الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-06-6
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

لا يعبئون به في مقام استنباط أحكام الشارع من خطاباته ، فيكون النهي عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها للقياس.

وممّا ذكرنا يعلم حال القياس في مقابل الدّليل الثابت حجّيّته بشرط الظنّ.

كما لو جعلنا الحجّة من الأخبار المظنون الصدور منها أو الموثوق به منها ،

______________________________________________________

منعا أكيدا (لا يعبئون به) أي : بالقياس (في مقام استنباط أحكام الشارع من خطاباته) أي : من خطابات الشارع ، فلا يرون للقياس مدخلية في استنباط الأحكام إطلاقا ، لا استنادا ، ولا ترجيحا ، ولا تأييدا.

وعليه : (فيكون النهي) من الشارع (عن القياس ، ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها) أي : مخالفة تلك الظواهر (للقياس) أي : ان العرف يبنون على تعطيل الظواهر لأجل انّها تخالف القياس ، فلا يأخذون بالظواهر ، لكن بعد نهي الشارع عن القياس ، يأخذون بالظواهر ويتركون القياس.

(وممّا ذكرنا) : من إنّ القياس هل يكسر الظاهر فيسقط الظاهر عن الحجيّة ، أو أن الظاهر يؤخذ به وان خالفه القياس وانّما القياس هو الذي يسقط ، (يعلم حال القياس في مقابل الدليل الثابت حجيته بشرط الظنّ) وانّه هل يعمل فيه بالقياس أو يعمل بالدليل؟

(كما لو جعلنا الحجّة من الأخبار : المظنون الصدور منها) أي : من تلك الأخبار ، بأن لم نقل الاخبار مطلقا حجّة ، وانّما الاخبار المظنونة الصدور حجّة (أو الموثوق به منها) بأن يكون الحجّة من الأخبار هي الأخبار المظنونة الصدور بالظن الاطمئناني.

١٦١

فانّ في وهنها بالقياس الوجهين : من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجّيتها على وجه الشرطيّة ، فمرجعه إلى فقدان شرط وجدانيّ ، أعني وصف الظنّ بسبب القياس.

ونفي الآثار الشرعيّة للظنّ القياسيّ لا يجدي ، لأنّ الأثر المذكور ، أعني رفع الظنّ ، ليس من الامور المجعولة ،

______________________________________________________

(فان في وهنها) أي : وهن تلك الأخبار (بالقياس) أي : بسبب القياس (الوجهين) المتقدمين : في انّه هل يؤخذ بالقياس أو يؤخذ بالأخبار؟.

ثم بيّن الوجه الأول بقوله : (من حيث) إنّ القياس يكسر الحجّة ، لأجل (رفعه) أي : رفع القياس (للقيد المأخوذ في حجيّتها) أي : في حجّية تلك الأخبار (على وجه الشرطية) لأن تلك الأخبار حجيتها من جهة الظنّ مطلقا أو من جهة الظنّ الاطمئناني ، ومن المعلوم : إنّ القياس يرفع هذا الظنّ فتسقط الأخبار عن الحجيّة.

(فمرجعه) أي : مرجع رفع القياس للقيد المأخوذ(الى فقدان شرط وجداني) عن تلك الأخبار ـ (أعني : وصف الظنّ ـ بسبب القياس) قوله : «بسبب» ، متعلق بقوله : «فقدان».

هذا (ونفي الآثار الشرعية للظنّ القياسيّ لا يجدي ، لأنّ الأثر المذكور أعني : رفع الظنّ ليس من الامور المجعولة) للشارع حتى ينتفي بنفي الآثار الشرعية للظنّ القياسي.

قوله : «ونفي الآثار ...» عبارة عن إشكال ، وهو : إنّ الشارع رفع أثر القياس ، فكيف يكسر القياس الخبر الذي هو حجّة؟ فاجاب عنه بقوله : «لا يجدي ...» ممّا حاصله : ان القياس يرفع الظّن ، والظنّ معتبر في حجّية الخبر.

١٦٢

ومن أنّ أصل اشتراط الظنّ من الشارع ، فاذا علمنا من الشارع إنّ الخبر المزاحم بالظنّ القياسيّ لا ينقص أصلا من حيث الايصال إلى الواقع وعدمه من الخبر السليم عن مزاحمته ، وإن وجود القياس وعدمه في نظره سيّان.

فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدّ سواء.

ومن هنا

______________________________________________________

(ومن انّ أصل اشتراط الظنّ من الشارع) وهذا وجه عدم كسر القياس للحجة ، (فاذا علمنا من الشارع إنّ الخبر المزاحم بالظنّ القياسي) حيث ان القياس ضد الخبر (لا ينقص) هذا الخبر (أصلا من حيث الايصال الى الواقع وعدمه) أي :

عدم : الايصال (من الخبر السليم عن مزاحمته) أي : عن مزاحمة القياس (وإنّ وجود القياس وعدمه في نظره) أي : في نظر الشارع (سيّان) أي : متساويان.

