الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-03-1
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وفيه : منع كون البراءة من باب الظنّ ، كيف؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليل على اعتبارها ، بل هو من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف من دون بيان.

وذكر المحقق القميّ رحمه‌الله ، في منع حكم العقل

______________________________________________________

على البراءة مثل : «كلّ شيء مطلق» (١) وذلك لنفس هذه العلّة.

(وفيه) أي : في كلام من رد الرجوع الى أصالة البراءة تبعا لصاحبي المعالم والزبدة (: منع كون البراءة من باب الظّن ، كيف ولو كانت) البراءة (كذلك) أي : حجّيتها من باب الظّن (لم يكن دليل على اعتبارها) لأنّ اعتبارها من باب الظّن يتوقف على تمامية دليل الانسداد ، فاذا أخذنا اعتبارها من باب الظن في مقدمات دليل الانسداد لزم الدّور.

(بل هو) أي : اعتبار البراءة (من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف) من الحكيم (من دون بيان).

ولا يخفى : إنّ الحكم العقلي هو الأصل في البراءة ، ثم ان الشرع أيضا ذكر البراءة في الآيات والرّوايات ، كما هو مذكور في محله مفصلا.

ثم إنّ المصنّف لمّا منع كون البراءة من باب الظنّ وقال : بل هو من باب حكم العقل القطعي ، ذكر إشكال المحقّق القمي على إنّ البراءة ليست من باب الحكم القطعي فقال :

(وذكر المحقّق القمي رحمه‌الله) صاحب القوانين (في منع حكم العقل

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٢٣٥٣٠.

٣٤١

المذكور : «أنّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعيّ أو الظنّي.

فان كان الأوّل ، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل.

سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع.

وأمّا بعد ورود الشرع ، فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجماليّة على سبيل اليقين يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

المذكور) وإنّ البراءة ليست من باب حكم العقل (: انّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعيّ ، أو الظّني؟) أي : هل إنّ العقل يحكم قطعا بالبراءة أو يحكم ظنا بالبراءة؟.

(فان كان الأوّل) أي : الحكم العقلي القطعي (فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا ، أول الكلام) فانّا لا نسلم القطع بعدم الحرمة ، الذي هو مقتضى البراءة (كما لا يخفى على من لاحظ أدلة المثبتين والنافين من العقل والنقل) حيث إنّ بعضهم أثبتوا حكم العقل والنقل بالبراءة ، وبعض نفوها ، ففي مثل ذلك هل يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل بالبراءة قطعي؟.

(سلّمنا كونه) أي : كون حكم العقل بالبراءة (قطعيّا في الجملة) ومعنى «في الجملة» : ما فسّره بقوله بعد ذلك : (لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشّرع) فانّه قبل ورود الشرع البراءة قطعية.

(وأمّا بعد ورود الشّرع ، فالعلم بأنّ فيه) أي : في الشرع (أحكاما إجماليّة على سبيل اليقين) لأنّه بعد ورود الشّرع نعلم إنّ لنا أحكاما في الجملة ، فان هذا العلم الاجمالي (يثبّطنا) أي يمنعنا (عن الحكم بالعدم) أي : الحكم بعدم الحرمة (قطعا ، كما لا يخفى) فانّه كيف نتمكن أن نحكم بالبراءة بصورة قطعيّة ، بعد أن

٣٤٢

سلّمنا ذلك ، ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه.

وإن أراد الحكم الظنّيّ ، سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السّابقة ، فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار

______________________________________________________

علمنا بورود أحكام في الجملة في الشريعة ، بعضها واجبات ، وبعضها محرمات ، فانّ العلم الاجماليّ ينافي العلم التفصيليّ ، فهل يمكن أن يقال : إنّا نعلم إجمالا بوجود حرام ، ونقول : نعلم علما قطعيا بعدم وجود الحرام ، وهل هذا إلّا تناقض؟.

(سلّمنا ذلك) العلم القطعي بعدم الحكم ولو بعد الشرع (ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه) فانّا نقطع بعدم الحرمة قبل الشرع ، ونقطع بعدم الحرمة بعد الشرع ، لكن هل نقطع بعدم الحرمة بعد ورود الخبر الصحيح على الحرمة؟.

هذا كلّه إن أراد المستدلّ القطع بالبراءة (وإن أراد الحكم الظني) بالبراءة (سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظّن) أي : حكم العقل بأنّ التكليف من دون بيان قبيح (أو من جهة استصحاب الحالة السابقة) فانّه في السابق لم يكن حرام ، فنستصحب ذلك الى الحال ، وذلك يوجب الظّن بعدم الحكم بالحرمة ، أي : بمقتضى البراءة (فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار) لأنّ حكم العقل الظّني هو كظاهر الكتاب والسنّة ، الدال على عدم المؤاخذة بدون البيان.

