الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-06-6
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص لوصف كونه مظنون الصدور ، فأفاد تلك الأمارة الغير المعتبرة الظنّ بصدور ذلك الخبر انجبر قصور سنده به.

إلّا أن يدّعى أنّ الظاهر اشتراط حجّية ذلك الخبر بافادته للظنّ بالصدور ، لا مجرّد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظنّ بصدوره من غير سنده وبالجملة فالمتّبع هو ما يفهم من دليل حجّية المجبور.

______________________________________________________

ويوضحه قوله بعد ذلك : (كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص ، لوصف كونه مظنون الصّدور) فانه قد تقدّم الاختلاف في انّ الخبر هل هو حجّة مطلقا ، أو الخبر الذي كان مظنون الصدور ، أو الخبر الذي ليس على خلافه ظنّ؟ (فافاد تلك الأمارة غير المعتبرة) كالشهر ـ مثلا ـ إذا قلنا انّها غير معتبرة (الظّنّ بصدور ذلك الخبر ، انجبر قصور سنده به) فان سند ذلك الخبر ينجبر بسبب هذا الظّن غير المعتبر.

(إلّا أن يدّعى : انّ الظاهر اشتراط حجّية ذلك الخبر) الضعيف ، (بافادته للظّن بالصدور) يعني : إفادة بنفسه من جهة سنده أنه مظنون الصدور (لا مجرد كونه مظنون الصّدور ولو حصل الظّن بصدوره من غير سنده) كما لو حصل بسبب الشهرة التي ليست بحجّة فانها تورث الظنّ فقط.

قوله : «إلّا» استثناء من قوله السابق : «إلّا أن الظاهر انه إذا كان المجبور محتاجا اليه ...».

(وبالجملة : فالمتّبع هو ما يفهم من دليل حجّية المجبور) وانه هل يلزم أن يكون المجبور بنفسه مظنونا ، أو لا يلزم أن يكون بنفسه مظنونا ، بل يكفي الظنّ من الخارج؟ فعلى الأول : لا يكون الظنّ العام موجبا لحجيته ، وعلى الثاني : يكون

١٤١

ومن هنا لا ينبغي التأمّل في عدم انجبار قصور الدّلالة بالظنّ المطلق ، لأنّ المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في دلالتها ، لا مجرّد الظنّ بمطابقة مدلولها للواقع ولو من الخارج.

فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو ، وإلّا ـ بأن كان مجملا أو كان

______________________________________________________

الظنّ العام موجبا لحجيته.

(ومن هنا) حيث انّ الظنّ الخارجي لا يمكنه الجبر في الجملة (لا ينبغي التأمّل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظّنّ المطلق) إذا لم يكن انسداد ، فانّ الظنّ لا يجبر الدلالة (لأنّ المعتبر في باب الدّلالات هو : ظهور الألفاظ نوعا) أي : ظهورا نوعيا (في دلالتها) أي : في دلالة تلك الالفاظ (لا مجرّد الظّنّ بمطابقة مدلولها) أي : مدلول الألفاظ (للواقع ولو من الخارج).

مثلا : قوله سبحانه : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)(١) يلزم ظهور «خيرا» في الايمان بمعنى : أن العبد المؤمن يكاتب مقابل أن يراد بالخير : المال ، بمعنى : انّ العبد ذا المال يكاتب ، امّا إذا لم يكن ظهور «خيرا» في الايمان ، وظنّنا أنّ المراد بالخير : الايمان ، لا يمكن أن نقول : إنّ العبد إذا كان مؤمنا يكاتب ، لأنّ هذا الظّن لا يوجب الظهور ، فان الظهور حجّة ، لا الظّن الحاصل من الخارج.

وعلى هذا (فالكلام أن كان ظاهرا في معنى بنفسه ، أو بالقرائن الداخلة) بل أو الخارجة ، مثل : قرينية المقيد للمطلق ، والخاص للعام ، والمبين للمجمل ، الى غير ذلك (فهو) يؤخذ بذلك الظاهر (وإلّا بأن كان مجملا) في نفسه (أو كان

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٣٣.

١٤٢

دلالته في الأصل ضعيفة ، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفي ـ فلا يجدي الظنّ بمراد الشارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ، إذ التعويل حينئذ على ذلك الظنّ من غير مدخليّة للكلام ، بل ربّما لا تكون تلك الأمارة موجبة للظنّ بمراد الشارع من هذا الكلام ، غايته إفادة الظنّ بالحكم الفرعيّ ، ولا ملازمة بينه وبين الظنّ بإرادته من اللفظ ، فقد لا يريده بذلك اللفظ.