وعليه : فاذا علمنا ذلك (فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدّ سواء) والمراد بالخبرين : هما الخبران اللذان أحدهما خالف القياس ، والآخر لم يخالف القياس ، فانّه إذا كان القياس وجوده كعدمه ، فالخبر بذاته مظنون وإن لم يكن الظنّ فعليا لمزاحمة القياس ، فالخبر المظنون بذاته حجّة ، سواء كان هناك ظنّ فعلي بمضمون الخبر ، أو لم يكن ظنّ فعلي ، لأنّ القياس الذي هو مظنون عارض الخبر.

ولا يخفى : ان الوجه الثاني الذي أشار اليه بقوله : «ومن ان اصل اشتراط الظنّ من الشارع ...» هو الذي قرّبه المصنّف سابقا ويقرّبه لا حقا.

(ومن هنا) أي : ممّا ذكرناه : من ان الخبر المظنون الذي هو حجة ، ان كان اعتبار ظنّه من الشارع لم يعارضه القياس ، وان لم يكن اعتبار ظنّه من الشارع

١٦٣

يمكن جريان التفصيل السابق : بأنّه إن كان الدليل المذكور المقيّد اعتباره بالظنّ ممّا دلّ الشرع على اعتباره ، لم يزاحمه القياس الذي دلّ الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها مدخل في الوصول إلى دين الله ، وإن كان ممّا دلّ على اعتباره العقل الحاكم بتعيين الأخذ بالراجح عند انسداد باب العلم والطرق الشرعيّة ، فلا وجه لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجّيّته أعني الظنّ.

فانّ غاية الأمر صيرورة مورد اجتماع تلك الأمارة والقياس مشكوكا ،

______________________________________________________

عارضه القياس وأسقطه (يمكن جريان التفصيل السابق) هنا وهو :

(بأنّه إن كان الدليل المذكور) كالخبر (المقيد اعتباره بالظّن ، ممّا دل الشرع على اعتباره) أي : على اعتبار ذلك الظنّ (لم يزاحمه القياس الذي دلّ الشرع على كونه) أي : على كون القياس (كالعدم من جميع الجهات الّتي لها مدخل في الوصول الى دين الله) فكلّ شيء له مدخلية في الوصول الى دين الله سبحانه وتعالى لا يعارضه القياس ، كما لا يؤده.

(وإن كان ممّا دلّ على اعتباره العقل ، الحاكم بتعيين الأخذ بالرّاجح عند انسداد باب العلم والطرق الشّرعية) بأن كان الظنّ حجيته من باب الانسداد (فلا وجه لاعتباره) أي : اعتبار ذلك الظنّ الذي دلّ عليه العقل (مع مزاحمة القياس) لهذا الظنّ (الرافع لما هو مناط حجيّته) أي : حجيّة ذلك الخبر الذي عارضه القياس (أعني : الظنّ) قوله : «أعني» ، بيان لقوله : «مناط حجيته».

وعليه : فاذا عارض القياس الظنّ الانسدادي قدم القياس عليه ، لأن الدليل مستند الى العقل والقياس يرفع هذا الدليل العقلي.

(فان غاية الأمر : صيرورة مورد اجتماع تلك الأمارة والقياس ، مشكوكا)

١٦٤

فلا يحكم العقل فيه بشيء ، إلّا أن يدّعي المدّعي أنّ العقل بعد تبيّن حال القياس لا يسقط عنده الأمارة المزاحمة به عن القوّة التي تكون لها على تقدير عدم المزاحم وإن كان لا يعبّر عن تلك القوة حينئذ بالظنّ وعن مقابلها بالوهم.

والحاصل : أنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا

______________________________________________________

بأنه هل يعمل بتلك الأمارة الانسدادية ، أو يعمل بالقياس؟ (فلا يحكم العقل فيه) أي : في هذا المورد المشكوك (بشيء) من الحجيّة أو اللاحجيّة ، وإذا لم يحكم العقل بشيء من الحجية أو اللاحجية ، سقطت تلك الأمارة المستندة الى الانسداد.

والحاصل : إنّ القياس إذا خالف الأمارة الانسدادية فاما أن نقول بتقدم القياس على الأمارة ، أو نقول بتعارضهما وتساقطهما فان النتيجة : عدم وجود الحجة.

