الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-03-1
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وإن أريد ثبوت الاتفاق على العمل بها في الجملة على اختلاف العاملين في شروط العمل حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم ، مطروحا عند الآخر ، فهذا لا ينفعنا إلّا في حجّيّة ما علم اتفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ،

______________________________________________________

واحد من هذه الأخبار ، ويدلّ على عدم عملهم بكلّ واحد واحد ، ما تقدّم : من إنّ القمّيّين استثنوا كثيرا من أخبار نوادر الحكمة ، مع كونه من الكتب المشهورة.

وكذلك تقدّم : إنّ ابن الوليد استثنى من روايات العبيدي ما يرويها عن يونس ، مع انّها منقولة في الكتب المشهورة ، وإن الصّدوق تبع شيخه ابن الوليد في ذلك ، والى آخره.

والحاصل : إنّ العلماء لا يعملون بكلّ واحد واحد من هذه الأخبار المودعة في الكتب.

(وإن أريد : ثبوت الاتّفاق على العمل بها في الجملة) أي : انّهم مجمعون على الرجوع الى الكتب المشهورة في الفروع الفقهية ونحوها (على اختلاف العاملين في شروط العمل).

فإنّ بعضهم يشترط في العمل : الاحتفاف بالقرائن القطعيّة ، وبعضهم : يكتفي بالوثاقة ، وبعضهم : لا يكتفي بالوثاقة ، بل يعتمد على الصحّة ، بمعنى : أن يكون الراوي إماميا عدلا ضابطا ، وهكذا (حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم ، مطروحا عند الآخر) كما هو المتعارف لديهم في الفقه عند عملهم بالأخبار ، فبعض يعمل بهذا الخبر ، وبعض يتركه ، وبعض يجعله مؤيدا ، والى غير ذلك.

(فهذا) الإجماع بهذا المعنى (لا ينفعنا إلّا في في حجّيّة ما علم : اتفاق الفرقة على العمل به بالخصوص) فإنّه هو الّذي يكون مجمع عليه بين الأصحاب ،

١٨١

وليس يوجد ذلك في الأخبار إلّا نادرا ، خصوصا مع ما نرى من رد بعض المشايخ ، كالصّدوق والشّيخ ، بعض الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة ، بضعف السّند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما.

وأما ثانيا ، فلان ما ذكر من الاتفاق لا ينفع ، حتّى في الخبر الذي علم اتفاق الفرقة على قبوله والعمل به ،

______________________________________________________

لا كلّ خبر خبر.

وعليه : فإنّ بين الأصحاب من حيث العمل بالأخبار ، عموم من وجه فبعض يعمل بهذا ، وبعض يعمل بذاك ، وكلّهم يجتمع في العمل ببعضها الآخر (وليس يوجد ذلك) أي : المجمع عليه (في الأخبار إلّا نادرا ، خصوصا مع ما نرى من ردّ بعض المشايخ : كالصّدوق ، والشّيخ ، بعض الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة) فانّهم يردونها (بضعف السّند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما) كمخالفة المشهور ، أو انّه يوجب الغلو ، أو ما أشبه ذلك.

وحينئذ : يكون المجمع عليه من الأخبار نادرا ، ولعلّه أقل من ثلث الأخبار.

لكن لا يخفى ما في هذا الوجه ، إذ الكلّ يعملون بغالب الأحاديث المرويّة في هذه الكتب المعتبرة ، ولذا ترى إنّ المتّفق عليه بين الكلّ ـ في غالب أصول المسائل ـ المستند الى الرّوايات كثير جدا.

(وأما ثانيا : فلان ما ذكر من الاتفاق لا ينفع ، حتّى في الخبر الّذي علم اتفاق الفرقة على قبوله والعمل به) أي : إنّ الإجماع العملي لا ينفع حتّى في حجّيّة الخبر المجمع عليه ، إذ العمل لا يجوّز عمل الغير ، ما دام لم ير ذلك الغير مستند العمل صحيحا ، فإذا عمل الكلّ ، أو عرف اختلاف وجه العمل ، ولم ير هذا

١٨٢

لأنّ الشّرط في الاتفاق العملي أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما.

ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة يعلم برضاء الإمام عليه‌السلام بعملهم على النظر الى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم ، وأمّا لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة لخامس ، وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتّفاق الجماعة ، الكاشف عن رضا

______________________________________________________

الانسان صحّة أحد الوجوه ، لم يجز له العمل مستندا الى اجماعهم العملي على ذلك الخبر المختلف وجه عملهم به.

مثلا : إذا رأى زيد إجماع كلّ الفقهاء على إنّ قتل رجل جائز واختلفوا في وجهه ، فبعضهم لأنّه يراه مرتدا ، وبعضهم لأنّه يراه زانيا زنا محصنا ، وبعضهم لأنّه يراه منجّس الكعبة عمدا ، فهل يجوز لزيد الّذي لا يرى صحّة شيء من هذه الوجوه ان يقتل الرجل الذي رأوه مهدور الدم؟.

