحتياط في كلّ ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة.

وأمّا السنّة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة

منها : المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بسند صحيح في الخصال ، كما عن

______________________________________________________

الاخباريين أو معارضة أدلتهم.

(ضرورة انّه لو فرض : انّه ورد بطريق معتبر في نفسه) من حيث : السند ، والدلالة ، وجهة الصدور ، على (انّه يجب الاحتياط في كل ما يحتمل أن يكون قد حكم الشّارع فيه بالحرمة ، لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة) لأنّ الآيات المذكورة تدلّ على ان بدون البيان لا حكم بالالزام ، والدليل المذكور يكون بيانا ، ومن المعلوم : انّ البيان يزيل موضوع عدم البيان.

أقول : لكنّك قد عرفت دلالة الآيات بما يسقط دليل الأخباري عن كونه بيانا ، فيلزم حمله على الاستحباب ، أو نحو ذلك.

وعلى أي حال : فهذا تمام الكلام في الآيات التي استدلّ بها الاصوليون على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية.

(وأمّا السّنة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة) استدلوا بها على البراءة في الشبهة الوجوبية ، أو الشبهة التحريمية.

(منها : المرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بسند صحيح في الخصال ، كما عن التوحيد : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنّسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما

٣٣١

التوحيد : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنّسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ...» ، الخبر.

______________________________________________________

لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، الخبر) (١) وتتمته : والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة.

فالخطأ : أن يشتبه الشخص في قول أراد أن يقوله ، مثل ما لو قال : اللهم لا تغفر لي ، مكان اللهم اغفر لي ، أو في عمل : كأن اشتبه فوطأ زوجته في حال الحيض زاعما انّها طاهرة.

والنسيان : واضح ، لكنّهم اختلفوا في انّه هل يشمل النسيان الذي حصل من التسامح أم لا؟ كما اذا تسامح في الأمر فنسي ، بحيث لو لم يكن يتسامح لم ينس.

وما لا يطيقون : امّا انّه لا يتمكنون إطلاقا ، فمعنى رفعه حينئذ رفع آثاره : من القضاء ، والاعادة ، والكفارة ، ونحو ذلك ، أو يصعب عليهم صعوبة بالغة.

وما اضطروا إليه : هو ما إذا خاف التلف من الجوع ـ مثلا ـ ان لم يأكل لحم الخنزير ، أو الموت من العطش إن لم يشرب الخمر ـ مثلا ـ ولا يخفى : ان «اضطر» يقرأ بصيغة المجهول ، وذلك على خلاف قاعدة باب الافتعال ـ لأنّه متعد ـ لذا قال سبحانه في القرآن الحكيم : (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)(٢).

والطيرة : هو العمل حسب طيران الطير أو تحرك غير الطير من الحيوانات الاخرى ، كما كان في الجاهلية حيث اذا أراد السفر ورأى طيرا يطير نحو الشمال ،

__________________

(١) ـ التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، الخصال : ص ٤١٧ ، تحف العقول : ص ٥٠.

(٢) ـ سورة لقمان : الآية ٢٤.

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أو كلبا يعوي ، أو نحو ذلك ، ترك السفر ، فانّ العمل بهذا محرم شرعا ، وقال الشاعر في الطيرة :

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى

ولا زاجرات الطير ما الله فاعل.

وقال يزيد لعنه الله متطيّرا من صياح الغراب عند ورود أهل البيت عليهم‌السلام الى الشام :

لمّا بدت تلك الرءوس وأشرقت

تلك الشموس على ربى جيرون

نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح

فلقد قضيت من النبيّ ديوني (١).

فانّه تطيّر بصوت الغراب ودلالته على زوال ملكه.

والحسد : هو ان يحسد الانسان انسانا على مال ، أو جاه ، أو أولاد ، أو نحو ذلك ، ويظهر حسده بقول أو فعل مثل : التنقيص أو الاستهزاء بالمحسود ، أو التآمر عليه ، ولذا قال سبحانه : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٢) أي : اذا أظهر حسده.

والتفكر في الوسوسة في الخلق : بأن يفكّر الانسان في انّه من خلق الله سبحانه وتعالى ـ مثلا ـ وما أشبه ذلك.

لكن هذه الثلاثة الأخيرة لا تكون محرّمة إذا لم يظهرها الانسان بيد ولا لسان ، فإذا أظهرها بيد أو لسان كان ذلك حراما.