______________________________________________________

دلالته في الأصل ضعيفة ، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفي) على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، فانّه دلالة ضعيفة كما ذكروا.

وعليه : (فلا يجدي الظّن بمراد الشّارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض) أما الأمارة الخارجية المعتبرة : كالمقيّد بالنسبة الى المطلق ، والخاص بالنسبة الى العام ، وما أشبه ذلك ، فلا إشكال في الأخذ بها على ما اشرنا اليه.

فالأمارة الخارجيّة لا تجدي (اذ التعويل حينئذ) أي : حين الظنّ بالمراد من أمارة خارجية (على ذلك الظنّ) الخارجي (من غير مدخليّة للكلام) بينما : يكون الظهور حجّة إذا كان مستندا الى الكلام نفسه.

(بل ربما لا تكون تلك الأمارة) الخارجية (موجبة للظّنّ بمراد الشّارع من هذا الكلام) بالذات ، وانّما (غايته) أي : غاية ما تفيده تلك الأمارة الخارجية (إفادة الظّن بالحكم الفرعي ، و) من المعلوم : انّه (لا ملازمة بينه) أي : بين الظّن بالحكم الفرعي (وبين الظنّ بارادته) أي : بارادة ذلك الحكم الفرعي (من اللّفظ).

ثم بيّن المصنّف عدم الملازمة بقوله : (فقد لا يريده) أي : لا يريد الشارع ذلك الحكم الفرعي (بذلك اللّفظ) الذي ذكره ، فكيف نتمكن أن نقول : بأن مراد الشارع من هذا اللّفظ ، هذا الحكم الفرعي؟.

١٤٣

نعم ، قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعيّ ، فالظنّ به

______________________________________________________

مثلا : قول الشارع : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ)(١) لو ظنّنا من الخارج إنّ مراده : عدالة الزوج في المحبة القلبية بين زوجاته المتعددات ، فانّه لا يمكن أن نقول : أنّ مراد الشارع ذلك ، وان كانت العدالة القلبية بين الزوجات شبه المحال ، إذ لعلّ مراد الشارع من هذه الآية المباركة عدالة الحكام في قضايا النزاعات بين النساء ، حيث كثيرا ما يميل قلب الحاكم الى طلاق الزوجة ، لأنه يريدها لولده ـ مثلا ـ أو ما أشبه ذلك ، فقد ذكر بعضهم : انّ هذا هو المراد من الآية المباركة بقرينة السياق ، حيث قال سبحانه : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ، وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ، وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً* وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ، فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً)(٢).

فان قرينة الآية المتقدّمة (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) ظاهرة في هذا المعنى ، فلا يكون تناف بين هذه الآية المباركة ، وآية : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ...)(٣) والكلام في هذا الموضوع موكول الى محلّه ، وانّما ذكرناه من باب المثال.

ثم انّ المصنّف استثنى من قوله : «ولا ملازمة بينه وبين الظنّ» بقوله : (نعم ، قد يعلم من الخارج : كون المراد هو الحكم الواقعي ، فالظنّ به) أي : بالحكم

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ١٢٩.

(٢) ـ سورة النساء : الآيات ١٢٨ ـ ١٣٠.

(٣) ـ سورة النساء : الآية ٣.

١٤٤

يستلزم الظنّ بالمراد ، لكن هذا من باب الاتفاق.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما اشتهر ـ من أنّ ضعف الدلالة منجبر بعمل الأصحاب ـ غير معلوم المستند ، بل ، وكذلك دعوى انجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب لم يعلم لها بيّنة.

والفرق أنّ فهم الأصحاب وتمسّكهم به كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ، فانّ غايته الكشف عن الحكم الواقعيّ الذي قد عرفت أنّه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ ، كما عرفت.

______________________________________________________

الواقعي (يستلزم الظّن بالمراد ، لكن هذا) أي : ما ذكرناه من قولنا : نعم قد يعلم من الخارج : هو (من باب الاتّفاق) ولا يكون معيارا كليّا على ما نحن بصدده.

(وممّا ذكرنا يظهر : انّ ما اشتهر) بين الفقهاء والاصوليين (: من انّ ضعف الدّلالة منجبر بعمل الأصحاب غير معلوم المستند) عند المصنّف (بل ، وكذلك دعوى انجبار قصور الدّلالة بفهم الأصحاب ، لم يعلم لها بيّنة) ودليل وان كنّا ذكرنا نحن في الاصول : انّ الظّاهر من الأدلة العامة والخاصة : الانجبار في كلام المقامين.

