الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-06-6
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وأصالة الوقوع فيما شكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، فلا يقع الكلام فيها إلّا بمناسبة يقتضيها المقام.

______________________________________________________

(وأصالة الوقوع) التي تسمّى : بأصل التجاوز ، وأصل الفراغ ، حيث انّ الانسان إذا فرغ عن العمل ، وشك في أنّه هل أتى به صحيحا أم لا؟ يحكم بأصل الفراغ وانّه أتى به صحيحا.

وكذلك إذا تجاوز عن محل في الصلاة ونحوها ، وشكّ في انّه هل أتى بذلك الجزء ـ مثلا ـ ، يحكم بالصحة لأصل التجاوز.

والفرق بين : أصل الصحة ، وأصل التجاوز ، وأصل الفراغ ، مذكور بالتفصيل في «الفقه».

اما المصنّف فقد ذكر أصل التجاوز وأصل الفراغ بلفظ واحد وسماهما : أصالة الوقوع ، وهي تجري (فيما شك فيه بعد تجاوز المحلّ) سواء كان التجاوز داخل العمل ، كما لو شك وهو في الركوع : بانّه هل قرء الحمد أم لا؟ وفي السجود بانّه هل ركع أم لا؟ أو كان بعد تمام العمل ، كما إذا أتمّ الصلاة وشك في أنه هل أتى بالركوع أم لا ـ مثلا ـ (فلا يقع الكلام فيها) أي : في هذه الاصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع (إلّا بمناسبة يقتضيها المقام) استطرادا.

ولهذا لا نذكر أصل الطهارة ، أو أصل الحلّية ، أو ما أشبه ذلك هنا ، لأن موضع هذه الاصول والتي تسمّى : بالقواعد الفقهية ، في الفقه ، وقد سبق الالماع الى سبب ذلك في أوّل الكتاب ، فلا داعي الى تكراره.

وكيف كان : فليس التكلم حول غير هذه الاربعة من الاصول في هذا الكتاب إلّا من باب الاستطراد ، فانّ وظيفة الاصول هي البحث عن الشبهات الحكمية الكلّية والتي هي منحصرة في هذه الأربعة.

٢٨١

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الاصول الأربعة عقليّ ، لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ.

______________________________________________________

(ثم إنّ انحصار موارد الاشتباه) والشك ، بأن لم يكن للمكلّف علم ، أو ظنّ يقوم مقام العلم ، بهذا الجانب أو ذلك الجانب (في الاصول الأربعة) :

الاستصحاب ، والبراءة ، والتخيير ، والاحتياط (عقلي) فانّ الحصر العقلي هو الحصر الذي يدور بين النفي والاثبات ، وموارد هذه الاصول الأربعة دائرة بين النفي والاثبات ـ كما سبق في أول الكتاب ـ.

هذا ، وقد أوضح الحصر بقوله : (لأنّ حكم الشّك : إمّا ان يكون ملحوظا فيه اليقين السّابق عليه) أي : على الشّك ، بأن كان الشارع حكم باجراء حكم اليقين السابق في اللاحق المشكوك فيه ، كما إذا تيقن بالطهارة وشكّ في انّه هل ارتفع بسبب نوم حصل له أو لم يرتفع ، لأنّ النوم لم يكن غالبا على سمعه وبصره ، فانّه يستصحب الطهارة ، وكذلك في الأحكام الكلّية.

(وإمّا أن لا يكون) ملحوظا فيه اليقين السابق (سواء لم يكن يقين سابق عليه) أصلا ، مثل الشك في أنّ التتن حرام أم لا ، فانّه لا يقين سابق لحرمة التتن وعدم حرمته ، أو مثل تعاقب حالتين سابقتين : الحدث والطهارة ، والآن في الحالة الثالثة لا يعلم هل الطهارة كانت متقدّمة ، أو الحدث كان متقدما حتى يستصحبه؟.

(أم كان ولم يلحظ) بأن كان هناك يقين سابق وشك لا حق ، لكن اليقين السابق لم يكن ملحوظا ، كالشك في المقتضي عند المصنّف على ما يأتي ، فانّ المصنّف لا يجري الاستصحاب في الشك في المقتضي ، أو كالمثال المتقدّم :

٢٨٢

والأوّل : مورد الاستصحاب.

