الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-03-1
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل ، وإلّا لما أمكن إخراج بعض هذه الطّائفة الخاصّة ودعوى العلم الاجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلا.

فاللّازم حينئذ إمّا الاحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ،

______________________________________________________

هناك علما إجمالي صغيرا وعلما إجماليا كبيرا والعلم الاجمالي الكبير لا ينحل إلى العلم الاجمالي الصّغير ، على ما تقدّم مثله في مسألة قطيع الشّاة. (كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه) العقلي (الأوّل) فلا حاجة لتفصيل الجواب هنا.

(وإلّا) بان لم يكن علم إجمالي كبير في الكتب المعتمدة ، وغير الكتب المعتمدة ، غير العلم الاجمالي الصغير الّذي ادّعاه الفاضل التّوني (لما أمكن اخراج بعض هذه الطّائفة الخاصّة) من الكتب المعتمدة (ودعوى العلم الاجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلا) ـ كما تقدّم سابقا ـ.

والحاصل : إنّ الشّاهد على إنّ العلم الاجمالي بوجود الأجزاء والشّرائط ونحوها ، غير مختص بالطّائفة الخاصّة في الكتب المعتمدة ، هو إنّا لو عزلنا من الطّائفة الخاصّة بمقدار يوجب انحلال العلم الاجمالي الصّغير ، ثم ضممنا باقي هذه الطّائفة إلى أخبار سائر الكتب ، كان العلم الاجمالي بحاله باقيا ، فيدلّ ذلك على إنّ العلم الاجمالي الكبير لا ينحل إلى العلم الاجمالي الصغير.

إذن : (فاللازم حينئذ) أي : حين وجود العلم الاجمالي الكبير بالنّسبة إلى الأجزاء والشّرائط في كلّ الكتب ، سواء معتمدها أو غير معتمدها ، فإنّه يجب علينا أحد أمرين :

أوّلا : (إمّا الاحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته)

٢٢١

وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة ، أو الشرطيّة ، إلّا أن يقال : إنّ المظنون الصّدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشّروط.

وثانيا : ان مقتضى هذا الدّليل وجوب العمل بالأخبار الدّالة على الشّرائط والأجزاء ، دون الأخبار الدّالّة على عدمهما ،

______________________________________________________

أو مانعيّته ، أو قاطعيّته ، إذا تمكّنّا من الاحتياط حسب العلم الاجمالي.

ثانيا : (وأمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة ، أو الشرطيّة) أو المانعيّة ، أو القاطعيّة ، حيث إنّ الانسان إذا لم يتمكن من العمل بالعلم التّفصيلي وجب عليه العمل حسب العلم الاجمالي وإذا لم يتمكّن من العمل حسب العلم الاجمالي ، وجب عليه العمل على الظّنّ.

(إلّا أن يقال) في تأييد الفاضل التّوني : إنّه إنّما ادّعى حجّيّة الطّائفة الخاصّة في الكتب المعتمدة ، لا من باب العلم الاجمالي ، بل من جهة (إنّ المظنون الصّدور من الأخبار هو) منحصر في الخبر (الجامع لما ذكر من الشّروط) من : كونه في الكتب المتعمدة مع عمل جمع به من دون ردّ ظاهر.

وذلك حين لم يمكن العمل حسب العلم الاجمالي لأنّه ـ مثلا ـ يوجب العسر ، أو الحرج ، أو إنّه متعذّر ، أو إنّه دلّ الدّليل من الإجماع وغيره على عدم وجوبه ، وعلى هذا فلا يرد عليه النّقض بالعلم الاجمالي الكبير الّذي ذكرناه.

(وثانيا : إنّ مقتضى هذا الدّليل : وجوب العمل بالأخبار الدّالّة على الشّرائط والأجزاء ، دون الأخبار الدّالّة على عدمهما) اذ لا معنى لوجوب العمل بالأخبار الدّالّة على عدم الشّرط وعدم الجزء ، بينما المطلوب في حجّيّة خبر الواحد :

٢٢٢

خصوصا إذا اقتضى الأصل الشّرطيّة والجزئيّة.

الثّالث : ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين في حاشيته على المعالم لاثبات حجّيّة الظّنّ الحاصل من الخبر ، لا مطلقا ، وقد لخّصناه لطوله.

وملخصه : «أن وجوب العمل بالكتاب والسّنّة ثابت

______________________________________________________

وجوب الأخذ به وطرح الأصل المخالف له ، سواء كان مثبتا للجزء والشّرط ، أو نافيا لهما. (خصوصا إذا اقتضى الأصل : الشّرطيّة والجزئيّة) كما إذا كان الاستصحاب يقتضي الشرطيّة والجزئيّة ، والخبر الواحد يريد نفيهما ، فإنّ العمل بالخبر النّافي ينافي الاحتياط ، إذ الاحتياط إنّما هو باتيان الشّرط ، والجزء ، لا بالعمل بالخبر الّذي يريد نفيهما.