(والفرق) بين عمل الأصحاب وفهم الأصحاب (: أنّ فهم الاصحاب وتمسّكهم به) أي بما فهموه وقالوه من دلالة الخبر (كاشف ظنّي عن قرينة على المراد) ومن المعلوم : عدم اعتبار هذا الظنّ ، كما أنه لا يستلزم اعتبار القرينة عند الأصحاب ، اعتبارها عندنا أيضا ، حتى اذا ذهبوا الى معنى نذهب اليه نحن أيضا.

(بخلاف عمل الأصحاب ، فانّ غايته) أي : غاية العمل ، هو (: الكشف عن الحكم الواقعي) لأنهم لا يعملون بغير الحكم الواقعي (الّذي قد عرفت : انّه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللّفظ كما عرفت).

١٤٥

بقي الكلام في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر.

فإنّه إن كان من جهة إفادتها الظنّ بصدق الخبر ، ففيه ـ مع أنّه قد لا يوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظنّ بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر ـ : أنّ جلّهم لا يقولون بحجّية الخبر المظنون الصدور مطلقا ، فإنّ المحكيّ عن المشهور اعتبار الايمان في الراوي ،

______________________________________________________

مثلا : قد يكون الشيء واجبا واقعا ، لكن لفظ «ينبغي» الموجود في الحديث لا يدل عليه ، فلا يفهم عملهم على الوجوب من هذا اللّفظ بل لعله من الخارج ، فقد يقولون إنّا نفهم من «ينبغي» الوجوب ، وقد يقولون : إنّه واجب لكن لا يعلم أن فهمهم الوجوب مستند الى لفظ الحديث.

(بقي الكلام في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى) لا الشهرة في الرواية (جابرة لضعف سند الخبر) فيما إذا كان الخبر ضعيف السند وقامت الشهرة في الفتوى على طبق ذلك الخبر ، سببت الشهرة انجبار ضعف الخبر سندا.

(فانّه إن كان من جهة افادتها) أي إفادة الشهرة في الفتوى (الظّن بصدق الخبر ، ففيه ـ مع انّه قد لا يوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظّنّ بصدور حكم عن الشّارع مطابق لمضمون الخبر ـ) لأنّه لا تلازم بين الشهرة الفتوائية وبين صدور الخبر الضعيف المطابق لتلك الشهرة الفتوائية.

ففيه (: انّ جلّهم لا يقولون بحجّية الخبر المظنون الصّدور مطلقا) فالظّن بصدور الخبر لأجل قيام الشهرة لا ينفع في اعتبار ذلك الخبر ، بل الخبر إنّما يكون حجّة اذا كان صحيح السند أو موثوق السند.

(فانّ المحكي عن المشهور : اعتبار الايمان في الرّاوي) فاذا لم يكن الراوي

١٤٦

مع أنّه لا يرتاب في إفادة الموثّق للظنّ.

فان قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الاماميّ بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ ، ومثل قوله عليه‌السلام : «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا».

قلنا : إن كان ما خرج بحكم الآية والرواية مختصّا بما لا يفيد الظّنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّا لما ظنّ بصدوره كان خبر غير

______________________________________________________

مؤمنا ، لا يعتبر خبره وان ظنّنا بصدقه (مع أنّه لا يرتاب في افادة الموثّق) من أخبار العامة (للظّنّ) فلو كان الظّن بالصدور حجّة ، لم يحتج الى الايمان وكان كثير من أخبار العامة حجّة.

(فان قيل : إنّ ذلك) أي : اشتراط الايمان في الرّاوي انّما هو (لخروج خبر غير الامامي بالدّليل الخاص) فالخبر المظنون الصدور حجّة وإن كان غير جامع للشرائط ، فالموثق أيضا لو لا الدليل الخاص لكان داخلا في الاعتبار لا خارجا عنه ، والدليل الخاص (مثل منطوق آية النبأ) فان غير المؤمن فاسق ، ولذا لا يعمل بخبره (ومثل قوله عليه‌السلام : «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا» (١)) فاذا لم يكن شيعيا لا يؤخذ بخبره.

والحاصل من قوله : ان قيل : «ان الخبر المظنون الصدور حجّة إلّا ما خرج».

(قلنا : ان كان ما خرج بحكم الآية والرّواية مختصّا بما لا يفيد الظّنّ) فكل ما لا يفيد الظنّ لا يعلم به (فلا يشمل الموثّق) لأنّ الموثّق يفيد الظّن (وان كان عاما لما ظنّ بصدوره) فخبر غير الامامي لا يعمل به وإن ظنّ بصدوره (كان خبر غير

__________________

(١) ـ رجال الكشّي : ص ٤.

١٤٧

الإماميّ المنجبر بالشهرة والموثّق متساويين في الدخول تحت الدّليل المخرج.