والثاني : إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكنا ام لا ، والثاني هو مورد التخيير ،

______________________________________________________

من الماء الكثير الذي تنجس بالتغيير ثم زال تغيّره من نفسه ، حيث إنّ المشهور يستصحبون حالة النجاسة ، خلافا لبعض الفقهاء الذين لا يقولون بالاستصحاب ، مدّعين : انّ التغيير كان سبب النجاسة ، فاذا زال السبب زال المسبب.

(والأوّل : هو مورد الاستصحاب) سواء كان الشك في التكليف أو في المكلّف به ، أمكن الاحتياط أو لم يمكن ، وسواء كان في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية ، في الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي.

(والثّاني :) وهو ما لم يلحظ فيه الحالة السابقة ، سواء كان هناك يقين أم لم يكن ، فهو (إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكنا) كالجمع بين الطرفين الذين أحدهما واجب فقط ، أو أحدهما حرام فقط ، أو أحدهما واجب والآخر حرام.

(أم لا) بأن لم يكن الاحتياط فيه ممكنا وذلك فيما إذا دار أمر شيء بين الوجوب والتحريم ، كما إذا لم يعلم انّه نذر وطي زوجته في ليلة الجمعة أو ترك وطيها ، أو انّه شك في انّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة واجبة أو حرام.

(والثاني :) وهو ما لم يمكن فيه الاحتياط ، فانه (هو مورد التخيير) فاذا لم يعلم : انّ صلاة الجمعة واجبة أو حرام ، تخيّر بين الاتيان بها وتركها ، أو اذا لم يعلم : انّ الزوجة محلوفة الوطي أو الترك تخيّر في وطيها وتركه إذ لا علاج غير ذلك.

٢٨٣

والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ موارد الاصول قد تتداخل ، لأنّ المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة ، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.

______________________________________________________

(والأوّل) وهو : ما أمكن فيه الاحتياط ، فهو (: امّا ان يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول) وهو ما يعبّر عنه : بالشك في المكلّف به ، لأن التكليف محرز ، وإنّما المكلّف به غير ظاهر ، فلا يعلم ـ مثلا ـ هل إنّه نذر أن يصوم أول رجب ، أو أول شعبان؟.

(وإمّا أن لا يدلّ) دليل عقلي أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول.

(والأوّل : مورد الاحتياط) فاذا كان الأمر دائرا بين أحد واجبين أتى بهما ، أو أحد محرّمين تركهما ، أو واجب ومحرّم فعل الواجب وترك المحرّم ، كما إذا علم انّه نذر أما أن يشرب الشاي ، أو أن يترك التبغ ، فانّه يجب عليه أن يشرب الشاي ويترك التبغ.

(والثاني : مورد البراءة) فاذا شك في انّه هل يجب عليه دعاء رؤية الهلال أم لا ، تمسك بالبراءة في عدم الوجوب ، وإذا شك في انّه هل يحرم عليه التبغ أم لا ، تمسك بالبراءة في عدم الحرمة عليه (وقد ظهر ممّا ذكرنا : انّ موارد الاصول قد تتداخل) بأن يكون مورد واحد موردا للاستصحاب وللبراءة ـ مثلا ـ وذلك (لأن المناط في الاستصحاب : ملاحظة الحالة السّابقة المتيقنة ، ومدار الثلاثة الباقية) من الاصول (على عدم ملاحظتها وان كانت موجودة) فيمكن أن يكون لشيء

٢٨٤

ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين :

أحدهما : حكم الشكّ في الحكم الواقعيّ من دون ملاحظة الحالة السابقة ، الراجع إلى الاصول الثلاثة.

الثاني : حكمه بملاحظة الحالة السابقة ، وهو الاستصحاب.

______________________________________________________

واحد حالة سابقة يرى بعض بسبب تلك الحالة جريان الاستصحاب ، ويرى بعض عدم الجريان لعدم ملاحظته الحالة السابقة ، فيجري فيه البراءة.

كما في مثال الماء المتغير ، الذي زال تغيره من نفسه ، حيث ان المشهور يستصحب حالة النجاسة ، وغير المشهور يقول : انّا نشكّ في نجاسة هذا الماء بعد زوال التغيّر ، فنجري البراءة ، فلا تكليف لنا بالنسبة الى تطهير ما لاقى هذا الماء.

وكذا الشك في المقتضي عند من لا يرى جريان الاستصحاب فيه ، فيتمسك بالاصول الأخر الجارية في المقام ، بينما جملة من الاصوليين يرون جريان الاستصحاب فيه ، لعدم الفرق عندهم بين الشّك في المقتضي والشّك في المانع ، وعلى كل فالأمر في المثال سهل.

(ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه) أي : باشباع الكلام (في مقامين) على ما يلي :

(أحدهما : حكم الشّك في الحكم الواقعيّ) للمكلّف (من دون ملاحظة الحالة السّابقة ، الراجع) حكم هذا الشك غير الملحوظ فيه الحالة السابقة (الى الاصول الثلاثة) : التخيير ، والاحتياط ، والبراءة.

(الثاني : حكمه) أي : حكم الشّك (بملاحظة الحالة السّابقة ، و) ذلك الحكم (هو الاستصحاب) حيث يلاحظ في الاستصحاب الحالة السابقة ، بخلاف :

البراءة ، والتخيير ، والاحتياط ، فانّه لا يلاحظ فيها الحالة السابقة.

٢٨٥

أمّا المقام الأوّل :

فيقع الكلام فيه في موضعين.

لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف ، وهو النوع الخاصّ من الالزام وإن علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم.

وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ،

______________________________________________________

المقام الأوّل :

(أمّا المقام الأوّل :) وهو حكم الشّك من دون لحاظ الحالة السابقة (فيقع الكلام فيه في موضعين) أيضا :

الأوّل : مبحث الشكّ في التكليف ، بان لم يعلم المكلّف هل كلّف بشيء أم لا ، كما إذا لم يعلم انّه هل كلّف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبحرمة التبغ ، أم لا؟.

الثاني مبحث الشك في المكلّف به ، بأن علم بالتكليف ، لكنّه لم يعلم إنّ «المكلّف به» هل هو هذا أو هو ذاك؟ كما تقدّم بيانه والى الأوّل أشار المصنّف بقوله : (لانّ الشّك إمّا في نفس التكليف وهو : النّوع الخاصّ من الالزام وإن علم جنسه) أي : جنس التكليف وهو : الالزام ، لأنّه قد يعلم الانسان الوجوب المردد بين شيئين أو يعلم التحريم المردد بين شيئين ، وقد يعلم الالزام ، لكنّه لا يعلم هل هو إلزام وجوبي في هذا الطرف ، أو تحريمي في الطرف الآخر؟ (كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم).

ثم أشار الى الثاني بقوله : (وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه) أي بنفس التكليف ، بأن علمنا التكليف ، لكنّا لا نعلم هل هو متعلق بهذا الشيء أو بذاك

٢٨٦

كما إذا علم وجوب شيء وشكّ بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتة وتردّد بين الظهر والمغرب.

والموضع الأوّل :

يقع الكلام فيه في مطالب ، لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ،

______________________________________________________

الشيء؟ (كما إذا علم وجوب شيء وشك بين تعلقه بالظهر والجمعة) فانّ التكليف هنا معلوم وهو : الوجوب ، لكن متعلقه مجهول ، وهذا مثال للشبهة الحكميّة (أو علم وجوب) قضاء صلاة (فائتة ، وتردّد بين الظهر والمغرب) فانّه علم بفوت صلاة ، لكنّه لا يعلم هل الفائت ظهر أو مغرب؟ فهذه شبهة موضوعية.

الموضع الأوّل :

(والموضع الأوّل) وهو : مبحث الشك في التكليف فانّه (يقع الكلام فيه في مطالب) ثلاثة ، وأمّا الموضع الثاني وهو : الشك في المكلّف به ، فسيأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

وإنما كان الكلام في الشك في التكليف في مطالب ثلاثة (لأنّ التكليف المشكوك فيه : إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب) بأن شككنا في انّه هل هو حرام أم لا؟ كالشك في حرمة التتن.

(وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم) بأن شككنا في أنّه هل هو واجب أم لا ولم نحتمل الحرمة ، كالشك في إنّ الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجب أم لا؟ (وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب) كما إذا كان هناك احتمالان : احتمال الوجوب ، واحتمال

٢٨٧

وصور الاشتباه كثيرة.

وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالالزام

______________________________________________________

الحرمة ، كالشّك في وجوب ردّ السلام على المصلّي إذا سلّم عليه طفل أو مجنون فهل هو واجب أو حرام؟.

(وصور الاشتباه كثيرة) ترجع أهمها الى سبع صور : الشبهة بين الوجوب وبين كل من الأحكام الثلاثة : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة.

والشبهة بين الحرمة وبين كل من الأحكام الثلاثة : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة.