(إلّا أن يدّعي المدّعي) عدم إسقاط القياس للامارة الانسدادية أيضا ، (انّ العقل بعد تبيّن حال القياس) وانّه لا يصيب الواقع ، ولا مدخلية له في دين الله (لا يسقط عنده الأمارة المزاحمة به) أي : بالقياس (عن القوة التي تكون لها) أي : لتلك الأمارة (على تقدير عدم المزاحم) فالعقل يعمل بالامارة ، سواء خالفها القياس أو لم يخالفها (وإن كان لا يعبّر عن تلك القوة حينئذ) أي حين زاحمها القياس (: بالظنّ ، وعن مقابلها : بالوهم) فان الأمارة لا ظنّ بها حينئذ ، إلّا انّه يعمل بها ولا يؤخذ بالقياس.

(والحاصل) أي : حاصل ما تقدّم من قولنا : إلّا أن يدعي (: انّ العقلاء اذا وجدوا في شهرة خاصة ، أو إجماع منقول) أو ما أشبههما (مقدارا

١٦٥

من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجئوا إلى العمل على طبقهما مع فقد العلم ، وعلموا من حال القياس ببيان الشارع أنّه لا عبرة بما يفيد من الظنّ ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا ، لأنّه لا ينقصهما عمّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأنيّ والنوعيّ والطبعيّ.

وممّا ذكرنا صحّ للقائلين لأجل الانسداد ، بمطلق الظنّ إلّا ما خرج ،

______________________________________________________

من القوة والقرب الى الواقع ، والتجئوا الى العمل على طبقهما مع فقد العلم) لأن المفروض انسداد باب العلم (وعلموا من حال القياس ببيان الشارع : انّه لا عبرة بما يفيد) القياس (من الظنّ ، ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله) تعالى.

إذا علموا بذلك (لم يفرقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين) الذين هما مستند الحكم (مزاحمين بالقياس أم لا) فان العقلاء يعملون بالشهرة والاجماع ، سواء وافقهما القياس أو خالفهما ، أو لم يكن هناك قياس اصلا وذلك (لأنه) أي : لان القياس (لا ينقصهما) أي : لا ينقص الشهرة والاجماع (عمّا هما عليه من القوة والمزية المسماة) تلك القوة المزية (: بالظن الشأني والنوعيّ والطبعيّ).

ثم أن كل هذه الالفاظ الثلاثة في مقابل الظنّ الفعلي ، لأنه بعد القياس لا ظنّ فعلي بتلك الأمارة ، فيسمى بالشأني : لأن من شأنه حصول الظنّ على طبقه ، ويسمى بالنوعي : لأن نوع هذه الأمارة يوجب حصول الظّن ، ويسمى بالطبعي : لأن طبع هذه الأمارة حصول الظنّ بسببها.

(وممّا ذكرنا) : من إنّ القياس لا يكسر الأمارة الانسدادية (صح للقائلين لأجل الانسداد بمطلق الظنّ ، إلّا ما خرج) قوله : «بمطلق» ، متعلق بقوله : «للقائلين» ، أي : صح للقائلين بحجّية مطلق الظنّ لأجل الانسداد إلّا ما خرج ، وقوله :

١٦٦

أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأنيّ ، بمعنى إنّ الظنّ الشخصيّ إذا ارتفعت عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الأمارات الخارجة عنه لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القول بذلك على رأي بعضهم ممّن يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة مسألة ،

______________________________________________________

«الّا ما خرج» استثناء عن مطلق الظن ، أي : يقولون بحجيّة مطلق الظنّ إلا الظنّ الذي خرج بدليل.

وعليه : فللقائلين بمطلق الظنّ للانسداد (أن يقولوا : بحجيّة الظّن الشأني بمعنى : إنّ الظنّ الشخصي إذا ارتفعت عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد) وكان الارتفاع (بسبب الأمارات الخارجة عنه) أي : الانسداد (لم يقدح ذلك) الارتفاع (في حجيتها) أي : في حجيّة تلك الأمارات ، وذلك لأن الظنّ الشخصي ليس معيارا في باب الانسداد وانّما المعيار هو الظن الشأني النوعي الطبعي كما عرفت.

(بل يجب القول بذلك) أي : بعدم القدح (على رأي بعضهم) أي : على رأي بعض القائلين بالانسداد (ممن يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة مسألة) فان في باب الانسداد قولين :

الأوّل : انّه إذا تمت مقدمات الانسداد نعمل بالظّن المطلق في جميع المسائل ، سواء كان في بعض تلك المسائل دليل خاص ، أم لا.

الثاني : انّه إذا تمت مقدّمات الانسداد ، فاللازم أن نجري مقدمات الانسداد في كلّ مسألة مسألة ، فاذا كان في مسألة دليل خاص نعمل بذلك الدليل الخاص ، ولا نعمل فيها بالظنّ الانسدادي ، لانّه إذا جاء الدليل الخاص فلا مجال للعمل بالظنّ الانسدادي.