ومثل الموثّق خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب والخبر المعتضد بالأولويّة والاستقراء

______________________________________________________

الامامي المنجبر بالشّهرة والموثّق متساويين في الدّخول تحت الدّليل المخرج).

والحاصل من قوله «قلنا : انّ المستثنى ان كان خاصا بغير مظنون الصدور من خبر غير الامامي» ، بمعنى : ان خبر غير الامامي إذا لم يكن بمظنون الصدور ليس بحجّة ، فيكون لازم ذلك : أن خبر العامي المظنون الصدور حجّة ، والحال انّكم تقولون : بأن خبر العامي مطلقا ، سواء كان مظنونا أم ليس بمظنون ، خرج بآية النبأ والرواية.

وان كان المستثنى عاما يشمل خبر كل غير إمامي ، سواء كان مظنون الصدور أم لا ، فان اللازم أن تقولوا : بأن خبر غير الامامي مطلقا ، والخبر الموثّق ، أي :

الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة كلاهما لا يعمل بهما ، لأن الضعيف المنجبر بالشهرة هو خبر فاسق ، فكما انّ منطوق الآية يشمل العامي لأنّه فاسق ، كذلك يشمل الضعيف لأنّه فاسق أيضا ، وكما ان الشهرة ليست جابرة لخبر العامي كذلك ليست جابرة للضعيف الموثّق.

والحاصل : انّ اللازم أن تقولوا : امّا بحجيّة خبر العامي المظنون ، أو تقولوا بعدم حجّية خبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، والحال إنّكم تقولون بأن كل خبر عامي ليس بحجّة ، وكلّ خبر ضعيف مجبور بالشهرة حجّة.

(ومثل الموثّق) في سؤال الفرق بينه وبين المنجبر بالشهرة (خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، والخبر المعتضد بالأولويّة ، و) المعتضد ب (الاستقراء ،

١٤٨

وسائر الأمارات الظنّية ، مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك ، وإن كانّ لقيام دليل خاص عليه ، ففيه المنع من وجود هذا الدليل.

وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الأمارات وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر في غاية الاشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى تلك الرواية.

______________________________________________________

وسائر الأمارات الظّنية) قوله : «وسائر» عطف على قوله : «خبر الفاسق».

وعليه : فاذا كان شهرة الموثّق توجب حجيته مع كونه ضعيفا في نفسه ، لزم أن تكون هذه الأخبار أيضا حجّة (مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك) أي : لا يقولون باعتبار هذه الأخبار المذكورة وحجيتها.

(وإن كان) ما خرج بحكم الآية والرواية (لقيام دليل خاص عليه) كالاجماع الذي ادعاه كاشف الغطاء على جبر ضعف الخبر بالشهرة (ففيه : المنع من وجود هذا الدّليل) فانّه لا إجماع في المسألة.

(وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشّهرة ، و) الضعيف (المنجبر بغيرها) أي : غير الشهرة (من الأمارات ، وبين الخبر الموثّق المفيد ، لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر) بالشهرة (في غاية الاشكال) لأن الملاك في الحجّية واللاحجّية فيهما واحد ، فامّا أن نقول بحجيتهما معا ، وأما أن نقول بعدم حجيتهما معا.

(خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور) في فتواهم (الى تلك الرّواية) الضعيفة ، لأن الكلام في رواية ضعيفة مطابقة لفتوى المشهور بلا استناد من المشهور الى تلك الرّواية.

١٤٩

وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأنّ جبر الضعيف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة.

وربما يدّعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة حيث ادّعي الاجماع على حجّيّته ولم يثبت.

وأشكل من ذلك دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ، بناء على أن التبيّن يعمّ الظني الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر.

______________________________________________________

(واليه) أي : الى ما ذكرناه : من أنّ الخبر الضعيف لا ينجبر بالشهرة الفتوائية (أشار شيخنا في موضع من المسالك : بانّ جبر الضعيف بالشّهرة ، ضعيف مجبور بالشّهرة) أي إذا أردنا ان نقول : بأنّ الضعيف مجبور بالشهرة ، هذا القول بنفسه ضعيف ويحتاج الى جبره بالشهرة.

(وربّما يدّعى كون الخبر الضعيف المنجبر) بالشهرة الفتوائية (من الظّنون الخاصّة ، حيث ادعي الاجماع على حجّيته) فيكون الاجماع مستند حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية (و) لكن (لم يثبت) هذا الإجماع ، حتى يكون مستندا لكون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة.