مثلا : إذا شكّ الانسان في حال القنوت : بانّه قرء السّورة أم لا ، فالخبر يقول : بأنه لا يلزم الاتيان بالسّورة ، والاستصحاب يقول : بلزوم الاتيان به ، فهل الاحتياط بالاتيان ـ كما هو مقتضى الاستصحاب ـ أو بعدم الاتيان ـ كما هو مقتضى الخبر ـ؟.

(الثّالث : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين) للمصنّف ، وهو الشّيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم أخو صاحب الفصول (في حاشيته على المعالم لاثبات حجّيّة الظّنّ الحاصل من الخبر ، لا) الظّنّ (مطلقا) مع إنّ دليله الّذي ذكره راجع الى دليل الانسداد المعروف ، الّذي يوجب حجّيّة الظّنّ مطلقا ، (وقد لخصناه لطوله) أي : لكون ما استدلّ به طويلا لما فيه من النّقص والابرام ، لخصناه.

(وملخصه : إنّ وجوب العمل بالكتاب والسّنّة ثابت) بالنسبة إلى اللّذين كانوا

٢٢٣

بالإجماع ، بل الضّرورة والأخبار المتواترة ، وبقاء هذا التّكليف أيضا بالنّسبة إلينا ثابت بالأدلّة المذكورة.

وحينئذ : فإنّ أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظّنّ الخاصّ به ، فهو ، وإلّا فالمتّبع هو الرّجوع

______________________________________________________

في صدر الإسلام قطعا (بالإجماع ، بل الضّرورة) من الدّين ، بلا إشكال ولا خلاف من أحد من المسلمين ، بل (والأخبار المتواترة) لأنّ المسلمين الّذين عاصروا المعصومين عليهم‌السلام ، كان عليهم إنّ يأتوا بما في الكتاب والسّنّة من الواجبات ، ويتركوا المحرمات.

(وبقاء هذا التّكليف أيضا بالنّسبة الينا ثابت بالأدلّة المذكورة) من الإجماع والضّرورة والتّواتر ، فلم يكن الوجوب بالنّسبة إلى المعاصرين للمعصومين عليهم‌السلام فقط ، بل التّكليف ممتد إلينا وإلى يوم القيامة.

(وحينئذ : فإنّ أمكن الرّجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم) فاللّازم العمل بذلك الحكم الحاصل منهما على وجه العلم (أو) يحصل منهما (الظّنّ الخاص به) أي : بالحكم ، بأنّ قام الدّليل الخاصّ على اعتبار الظّنّ الحاصل من القرآن ، والأخبار ، مثل حجّيّة خبر الواحد ، وقد قرّر ـ في محله ـ : إنّ العلمي كالعلم في وجوب الأخذ بأحدهما ، لا إنّه ما دام يمكن العلم لا يجوز الأخذ بالعلمي.

وعلى أي حال : فإنّ تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالحكم من الكتاب والسّنّة ، أو الظّنّ الخاصّ بالحكم منها (فهو ، وإلّا) بأنّ لم يتمكن من تحصيل العلم ، ولا من تحصيل الظّنّ الخاصّ بالحكم منهما (فالمتّبع) عقلا (هو الرّجوع

٢٢٤

إليهما على وجه يحصل الظّنّ منهما» هذا حاصله.

وقد أطال قدس‌سره ، في النّقض والابرام بذكر الايرادات والأجوبة على هذا المطلب.

ويرد عليه : أن هذا الدّليل بظاهره عبارة اخرى عن دليل الانسداد ، الّذي ذكروه لحجّيّة الظّنّ في الجملة ، أو مطلقا.

______________________________________________________

إليهما على وجه يحصل الظّنّ) المطلق (منهما) (١) بالحكم سواء كان الظّنّ من الخبر الواحد ، أو من الشّهرة ، أو من الإجماع المنقول ، أو غير ذلك ، باستثناء الظنون الخارجة بالنصّ والإجماع ، كالقياس ـ على ما سيأتي تفصيله في دليل الانسداد إن شاء الله تعالى ـ.

وإنّما نرجع إلى العقل في وجوب تحصيل الظّنّ ، لأنّ صدق الإطاعة والمعصية مرتبط بالعقل ، كما حقق في محله.

(هذا حاصله ، وقد أطال قدس‌سره في النّقض والابرام بذكر الايرادات والأجوبة على هذا المطلب) ممّا نحن في غنى عن ذكرها.

(ويرد عليه : إنّ هذا الدّليل بظاهره عبارة أخرى عن دليل الانسداد ، الّذي ذكروه لحجّيّة الظّنّ في الجملة ، أو مطلقا) حيث قال بعضهم : بأن نتيجة دليل الانسداد : حجّيّة الظّنّ مطلقا من أي سبب حصل ، وبأي شيء تعلق ، وقال بعضهم : بأنّ النّتيجة : هي حجّيّة الظّنّ في الجملة لا مطلقا.

وعليه : فليس هذا الدّليل دالا على حجّيّة الخبر فقط ، بل يدل على حجّيّة الظّنّ مطلقا ، سواء حصل من الخبر أو من غير الخبر ، كالإجماع ، والشّهرة ، ونحوهما.