١٦٧

لأنّه إذا فرض في مسألة وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم.

هذا كلّه مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهيّة وعدم الاعتناء في الكتب الاصوليّة.

فلو كان له أثر شرعيّ ولو في الوهن ، لوجب التعرّض لأحكامه في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في كلّ مورد من موارد الفروع ،

______________________________________________________

وإنّما قلنا : بل يجب (لأنه إذا فرض في مسألة) خاصة (وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة) بسبب القياس.

(فافهم) ولعله إشارة الى انّه يختلف الأمر بين الحكومة : فالقياس مزاحم وموجب لإسقاط الأمارة ، وبين الكشف : فليس القياس بمزاحم لأن العقل لا يرى القياس مزاحما ، بينما الشرع يراه مزاحما.

(هذا كلّه) تقريب للأخذ بالأمارة في قبال القياس (مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهية) سواء كان العامل بالفقه انسداديا أو انفتاحيا (وعدم الاعتناء في الكتب الاصولية) بالقياس.

(فلو كان له) أي : للقياس (أثر شرعي ولو في الوهن) للامارة المقابلة للقياس (لوجب التعرّض لأحكامه) أي : أحكام القياس (في الاصول) بأن يقولوا : انّه حجّة أو ليس بحجة ، وانّه جابر ، أو موهن ، أو ما أشبه ذلك.

(و) لوجب (البحث والتفتيش عن وجوده) أي : عن وجود القياس (في كل مورد من موارد الفروع) بأن يقول ـ مثلا ـ إن خبر أبان في قطع أصابع المرأة موهوم ، لأنّه مخالف للقياس ، أو أن إعطاء الدرهم للودعيين بالتنصيف مخالف للقياس ، أو ما أشبه ذلك ، بينما لم نعهدهم يقولون بمثل ذلك في أي فرع

١٦٨

لأنّ الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب ، وقد تركه أصحابنا في الاصول والفروع ، بل تركوا روايات من اعتنى به منهم وإن كان من المؤسّسين لتقرير الاصول ، وتحرير الفروع ، كالاسكافيّ ، الذي نسب اليه بناء تدوين «اصول الفقه» من الاماميّة منه ومن العمّانيّ يعني ابن ابي عقيل قدس‌سرهما ، وفي كلام آخر : إنّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلّة منهما أيضا ، جزاهما الله وجميع من سبقهما ولحقهما خير الجزاء.

______________________________________________________

من فروع الفقه.

وانّما يجب الفحص (لأن الفحص عن الموهن ، كالفحص عن المعارض واجب) لأنّه مقدمة لحصول الأحكام ، ومقدمة حصول الأحكام واجبة كما ذكروا.

(و) لكن نرى (قد تركه) أي : ترك البحث والتفتيش عن القياس ، وعن ذكر أحكامه (أصحابنا في الاصول والفروع) ممّا يدل على قيام سيرتهم على عدم ملاحظة القياس لا دليلا ، ولا مؤيدا ، ولا موهنا.

(بل تركوا) أي : الاصحاب (روايات من اعتنى به) أي : بالقياس (منهم وإن كان من المؤسسين لتقرير الاصول وتحرير الفروع ، كالاسكافي) وهو : ابن الجنيد (الذي نسب اليه : بناء تدوين «اصول الفقه» من الامامية منه) أي من الاسكافي ، فانّه أول من دوّن في اصول الفقه.

(ومن العماني يعني : ابن أبي عقيل) ، فان العماني شارك الاسكافي في التدوين ، ولهذا عبر عنهما بالقديمين حيث انّهما (قدس‌سرهما) أول من دوّنا في الاصول.(وفي كلام آخر) هذا عطف على قوله : «نسب اليه» : (انّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلة منهما أيضا ، جزاهما الله وجميع من سبقهما ولحقهما خير الجزاء).

١٦٩

ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التقصّي عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه على التكلّم فيما سطرنا هاهنا نقضا وإبراما.

هذا تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة بالظنّ المنهيّ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه.

وأمّا الظنّ الذي لم يثبت إلغاؤه إلّا من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ،

______________________________________________________

هذا ، ولكن أجوبة المسائل وذكر الفتاوى في كتب الأخبار ـ بالمناسبة ـ كان قبلهما أيضا ، وإنّما هما أول من دوّن في الفقه على أسلوب الرسائل العمليّة المتداولة اليوم.

(ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا ـ في التفصيّ عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد ـ من الوجوه) قوله : «من الوجوه» ، متعلق بقوله : «ما ذكرنا» أي : بملاحظة تلك الوجوه تقدر (على التكلم فيما سطرنا هاهنا) في الموهنية (نقضا وإبراما) فانّه كما يستشكل على خروج القياس عن الحجّية الانسدادية ، مع انّه موجب للظنّ ، كذلك يستشكل بأنه كيف لا يكون القياس موهنا ، مع إن الظّن الانسدادي حجّة مطلقا؟ والجواب عن هذا الاشكال في الوهن هو الجواب عن الاشكال في عدم الحجيّة.

(هذا تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة) كالشهرة ونحوها وهنا (بالظنّ المنهي عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه) كالاستحسان ، والرأي ، وما أشبه ذلك.

(وأمّا الظنّ الذي لم يثبت الغاؤه الّا من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ) كالظنّ الحاصل من الجفر ، والرّمل ، والرّؤيا ، وما أشبه ذلك

١٧٠

فلا إشكال في وهنه لما كان من الأمارات اعتبارها مشروطا بعدم الظنّ بالخلاف ، فضلا عمّا كان اعتباره مشروطا بافادة الظنّ.

والسرّ فيه انتفاء الشرط.

وتوهم «جريان ما ذكرنا في القياس هنا من جهة انّ النّهي يدلّ على عدم كونه مؤثرا أصلا فوجوده

______________________________________________________

(فلا إشكال في وهنه) فان مثل هذا الظنّ موهن (لما كان من الأمارات اعتبارها مشروطا بعدم الظّن بالخلاف) لأن مثل هذه الظنّ يوجب فقد الشرط ، وإذا فقد الشرط فقد المشروط الذي هو حجيّة تلك الأمارة (فضلا) في كون مثل هذا الظّن موهنا (عما كان اعتباره مشروطا بافادة الظن).

فاذا اعتبر في حجيّة الشهرة ـ مثلا ـ عدم الظنّ بالخلاف ، وظنّ الشخص بالخلاف من جهة الجفر ـ مثلا ـ ، فانّه لا يمكن العمل بالشهرة ، أما إذا قلنا : بأن حجيّة الشهرة مشروطة بأن يظنّ الانسان وفق الشهرة ، فاذا ظنّ الانسان من الجفر على خلاف الشهرة ، كان سقوط الشهرة عن الحجيّة بطريق أولى.

(والسرّ فيه) أي : في كون الظنّ بالخلاف موهنا (انتفاء الشرط) لفرض : أن الشهرة مشروطة بالظّن بالوفاق أو بعدم الظّن بالخلاف ، وقد فقد الشرط بسبب الظنّ الذي كان على خلاف الشهرة.

(وتوهم جريان ما ذكرنا في القياس) من عدم الوهن فيعمل بالامارة في قبال الظنّ بالخلاف (هنا) أي : في الظنّ الذي لم يثبت الغائه إلّا من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظّن.

وانّما يتوهم جريانه هنا (من جهة ان النهي) عن العمل بالظّن (يدل على عدم كونه مؤثرا أصلا) حتى في الوهن (فوجوده) أي : وجود الظّن الذي لم يثبت

١٧١

كعدمه من جميع الجهات» ، مدفوع.

كما أنّه لا إشكال في عدم الوهنيّة إذا كان اعتبارها من باب الظنّ النوعيّ.

المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر

وقد عرفت أنّه على قسمين : أحدهما ما ورد النهي عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه.

______________________________________________________

الغائه الّا من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظّن (كعدمه من جميع الجهات) فلا يكون مثل هذا الظنّ جابرا ، أو كاسرا ، أو مستندا ، بل يكون كالظنّ القياسي فان هذا التوهم (مدفوع) بالفرق بين القياس المنهي عنه بالخصوص ، وغير القياس الذي لم ينه عنه بالخصوص وانّما لا يعمل به لأنه داخل في إطلاق حرمة العمل بالظّن ، فلا يكون القياس موهنا بينما يكون هذا الظنّ موهنا ، لأن هذا الظّن يوجب فقد الشرط على ما عرفت.

(كما انّه لا إشكال في عدم الوهنية) بالظّن الذي لم يثبت إلغائه إلّا من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ (إذا كان اعتبارها) أي : اعتبار الأمارة المقابلة لهذا الظّن (من باب الظنّ النوعيّ).

وانّما لم يكن إشكال في عدم الوهنية لبقاء شرط اعتبارها مع فقدان الظنّ الفعلي للظنّ بالخلاف ، إذ المفروض : ان الأمارة المذكورة لا تحتاج الى الظنّ الفعلي حتى إذا فقدنا الظنّ الفعلي سقطت عن الحجيّة.