ومن المعلوم : إنّ ظاهر الكتاب والسنّة ، لا يوجبان قطعا ، بل إنّما يوجبان الظّن

٣٤٣

التي لم يثبت حجّيتهما بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ، ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح ، إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه» انتهى كلامه ، رفع مقامه.

______________________________________________________

(الّتي لم يثبت حجيّتهما بالخصوص) «التي» صفة ل «ظاهر الكتاب والأخبار».

وإنّما ذكر إنه لم يثبت حجّيتهما بالخصوص بناء على مذهبه قدس‌سره من كون حجية الظواهر بالنسبة الى المشافهين من باب الظّن الخاص ، أمّا بالنسبة الى المعدومين في وقت الخطاب فهو من باب الظنّ المطلق ـ كما سبق الالماع الى ذلك.

(مع إنّه) أي : الحالة السابقة (ممنوع بعد ورود الشّرع) لأنّ الشارع قطع الحالة السابقة ، فكيف تستصحب تلك الحالة؟.

(ثمّ) إن المنع يكون بصورة أشدّ (بعد ورود الخبر الصحيح) بالحرمة (إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه) (١) أي : من الظن الاستصحابي ، فإذا كان هناك استصحاب على العدم ، وخبر صحيح على الحرمة ، قدّم الخبر الصحيح على الاستصحاب ، لأنّ الظّن الحاصل من الخبر الصحيح ، أقوى من الظّن الحاصل من الاستصحاب.

وقوله : «ثم» هو عبارة عن تسليم ما ذكره سابقا ، يعني : حتى لو فرض إنّه يستصحب بعد ورود الشرع ، لكن لا يستصحب إذا حصل خبر واحد صحيح (انتهى كلامه ، رفع مقامه).

__________________

(١) ـ القوانين المحكمة : ص ٢١٣.

٣٤٤

وفيه : انّ حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، حكم قطعيّ ، لا اختصاص له بحال دون حال.

فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ، ولم يقع فيه خلاف بين العقلاء ، وإنّما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط ، من الآيات والأخبار التي ذكروها.

______________________________________________________

هذا (وفيه) إنّ ما ذكره : من الترديد بين كون حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، قطعي أو ظني غير تام ، وذلك (إنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، حكم قطعي ، لا اختصاص له بحال دون حال) سواء كان في حال الشرع ، أو في حال عدم الشرع ، فانّ العقلاء متفقون بما حكم به عقلهم : من إنّه لا يمكن للحكيم أن يعاقب الانسان من دون أن يسبق البيان.

وعليه : (فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع) كما ذكره المحقّق القميّ.

كما (ولم يقع فيه) أي : في قبح المؤاخذة من دون البيان (خلاف بين العقلاء) إطلاقا ، فانهم جميعا متفقون على القبح المذكور.

(وإنّما ذهب من ذهب بوجوب الاحتياط) بعد ورود الشرع (لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط ، من الآيات والاخبار التي ذكروها) مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) حيث دلّ على إنّ اللازم العلم بالجواز ، فإذا لم يعلم بالجواز واحتمل الوجوب أو الحرمة وجب عليه الاحتياط.

وقوله : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٢) الى غير ذلك ممّا يذكرونه

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩ ، الامالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، الامالي للمفيد : ص ٢٨٣.

٣٤٥

وأمّا الخبر الصحيح ، فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعيّ على اعتباره كان داخلا في البيان ، ولا كلام في عدم جريان البراءة معه ، وإلّا فوجوده كعدمه غير مؤثّر في الحكم العقليّ.

والحاصل : أنّه لا ريب لأحد ، فضلا عن إنّه لا خلاف ، في أنّه على تقدير عدم بيان التكليف بالدّليل العامّ

______________________________________________________

في باب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ، فالآيات والأخبار الّتي ذكروها في باب الاحتياط بيان ، فلا يكون هناك قبح العقاب بلا بيان.

أمّا ما ذكره المحقّق القميّ : من انّ الخبر الصحيح يقوم في قبال البراءة والاستصحاب ، ففيه ما ذكره المصنّف بقوله : (وأما الخبر الصحيح ، فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعيّ على اعتباره) ممّا يسمّى بالعلمي حينئذ ، فانّه (كان داخلا في البيان ، ولا كلام في عدم جريان البراءة معه) لأنّ البراءة إنّما تكون جارية إذا لم يكن بيان ، والمفروض : إن الخبر الصحيح الّذي قام الدليل القطعيّ على اعتباره بيان.