والشبهة بين الوجوب والتحريم.

ففي الستة الاولى : الحكم البراءة.

وفي الأخيرة : الحكم التخيير ، إذا كان في أمر واحد كما إذا لم يعلم بأنّ صلاة الجمعة واجبة أو محرمة؟ والاحتياط بالجمع ، إذا كان بين أمرين ، كما إذا لم يعلم هل نذر شرب الشاي أو نذر ترك التبغ؟ ولا مناقشة في الأمثال وإنّما المهم الالماع إلى الحكم في الجملة.

(وهذا) أي : حصر العنوان في الثلاثة : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير ، والظاهر : أنّ الكلام الآتي يجري في الاستصحاب أيضا ، فانّه إذا كان شيء مستحبا ، ثم شكّ في بقاء الاستحباب وعدمه استصحب بقائه ، وكذا إذا شكّ في بقاء الكراهة (مبني على اختصاص التكليف بالالزام) أي : الواجب والحرام فقط.

وذلك ان مقتضى أدلة البراءة هو : رفع الكلفة والمشقّة المحتملة بالنسبة

٢٨٨

أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ،

______________________________________________________

الى الالزام ، مثل قوله : «رفع ما لا يعلمون» (١) وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٢).

ومقتضى أدلة الاحتياط هو : ثبوت الكلفة والمشقة المحتملة مثل قوله : «اخوك دينك فاحتط لدينك» (٣) وما أشبه ذلك من الأدلة.

ومن المعلوم : إنّ رفع الكلفة واثباتها انّما يكون في الوجوب والحرمة لترتب العقاب على مخالفتهما ، امّا الاستحباب والكراهة فلا كلفة فيهما لعدم العقاب على المخالفة ، فيحكم بجواز كل من الفعل والترك فيما اذا شك في شيء انه مستحب أو ليس بمستحب ، أو مكروه أو ليس بمكروه ، أو مستحب أو مكروه في الدوران بين هذين الراجحين فعلا وتركا ، ولا يحتاج إلى اجراء البراءة ، أو الاستصحاب أو التخيير ، أو الاحتياط.

(أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به) أي : بالالزام ، بمعنى : إنّا وإن سلّمنا إنّ أدلة الطرفين تجري في الاستحباب والكراهة لإطلاق تلك الأدلة فان الادلة ليست كلّها دالة على رفع العقاب ، وإنّما بعضها أعم مثل : «رفع ما لا يعلمون» (٤) وما أشبه ذلك ، إلّا أنّ كلامنا في مبحث اختلاف العلماء ،

__________________

(١) ـ التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، تحف العقول ص ٥٠ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩ ، الاختصاص : ص ٣١ ، الخصال : ص ٤١٧.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ١٥.

(٣) ـ الأمالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، الأمالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

(٤) ـ تحف العقول : ص ٥٠ ، الخصال ص ٤١٧ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩ ، الاختصاص : ص ٣١.

٢٨٩

فلو فرض شموله للمستحبّ والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ، فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

ثمّ متعلّق التكليف المشكوك :

إمّا أن يكون فعلا كلّيّا متعلّقا للحكم الشرعيّ الكلّيّ ، كشرب التتن المشكوك في حرمته ، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه.

وإمّا أن يكون فعلا جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئيّ ،

______________________________________________________

واختلاف العلماء إنّما هو بالنسبة الى التكاليف الالزاميّة.

(فلو فرض شموله) أي : شمول التكليف وشمول نزاع العلماء (للمستحب والمكروه) فلا حاجة الى التكلم فيهما أيضا ، لأنّه (يظهر حالهما من الواجب والحرام) فانّ الشبهة الاستحبابية كالشبهة الوجوبية في أدلّة البراءة ، وكذلك الشبهة الكراهية كالشبهة التحريمية ، فانّ التقرير في الوجوب والحرمة يأتي في المستحب والمكروه أيضا (فلا حاجة الى تعميم العنوان) ليشمل غير الالزام.

(ثم) إنّ (متعلق التكليف المشكوك) أي : موضوع التكليف المشكوك قد يكون من الشبهة الحكمية كما قال : (امّا أن يكون فعلا كليّا متعلقا للحكم الشّرعي الكلّي ، كشرب التتن المشكوك في حرمته) فانّ شرب التتن فعل كلّي له أفراد كثيرة ، وله حكم كلي هو : الحرمة أو الاباحة (والدّعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه) فانّ الدعاء فعل كليّ ، وله حكم كليّ : الوجوب أو الاستحباب ـ مثلا ـ وقد يكون من الشبهة الموضوعية كما قال : (وإمّا أن يكون فعلا جزئيا متعلقا للحكم الجزئي) لوضوح : إنّ الموضوع إذا كان جزئيا كان له حكم جزئي ، كما أنّه

٢٩٠

كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا.