(وأشكل من ذلك) أي : من دعوى الاجماع (: دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه) أي : على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية (بناء على أنّ التبيّن) في الآية (يعمّ الظّني الحاصل من ذهاب المشهور الى مضمون الخبر) بتقريب : انّ قوله سبحانه : (فَتَبَيَّنُوا)(١) للتبيّن الظنّي ، وليس خاصا بالتبيّن العلمي ، والضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية يصدق عليه التبيّن ، لأنه حصل

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

١٥٠

وهو بعيد ، إذ لو أريد مطلق الظنّ فلا يخفى بعده ، لأنّ المنهيّ عنه ليس إلّا خبر الفاسق المفيد للظنّ ، إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه.

وإن اريد البالغ حدّ الاطمئنان فله وجه ، غير أنّه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ولو بضميمة المجبور حدّ الاطمئنان ولا يختصّ بالشهرة ، فالآية تدلّ على حجّيّة الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، ولا بعد فيه.

______________________________________________________

التبيّن الظنّي فيه.

(وهو) أي : شمول التبيّن للظّني (بعيد ، إذ لو اريد مطلق الظنّ ، فلا يخفى بعده) فانّه بعيد أن يريد الله سبحانه وتعالى من التبيّن في الآية المباركة : التبيّن الشامل للتبيّن الظّنّي أيضا (لأن المنهي عنه ليس إلّا خبر الفاسق المفيد للظّن ، إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه) فان خبر الوليد كان مظنونا وقد نهى الله سبحانه عن اتباعه الّا بالتبيّن ، فاللازم أن يريد سبحانه بالتبيّن : العلمي الموجب للعلم ، لا الأعم من العلمي والظّني حتى يشمل التبيّن الضعيف المنجبر بالشهرة.

(وإن اريد) من التبيّن في الآية المباركة : الظنّ (البالغ حدّ الاطمئنان ، فله وجه) لأن الاطمئنان حجّة عقلائية (غير أنه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة) للخبر الضعيف (إذا بلغت ولو بضميمة المجبور حدّ الاطمئنان).

ولازم ذلك : انّ كل خبر ضعيف مجبور بسائر الظنون كالأولوية ، وما أشبهها ، بلغ حدّ الاطمئنان يكون حجّة (ولا يختصّ) الجبر على ذلك (بالشهرة) فقط.

إذن : (فالآية تدلّ على حجّية الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان) مطلقا بأي : سبب كان (ولا بعد فيه) لأن الموجب للاطمئنان لا يندم فاعله ، فالآية المباركة

١٥١

وقد مرّ في أدلّة حجّيّة الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه من حكايات الاجماع والأخبار.

وأبعد من الكلّ دعوى استفادة حجّيّته ممّا دلّ من الأخبار ، كمقبولة ابن حنظلة والمرفوعة إلى زرارة ، على الأمر بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ،

______________________________________________________

تقول : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ)(١) تبيّنوا تبيّنا موصلا للعلم ، أو موصلا للاطمئنان ، بأي وجه حصل ذلك الاطمئنان.

(وقد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه : من حكايات الاجماع والأخبار) على ان كل خبر يطمئن اليه ، سواء كان من عادل ، أو فاسق ، إمامي ، أو غير إمامي يكون حجّة.

(وأبعد من الكلّ) أي : من كل الاستدلالات المتقدّمة على أن الشهرة جابرة (: دعوى استفادة حجّيته) أي : حجّية الخبر الضعيف المجبور بالشهرة (ممّا دلّ من الاخبار ـ كمقبولة ابن حنظلة (٢) ، والمرفوعة الى زرارة (٣) ـ على الأمر بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين) قوله : «على الأمر» ، متعلق بقوله : «ممّا دل» ، فان في الخبر : «خذ بما اشتهر بين أصحابك».

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

١٥٢

فانّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجّيّته في مقام عدم المعارض بالاجماع والأولويّة.

وتوضيح فساد ذلك أنّ الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من حيث الرواية ، كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : «انّهما معا مشهوران» ، مع أنّ ذكر الشهرة من المرجّحات يدلّ على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة.

______________________________________________________

(فانّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض) كما في مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زرارة ، حيث يدلان على أنّ الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما موافقا للشهرة يؤخذ به ، فان الأخذ بالخبر بسبب الشهرة عند التعارض (يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالاجماع والأولوية) أي : اذا كان الخبر الذي له معارض يؤخذ به بسبب الشهرة ، فالأخذ بالخبر بسبب الشهرة إذا لم يكن له معارض أولى.