(وإلّا) أي : وان لم يكن دليل على حجّية الخبر الصحيح (فوجوده كعدمه) لأنّ الخبر الصحيح لا حجّية فيه لذاته ، وإنّما حجّيته مستندة الى دليل قطعي ، فالخبر الصحيح (غير مؤثّر في الحكم العقلي) وإنّما الحكم العقلي جار مطلقا ، إلّا إذا كان بيان ، والبيان هو الخبر الصحيح المستند الى دليل قطعي على اعتباره.

(والحاصل : إنّه لا ريب لأحد ، فضلا عن إنّه لا خلاف في أنه على تقدير عدم بيان التكليف بالدّليل العامّ) كقوله : «احتط لدينك» ، فانّه دليل عام شامل لكل

٣٤٦

أو الخاصّ ، فالأصل البراءة.

وحينئذ : فاللازم إقامة الدليل على كون الظنّ المقابل بيانا.

وممّا ذكرنا ظهر صحّة دعوى الاجماع على أصالة البراءة في المقام ، لأنّه إذا فرض عدم الدّليل على اعتبار الظنّ المقابل صدق قطعا عدم البيان ، فتجري البراءة.

وظهر فساد دفع أصل البراءة بأنّ المستند فيها إن كان هو الاجماع ، فهو مفقود في محلّ البحث ،

______________________________________________________

مكان يشتبه فيه الحكم (أو) لا بالدليل (الخاصّ) كما إذا قال : الشيء الفلاني حرام ، بأن قام عليه خبر صحيح مقطوع الاعتبار (فالأصل البراءة) عن ذلك الحكم المشكوك فيه.

(وحينئذ) أي : حين لم يكن هناك دليل عام أو خاص على الحرمة (فاللازم إقامة الدّليل) منكم أيها المحقّق القميّ (على كون الظنّ المقابل) لأصالة البراءة (بيانا) والحال إنّه ليس لكم دليل على إنّ الظّن المقابل لأصالة البراءة بيان ، وعليه : فاللازم العمل بأصل البراءة.

(وممّا ذكرنا :) من انّه لا ريب لأحد فضلا عن إنّه لا خلاف (ظهر : صحة دعوى الاجماع على أصالة البراءة في المقام) لعدم البيان ، وإذا لم يكن بيان ، فالعقل قاطع بأنّه يقبح العقاب (لأنّه إذا فرض عدم الدّليل على اعتبار الظّنّ المقابل) لأصالة البراءة (صدق قطعا عدم البيان) ، وإذا تحقّق الموضوع وهو : عدم البيان (فتجري البراءة) لأنّه كلما تحقق الموضوع تحقق الحكم.

(و) بهذا (ظهر فساد دفع أصل البراءة : بأنّ المستند فيها) أي : في البراءة (إن كان هو الاجماع ، فهو مفقود في محلّ البحث) لكنّك قد عرفت : وجود الاجماع

٣٤٧

وإن كان هو العقل ، فمورده صورة عدم الدليل ولا نسلّم عدم الدليل مع وجود الخبر.

وهذا الكلام ، خصوصا الفقرة الأخيرة منه ، ممّا يضحك الثكلى ، فانّ عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراءة.

واعلم : أنّ الاعتراض على مقدّمات دليل الانسداد بعدم استلزامها العمل

______________________________________________________

القطعي على البراءة في محل البحث.

(وإن كان هو العقل ، فمورده صورة عدم الدّليل) أي : عدم البيان (ولا نسلّم عدم الدّليل مع وجود الخبر) الصحيح ، لأنّه كما عرفت : الخبر الصحيح إن كان مستندا إلى دليل قطعي فهو بيان ، وإن لم يكن مستندا الى دليل قطعي فهو ليس ببيان.

(وهذا الكلام) من المحقّق القمي الّذي تقدّم نقله والايراد عليه (خصوصا الفقرة الأخيرة منه) وهي قوله : «ثم بعد ورود الخبر الصحيح ...» الخ (ممّا يضحك الثكلى) لأنّ هذه الفقرة الأخيرة دالة على إننا نحتاج في قبال قبح العقاب الى ثبوت كون الخبر دليلا ، وهو كلام غير تام.

(فانّ عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدّليل الّذي هو مجرى البراءة) لأنّ عدم البيان يتحقق بأمرين : ثبوت كون الخبر ليس بدليل ، وعدم ثبوت كون الخبر دليلا ، ومن باب اللّطيفة إنّ الثكلى إنّما تضحك من هذا الكلام إذا كانت عالمة فاضلة تفهم هذا الكلام من القوانين والرّسائل فهما جيدا.