__________________

(١) ـ هداية المسترشدين : ص ٣٩١.

٢٢٥

وذلك لأنّ المراد بالسّنّة هي قول الحجّة أو فعله أو تقريره.

فإذا وجب علينا الرّجوع إلى مدلول الكتاب والسّنّة ولم نتمكّن من الرّجوع إلى ما علم أنّه مدلول الكتاب أو السّنّة تعيّن الرّجوع باعتراف المستدلّ إلى ما ظنّ كونه مدلولا لأحدهما ، فإذا ظننّا أنّ مؤدّى الشّهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره وجب الأخذ به ،

______________________________________________________

(وذلك) أي : بيان إنّ هذا الدّليل عين دليل الانسداد هو (لأنّ المراد بالسّنّة هي : قول الحجّة أو فعله ، أو تقريره) لا مجرّد الخبر ، ومن المعلوم : إنّ قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، قد يظنّ بها بسبب الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في الكتب ، وقد يظنّ بها بسبب إجماع ، أو شهرة ، أو ما أشبه ذلك ، فمن أين تخصيص هذا الدّليل بالظّنّ الحاصل من الأخبار الواردة ، مع إنّ هذا الدّليل يقتضي حجّيّة الظّنّ بفعل المعصوم ، أو قوله ، أو تقريره ، من أي سبب كان ، بسبب الخبر أو غير الخبر؟.

(فإذا وجب علينا الرّجوع إلى) الحكم الّذي هو (مدلول الكتاب والسّنّة ، ولم نتمكّن من الرّجوع إلى ما) أي : إلى الحكم الّذي (علم إنّه مدلول الكتاب أو السّنّة) بأن لم نعلم إنّ هذا مدلول الكتاب لعدم قطعيّة دلالته ، أو لم نعلم إنّ هذا مدلول الخبر لعدم قطعيّة صدوره ، أو إنّه صدر ولم نعلم إنّه للتقيّة أو لبيان الحكم الواقعي (تعيّن الرّجوع باعتراف المستدلّ) وهو صاحب الحاشية (إلى ما) أي : إلى الحكم الّذي (ظنّ كونه مدلولا لأحدهما) سواء كان هذا الظّنّ ـ الحاصل ـ بحكم الكتاب أو من الأخبار ، أو غيرهما.

(فإذا ظننّا إنّ مؤدّى الشّهرة ، أو معقد الإجماع المنقول) ـ مثلا ـ (مدلول للكتاب ، أو لقول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، وجب الأخذ به) أي : بذاك

٢٢٦

ولا اختصاص للحجّيّة بما يظنّ كونه مدلولا لأحد هذه الثّلاثة من جهة حكاية أحدها الّتي تسمى خبرا وحديثا في الاصطلاح.

نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدّليل الظّنّ الحاصل بحكم الله من أمارة لا يظنّ كونه مدلولا لأحد الثّلاثة.

______________________________________________________

المؤدّى (ولا اختصاص للحجّيّة بما) أي : بحكم (يظنّ كونه مدلولا لأحد هذه الثّلاثة من جهة حكاية أحدها) أي : أحد الثّلاثة من قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره.

والحاصل : إنّه لا يختص وجوب العمل بالأحكام الموجودة في الكتاب والسّنّة ، بصورة حصول الظّنّ بها من طريق نفس الكتاب ، أو من طريق الأخبار الّتي تحكي السّنّة ، بل إذا حصلنا على مدلول الكتاب ، أو على قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، من طريق الإجماع ، أو من طريق الشّهرة ، أو غيرهما ممّا يوجب الظّنّ ، وجب علينا العمل بذلك أيضا ، فلا اختصاص لهذا الدّليل بحكاية أحدها (الّتي تسمى خبرا وحديثا في الاصطلاح) الفقهي ، وبذلك يثبت حجيّة مطلق الظّنّ ، لا الظّنّ الحاصل من الخبر.

(نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدّليل) أي : دليل الانسداد الدّال على وجوب العمل بأحكام الكتاب والسّنّة (الظّنّ الحاصل بحكم الله من أمارة لا يظنّ كونه مدلولا لأحد الثّلاثة) من قول المعصوم أو تقريره أو فعله.

وإن شئت قلت : يخرج عن دليل الانسداد أمران :

الأوّل : الظّنّ بحكم الله الّذي نعلم إنّه لم يرد فى الكتاب ، ولا عن طريق الأئمّة عليهم‌السلام.

الثّاني : الظّنّ بحكم الله الّذي لا نعلم هل ورد في الكتاب ، أو عن

٢٢٧

كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الاستقراء أنّ الحكم كذا عند الله ولم يظنّ بصدوره عن الحجّة أو قطعنا بعدم صدوره عنه عليه‌السلام ، إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم عليهم‌السلام ، وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح.

______________________________________________________

طريقهم عليهم‌السلام أم لا؟.

وإنّما يختصّ هذا الدّليل بما إذا ظننّا بالحكم الّذي ورد في الكتاب أو عن طريقهم ، فإنّ الواجب هو العمل بالكتاب والسّنّة فقط ، فإذا علمنا بذلك فهو ، وإلّا قام الظّنّ المطلق مقام العلم.

(كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الاستقراء : إنّ الحكم كذا عند الله) سبحانه وتعالى (و) لكن (لم يظنّ) بوجود هذا الحكم المستفاد من الأولويّة أو الاستقراء في الكتاب ، ولا (بصدوره عن الحجّة) عليه‌السلام ، (أو قطعنا بعدم) وجوده في الكتاب ، وبعدم (صدوره عنه عليه‌السلام).

أمّا مثال الأولويّة العقليّة : فهو إنّه إذا كان قطع الثّلاثة من أصابع المرأة يوجب ثلاثين من الإبل ، لكان الأولى في الأربعة من أصابعها ثلاثين أو أكثر.

وأمّا مثال الاستقراء : فهو كما إذا قلنا بأنّ مقدمة الحرام حرام ، لأنّه استقرأنا فرأينا إنّه يحرم بيع السّلاح لأعداء الدّين ، وبيع العنب لمن يعمله خمرا ، وسوء الظّنّ بالمؤمن ، لأنّه يؤدي إلى القطيعة ، وهكذا.

وعلى أي حال : فإنّ الدّليل المذكور لا يدلّ على حجيّة أمثال هذه الظّنون ، وإنّما يدلّ على حجيّة الظّنّ المستفاد من الكتاب ، أو من السّنّة (إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم عليهم‌السلام ، وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح) ويكون ممّا سكت الله عنه ، كما ورد في الحديث : «اسكتوا عمّا سكت الله

٢٢٨

لكن هذا نادر جدا ، للعلم العادي بأنّ هذه المسائل العامّة البلوى قد صدر حكمها في الكتاب أو بيان الحجّة قولا أو فعلا أو تقريرا.

فكلّما ظنّ من أمارة بحكم الله تعالى ، فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم.

والحاصل : انّ مطلق الظّنّ بحكم الله ظنّ بالكتاب أو السّنّة ،

______________________________________________________

عنه» (١) وكما جاء في بعض الأخبار : من إنّ الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه» عند ما يظهر ، يظهر بعض الأحكام.

(لكن هذا) الحكم الواقعي المسكوت عنه ، الّذي لم يرد في الكتاب ولا في السّنّة (نادر جدا ، للعلم العادي بأن هذه المسائل العامّة البلوى) الّتي يكثر الابتلاء بها (قد صدر حكمها في الكتاب ، أو بيان الحجّة) بيانا (قولا ، أو فعلا ، أو تقريرا).

ومن أمثله ذلك النّادر : إنّ الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه» ، يحكم بين النّاس بعلمه الواقعي كحكم داود ، وإنّه يقتل مانع الزّكاة ، وما إلى ذلك.

وعليه : (فكلّما) حصل للفقيه (ظنّ من أمارة) كتابا كان أو خبرا أو إجماعا أو غير ذلك (بحكم الله تعالى) الواقعي (فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم) في الكتاب أو السّنّة ، وإن كان لا يفهم ذلك من الكتاب ، لأنّه يحتاج إلى بيان المعصومين ، أو لم تصل السّنّة به ، لأنّ كثيرا من السّنّة لم تصلنا بسبب أعداء الدّين والجهّال.

(والحاصل : إنّ مطلق الظّنّ بحكم الله) من أي طريق حصل ولو من الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو ما أشبه ذلك ، فهو (ظنّ بالكتاب أو السّنّة ،

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦.

٢٢٩

ويدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبار الكتاب والسّنّة الظّنيّة.

فإنّ قلت :

______________________________________________________

ويدلّ على اعتباره) أي : اعتبار مطلق الظّنّ بحكم الله سبحانه (ما دلّ على اعتبار) الظّنّ الحاصل من نفس (الكتاب والسّنّة الظّنيّة).

فإنّ انسداد باب العلم ـ على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى ـ يدلّ على إنّ مطلق الظنون حجّة ، حتّى أنّ بعضهم قال : إنّ الظّنّ القياسي في حال الانسداد أيضا حجّة.

(فإنّ قلت :) لا يخفى : إنّ صاحب الحاشية قال : الأحكام ثابتة لنا ، ومصدر الأحكام : الكتاب والسّنّة ، فإنّ أمكن العلم أو العلمي بالحكم منهما وجب تحصيله منهما بالعلم أو العلمي ، وإلّا وجب تحصيله منهما بالظّنّ ، فالخبر الواحد المظنون صدوره أو دلالته ، أو مضمونه ، حجّة.

وأشكل عليه المصنّف : بأن هذا الدّليل يدلّ على حجيّة مطلق الظّنّ بأحكام الله ، لا الظّنّ الحاصل بالحكم من خصوص الكتاب والسّنّة فقط ، بل الظّنّ بحكم الله الحاصل من الشّهرة ، أو الإجماع المنقول ، أيضا حجّة في حال الانسداد.