(وتوضيح فساد ذلك) الذي ذكرناه بقولنا : وأبعد من الكل (: انّ الظاهر من الرّوايتين) : المقبولة والمرفوعة (: شهرة الخبر من حيث الرّواية ، كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : «إنهما معا مشهوران») بينما الكلام في مقامنا هذا : الشهرة الفتوائية.

هذا (مع أنّ ذكر الشّهرة من المرجّحات ، يدل على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النّظر عن الشهرة) فليس كل ما يوجب ترجيح دليل على دليل ، يوجب العمل بلا دليل ، فما ذكروه من الأولوية في غير محله ، كما انه لا اجماع في المسألة ، وبذلك تحققه : انّ الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة للخبر الضعيف.

١٥٣

المقام الثاني : في كون الظنّ الغير المعتبر موهونا

والكلام هنا أيضا يقع تارة فيما علم بعدم اعتباره ، وأخرى فيما لم يثبت اعتباره.

وتفصيل الكلام في الأوّل أنّ المقابل له إن كان من الأمور المعتبرة ، لأجل إفادة الظنّ النوعيّ ، اي يكون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ ، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاصّ ، فلا إشكال في عدم وهنه بمقابلته ما علم عدم اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح

______________________________________________________

(المقام الثاني : في كون الظّنّ غير المعتبر موهنا) لخبر ، أو ما اشبه ، ممّا هو حجّة في نفسه (والكلام هنا أيضا يقع تارة فيما علم بعدم اعتباره) كالقياس (واخرى فيما لم يثبت اعتباره) كالشهرة ، فالقياس والشهرة ظنان غير معتبرين شرعا.

(و) أمّا (تفصيل الكلام في الأوّل :) أي : فيما علم عدم اعتباره فهو : (انّ المقابل له) اي : الشيء قبال هذا الظن ، الذي ليس بمعتبر (إن كان من الامور المعتبرة) في نفسه ، كما إذا كان القياس في مقابل الخبر الصحيح ، حيث إنّ الخبر الصحيح معتبر.

وانّما كان معتبرا (لأجل افادته الظّنّ النّوعي أي : يكون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظّن) فانّ الخبر الصحيح لو خلّي ونفسه أفاد الانسان الظنّ (وان لم يكن مفيدا له في المقام الخاص) كما إذا كان خبر زرارة لم يفد الظنّ لهذا الانسان الخاص ـ مثلا ـ بسبب عوارض خارجية.

(فلا إشكال في عدم وهنه) أي : وهن ما أفاد الظنّ النوعي وكان معتبرا (بمقابلته ما علم اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح) فانّ الخبر الصحيح

١٥٤

بناء على كونه من الظنون على هذا الوجه.

ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الظواهر اللفظيّة فانّه لا عبرة به أصلا ، بناء على كون اعتبارها من باب الظنّ النوعيّ ، ولو كان من باب التعبّد فالأمر أوضح.

نعم ، لو كان حجّيّته ، سواء كان من باب الظنّ النوعيّ أو كان من باب التعبّد ، مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ، كان للتوقف مجال.

______________________________________________________

سندا ، اذا قابله القياس لا يوجب القياس ومنه (بناء على كونه) أي : كون الخبر الصحيح (من الظّنون على هذا الوجه) أي : على وجه إفادة الظنّ النوعي.

(ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الظّواهر اللّفظية) فان الظهور اللفظي حجّة باعتبار إفادته الظنّ النوعي ، فاذا كان القياس على خلاف الظاهر لم يوجب القياس وهن الظاهر (فانه لا عبرة به) أي : بالقياس (أصلا ، بناء على كون اعتبارها) أي : اعتبار الظواهر (من باب الظّن النّوعي) فان الظاهر إنما يكون حجّة لأن نوعه يوجب الظنّ.

(ولو كان) المقابل له من الأمور المعتبرة (من باب التعبّد) قوله : «ولو كان» عطف على قوله : «لأجل إفادته الظنّ النوعي» (فالأمر أوضح) لعدم مدخلية الظّن فيه أصلا ، فوجود الظنّ فيه وعدمه ولو مع الظنّ بالخلاف سواء ، لأن المفروض : انّه حجّة من باب التعبّد لا من باب الظنّ النوعي.

(نعم ، لو كان حجّيته) أي : ما كان حجّة من السند أو الظاهر (ـ سواء كان من باب الظنّ النّوعي ، أو كان من باب التعبّد ـ مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه) بأن كان السند حجّة اذا لم يظنّ على خلافه ، وكان الظاهر حجّة إذا لم يظنّ على خلافه (كان للتوقف مجال) فيما إذا خالفه القياس الموجب ذلك القياس للظنّ.