(واعلم : إنّ الاعتراض على مقدّمات دليل الانسداد : بعدم) تماميتها حتى تنتج حجّية الظّن المطلق لعدم (استلزامها) أي : هذه المقدّمات (العمل

٣٤٨

بالظنّ ، لجواز الرّجوع إلى البراءة ، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزّبدة وأجابا عنه بما تقدّم مع ردّه ، من أنّ أصالة البراءة لا يقاوم الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلّا إنّ أوّل من شيّد الاعتراض به وحرّره ، لا من باب الظنّ ، هو المحقّق المدقّق جمال الدين قدس‌سره في حاشيته ، حيث قال : «يرد على الدّليل المذكور أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا لا يوجب جواز العمل بالظنّ حتى يتّجه ما ذكروه ، لجواز أنّ لا يجوز العمل بالظنّ.

______________________________________________________

بالظّن ، لجواز الرّجوع إلى البراءة) أو أصل العدم فانّه (وإن كان قد أشار اليه صاحب المعالم وصاحب الزّبدة وأجاب عنه بما تقدّم) من قولنا : ثم إنّه قد يردّ الرجوع إلى أصالة البراءة تبعا لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزبدة الى آخره ، وذكرنا ردّه ، حيث قلنا : «وفيه منع كون البراءة من باب الظن ...» الخ ، (مع رده) أي : ردّ هذا الرد (من أنّ أصالة البراءة لا يقاوم الظّن الحاصل من خبر الواحد) لما تقدّم من إنّ خبر الواحد مقدّم على أصالة البراءة ، لأنّ أصالة البراءة مستند الى قبح العقاب بلا بيان ونحوه ، وخبر الواحد بيان.

(إلّا إنّ أوّل من شيّد الاعتراض به) أي : بالرجوع إلى أصالة البراءة ، (وحرّره) أي : حرّر وجه عدم الرجوع إلى أصالة البراءة (لا من باب الظّنّ) ، أي : لا أنّ البراءة تفيد الظّن فيزول مع الخبر ، بل قال : بأنّ البراءة لا تفيد الظّن (هو المحقّق المدقّق جمال الدين قدس‌سره في حاشيته) على شرح المختصر (حيث قال : يرد على الدّليل المذكور : أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا لا يوجب جواز العمل بالظّن حتى يتّجه ما ذكروه) من حجّية الظّن بعد انسداد باب العلم (لجواز أن لا يجوز العمل بالظّنّ) حتى بعد الانسداد ، وذلك للرجوع الى البراءة ، كما سيأتي

٣٤٩

فكلّ حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به ، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ، ولا للاجماع على وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلّا بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم.

ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا بمقتضاها

______________________________________________________

بيان المحقّق المذكور له.

قال : (فكلّ حكم حصل العلم به) أي : بذلك الحكم حصولا (من ضرورة ، أو إجماع ، نحكم به) أي : بذلك الحكم (وما لم يحصل العلم به ، نحكم فيه بأصالة البراءة) وإنّما نحكم بأصالة البراءة (لا لكونها مفيدة للظّنّ) فانّ حجيّتها ليست من باب الظن (ولا للاجماع على وجوب التمسك بها) أي : بالبراءة حتى يقال : إنّ الظّن ليس بحجّة ، والاجماع غير ثابت (بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلّا بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد) ذلك الدليل (العلم) أي : يكون علميا.

والحاصل : إنّه لا يثبت التكليف علينا إلّا بالعلم أو بالعلمي (ففيما انتفى الأمران) لا علم ولا علمي (فيه) أي : في ذلك الحكم ، والضمير عائد الى «ما» في قوله «ففيما» (يحكم العقل ببراءة الذّمة عنه) أي : عن ذلك الحكم (وعدم جواز العقاب على تركه).

يعني : إنّ الحكم إن كان واقعيا ولم يصل إلينا بعلم أو علمي ، فالعقل يحكم بان المولى ، لا يتمكن أن يعاقب على ذلك الحكم المجهول عندنا (لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا بمقتضاها) أي : بمقتضى البراءة ، وذلك لأنّا لا نعمل بالبراءة

٣٥٠

حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ، بل لما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا ما لم يحصل العلم لنا ولا يكفي الظنّ به.

ويؤكّده ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ.