ثمّ إنّ المصنّف بقوله : «فإنّ قلت» أشكل على جوابه بما حاصله : إنّ صاحب الحاشية يريد إنّ الواجب علينا بالضّرورة والإجماع : هو الرّجوع إلى الأخبار فإذا حصل لنا العلم بتلك الأخبار سندا ودلالة ومضمونا ، فهو ، وإلّا وجب الرّجوع إليها رجوعا ظنّيا ، فليس مقتضى دليله : إنّ مطلق الظّنّ حجّة حتّى تقولون إنّه ليس خاصّا بالأخبار.

ثمّ أجاب المصنّف عن هذا الإشكال بجوابين :

٢٣٠

المراد بالسّنّة الأخبار والأحاديث.

والمراد إنّه يجب الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة عنهم ، فإنّ تمكّن من الرّجوع إليهما على وجه يفيد العلم فهو ، وإلّا وجب الرّجوع إليهما على وجه يظنّ منه بالحكم.

قلت :

______________________________________________________

أوّلا : السّنّة نفس قول المعصوم ، أو تقريره ، لا الخبر الحاكي للثّلاثة ، فليس الخبر سنّة ، فلما ذا جعل صاحب الحاشية الخبر سنّة؟.

ثانيا : إنّ الرّجوع إلى الأخبار الحاكية ليس عليها ضرورة أو اجماع ، وإنّما الضّرورة والإجماع في الرّجوع إلى قول المعصوم ، فعله ، وتقريره ، فكيف قال صاحب الحاشية : إنّ الرّجوع إلى الأخبار الحاكية ضروري وإجماعي؟.

إذا ظهر ذلك رجعنا إلى توضيح المتن حيث يقول «فإنّ قلت» : (المراد) لصاحب الحاشية (بالسّنّة) الّتي ادّعى وجوب العمل بها للإجماع والضرورة والتّواتر هي (: الأخبار والأحاديث) المصطلحة الواصلة إلينا ، فيكون الظّنّ بها قائما مقام العلم والعلمي ، عند فقد العلم والعلمي.

(و) كذا (المراد) لصاحب الحاشية من كلامه ذلك (: إنّه يجب الرّجوع إلى) الكتاب و (الأخبار المحكية عنهم) عليهم‌السلام (فإنّ تمكّن) المكلّف (من الرّجوع إليهما على وجه يفيد العلم) بأن علم بمراد القرآن وعلم بالصّدور ، والدّلالة ، والمضمون الواقعي للأخبار لا إنّه لتقيّة (فهو ، وإلّا وجب الرّجوع إليهما على وجه يظنّ منه بالحكم) لانّ الظّنّ قائم مقام العلم والعلمي عند تعذّرهما.

(قلت :) إنّه كما مرّ قد أجاب بجوابين :

٢٣١

مع انّ السّنّة في الاصطلاح عبارة عن نفس قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، لا حكاية أحدها ، يرد عليه : انّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكية ، المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على الرّجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع والضّرورة الثّابتة من الدّين أو المذهب.

وأمّا الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة ، الّتي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضّرورة من الدّين الّتي إدّعاها المستدلّ ،

______________________________________________________

أوّلا : (مع إنّ السّنّة في الاصطلاح) الفقهائي (عبارة عن نفس قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، لا حكاية أحدها) فليست الرواية سنّة ، وإنّما السّنّة هو المحكي ، لا الحاكي.

ثانيا : إنّه (يرد عليه :) أي : على مراد صاحب الحاشية : بأنّا نسلّم (إنّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكيّة ، المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على) وجوب (الرّجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع) والتواتر (والضّرورة الثابتة من الدّين) عند عامّة المسلمين فقد قامت عندهم الضّرورة على الرّجوع إلى قول الحجّة (أو المذهب) فإنّ الخاصّة أيضا مجمعون على هذا الأمر (وامّا الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة ، الّتي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضّرورة من الدّين) أو المذاهب (الّتي إدّعاها المستدلّ).

وعليه : فالأخبار الحاكية ، ما كان منهما متواترا ، أو محفوفا بقرائن قطعيّة ، دخلت في السّنّة ، ودلّ على وجوب العمل بها ما دلّ على وجوب العمل بالسّنّة ، إذ الإجماع والضّرورة والتّواتر كما دلّت على وجوب العمل بقول المعصوم ،

٢٣٢

فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما إدّعاه الشّيخ والعلّامة قدس‌سرهما في مقابل السّيد وأتباعه قدس‌سرهم.

وأمّا دعوى الضّرورة من الدّين والأخبار المتواترة ، كما إدّعاها المستدلّ ، فليست في محلّها؟ ولعلّ هذه الدّعوى قرينة على أنّ مراده من السّنّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا حكايتها الّتي لا توصل

______________________________________________________

أو فعله أو تقريره ، كذلك دلّت على وجوب العمل بالأخبار الحاكية القطعيّة ، وامّا ما كان من الأخبار ظنّيّا ، فلا يدخل في السّنّة ، ولا يجب العمل بها ، ولم يقم على وجوب العمل بها إجماع ولا ضرورة ولا تواتر.

(فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما إدّعاه الشّيخ والعلّامة قدس‌سرهما في مقابل السيد وأتباعه قدس‌سرهم) فقد ادّعى الشّيخ والعلّامة ـ كما مرّ ـ الإجماع على العمل بالأخبار الخاصّة ، وهذا إجماع من الإماميّة فقط ، لا إجماع من المسلمين كافّة.

(واما دعوى الضرورة من الدّين والأخبار المتواترة ، كما ادّعاها المستدلّ) وهو الشّيخ محمّد تقي (فليست في محلّها) فإنّ المستدلّ ادّعى الإجماع والضّرورة والتّواتر على وجوب العمل بالسّنّة ، والحال إنّه لا ضرورة ولا تواتر.

نعم ، الإجماع ، إمّا ادعاؤه الضّرورة والتّواتر ، فليس في محله.

(ولعلّ هذه الدّعوى) الّتي إدّعاها المستدلّ من الضّرورة والأخبار المتواترة (قرينة على انّ مراده) أي : مراد المستدلّ وهو صاحب الحاشية (من السّنّة :) معناها المصطلح ، أي : (نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره ، لا حكايتها) أي : لا الأخبار الّتي هي حكاية للسّنّة الواقعيّة (الّتي لا توصل) تلك الأخبار

٢٣٣

إليها على وجه العلم.

نعم ، لو ادّعى الضّرورة على وجوب الرّجوع إلى تلك الحكايات الغير العلميّة لأجل لزوم الخروج عن الدّين لو طرحت بالكليّة.

يرد عليه :

______________________________________________________

المكلّف (إليها) أي : إلى السّنّة الواقعيّة (على وجه العلم) وإنّما الأخبار تكون طريقا ظنّيّا إلى قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره.

(نعم) لا بأس بكلامه (لو ادّعى الضّرورة على وجوب الرّجوع إلى تلك الحكايات غير العلميّة) وهي الأخبار (لأجل لزوم الخروج عن الدّين لو طرحت بالكليّة) فانّه لا شكّ في وجوب الرّجوع إلى الأخبار ، من جهة إنّ في طرحها يلزم الخروج من الدّين ، فيكون في ادّعاء الضّرورة عليه لأجل الانسداد وجه.

أمّا الرّجوع إلى الأخبار من حيث انّها أخبار ظنّيّة ، فلا إشكال في إنّه لا يصحّ دعوى الضّرورة عليه لأجل الانسداد.

لكن (يرد عليه :) إنّ دعواه هذه بقوله : «نعم» عبارة أخرى عن دليل الانسداد ، وليس دليلا جديدا ، فانّه فرق بين أنّ يكون هذا الدّليل العقلي الّذي ذكره لأجل حجيّة الخبر بما هو خبر ، أو لأجل حجيّة الظّنّ بما هو ظنّ ممّا هو أعمّ من الخبر.

فإنّ كان مراد المستدلّ الانسداد الكبير ، وهو : أنّ نعلم إجمالا بوجود تكاليف كثيرة في الواقع ثابتة علينا ، ولا طريق لنا إلى العلم بها تفصيلا ، ولا إلى العلمي القائم مقام العلم ، والاحتياط في الكلّ حرج أو متعذّر ، والرّجوع إلى البراءة وطرح هذه الأخبار موجب للخروج من الدّين ، فيجب الأخذ بها بالضّرورة ، حذرا من المحذور ، وتقديما للظّنّ على الشّكّ والوهم ، وهذا دليل الانسداد بعينه ، وليس

٢٣٤

أنّه إنّ أراد لزوم الخروج عن الدّين من جهة العلم ، بمطابقة كثير منها للتّكاليف الواقعيّة ، الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلا ؛ فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الّذي ذكروه لحجيّة الظّنّ ، ومفاده ليس إلّا حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التكليف الواقعي.

وان أراد لزومه من جهة خصوص العلم الاجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار

______________________________________________________

دليلا عقليّا في قبال دليل الانسداد.

وذلك (إنّه) أي : المستدلّ (إن أراد لزوم الخروج عن الدّين من جهة العلم بمطابقة كثير منها) أي : من هذه الأخبار (للتّكاليف الواقعيّة ، الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلا ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد) المعروف الّذي يأتي الكلام فيه.

ودليل الانسداد هو (الّذي ذكروه لحجية الظّنّ) مطلقا ، سواء كان في الأخبار أو في غير الأخبار ، بل قد عرفت : إنّ بعضهم قال بحجية الظّنّ عند الانسداد ، حتى إذا كان مستفادا من القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو غيرها.

(ومفاده) أي : مفاد دليل الانسداد الكبير ، الدّال على حجيّة مطلق الظّنّ ـ لا الانسداد الصغير الدّال على حجيّة خبر الواحد فقط ـ (ليس إلّا حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التّكليف الواقعي) سواء كان خبرا أو غير خبر.