(المقام الثالث في الترجيح بالظنّ غير المعتبر والظنّ غير المعتبر على قسمين) وانّه هل يكون الظنّ غير المعتبر مرجحا لأحد الخبرين على الآخر فيما إذا تعارض خبران أم لا؟ (وقد عرفت : انه) أي : الظنّ غير المعتبر (على قسمين) كما يلي : (أحدهما : ما ورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه) من الاستحسان والرأي.

١٧٢

والآخر ما لم يعتبر ، لأجل عدم الدليل وبقائه تحت أصالة الحرمة.

أمّا الأوّل ، فالظاهر من أصحابنا عدم الترجيح به.

نعم ، يظهر من المعارج وجود القول به بين أصحابنا ، حيث قال في باب القياس : «ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ،

______________________________________________________

(والآخر : ما لم يعتبر لأجل عدم الدليل ، وبقائه تحت أصالة الحرمة) المستفادة من النهي عن العمل بالظّن ، كالرّؤيا ، والجفر ، والرّمل ، وغير ذلك.

(أما الأول) : وهو ما ورد النهي عنه بالخصوص (فالظاهر من أصحابنا : عدم الترجيح به) أي بهذا الظنّ غير المعتبر.

(نعم ، يظهر من المعارج) للمحقق قدس‌سره (وجود القول به) أي : بالترجيح بسبب القياس (بين أصحابنا) الامامية ، (حيث قال في باب القياس : ذهب ذاهب) أي : بعض الفقهاء (الى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك) أي : موافقة القياس (وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر) الموافق للقياس به.

(ويمكن أن يحتج لذلك) أي : لترجيح القياس لأحد الخبرين المتعارضين (: بأن الحق في أحد الخبرين) المتعارضين (فلا يمكن العمل بهما) لتعارضهما (ولا طرحهما) والعمل بشيء ثالث ، لانّا نعلم إنّ الحق في أحدهما (فتعين العمل بأحدهما) فقط (وإذا كان التقدير) أي الفرض (تقدير التعارض) ومقاومة

١٧٣

فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أن لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ، لا بذلك القياس.

______________________________________________________

كل واحد منهما للآخر (فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح) سواء كان مرجحا منصوصا أو غير منصوص.

وعليه : فان لم يكن هناك مرجحات خارجية أو داخلية تصل النوبة الى القياس (و) ذلك لأن (القياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به) والخبر الموافق للقياس نظنّ بكونه مطابقا للواقع (فتعين العمل بما طابقه) القياس.

(لا يقال : أجمعنا) نحن الإمامية (على إنّ القياس مطروح في الشريعة) الاسلامية فكيف تجعلونه مرجحا لأحد الخبرين؟.

(لأنا نقول) طرح القياس (بمعنى : انه ليس بدليل على الحكم) أي : إذا قام القياس على حكم ، لا نعمل به (لا بمعنى أن لا يكون) القياس (مرجّحا لأحد الخبرين) فلا دليل على أنه لا يقع مرجحا ، وانّما الدليل على أنه لا يقع دليلا.

(وهذا) الترجيح بالقياس إنّما هو (لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح) بسبب القياس ، (كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به) أي : بالخبر الراجح (لا بذلك القياس) المرجّح له ، فالخبر المرجوح يسقط بسبب القياس فيبقى الخبر الراجح بلا معارض فنعمل

١٧٤

وفيه نظر» ، انتهى.

ومال الى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين قدس‌سرهم ، بعض الميل.

والحقّ خلافه ، لأنّ دفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، فانّه لو لا القياس كان العمل به جائزا ، والمقصود تحريم العمل به ،

______________________________________________________

بهذا الخبر الراجح.

(وفيه :) أي : فيما ذهب إليه الذاهب من ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بسبب القياس (نظر) (١) لأن طرح القياس في الشريعة معناه : انّه لا اعتناء به إطلاقا ، لا سندا ، ولا مرجحا ، ولا موهنا.

هذا بالاضافة إلى انّه لو كان القياس مرجحا ، لتعرّض له الفقهاء في مقام التراجيح ، بينما نرى انّهم لا يتعرضون للقياس إطلاقا.

(انتهى) كلام المحقق في المعارج.

(ومال الى ذلك) أي : الترجيح بسبب القياس (بعض سادة مشايخنا المعاصرين قدس‌سرهم بعض الميل) أيضا.

(و) لكن (الحق خلافه) فلا يكون القياس مرجحا (لأن دفع الخبر المرجوح بالقياس) قوله : «بالقياس» ، متعلق بقوله : «دفع الخبر» ، هو (عمل به) أي : بالقياس (حقيقة).

وانّما كان عملا به حقيقة لما بيّنه لقوله (فانّه لو لا القياس ، كان العمل به) أي : بالخبر المرجوح (جائزا) لأنه يكون حينئذ تخيير بين الأخذ بأحد الخبرين (والمقصود) من الترجيح بالقياس (تحريم العمل به) أي : بالخبر المرجوح

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ١٨٦.