وعلى هذا ففي ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة ، فالخطب

______________________________________________________

فيما فقد فيه العلم والعلمي من باب انّ البراءة توجب الظن (حتّى يعارض بالظّنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها) أي : بخلاف البراءة بأن يقال : الظنّ بالبراءة ، يعارضه ظنّ حاصل من أخبار الآحاد ، والظن الحاصل من أخبار الآحاد مقدّم على البراءة.

(بل لما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا ما لم يحصل العلم لنا) سواء كان علما بالحكم ، أو علما بالخبر الذي أثبت الحكم ممّا يصطلح عليه بالعلمي (ولا يكفي الظّن به) أي : بالتكليف.

(ويؤكّده) أي : يؤكد ما ذكرنا : من أنّ البراءة ليست حجيّتها من باب الظن (ما ورد من النهي عن اتباع الظّنّ) فانّه شامل للظّنّ الحاصل بالحكم ، أو الظّنّ الحاصل بالبراءة ، كما إنّه شامل للظّن في وقت الانفتاح ، والظن في وقت الانسداد.

(وعلى هذا) الّذي ذكرنا : من إنّه لا نعتمد على الظّن في البراءة (ففي ما لم يحصل العلم به) أي : بالحكم بأن لم نعلم بالحكم ولم يقم عليه دليل علمي (على أحد الوجهين). المذكورين سابقا حيث قال : لا يثبت تكليف علينا إلّا بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم (وكان لنا مندوحة عنه) ، لأن أمره ليس دائرا بين الواجب والحرام (كغسل الجمعة ، فالخطب) أي : الأمر

٣٥١

سهل ، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور.

وأمّا فيما لم يكن مندوحة عنه ، كالجهر بالبسملة والاخفات بها في الصلاة الاخفاتيّة ، التي قال بوجوب كلّ منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيص لنا عن الاتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما ، وعلى هذا فلا يتمّ الدّليل المذكور ، لأنّا لا نعمل

______________________________________________________

(سهل إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور) وهو أصل البراءة.

(وأما فيما لم يكن مندوحة عنه) لدورانه بين المحذورين (كالجهر بالبسملة والاخفات بها في الصلاة الاخفاتيّة ، التي قال بوجوب كل منهما قوم) ، حيث إنّ بعض الفقهاء قال بوجوب الجهر بالبسملة ، وبعض الفقهاء قال بوجوب الاخفات بها (ولا يمكن لنا ترك التسمية) لوجوب البسملة بالاجماع (فلا محيص لنا عن الاتيان بأحدهما) أي : نأتي بالبسملة إما جهرا وإما إخفاتا.

وعليه : (فنحكم بالتخيير فيها) أي : في البسملة (لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات) معيّنا ، لأنه لا يعلم هل التكليف : الجهر أو التكليف : الاخفات ، ويحتمل احتمالا أن يكون الانسان مخيّرا بينهما أيضا ، حالها حال الصلوات المندوبات (فلا حرج لنا في شيء منهما) بأن يصلي جهرا ، أو أن يصلي إخفاتا ، أو أن يصلّي تارة جهرا وأخرى إخفاتا.

(وعلى هذا : فلا يتمّ الدّليل المذكور) أي : دليل الانسداد (لأنّا لا نعمل

٣٥٢

بالظنّ أصلا». انتهى كلامه ، رفع مقامه.

وقد عرفت أنّ المحقّق القميّ قدس‌سره أجاب عنه بما لا يسلم عن الفساد ، فالحقّ ردّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة.

ثمّ إنّ ما ذكره من التخلّص عن العمل بالظنّ بالرجوع إلى البراءة لا يجري في جميع الفقه ، إذ قد يتردّد الأمر

______________________________________________________

بالظّنّ أصلا) (١). بل كلما علمنا بالحكم عملنا به ، وإذا لم نعلم بالحكم أجرينا أصالة البراءة (انتهى كلامه ، رفع مقامه).

(وقد عرفت : إنّ المحقّق القميّ قدس‌سره أجاب عنه بما لا يسلم عن الفساد) وهو ما تقدّم من نقل المصنّف عنه بقوله : وذكر المحقّق القمي.

(فالحقّ ردّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة) أي : ردّ ما استدل به لبطلان المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد ، والمقدمة هي : عدم جواز إهمال الوقائع الكثيرة المشتبهة ، فان المصنّف ارتضى هذه المقدّمة ، وردّ من قال بأنّ هذه المقدّمة باطلة ، والوجوه الثلاثة التي ذكرها المصنّف هي كالتالي :

الأول : الاجماع القطعيّ ... الخ.

الثاني : إنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع ... الخ.

الثالث : إنه لو سلمنا إنّ الرجوع ... الخ.