١٥٥

ولعلّه الوجه ، فيما حكاه بعض المعاصرين عن شيخه : أنّه ذكر له مشافهة : «أنّه يتوقف في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه».

لكنّ هذا القول ، أعني تقييد حجّيّة الظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ، بعيد في النهاية.

وبالجملة : فيكفي في المطلب ما دلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك.

______________________________________________________

وانّما يتوقف في حجّية السند أو الدلالة حينئذ ، لأن المفروض : انّ السند والظاهر حجّة إذا لم يظنّ على خلافه ، والقياس أورث الظنّ على خلافه.

(ولعله) أي : لعلّ التقييد بعدم الظنّ على الخلاف (الوجه في ما حكاه بعض المعاصرين عن شيخه : انّه ذكر له مشافهة : «انّه يتوقف في الظّواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف ، حتى القياس ، وأشباهه») اي : أشباه القياس ، كالأولوية ، ونحوها.

(لكن هذا القول أعني : تقييد حجّية الظّواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ، بعيد في النّهاية) إذ لا دليل عليه ، بل العقلاء يذمون من لم يعمل بالحجّة معتذرا بالظّن على خلافها.

(وبالجملة : فيكفي في المطلب) أي : في عدم كون القياس الذي هو ظنّ غير معتبر موهنا ، سواء كان القياس مخالفا للسند ، أم للدلالة امور :

أوّلا : (ما دلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس) فانه يشمل ما كان القياس دليلا ، أو جابرا ، أو موهنا.

ثانيا : (مضافا الى استمرار سيرة الاصحاب على ذلك) اي : عدم الاعتناء

١٥٦

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مقتضى النهي عن القياس ـ معلّلا بما حاصله غلبة مخالفته للواقع ـ يقتضي أن لا يترتب شرعا على القياس أثر ، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات ، فحكمه حكم عدمه ، فكأنّ مضمونه مشكوك لا مظنون ، بل مقتضى ظاهر التّعليل أنّه كالموهوم.

فكما لا ينجبر به ضعيف ، لا يضعّف به قويّ.

______________________________________________________

بالقياس مطلقا.

ثالثا : (مع انّه يمكن أن يقال : انّ مقتضى النهي عن القياس معللا بما حاصله : غلبة مخالفته للواقع) وإن ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وانّه يوجب محق الدين ، وما أشبه ، وهو (يقتضي أن لا يترتب شرعا على القياس أثر ، لا من حيث تأثيره في الكشف) فلا يكون القياس حجّة بنفسه (ولا من حيث قدحه) فلا يكون القياس موهنا لغيره (فيما هو كاشف بالذّات) أي : لا يكون القياس موهنا لماله كشف نوعي ـ كما عرفت ـ.

وعليه : (فحكمه) أي : حكم القياس (حكم عدمه) فكأنه لم يكن (فكأنّ مضمونه) أي : مضمون القياس (مشكوك لا مظنون) ومن المعلوم : انّ الشك ليس بحجّة ولا يكون موهنا (بل مقتضى ظاهر التّعليل) في النهي عن القياس (: انه كالموهوم) الذي هو أسوأ من المظنون ، لأن ذلك هو معنى : كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.

إذن : (فكما لا ينجبر به) أي : بالقياس (ضعيف) السند أو الدلالة (لا يضعّف به) أي بالقياس (قويّ) السند أو الدلالة ، فالقوي على حاله ، سواء كان القياس مخالفا له أم لا.

١٥٧

ويؤيّد ما ذكرنا الرواية المتقدّمة عن أبان الدّالة على ردع الامام له في ردّ الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرّد مخالفته للقياس ، فراجع وهذا حسن.

لكنّ الأحسن منه تخصيص ذلك بما كان اعتباره من قبل الشارع.

كما لو دلّ الشرع على حجّيّة الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه.

فان نفي الأثر شرعا عن الظنّ القياسيّ يوجب بقاء اعتبار تلك

______________________________________________________

(ويؤيّد ما ذكرنا) : من انّ القياس وجوده كعدمه (: الرّواية المتقدّمة عن أبان الدّالّة على ردع الإمام) عليه‌السلام (له) أي : لأبان (في رد الخبر الواحد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرد مخالفته للقياس) قوله : «بمجرد» ، متعلق بقوله : «رد» (فراجع) كي تعلم إنّ القياس كالمشكوك ، بل كالموهوم ، في انّه لا يصح أن يكون مستندا ، ولا موهنا ، ولا جابرا.

(وهذا) أي : هذا الذي ذكرناه : من انّ القياس لا يكون له شأن في أي من الامور الشرعية (حسن) لما ذكرناه.