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني اشتباه الامور الخارجيّة.

ومنشؤه في الأوّل إمّا عدم النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمال النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ ،) بين التشديد والتخفيف مثلا ،

______________________________________________________

إذا كان الحكم جزئيا كان له موضوع جزئي ، لعدم معقولية أن يكون أحدهما كليا والآخر جزئيا (كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا) فانّ هذا المائع شيء جزئي ، وله حكم جزئي هو : الحرمة أو عدمها.

(ومنشأ الشك في القسم الثاني) أي : الشبهة الموضوعيّة (اشتباه الأمور الخارجيّة) ممّا لا يرتبط بالشارع ، كالمائع يشتبه بأنّه خمر أو ماء ، والثوب يشتبه بانّه مغصوب أو مباح ، الى غير ذلك ، حتى إنّا إذا استطرقنا باب الشارع في انّ هذا هل هو خمر أم لا؟ أو غصب أم لا؟ أجاب : ارجعوا إلى الموازين العرفية ، لأنّ العرف هو المرجع في أمثال هذه الامور ، وإن قال : انّه خمر أو ماء ، أو انّه غصب أو ليس بغصب ، فانّما يقوله لا بما إنّه مشرّع.

(ومنشؤه في الأوّل :) أي الشبهة الحكميّة ثلاثة أمور :

(امّا عدم النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن) حيث لا نصّ فيه.

(وإمّا أن يكون إجمال النّص ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) بين التشديد والتخفيف ـ مثلا ـ) فانّ بعضهم قرأ «يطّهّرن» ، وبعضهم قرأ (يَطْهُرْنَ) ، فاذا قرء بالتخفيف كان معناه : النظافة من الحيض وإن لم تغتسل ،

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٢٩١

وإمّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات.

وتوضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب :

______________________________________________________

وإن قرء بالتشديد كان معناه : لزوم الاغتسال ممّا يوجب تحريم الوطي قبل الاغتسال وإن طهرت من الدم.

(وامّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه) أي من تعارض النصين (الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات) السبع ، أو العشر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو جواز الاستدلال بكلّ قراءة.

لكنّا ذكرنا في أول الكتاب ، وفي بحث القرآن الحكيم : إنّ تواتر القراءات شيء لا يمكن القول به وإن ذهب اليه بعض الفقهاء ، بل القرآن من زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى زماننا هذا لم يتغير ولم يتبدل عن هذه القراءة المشهورة ، وقد رأيت قرائين كتبت قبل ألف سنة كانت مثل القرآن المتعارف عندنا الآن في البلاد الاسلامية ، لا تزيد نقطة ولا حرفا ولا حركة ولا سكونا ولا تنقصها أيضا.

وعلى أي حال : فاذا صار «يطهرن» مجملا بأن لم يعلم إنّ الوطي قبل الاغتسال محرم أم لا ، لانّه لم يعلم انّ القراءة بالتخفيف أو بالتشديد ، وكانت إحدى القراءتين صحيحة والقراءة الثانية غير صحيحة ، أو تعارضت القراءتان كتعارض الخبرين ، لأن إحداهما بالتخفيف ومعناه : الحلية قبل الاغتسال ، والاخرى بالتشديد ومعناه : عدم الحلية قبل الاغتسال ، كان من الشبهة التحريميّة ، حيث يقول الاصوليون فيها بالبراءة ، والاخباريون بالاحتياط.

(وتوضيح أحكام هذه الأقسام) التي ذكرناها يتمّ (في ضمن مطالب) ثلاثة :

٢٩٢

الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية.

الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم.

الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والتحريم.

المطلب الأوّل :

فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب.

وقد عرفت أنّ متعلّق الشكّ ، تارة : الواقعة الكلّيّة ،

______________________________________________________

(الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية) : الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ، وذلك في الشبهة التحريمية ، بأن لم تعلم هل إنّ حكم الشيء الفلاني ـ مثلا ـ حرام أو مكروه ، حرام أو مستحب ، حرام أو مباح؟.

(الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم) من الأحكام الثلاثة ، أيضا وذلك في الشبهة الوجوبية.

(الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والتحريم) من غير فرق في كلّ ذلك بين الشبهة الموضوعيّة أو الشبهة الحكميّة ، كما إنّ الشبهة الحكميّة ، قد تكون من فقدان النصّ ، وقد تكون من إجمال النصّ ، وقد تكون من تعارض النصين.

المطلب الأوّل :

أمّا (المطلب الأوّل) اي : الشبهة التحريمية فهو : (فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب) من الأحكام الثلاثة الأخر.

(وقد عرفت : انّ متعلّق الشك تارة الواقعة الكليّة) الشرعية من الشبهة

٢٩٣

كشرب التتن ، ومنشأ الشكّ فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه ، وأخرى : الواقعة الجزئيّة.

فههنا أربع مسائل :

الأولى : ما لا نصّ فيه

وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين :

أحدهما : إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك.

والثاني : وجوب الترك ويعبّر عنه بالاحتياط.

______________________________________________________

الحكمية (كشرب التتن ، ومنشأ الشّكّ فيه عدم النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، وأخرى الواقعة الجزئية) الخارجية من الشبهة الموضوعية مثل : كون هذا المائع ماء أو خمرا (فههنا) أي : في الشبهة التحريميّة (أربع مسائل) كما يلي :

(الاولى : فيما لا نصّ فيه ، وقد اختلف فيه) العلماء (على ما يرجع الى قولين) وإن كانت الأقوال أكثر ، لكن بعض تلك الأقوال ليس محط الاعتناء :

(أحدهما : إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك) فكلما شككنا في شيء إنّه حرام أو ليس بحرام ، أجرينا فيه الاباحة.

(والثاني : وجوب التّرك ويعبّر عنه : بالاحتياط) ومأخوذ من قوله عليه‌السلام :

«تأخذ بالحائطة لدينك» (١) وقوله : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (٢).

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٥٩ ب ١٣ ح ٦٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢٦٤ ب ١٤٩ ح ١٣ ، وسائل الشيعة : ج ٤ ص ١٧٧ ب ١٦ ح ٤٨٤٠ وج ١٠ ص ١٢٤ ب ٥٢ ح ١٣٠١٥.

(٢) ـ الامالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، الامالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

٢٩٤

والأوّل منسوب الى المجتهدين ، والثاني الى معظم الاخباريين ، وربما نسب إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقف ، والاحتياط ، ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان. ويحتمل الفرق بينها وبين بعضها من وجوه أخر تأتي بعد ذكر أدلّة الأخباريّين.

______________________________________________________

(والأوّل :) وهو : البراءة وتسمى بالاباحة أيضا (منسوب الى المجتهدين) الذين يجعلون القواعد العامّة أساسا للأحكام الشرعيّة ، وتلك القواعد مستفادة من : الكتاب والسنّة ، والاجماع ، والعقل.

(والثاني) وهو : الاحتياط ، منسوب (الى معظم الأخباريين) الذين يرون العمل بالأخبار فقط ، حيث يقولون بأن ظواهر القرآن ليست بحجّة ، والاجماع كذلك لا دليل على حجيته ، والعقل انّما يحكم في اصول الدين لا في فروعه.

(وربّما نسب اليهم) أي : الى الاخباريين (أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقف ، والاحتياط ، ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان) فحيث إنّ العناوين في الأخبار مختلفة ، ففي بعض الأخبار : «قف» وفي بعض الأخبار : «احتط» ، وفي بعض الأخبار : «اجتنب» ، الظاهر في التحريم الظاهري ، وفي بعض الأخبار : «النهي عن العمل» الظاهر في التحريم الواقعي ، ذهب كلّ الى عنوان من هذه العناوين ، فليس اختلافهم إلّا اختلافا في التعبير لا في المذهب والغرض (ويحتمل الفرق) المعنوي (بينها) أي : بين هذه الأقوال جميعا (و) يحتمل الفرق (بين بعضها) كالحرمة الظاهرية ، والواقعيّة (من وجوه أخر) غير مجرد اختلاف العناوين التي ذكرناها وهي (تأتي بعد ذكر أدلة الاخباريين) إنشاء الله تعالى.

٢٩٥

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة :

فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها.)

قيل : دلالتها واضحة.