وبهذه الأجوبة تبيّن صحة المقدمة الثانية.

(ثمّ انّ ما ذكره) المحقّق جمال الدّين. (من التخلّص عن العمل بالظّنّ) تخلصا (بالرّجوع الى البراءة ، لا يجري في جميع الفقه ، إذ قد يتردّد الأمر)

__________________

(١) ـ حاشية شرح مختصر الاصول : مخطوط.

٣٥٣

بين كون المال لأحد شخصين ، كما إذا شك في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها اثنان ، فانّه لا مجرى هنا للبراءة ، لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه ، وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضا ، لأنّ كلا منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه ، مع أنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصومة ،

______________________________________________________

في مسألة فرعية (بين كون المال لأحد شخصين ، كما إذا شك في صحة بيع المعاطاة) وهل إنّها صحيحة أو لا؟ (فتبايع بها) أي بالمعاطاة (اثنان ، فانّه لا مجرى هنا للبراءة) لأنه لا معنى لها (لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه) فلا يعلم هل إنّ المبيع للبائع أو المشتري؟ (وكذا في الثمن) لأنّه لا يعلم هل الثمن انتقل إلى البائع أو لم ينتقل اليه؟.

(ولا معنى للتخيير أيضا ، لأنّ كلا منهما يختار مصلحته) فلا مكان للبراءة ولا مكان للتخيير.

(و) إن قلت : إنّ الحاكم يتخيّر بين أنّ يعطي المثمن لهذا أو لذاك ، فاذا أعطى المثمن لهذا أعطى الثمن لغيره.

قلت : (تخيير الحاكم هنا لا دليل عليه) إذ لا ربط للحاكم بملك هذا أو ملك ذاك (مع إنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصومة) فهنا أمران :

الأمر الأول : إن أيّا من المثمن أو الثمن يكون لأيّ من البائع والمشتري؟.

الأمر الثاني : إنّه إذا وقعت خصومة بين هذين الاثنين ، كيف تحلّ الخصومة بينهما؟ والكلام في الأمر الأول لا في الأمر الثاني.

ومثله ما لو ادعى اثنان زوجية امرأة خاصة ، فهنا كلامان :

الأول : إنّ الشارع يجعل الزوجة لأيهما؟ هل لمن توافقه الزوجة ، أو من

٣٥٤

اللهم إلّا أن يتمسّك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناء على أنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة.

فلو أبدل في الايراد ، أصالة البراءة بأصالة العدم كان أشمل.

ويمكن أن يكون هذا الأصل ـ يعني أصل الفساد وعدم التملّك وأمثاله ـ داخلا في المستثنى ، في قوله : «لا يثبت تكليف علينا إلّا بالعلم أو بالظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم» ،

______________________________________________________

تخالفه الزوجة ، فيما لو فرض إنّ الزوجة قالت : إنّي زوجة زيد لا عمرو مثلا؟.

الثاني : أنه لو لم يعلم الحكم الشرعي في المسألة ، فالعلاج لدفع الخصومة يكون بما ذا؟ هل بالقرعة ، أو إجبار الحاكم لهما بالطلاق ، أو طلاق الحاكم لها ، أو إبطال الحاكم للنكاح ، إلى غير ذلك من المحتملات؟.

(اللهم إلّا) أن يقال : بجريان البراءة فيما ذكر أيضا من مسألة الاختلاف في المعاطاة وذلك ب (أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر) فلا أثر بالنسبة إلى هذه المعاملة ، وبذلك يرجع كل شيء إلى صاحبه الأصلي (بناء على إنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة) لكن المحقّق جمال الدّين سمّاه بالبراءة.

وعليه : (فلو أبدل) جمال الدّين (في الايراد ، أصالة البراءة بأصالة العدم ، كان أشمل) لأنه يشمل البراءة وأصل العدم كليهما.

هذا (ويمكن أن يكون هذا الأصل يعني : أصل الفساد وعدم التملك) في مورد الاختلاف في المعطاة (وأمثاله) كما إذا اختلف في الرّهن ، أو الاجارة ، أو المزارعة ، أو المساقاة ، أو المضاربة ، أو ما أشبه ، بأن أجريت هذه المعاملات بالمعاطاة ، فاختلفوا في أنها هل انعقدت أم لا؟ (داخلا في المستثنى في قوله : لا يثبت تكليف علينا إلّا بالعلم ، أو بالظّن يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم).

٣٥٥

بناء على أنّ أصل العدم ، من الظنون الخاصّة التي قام على اعتبارها الاجماع والسيرة ، إلّا أن يمنع قيامهما على اعتباره عند اشتباه الحكم الشرعيّ مع وجود الظنّ على خلافه.