(لكنّ الأحسن منه تخصيص ذلك) أي : تخصيص انّ القياس ليس موهنا (بما كان اعتباره من قبل الشارع) فالشيء الذي اعتبره الشارع لا يكون القياس ـ وان أورث الظنّ بخلافه ـ موهنا له.

(كما لو دلّ الشّرع على حجّية الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه) بأن قال الشارع : الخبر حجّة ما لم يكن ظنّ على خلافه ، فان القياس إذا سبّب الظنّ على الخلاف لم يكن هذا القياس حجّة ، لأن الشرع لما أسقط القياس دل على انه ليس بدليل ، ولا جابر ولا كاسر.

وعليه : (فانّ نفي الأثر شرعا عن الظنّ القياسي ، يوجب بقاء اعتبار تلك

١٥٨

الأمارة على حاله.

وأمّا ما كان اعتباره من باب بناء العرف وكان مرجع حجّيّته شرعا إلى تقرير ذلك البناء ، كظواهر الألفاظ ، فانّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع.

فتأثير الظنّ بالخلاف في القدح في حجّيّة الظواهر

______________________________________________________

الأمارة) التي هي حجّة (على حاله) أي : حال تلك الأمارة ، وانّما أتى بضمير المذكر ، لافادة انّ الأمارة دليل.

والحاصل : انّ الشارع إذا قال : الأمارة حجّة ما لم يظنّ على خلافها ، فكان الظّن القياسي على خلافها ، لم يسقط القياس تلك الأمارة عن الحجّية ، لأن الظنّ القياسي وجوده كعدمه عند الشارع ، فكأن تلك الأمارة لا ظنّ على خلافها.

(وأمّا ما كان اعتباره من باب بناء العرف ، وكان مرجع حجيته) الضمير في «حجيته» راجع الى «ما كان» (شرعا الى تقرير ذلك البناء) العرفي (كظواهر الألفاظ ، فانّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم) فانّ العرف لا يعملون بظاهر كان القياس مخالفا لذلك الظاهر (فلا يرتفع ذلك) أي : ظهور الظاهر عن الحجّية بسبب القياس المخالف لذلك الظاهر.

وإنّما لا يرتفع حجيته (بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع) فان الشارع إنّما جعل الحجّية لظاهر ، هو عند العرف حجّة ، والعرف لا يرى الحجّية لظاهر خالفه القياس.

وعليه : (فتأثير الظنّ) القياسي (بالخلاف ، في القدح في حجّية الظواهر) حيث قلنا : إنّ القياس يسقط الظاهر عن الحجّية عند العرف ، والشارع إنما جعل الظواهر حجّة إذا كان العرف يرون حجيّتها.

١٥٩

ليس مثل تأثيره في القدح في حجّيّة الخبر غير المظنون الخلاف في كونه مجعولا شرعيّا يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ، لأنّ المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشيء الموجود حسّا هي الآثار المجعولة دون غيرها.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ العرف بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع

______________________________________________________

فان تأثير ذلك فيه (ليس مثل تأثيره) أي : تأثير الظنّ بالخلاف (في القدح في حجّية الخبر ، غير المظنون الخلاف) ممّا لم يكن الظنّ القياسي على خلافه (في كونه مجعولا شرعيا ، يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس) فانّ الشارع إذا جعل الشيء حجة وكان القياس على خلافه ، لم يضر القياس بحجّية ذلك الشيء ، لأن الشارع لم يجعل القياس مؤثرا ، فسواء كان القياس على خلافه أم لا ، يكون حجّة ، وانّما لا يضر القياس بالحجّة المجعولة شرعا (لأن المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشيء الموجود حسّا) والمراد بالشيء : هو الظنّ القياسي (هي الآثار المجعولة دون غيرها) والأثر المجعول للظن بالخلاف فيما نحن فيه ، لا يكون إلا في حجيّة الخبر ، دون حجّية الظواهر ، فيرتفع أثر الظنّ القياسي بالخلاف في حجيّة الخبر ، فاذا كان القياس على خلاف الخبر لا يعتنى بالقياس ويؤخذ بالخبر ، لإن الشارع نفى اعتبار القياس.

لكن إذا كان القياس مخالفا للظواهر أثّر القياس في إسقاط حجيّتها ، لأنّ الشارع جعل الحجّية للظواهر التي يراها العرف حجّة ، والظاهر الذي مخالف للقياس لا يراه العرف حجّة ، فلا يراه الشرع حجّة.

(نعم) هذا استثناء من قوله : لكن الأحسن منه ، وهو انّه (يمكن أن يقال : انّ العرف بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع) وانّه منع عن العمل بالقياس

١٦٠