______________________________________________________

مثلا : القائل منهم بالحرمة الظاهرية يقول : ليس محرّما واقعا ، بينما القائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّ الشارع جعله حراما واقعا كحرمة شرب الخمر ولحم الخنزير.

والقائل بالتوقف يقول : لا نعلم حكمه ولذا نتوقف عن الحكم ، بينما القائل بالاحتياط يقول : إنّ محل الشبهة يحكم فيه بالحائطة ، دون أن يكون حراما ظاهرا ، أو واقعا ، ولا انّه يتوقف فيه من جهة الجهل ، حاله حال أطراف المحل المخطور في الخارج ، كبئر ، أو حيوان ، أو ما أشبه ، حيث يحتاط بعدم الاقتراب منه حذرا من الوقوع في الخطر ، لا أنّه حرام بنفسه واقعا ، أو ظاهرا ، أو محل توقف من جهة الجهل.

هذا ، وقد (احتجّ) الاصوليون (للقول الأوّل) وهو البراءة (بالأدلة الأربعة) : الكتاب ، والسنّة والاجماع ، والعقل.

(فمن الكتاب آيات ، منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١)) أي : أعطاها (قيل) والقائل المحقق النراقي في كتابة مناهج الاصول (دلالتها) أي : دلالة الآية على البراءة (واضحة) بتقريب انّه حيث لم يعطينا الله العلم بانّ

__________________

(١) ـ سورة الطلاق : الآية ٧.

٢٩٦

وفيه : أنّها غير ظاهرة ، فانّ حقيقة الايتاء الاعطاء.

فامّا أن يراد بالموصول المال ، بقرينة قوله تعالى قبل ذلك : (مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ.)

______________________________________________________

هذا الشيء حرام فهو لا يريد الحرمة منا ولا يكلّفنا بالحرم.

(وفيه : انّها غير ظاهرة) في الدلالة على البراءة وذلك كما قال : (فانّ حقيقة الايتاء : الاعطاء) أي : البذل ، وان البذل كما سيذكره المصنّف يرتبط بالمال أكثر ممّا يرتبط بالحكم ، وعلى كلّ : فانّ من الموصول وهو «ما» في قوله تعالى : (ما آتاها) ثلاثة احتمالات :

أحدها ما ذكره المصنّف بقوله : (فامّا أن يراد بالموصول : «المال» بقرينة قوله تعالى قبل ذلك : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ)) ومعنى قدر عليه رزقه : ضيّق عليه رزقه ، والآية في سورة الطلاق وهي تتحدث عن المطلّقة قال سبحانه : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ، وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ، وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(١).

بمعنى : إنّه إن كان الزوج ذا سعة في المال فلينفق حسب المتعارف ، وإن كان مضيقا عليه في رزقه فلينفق بقدر قدرته ، كالفقراء ينفقون بقدر قدرتهم ، بخلاف الأغنياء الّذين يوسعون في الانفاق ، حيث يتمكنون من ذلك.

__________________

(١) ـ سورة الطلاق : الآيات ٦ ـ ٧.

٢٩٧

فالمعنى : إنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد إلّا دفع ما أعطي من المال.

وإمّا أن يراد نفس فعل الشيء أو تركه ، بقرينة إيقاع التكليف عليه.

______________________________________________________

(فالمعنى) على هذا الاحتمال في الموصول هو (: إنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد إلّا دفع ما أعطي من المال) وإنّما أوّله المصنّف بالدفع ، لأنّ «ما» الموصولة لا تكون متعلقا بالحدث ، فالمعنى : لا يكلّف الله نفسا إلّا دفع مال ، لا انّه : لا يكلّف الله نفسا إلا مالا ، فانّ المال ليس متعلق التكليف ، وإنّما متعلق التكليف عمل الانسان ، المتعلق بالمال.

وعلى كلّ : فهذا المعنى لا ربط له بالبراءة ، إذ الكلام في دفع مقدار المال ، لا في ان الانسان إذا شك في تكليف مجهول يكون بريئا عنه.

الثاني من محتملات «ما» الموصولة : ما أشار اليه بقوله : (وإمّا أن يراد) من الموصول (نفس فعل الشيء أو تركه) وإنمّا يراد منه نفس فعل الشيء أو تركه (بقرينة إيقاع التكليف عليه) أي : على الموصول فانّه سبحانه قال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١) ومن المعلوم : انّ التكليف يتعلق بالحدث ولا يتعلق بالعين.