واعتباره من باب الاستصحاب مع ابتنائه على حجّية الاستصحاب في الحكم الشرعيّ رجوع إلى الظنّ العقليّ أو الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد الدالّة على الاستصحاب.

______________________________________________________

وإنّما كان داخلا في المستثنى (بناء على انّ أصل العدم ، من الظنون الخاصّة التي قام على اعتبارها الاجماع والسيرة) فالمحقّق الخوانساري يقول : لا يثبت علينا تكليف إلّا بالعلم أو بالظّن ، وأصل العدم من الظّنون ، فهو يثبت التكليف.

(إلّا أن يمنع قيامهما) أي : قيام الاجماع والسيرة (على اعتباره) أي : اعتبار أصل العدم (عند اشتباه الحكم الشرعي مع وجود الظّنّ على خلافه) فلا إجماع ولا سيرة على اعتبار أصل العدم ، فيما إذا كان هناك ظنّ على خلاف هذا الأصل العدمي ، وإنّما الاجماع والسّيرة فيما إذا لم يكن ظنّ.

(و) إن قلت : (اعتباره) أي : اعتبار أصل العدم (من باب الاستصحاب) لا من باب الاجماع أو السيرة.

قلت أولا : (مع ابتنائه على حجّية الاستصحاب في الحكم الشرعي) وقد أشكلنا نحن في باب الاستصحاب على حجيّة الاستصحاب في الحكم الشرعي ، وإنّما نقول : بحجّية الاستصحاب في الموضوعات فقط.

ثانيا : إنّه (رجوع الى الظّن العقلي ، أو الظّن الحاصل من أخبار الآحاد الدّالة على الاستصحاب) ولم يثبت اعتبار أيّ الظّنين : لا الظّن العقلي ولا الظّن المستند

٣٥٦

اللهم إلّا أن يدّعي تواترها ولو إجمالا ، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالا ، فيخرج عن خبر الآحاد ، ولا يخلو عن تأمّل.

______________________________________________________

الى الأخبار ، لأنّ الكلام الآن في مقدمات دليل الانسداد ، فلا يمكن أن يبنى شيء على دليل الانسداد ، والحال إنّ مقدماته لم تتم بعد.

(اللهم إلّا أن) يقال : بأنّه لا بأس باجراء استصحاب العدم ، والاستصحاب ليس مبنيا على الظّن العقلي أو الظّن الحاصل من الأخبار لأنّه (يدّعي تواترها) أي : تواتر الأخبار الدّالة على الاستصحاب (ولو) تواترا (إجمالا بمعنى : حصول العلم بصدور بعضها إجمالا ، فيخرج) ما دلّ على استصحاب العدم (عن خبر الآحاد) ويكون من المقطوعات.

إذن : فتمسكنا بأصل العدم لا لأنه ظنّي ، بل لأنّه علم من جهة تواتر الأخبار ولو تواترا إجماليا : وقد أشرنا إلى معنى التواتر الاجمالي : بأنّه عبارة عن وجود جملة من الأخبار نعلم إنّ بعضها صادر قطعا ، وحينئذ يكون أخص كل تلك الأخبار مقطوع الصدور.

هذا (و) لكن (لا يخلو) تواتر أخبار الاستصحاب (عن تأمل).

والحاصل : إنّ في موارد المشكوكات لا نتمكن من إجراء أصالة العدم من باب الاستصحاب ، إذ الدّليل على الاستصحاب إمّا الاجماع ، أو العقل ، أو الأخبار.

والأوّل : مفقود لوجود الخلاف في الاستصحاب في الأحكام.

والثاني : مبني على اعتبار مطلق الظّن ، وهو غير ثابت بعد.

والثالث : مبني على اعتبارها ، لكون أخبار الاستصحاب من الآحاد ، ودعوى تواترها ـ ولو إجمالا ـ لا يخلو عن تأمل.

وعليه : فاستصحاب العدم لا يمكن أن يكون مستندا في موارد الشك

٣٥٧

وكيف كان ففي الأجوبة المتقدّمة ولا أقل من الوجه الأخير غنى وكفاية إن شاء الله تعالى.

المقدّمة الثالثة :

في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل من الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة أو الرّجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها

______________________________________________________

في الوجوب أو في الحرمة.