ثم انّه حيث نسب الرفع الى الأشياء المذكورة لم يرد من الرفع : رفع ذواتها ، بل رفع جميع الآثار : من القضاء ، والاعادة ، والكفارة ، والحدّ ، والتعزير ، وعقوبة

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٤٥ ص ١٩٩ ب ٣٩ ح ٤٠.

(٢) ـ سورة الفلق : الآية ٥.

٣٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الآخرة ، وعدم قبول الشهادة حيث قال سبحانه : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(١).

الى غير ذلك من الاحكام الوضعية والتكليفيّة ، في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة ، واثبات الوضع بعد هذا الحديث يحتاج الى دليل ، كما انّ ما ذكر غير هذا في تفسير الحديث فهو خلاف الظاهر.

وإنّما قال : «رفع» لأنّ تلك الأحكام كانت في الامم السابقة وإنّما رفعت عن أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أقربية البشر الى الكمال في زمانه ، فانّ البشر كلّما كان أقرب الى الكمال خفّ تأديبه ، كالطفل اللجوج والطفل المتعارف ، حيث انّ تأديب الأول أشد.

ثمّ انّ الرفع والوضع كلاهما يقال لاسقاط التكليف :

فالأوّل : باعتبار صعوده وعدم بقائه في ذمة المكلّف.

والثاني : باعتبار سقوطه وعدم استقراره في ذمة المكلّف.

وعليه : فالنتيجة واحدة ، ولذا قال سبحانه : (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(٢).

ولعلّ الفرق بينهما إذا اجتمعا : إنّ الوضع يدلّ على أثقليّة الشيء الموضوع ، من الرفع الدال على أخفيّته.

وربّما يقال : الرفع ، باعتبار عظمة المرفوع ، ولذا قالوا : رفع فلان الأذان ، مكان قولهم : أذّن.

وكيف كان : فوجه الاستدلال بهذا الحديث للبراءة : ما ذكره المصنّف بقوله :

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٤.

(٢) ـ سورة الاعراف : الآية ١٥٧.

٣٣٤

فانّ حرمة شرب التتن ، مثلا ، ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها ، كرفع الخطأ والنّسيان ، رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة ، فهو كقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

______________________________________________________

(فانّ حرمة شرب التتن ـ مثلا ـ ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم) وكذلك وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ممّا لا يعلمون ، فهو مرفوع عنهم.

(ومعنى رفعها ، كرفع الخطأ ، والنّسيان : رفع آثارها ، أو : خصوص المؤاخذة) لكنّك عرفت : انّ اللازم رفع جميع الآثار ، لأنّ إطلاق المطلق يوجب شموله لكلّ الأفراد ، لا لبعض الأفراد دون بعض ، فكأنّ المصالح والمفاسد الواقعيّة الكامنة في الأحكام الشرعيّة ، كانت مقتضية لا يجاب التحفظ ، الموجب لتنجز التكليف : قضاء ، واعادة ، وغير ذلك ، فلم يوجبه سبحانه منّة على هذه الامة.

(فهو) أي : الرفع (كقوله عليه‌السلام : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (١) بمعنى : انّ كلّ حكم لم يأمر الله أوليائه بتبليغه إلى العباد وبقي محجوبا عنهم ، لم يكن له أثر عليهم.

لا يقال : إذا لم يأمر الله سبحانه وتعالى بذلك الحكم ، فما فائدة تسميته حكما؟.

لانه يقال : المراد بالحكم : الاقتضاء ، لا الفعليّة ، ففي التتن ـ مثلا ـ اقتضاء الحرمة ، لكن حيث ابتلى هذا الاقتضاء بأمر أهم ، كالتسهيل ـ مثلا ـ حجبه الله عن العباد ، فلم يرده منهم ، ولم يوصل الاقتضاء الى الفعليّة.

وعلى أي حال : فان ممّا تقدّم يظهر : وجه النظر في كثير من هذه المناقشات

__________________

(١) ـ التوحيد ص ٤١٣ ح ٩ ، الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٣ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨٠ ب ٣٣ ح ٤٨.

٣٣٥

ويمكن أن يورد عليه : بأنّ الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون ، بقرينة أخواتها ، هو الموضوع ، أعني فعل المكلّف الغير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب الخمر او شرب الخلّ ، وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ،

______________________________________________________

التي وردت في المتن ، لكنّا نذكرها لمجرد الشرح.

قال المصنّف : (ويمكن أن يورد عليه : بأنّ) الاستدلال برواية الرفع على البراءة في الشبهة الحكميّة ، وجوبيّة كانت أو تحريميّة ، موقوف على كون المراد بالموصول من قوله عليه‌السلام : «رفع ما لا يعلمون» (١) هو : الحكم غير المعلوم ، أو الأعم من الحكم ومن الموضوع ، اي : رفع الموضوع المجهول ، ورفع الحكم المجهول ، وليس كذلك ، إذ المراد بما لا يعلمون : الموضوع فقط ، فلا يشمل الحكم المجهول.