(وإن أراد لزومه) أي : لزوم الخروج من الدّين ، لأجل الانسداد الصّغير الدّال على حجيّة الخبر فقط ، وذلك (من جهة خصوص العلم الاجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار) الّتي بأيدينا ، وحيث لا طريق عقلا للعلم بها تفصيلا ، فالأخذ

٢٣٥

حتى لا يثبت بها غير الخبر الظّنّي من الظنون ليصير دليلا عقليّا على حجيّة الخبر ، فهذا الوجه يرجع الى الوجه الأوّل ، الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ، فراجع.

هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر ، وقد علمت دلالة بعضها ، وعدم دلالة البعض الآخر.

______________________________________________________

بمظنون الصّدور جميعا للضّرورة (حتّى لا يثبت بها) أي : بجهة العلم الاجمالي هذا ، حجيّة (غير الخبر الظّنّي من الظنون) الّتي مبعثها مثل الشّهرة ، والإجماع ، وغير ذلك (ليصير) العلم الاجمالي المذكور (دليلا عقليا على حجيّة الخبر) بخصوصية فقط ، وهذا هو ما سميناه بالانسداد الصّغير.

وعليه : (فهذا الوجه) العقلي الّذي ذكره صاحب الحاشية لحجيّة الخبر (يرجع الى الوجه الأوّل ، الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه) من إنّ وجوب العمل بالأخبار الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ، إنّما هو من جهة وجوب العمل بأحكام الله سبحانه ، لا بما انّها أخبار ، فإنّ الواجب على الانسان العمل بأحكام الله ، فإنّ استطاع تحصيل العلم بها فهو ، وإلّا فعند انتفاء العلم يجب العمل بكلّ أمارة يظنّ كون مضمونها الحكم الصّادر عنهم.

وعلى أي حال : فهذا الدّليل إمّا راجع إلى دليل الانسداد الآتي ، وأمّا راجع الى الدّليل الأوّل المتقدّم ، وليس دليلا جديدا (فراجع) ما ذكرناه في الدّليل الأوّل ، وكذا ما سنذكره في دليل الانسداد لترى صحّة ذلك إن شاء الله تعالى.

(هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر) بما هو خبر ، من الكتاب ، والسّنّة ، والإجماع ، والعقل (وقد علمت : دلالة بعضها ، وعدم دلالة البعض الآخر) ممّا تقدّم تفصيل الكلام فيه ، وذكرنا : إنّ جملة ممّا قال المصنّف

٢٣٦

والإنصاف : أنّ الدّال منها ، لم يدلّ إلّا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الّذي فسّر به الصّحيح في مصطلح القدماء.

والمعيار فيه أنّ يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتّردّد الّذي لا ينافي حصول مسمّى الرّجحان ،

______________________________________________________

بعدم دلالته ، له دلالة.

هذا (والإنصاف : إنّ الدّال منها ، لم يدلّ إلّا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه) أي : مضمونه ، سواء من جهة السّند ، أو من جهة المضمون ، وإن لم يكن الرّاوي عدلا ضابطا إماميّا (وهو الّذي فسّر به الصّحيح) من الخبر (في مصطلح القدماء) فإنّ الصّحيح في مصطلح القدماء هو ما يوجب الوثوق ، وأمّا الصّحيح في مصطلح المتأخّرين فهو ما كان سنده عدلا ضابطا إماميّا فقط.

إذن : فالصّحيح في مصطلح المتأخّرين ، أخصّ من الصّحيح في مصطلح القدماء ، وربّما يقال : بأنّ بينهما عموم من وجه ـ كما ألمعنا إلى ذلك سابقا ـ.

(والمعيار فيه) أي : فيما يفيد الوثوق والاطمئنان ممّا هو حجّة (: أنّ يكون احتمال مخالفته) أي : مخالفة الخبر (للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به) أي : بذلك الاحتمال (العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتّردّد) في الأمر.

وذلك هو (الّذي لا ينافي حصول مسمى الرّجحان) فإنّ الوثوق هو عبارة : عمّا يعمل به العقلاء في كافة أمورهم وإن احتملوا خلافه احتمالا بعيدا ، فإنّ من يراجع الطّبيب ، يثق به وإن احتمل اشتباهه في تشخيص المرض ، أو الدّواء ، ومن يسافر بالباخرة أو الطّائرة أو السّيّارة ، يثق بها وبمن يسوقها وان احتمل اشتباه

٢٣٧

كما نشاهد في الظّنون الحاصلة بعد التّروي في شكوك الصّلاة ، فافهم.

وليكن على ذكر منك ، لينفعك فيما بعد.

الثّاني حجيّة مطلق الظّنّ

فلنشرع في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ من غير خصوصيّة للخبر يقتضيها نفس الدّليل وإن اقتضاها دليل آخر ،

______________________________________________________

السّائق أو عطب الآلة في أثناء الطّريق ، وهكذا.

وهذا المعيار هو جار لمن يعمل بالخبر الواحد الّذي يثق به ، فإنّ بعض الوثوق المذكور لا يبقي للانسان تحيّر وتردد (كما نشاهد في الظّنون الحاصلة بعد التّروي) والتّفكّر (في شكوك الصّلاة) فانّه حيث يثق بأحد الطّرفين بعد التّروي يمضي عليه ، وإن كان يحتمل الطّرف الآخر أيضا احتمالا ضعيفا ، لكن مثل هذا الاحتمال الضّعيف ليس مورد اتّباع العقلاء.