(وكيف كان : ففي الأجوبة المتقدّمة) الّتي ذكرناها : من إنّه لا رجوع إلى البراءة فيما ظنّ بخلاف البراءة ، بل (ولا أقلّ من الوجه الأخير) وهو : ما ذكره المصنّف بقوله : الثالث : إنّه لو سلّمنا إنّ الرجوع إلى البراءة لا يوجب شيئا ممّا ذكر من المحذور البديهي وهو : الخروج عن الدّين ، فانّه لا دليل على الرجوع الى البراءة من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات ، ففي تلك الأجوبة (غنى وكفاية إن شاء الله تعالى).

وعليه : فالمقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد تامة.

(المقدمة الثالثة) من مقدمات الانسداد : (في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل) وتلك الطرق بيّنها المصنّف بقوله :

(من الاحتياط) في جميع أطراف الاحتمال.

(أو الرّجوع في كلّ مسألة الى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة) من الاستصحاب ، أو البراءة ، أو التخيير ، أو الاحتياط.

(أو الرّجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها) وذلك بأن يقلّد المجتهد الانسدادي المجتهد الانفتاحي.

٣٥٨

فنقول : إنّ كلا من هذه الأمور الثلاثة وإن كان طريقا شرعيّا في الجملة لامتثال الحكم المجهول ، إلّا أنّ منها ما لا يجب في المقام ومنها ما لا يجري.

أمّا الاحتياط ، فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ،

______________________________________________________

(فنقول : إنّ كلا من هذه الأمور الثلاثة : وإن كان طريقا شرعيّا ـ في الجملة ـ لامتثال الحكم المجهول) لأنّ بعض المسائل يحتاط فيها ، وبعض المسائل يرجع فيها الى ما يقتضيه الأصل ، وبعض المسائل يرجع فيها الى فتوى العالم فيما إذا كان السائل جاهلا.

(إلّا إنّ منها) أي : من هذه الطرق الثلاثة (ما لا يجب في المقام) كالاحتياط ـ على ما يأتي ـ (ومنها ما لا يجري) في كل مسألة مسألة كالرجوع الى ما يقتضيه الأصل ، والرجوع إلى فتوى العالم.

ثمّ بيّن تفصيل ذلك بقوله : (أمّا الاحتياط) بأن يحتاط المجتهد بإتيان جميع محتملات المسألة من أول الفقه الى آخر الفقه (فهو وإن كان مقتضى الأصل) أي : أصل الاشتغال (و) مقتضى (القاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات) فانّ العقل والنقل متّفقان على لزوم اطاعة المولى.

فإذا علم العبد الحكم بعينه أتى به ، وإن تردد الحكم بين متعدد أتى بكل ذلك في الواجب ، وترك كل ذلك في المحرّم ، وأتى بالواجب وترك المحرم فيما إذا دار الأمر بين حكم وجوبي وحكم تحريمي ، كما إذا علم بأنّ المولى قال شيئا ، لكنّه لم يعلم هل إنّه قال بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو قال بحرمة شرب التتن؟.

٣٥٩

إلّا أنّه في المقام ـ أعني انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية ـ غير واجب الاشتغال لوجهين :

أحدهما : الاجماع القطعيّ على عدم وجوبه في المقام ، لا بمعنى أنّ أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كلّ الفقه أو جلّه ، حتى يرد عليه : أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ، فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة ، بل بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الاجماع على عدم الرجوع الى البراءة.

______________________________________________________

(إلّا انّه) أي : الاحتياط (في المقام أعني : انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية غير واجب الاشتغال) فانّه لا يجب الاحتياط في المسائل إذا كان الانسداد محققا ، وإنّما قلنا : إنّه غير واجب (لوجهين :) على النحو التالي :

(أحدهما : الاجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام) فلا يجب الاحتياط في كافة الفقه بالنسبة الى المسائل غير الضرورية والبديهية والمجمع عليها.

وأمّا الاجماع هذا فهو (لا بمعنى : انّ احدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كل الفقه ، أو جلّه) : إنّه لم يحتط في كل الفقه ، ولا في أكثر مسائل الفقه (حتى يرد عليه : انّ عدم التزامهم به) أي : بالاحتياط (إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام) فيكون العدم من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

إذن : (فلا يقاس عليهم) أي : على أولئك الفقهاء (من لا يجد مدركا في المسألة) أي : إنهم لم يحتاطوا لأنه كانت الأحكام لديهم واضحة ، أمّا من لم تكن الأحكام عنده واضحة ، فلا إجماع على عدم وجوب الاحتياط عليه.

(بل) الاجماع (بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الاجماع على عدم الرّجوع الى البراءة) فانّ العلماء لا يرجعون الى البراءة في كل الأحكام ، أو جلّها ، اذا لم تكن

٣٦٠