وعليه : فلا يدل الحديث على الرفع في الشبهة الحكميّة ، وذلك لوجهين :

أولهما : ما ذكره المصنّف بقوله : (الظّاهر من الموصول فيما لا يعلمون بقرينة أخواتها) مثل : ما اضطروا اليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون (هو : الموضوع ، أعني : فعل المكلّف غير المعلوم) عنوانه ، والفعل غير المعلوم عنوانه (كالفعل الّذي لا يعلم : انّه شرب الخمر أو شرب الخلّ ، وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة) كالمرأة التي لا يعرف انّها في الحيض أو ليست في الحيض ، أو انّها اخته من الرضاعة ، أو ليست أخته من الرضاعة؟.

كما انّ المراد بما اضطروا اليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون : هو الفعل

__________________

(١) ـ التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، الخصال : ٤١٧ ، تحف العقول : ص ٥٠ ، الاختصاص : ص ٣١ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩.

٣٣٦

فلا يشمل الحكم الغير المعلوم ،

______________________________________________________

الذي اضطر اليه ، أو اكره عليه ، أو خرج عن طاقته.

إذن : (فلا يشمل) الحديث (الحكم غير المعلوم) الذي هو محل البحث في المقام ، حيث انّ الكلام في الشبهة الحكميّة ، اذ الأخباري يقول : بحرمة شرب التتن ، والاصولي يقول : بجوازه ، فشرب التتن موضوع معلوم ، وانّما حكمه غير معلوم ، بينما الحديث يدل على انّ الموضوع غير المعلوم مرفوع بقرينة سياقه مع الفقرات الاخرى.

ثانيهما : انّ التقدير في الحديث : رفع المؤاخذة لكذا وكذا من الأشياء التسعة ، ومن المعلوم : انّ المؤاخذة تتعلق بفعل ما اكره ، او ما لا يطيق ، أو ما أشبه ذلك ، يعني : انّ الفعل المكره عليه كشرب الخمر لا مؤاخذة عليه ، ووحدة السياق في تمام الفقرات في الرواية تقتضي أن يكون ما لا يعلمون كذلك ، أي : فعل ما لا يعلمون لا مؤاخذة عليه ، فاذا لم يعلم انّ زوجته في الحيض ـ مثلا ـ ووطأها ، فانّ هذا الفعل لا مؤاخذة عليه.

إذن : فما لا يعلمون خاص بالشبهة الموضوعيّة ، إذ لو شمل الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة لم يكن سياق الفقرات واحدا ، بل كان في فقرة : «ما لا يعلمون» يشمل الموضوع والحكم معا بينما في سائر الفقرات يشمل الموضوع فقط ومن المعلوم : انّ عدم وحدة السياق خلاف الظاهر ، ولا يصار اليه إلّا بالقرينة ، ولا قرينة في المقام حتى يفرّق بين السياق فيجعل «ما لا يعلمون» يعم الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، ويكون سائر الفقرات خاصا بالشبهة الموضوعيّة.

وعلى هذا : فالحديث لا يدلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة كما يذكره الاصولي وينكره الأخباري.

٣٣٧

مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ، لأنّ المقدّر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ، ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.

نعم ، هي من آثارها ، فلو جعل المقدّر في كلّ من هذه

______________________________________________________

والى هذا الثاني أشار المصنّف بقوله : (مع انّ تقدير المؤاخذة في الرّواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم) بل يلائم إرادة الموضوع فقط (لأنّ المقدّر : المؤاخذة على نفس هذه المذكورات) في هذا الحديث (ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة) فانّ المؤاخذة تقع على فعل العبد لا على حكم الشارع.

(نعم ، هي) اي : المؤاخذة (من آثارها) اي : من آثار الحرمة.

لكنّك قد عرفت : انّه لا وجه لتقدير المؤاخذة ، بل اللازم كل الآثار ، ولذلك فانّ هذا الاشكال غير وارد.

والى هنا ذكر المصنّف احتمالين :

الأوّل : رفع جميع الآثار.

الثاني : رفع خصوص المؤاخذة.

وهناك احتمال ثالث في الحديث : وهو رفع الأثر الظاهر من كل واحد من الفقرات المذكورة في الرواية على حدة.