١٧٥

لأجل القياس ، وأيّ عمل أعظم من هذا.

والفرق بين المرجّح والدليل ليس إلّا أنّ الدليل مقتض لتعيين العمل به والمرجّح رافع للمزاحم عنه. فلكلّ منهما مدخل في العلّة التامّة لتعيّن العمل به.

فاذا كان استعمال القياس محظورا وأنّه لا يعبأ به في الشرعيّات كان وجوده كعدمه غير مؤثّر ،

______________________________________________________

تحريما (لأجل القياس ، وأيّ عمل أعظم من هذا) فان جواز العمل بالمرجوح سقط بسبب القياس وهذا عين العمل بالقياس.

(والفرق بين المرجح والدليل ليس إلّا : أنّ الدليل مقتض لتعيين العمل به) أي : بالراجح (والمرجّح : رافع للمزاحم عنه) أي : عن الراجح (فلكل منهما) أي : من المرجح والدليل (مدخل في العلّة التامة لتعيّن العمل به) أي : بالراجح ، فاذا قال خبر : «ثمن العذرة سحت» (١) وقال خبر آخر : «لا بأس ببيع العذرة» (٢) فانّه لا فرق بين أن يكون القياس دليلا على «لا بأس ببيع العذرة» ومرجحا ل «لا بأس ببيع العذرة» حيث يسقط بالقياس خبر : «ثمن العذر سحت».

(فاذا كان استعمال القياس محظورا) في الشريعة (وإنّه لا يعبأ به) أي : بالقياس (في الشرعيّات) إطلاقا كما يقتضي دليل حرمة العمل بالقياس (كان وجوده) أي : وجود القياس (كعدمه غير مؤثر) لا في الاقتضاء ولا في رفع المانع.

__________________

(١) ـ تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ وح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

١٧٦

مع أنّ مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظنّ كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ، فيشترك مع الدليل المنضمّ إليه في الاقتضاء.

هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ.

وأمّا على مذهبهم : فيكون القياس تمام المقتضي بناء على كون الحجّة عندهم الظنّ الفعليّ ، لأنّ الجزء المنضمّ إليه

______________________________________________________

والحاصل من إشكال الترجيح بالقياس امور :

أوّلا : إن القياس إذا دفع المزاحم كان عملا به.

ثانيا : إن القياس إذا كان مرجحا ، كان جزء المقتضي لا مجرد دفع المزاحم.

والى هذا الثاني اشار بقوله : (مع إن مقتضى الاستناد في الترجيح به) أي : بالقياس (الى إفادته للظّن ، كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم) وقوله : «الى إفادته» ، متعلق بقوله : «الاستناد» (فيشترك) القياس (مع الدليل المنضم اليه) أي : الدليل الذي رجحناه بسبب القياس (في الاقتضاء) قوله : «في» ، متعلق بقوله : «يشترك» ، فيكونا جزئيّ مقتض : جزء هو الخبر ، وجزء هو القياس الذي انضم الى الخبر.

ثمّ أن المصنّف اشار الى إشكال ثالث بقوله : (هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ ، وأمّا على مذهبهم : فيكون القياس تمام المقتضي) لا جزء المقتضي (بناء على كون الحجّة عندهم) أي : عند هؤلاء القائلين بمطلق الظنّ هو (: الظّن الفعليّ).

وانّما يكون القياس على قولهم : تمام المقتضي (لأنّ الجزء المنضم اليه)

١٧٧

ليس له مدخل في حصول الظنّ الفعليّ بمضمونه.

نعم ، قد يكون الظنّ مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المقتضي ، فتأمّل.

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه

______________________________________________________

القياس وهو الخبر (ليس له مدخل في حصول الظنّ الفعلي بمضمونه) أي : بمضمون الخبر وإنّما المدخلية كلها للقياس.

والحاصل : انّه إذا تعارض خبران فكلّ واحد من الخبرين لا ظنّ بمضمونه ، فلا وجه للعمل به ، فاذا وافق القياس أحد الخبرين وعمل بذلك الموافق ، كان معناه : انا عملنا بالقياس ، فكان القياس كل المقتضي ، إذ القياس هو الذي اقتضى الظّن ، والمفروض : إنّ هؤلاء القائلين يعملون بمطلق الظّن فيكون عملهم بالقياس فقط ، فلا يكون القياس جزء المقتضي ، وإنمّا يكون كلّ المقتضي.

(نعم) وهذا استثناء من قوله هذا كلّه (قد يكون الظنّ مستندا إليهما) أي : الى القياس ، والى الخبر المنضم إليه القياس (فيصير) القياس (من قبيل جزء المقتضي) لا كل المقتضي.