وعلى هذا : يكون الايتاء بمعناه الكنائي وهو : الاقدار ، لا بمعنى الاعطاء ، فالمعنى حينئذ : لا يكلّف الله نفسا الّا ما أقدرها عليه من فعل أو ترك ، فانّ الله تعالى لا يكلّف الانسان بالطيران الى السماء بدون وسيلة ، كما لا يقول له : لا تكن في الحين ، فان مثل هذا الفعل والترك غير مقدور للإنسان

__________________

(١) ـ سورة الطلاق : الآية ٧.

٢٩٨

فاعطاؤه كناية عن الاقدار عليه ، فيدلّ على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطبرسيّ رحمه‌الله. وهذا المعنى أظهر وأشمل ، لأنّ الانفاق من الميسور داخل في ما آتاه الله.

وكيف كان ، فمن المعلوم أنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ، وإلّا لم ينازع في وقوع

______________________________________________________

(فاعطاؤه) إذن : (كناية عن الاقدار عليه) فيكون معنى الآية : لا يكلّف الله نفسا إلّا فعلا أو تركا أقدرها الله تعالى على ذلك الفعل أو الترك.

وعليه : (فيدل) ما ذكر من الآية المباركة (على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطّبرسيّ رحمه‌الله) في تفسير مجمع البيان.

(وهذا المعنى أظهر) عند المصنّف لأنّه بمنزلة كبرى كلية رتب عليها الصغرى التي ذكرتها الآية في باب الانفاق على الزوجة.

(وأشمل ، لأنّ) المعنى الأوّل وهو : (الانفاق من) المال على الزوجة (الميسور) عند الزوج (داخل في) المعنى الثاني أي : (ما آتاه الله).

وإنّما كان المعنى الثاني أظهر ، لأنّه على الأوّل : لا بدّ من تقدير المصدر كما مر ، وعلى الثاني لا حاجة إليه ومن المعلوم : إن ما لا يحتاج إلى تقدير أظهر ممّا يحتاج إليه.

(وكيف كان) فانه سواء قلنا : المعنى الثاني أظهر وأشمل ، أم قلنا : احتمال الآية للمعنيين المذكورين على حد سواء (فمن المعلوم أنّ) الآية المباركة لا تدلّ على نفي التكليف المحتمل حيث استدل بها النراقي على البراءة ، لانّ (ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور) حتى تنفي الآية التكليف به.

(وإلّا) بأن كان الاجتناب عن مشكوك الحرمة غير مقدور (لم ينازع في وقوع

٢٩٩

التكليف به أحد من المسلمين وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه.

نعم ، لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارة عن الاعلام به ،

______________________________________________________

التكليف به) أي : بالاجتناب عن مشكوك الحرمة (أحد من المسلمين) لأنّ المسلمين متفقون على إنّ الله سبحانه وتعالى لا يكلّف الانسان على غير المقدور (وإن نازعت الاشاعرة في إمكانه) أي : إمكان التكليف بغير المقدور ، فان الأشاعرة وان قالوا بذلك ، لكنّهم قالوا : إنّ التكليف بغير المقدور لم يقع من الله سبحانه وتعالى ، لوضوح : انّ الامكان شيء ، والوقوع شيء آخر.

أمّا أنّ الأشاعرة كيف ذهبوا إلى إمكان التكليف بغير المقدور فهو لأنهم لا يرون الحسن والقبح العقليّين ، واما عدم الامكان الذي يقول به الشيعة والمعتزلة فمستنده عدم إمكان تكليف الحكيم بما لا يمكن وقوعه في الخارج ، لأنه غير مقدور للمكلّف.

وثالث المعاني المحتملة في «ما» الموصولة : أن يراد به الحكم والتكليف ، بمعنى إنّ الله لا يكلّف تكليفا إلّا إذا بيّن ذلك التكليف ، فتكون الآية حينئذ دليلا على البراءة ، والى هذا أشار المصنّف بقوله :

(نعم ، لو أريد من الموصول) في الآية المباركة (: نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه) أي : إيتاء ذلك الحكم والتكليف (عبارة عن الاعلام به) أي بذلك التكليف ، فيدل على نفي التكليف غير المعلوم ، ولعله بملاحظة هذا المعنى قال النراقي : إنّ دلالة الآية على البراءة واضحة.

وهنا معنى رابع في الآية ، لعله من حيث الاطلاق أقرب إلى ظاهرها وهو : شمول الآية لكلّ ذلك فغير المقدور لا يكلف الله العبد به ، كما أن الحكم الذي

٣٠٠