(فافهم) ذلك الّذي ذكرناه من مسألة كفاية الوثوق.

(وليكن على ذكر منك ، لينفعك فيما بعد) عند بيان دليل الانسداد ، كي ترى ؛ هل إنّ الظّنون الخاصّة كافية لسدّ هذا الاحتياج أم لا؟ والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين.

الثّاني حجيّة مطلق الظّنّ

هذا ، وقد عرفت تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر بما هو خبر ، (فلنشرع في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ من غير خصوصيّة للخبر) أي سواء كان الظّنّ حاصلا من الخبر أو من غير الخبر ، وذلك بصورة (يقتضيها) أي : يقتضي تلك الحجّيّة (نفس الدّليل) فإنّ نفس هذه الأدلّة الّتي نذكرها لا تقتضي حجيّة الخبر بخصوصه (وإن اقتضاها) من الخارج (دليل آخر) ،

٢٣٨

وهو كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقّن الثّبوت من ذلك الدّليل إذا فرض إنّه لا يثبت إلّا الظّنّ في الجملة ولا يثبته كليّة ، وهي أربعة :

الاوّل :

إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ،

______________________________________________________

فيكون هناك دليلان : أوّلا : دليل يدلّ على حجيّة الظّنّ مطلقا.

ثانيا : دليل يدلّ على حجيّة الخبر بصورة خاصّة.

وبانضمام أحد الدّليلين إلى الآخر تكون النّتيجة حجيّة الخبر.

(وهو) أي : الدّليل الآخر (كون الخبر مطلقا) بكلّ أفراده (أو خصوص قسم منه) أي : من الخبر ، كخبر الثّقة ، أو كخبر العدل الضّابط الإمامي ، أو ما أشبه ذلك (متيقّن الثّبوت من ذلك الدّليل) أي : الدّليل الآخر.

لكن انّما نذهب إلى قسم ما تيقّن ثبوته (إذا فرض إنّه) أي : إذا فرض إنّ الدّليل على حجيّة الظّنّ (لا يثبت إلّا الظّنّ في الجملة و) إنّه (لا يثبته) أي : الظّنّ (كلّيّة ، و) عموما.

والحاصل : إنّ الدّليل الدّال على حجيّة الظّنّ مطلقا ، شمل الخبر وغير الخبر ، فلا يكون ذلك الدّليل دليلا على حجيّة الخبر فقط ، وإن أفاد ذلك الدّليل حجيّة الظّنّ في الجملة ، أخذنا منه القدر المتيقّن ، والقدر المتيقّن هو الخبر أمّا مطلقا بكلّ أفراد الخبر ، أو بعض أقسام الخبر ـ على ما قد عرفت ـ.

ثمّ إنّ الأدلّة الّتي أقاموها على حجّيّة الظّنّ مطلقا (هي أربعة) أدلّة :

(الأوّل : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ، مظنّة للضّرر) فإذا ظنّ المجتهد وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، كان معناه : إنّه إذا ترك الدّعاء وقع في العقاب ، وإذا ظنّ حرمة شرب التّتن ، ثمّ خالف وشربه ظنّ

٢٣٩

ودفع الضّرر المظنون لازم.

أمّا الصّغرى ، فلأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ باستحقاق العقاب على التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ظنّ باستحقاق العقاب على الفعل ؛ أو لأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بوجود المفسدة في التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بالمفسدة في الفعل ، بناء على قول «العدليّة» بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد. وقد جعل في النّهاية كلا من الضّررين

______________________________________________________

بالعقاب ، وهو ضرر (ودفع الضّرر المظنون لازم) بحكم العقل.

(أمّا الصّغرى) وهي ما ذكره بقوله : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه (فلأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ باستحقاق العقاب على التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ باستحقاق العقاب على الفعل) لأنّ الوجوب ما في تركه العقاب ، والحرمة ما في فعلها العقاب (أو لأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بوجود المفسدة في التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بالمفسدة في الفعل) لأنّ الواجبات إنّما تكون واجبات لما فيها من المصالح الممنوعة التّرك ، والمحرّمات إنّما تكون محرّمات لما فيها من المفسدة الممنوعة الإتيان.

وذلك (بناء على قول العدليّة بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد) دون الأشاعرة ، إذ الأشاعرة يرون الدّليل الأوّل وهو : إنّ في ترك الواجب وفعل الحرام العقاب ، ولا يرون الدّليل الثّاني وهو : إنّ في الواجب مصلحة ملزمة ، وفي الحرام مفسدة ملزمة.

وإنّما يرى الدّليل الثّاني ـ إضافة إلى الدّليل الأوّل ـ العدليّة فقط ، وهم الشّيعة والمعتزلة ، القائلون بعدالة الله سبحانه وتعالى ، ولهذا سموا بالعدليّة.

(وقد جعل في النّهاية كلا من الضّررين) : استحقاق العقاب ، ووجود

٢٤٠