(فتأمّل) لعله إشارة الى إنّ كلا من الخبرين مقتض للظنّ الفعلي ، لكن تساويهما وتعارضهما مانع عن حصول الظنّ الفعلي ، فالظنّ القياسي يرفع هذا المانع عن الخبر الموافق له ، فيحصل الظنّ الفعلي بسبب القياس ، فيكون كل واحد من الخبر والقياس جزءا من المقتضي ، لا كلّ المقتضي الذي ذكرناه في قولنا : «هذا كله على مذهب غير القائلين بمطلق الظن ...».

(ويؤيّد ما ذكرنا) : من عدم كون القياس مرجحا (بل يدل عليه :

١٧٨

استمرار سيرة أصحابنا الاماميّة «رضوان الله عليهم» في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسيّ أحيانا فضلا عن أن يتوقّفوا في التخيير بين الخبرين مع عدم مرجّح آخر أو الترجيح بمرجّح موجود إلى أن يبحثوا عن القياس.

كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان مباحث القياس والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّية.

______________________________________________________

استمرار سيرة أصحابنا الامامية رضوان الله عليهم في الاستنباط ، على هجره) أي : هجر القياس (وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسي أحيانا) فانهم أحيانا يحصل لهم الظّن من القياس ، ومع ذلك لا يعملون به ، ممّا يدل على أنّهم لا يجعلون القياس مرجحا ، كما لا يجعلونه دليلا.

(فضلا عن ان يتوقفوا في التخيير بين الخبرين مع عدم مرجّح آخر ، أو الترجيح بمرجّح موجود) توقفا (إلى أن يبحثوا عن القياس).

و (كيف) يكون عندهم القياس مرجحا؟ (ولو كان كذلك) أي : كان القياس مرجحا (لاحتاجوا الى عنوان مباحث القياس) بأن يعنونوا القياس في مباحثهم الاصولية ، كما عنونوا الخبر الواحد ، والظواهر ، والاجماع ، وما أشبه ذلك.

(والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّية) بأن يبحثوا عن القياس بالمباحث التي يقتضي القياس البحث عنها على تقدير حجّيته ، مثل مبحث أن يكون القياس سندا ، ومبحث أن يكون القياس مرجحا ، ومبحث أن يكون القياس موهنا ، ومبحث تعارض القياسين وانّه إذا تعارضا ما ذا يعمل معهما الى غير ذلك ، فحيث رأيناهم قد هجروا عنوان القياس ومباحثه ، دلّ على إنّ القياس مطروح عن الاعتبار في الشريعة مطلقا ، حتى عن كونه مرجّحا لأحد الخبرين.

١٧٩

وأمّا القسم الآخر ، وهو الظنّ الغير المعتبر ، لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل ، فالكلام في الترجيح به يقع في مقامات.

الأوّل : الترجيح به في الدلالة بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين ، كما في العامّين من وجه وأشباهه. وهذا لا اختصاص له بالدليل الظنّيّ السند ، بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة.

______________________________________________________

(وأما القسم الآخر) وهذا عطف على قوله قبل صفحة : «المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر وقد عرفت انّه على قسمين» ، ثم ذكر القسم الاول بقوله : «أحدهما : ما ورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه» ، وهنا ذكر القسم الثاني (و) قال : (هو الظنّ غير المعتبر لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل) بالظنّ حسب ما يستفاد من الأدلة الأربعة (فالكلام في الترجيح به) أي : بهذا الظنّ غير المعتبر (يقع في مقامات) على النحو التالي :

(الأوّل : الترجيح به في الدلالة) وذلك (بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين ، كما في العامّين من وجه) حيث إنّ في مورد الاجتماع يكون لكل واحد من الدليلين ظهور فيه ، فيأتي ظنّ غير معتبر ، كالرّؤيا ، والجفر ، ونحوهما ، لترجيح أحد العامّين في مورد الاجتماع.

(وأشباهه) كظهور الأمر في الوجوب ، وظهور ينبغي في الاستحباب وظهور النهي في الحرمة ، وظهور لا ينبغي في الكراهة ، الى آخر هذه الظهورات.

(وهذا) القسم وهو : الترجيح بالظّن غير المعتبر في الدلالة (لا اختصاص له بالدليل الظّني السند) كخبري الواحد (بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة) فاذا فرض تعارض الظهور في آيتين ، أو تعارض الظهور في روايتين متواترتين ، يقع الكلام في أنّه هل يرجّح أحد الدلالتين على الآخر بسبب الظنّ غير المعتبر ، أم لا؟.

١٨٠