وجه هذا الاحتمال : هو الانصراف ، فهو مثل ما اذا قيل : «زيد أسد» ، حيث ينصرف الى انّ لزيد اظهر آثار الأسد وهو الشجاعة ، لا العرف ، والشعر ، والأظفار الطويلة ، والمشي على أربع ، وما اشبه ذلك.

والى هذا الثالث ، أشار المصنّف بقوله : (فلو جعل المقدر في كلّ من هذه

٣٣٨

التسعة ما هو المناسب من أثره ، أمكن أن يقال : أثر حرمة شرب التتن ـ مثلا ـ المؤاخذة على فعله فهي مرفوعة.

لكنّ الظاهر ، بناء على تقدير المؤاخذة ، نسبة المؤاخذة إلى نفس المذكورات.

والحاصل : أنّ المقدّر في الرواية ، باعتبار دلالة الاقتضاء ،

______________________________________________________

التسعة) الواردة في الرواية (ما هو المناسب من أثره) لا كل الآثار ، ولا المؤاخذة (أمكن أن) يحمل الموصول في «ما لا يعلمون» على الحكم غير المعلوم أيضا.

ف (يقال : أثر) رفع سائر الفقرات في الرواية : هو المؤاخذة عليها بنفسها ، فأثر ما لا يطيقون : انّه لا يؤاخذ عليه بنفسه على حده ، وهكذا بقية الفقرات ، وأثر (حرمة شرب التتن ـ مثلا ـ المؤاخذة على فعله) أي فعل الشرب نفسه (فهي مرفوعة) فيكون الحديث على هذا شاملا للشبهة الحكمية «فيما لا يعلمون».

(لكن الظاهر) انّ المرفوع : المؤاخذة ، و (بناء على تقدير المؤاخذة) فقط ، لا كل الآثار ، هو : (نسبة المؤاخذة الى نفس المذكورات) كلها ، لا المناسب لكل فقرة فقرة ، وقد عرفت : انّه على هذا التقدير يكون المرفوع في «ما لا يعلمون» الموضوع ، مثل : انّه لم يعلم هل شربه هذا شرب ماء أو شرب خمر؟ ولا يشمل رفع الحكم مثل : انه لا يعلم هل انّ التتن حرام أو حلال؟.

(والحاصل : إنّ المقدّر في الرّواية باعتبار دلالة الاقتضاء) وهي كما ذكرها البلاغيون : عبارة عن انّه إذا لم يكن الكلام صحيحا أو صادقا حسب ظاهره ، لا بدّ وأن يقدّر فيه شيء يناسبه صحة وصدقا ، كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ)(١)

__________________

(١) ـ سورة الفجر : الآية ٢٢.

٣٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث لم يكن الكلام صادقا بظاهره لأنّ الربّ لا يجيء ، قدّروا : وجاء أمر ربك.

وفي قوله سبحانه حكاية : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) حيث لم يكن سؤال القرية صحيحا ، إذ القرية لا تكون مورد السؤال والجواب قدّروا : واسأل أهل القرية.

ولا يخفى : إنّ البلاغيّين والأصوليّين أضافوا دلالتين أخريين إلى دلالة الاقتضاء ، وربّما سمي الجميع بدلالة الاقتضاء :

الاولى : دلالة التنبيه ، وذلك فيما إذا اقترن بالكلام ما يفيد دلالته ـ مثلا ـ قالوا : «جاء أعرابيّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : هلكت وأهلكت ، واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : كفّر» (٢) فان تقارن كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلام الأعرابي ، يدل على انّ المراد ب «كفّر» : الكفارة لمن واقع أهله في شهر رمضان ، وإلّا فكلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلق.

الثانية : دلالة الاشارة كما في الجمع بين قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)(٣) وقوله سبحانه : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٤) فإنّ الجمع بين هاتين الآيتين يدل على إنّ أقل الحمل ستة أشهر ، ولذا ذهب المشهور اليه.

وكيف كان : فحيث لا يمكن أن نقول في حديث الرفع : بأنّ المراد هو ظاهر الرواية ، لأن هذه الأمور من الخطأ والنسيان وغير ذلك ليست مرفوعة في الامة ، فانهم يخطئون ، ولا يعلمون ، ويضطرون ، ولا يطيقون ، وما أشبه ذلك ، فاللازم

__________________

(١) ـ سورة يوسف : الآية ٨٢.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ١٠ ص ٤٦ ب ٨ ح ١٢٧٩٣ (بالمعنى).

(٣) ـ البقرة : ٢٣٣.

(٤) ـ سورة الاحقاف : الآية ١٥.

٣٤٠