وذلك (لأنّ الشرط في) كون (الاتفاق العملي) مثبتا بحجيّة الخبر (أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما) كما إذا علمنا : انّهم أجمعوا على العمل بهذا الخبر لكونه خبر ثقة ـ مثلا بالاضافة الى انّه يلزم أن نرى نحن أيضا : صحّة الاستناد الى الخبر الموثوق به.

(ألا ترى : انّه لو اتّفق جماعة ـ يعلم برضا الإمام عليه‌السلام بعملهم ـ على النّظر الى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم : كونها زوجة لبعضهم ، وأما لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة) أي : ربيبة (لخامس) وعمّة لسادس ، وخالة لسابع (وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتفاق الجماعة ، الكاشف) ذاك الاتفاق (عن رضا)

١٨٣

الإمام عليه‌السلام بل لو رأى شخص الإمام عليه‌السلام ينظر الى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسي به؟. وليس هذا كلّه إلّا من جهة أن الفعل لا دلالة فيه على الوجه الّذي يقع عليه ، فلا بدّ في الاتّفاق العملي من العلم بالجهة والحيثيّة الّتي اتفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة.

ومرجع هذا الى وجوب إحراز الموضوع في الحكم

______________________________________________________

الإمام عليه‌السلام؟) أي : رضاه بنظر أولئك المجمعين الى هذه المرأة؟.

(بل لو رأى شخص : الإمام عليه‌السلام ينظر الى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسي به؟) أي : في جواز النّظر إليها مع انّه لا يعلم وجه نظر الإمام ، هل هو لانّها محرم للجميع ـ مثلا ـ أو لانّها محرم للامام عليه‌السلام فقط؟.

(وليس هذا كلّه) أي : عدم جواز النظر الى المرأة ، سواء في الصّورة الأولى أو في الصّورة الثّانية (إلّا من جهة : إنّ الفعل لا دلالة فيه على الوجه الّذي يقع عليه) فإنّ مجرّد نظر الجماعة مع رضا الإمام ، أو نظر الإمام عليه‌السلام مع انّه لا يخطأ ، ولا يسهو ، ولا ينسى قطعا ، لا يدلّ على انّه من جهة المحرمية للجميع ، حتّى يجوز النّظر إليها لهذا الانسان أيضا ، أو من جهة خاصّة ، حتّى لا يجوز إلّا لمن توفّرت فيه تلك الجهة الخاصّة.

إذن (فلا بدّ في) حجّيّة (الاتفاق العملي من) أمرين : أولا : (العلم : بالجهة والحيثيّة الّتي اتّفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة) ، ثانيا : توفر تلك الجهة عند الآخرين.

فإذا لم يحصل أي من الأمرين ، أو لم يحصل كلاهما ، لم يجز للشخص الآخر الاستناد الى اتفاقهم في جواز ما رأوه جائزا.

(ومرجع هذا) الشرط الذي ذكرناه (الى وجوب إحراز الموضوع في الحكم

١٨٤

الشّرعي المستفاد من الفعل.

ففيما نحن فيه إذا علم بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة ، وبعضهم من حيث كونه ظانا بصدوره قاطعا بحجيّة هذا الظّنّ ، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ، ولا العلم بحجيّة الظّنّ الحاصل منه ، أو علمنا بخطإ من يعمل به لأجل مطلق الظّنّ ، أو احتملنا خطأه ، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين.

______________________________________________________

الشّرعي المستفاد من الفعل) فإنّ الفعل لا دلالة فيه بذاته ، فلا يمكن الاقتداء به إلّا بعد معرفة وجهه ، ومعرفة إنّ تلك الجهة منطبقة على هذا الانسان الّذي يريد الاقتداء بهم في ذلك الفعل.

(ففيما نحن فيه) من الإجماع على العمل بالاخبار المودعة في الكتب المعتبرة (إذا علم : بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر ، أو بالقرينة) أو من حيث كونه موافقا للقرآن ، أو مخالفا للعامّة ، أو ما أشبه ذلك. (وبعضهم من حيث كونه ظانا بصدوره) و (قاطعا بحجيّة هذا الظّنّ) إمّا من باب انّه ظن خاصّ ، أو انّه ظنّ مطلق ، حيث يرى الانسداد ، فيعمل بالظنّ المطلق.

(فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ، ولا العلم بحجيّة الظّنّ الحاصل منه) أي : من الخبر ، لا ظنا خاصّا حيث لا نقول : بحجيّة الخبر ، ولا ظنا مطلقا ، حيث لا نقول بالانسداد.

(أو علمنا بخطإ من) يقول : بالانسداد ، لأنا لا نرى تماميّة مقدمات الانسداد ولا صحّة من (يعمل به) أي : بالخبر (لاجل) حجّيّة (مطلق الظّنّ) الانسدادي عنده (أو احتملنا خطأه) في عمله بالخبر ، لأجل مطلق الظّنّ (فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين) فكيف يكون مثل هذا الاجماع حجّة؟.

١٨٥

الرابع دليل العقل

وهو من وجوه ، بعضها مختص باثبات حجّيّة خبر الواحد ، وبعضها يثبت حجّيّة الظّنّ مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر.

أما الأوّل فتقريره من وجوه

______________________________________________________

لكن ربّما يقال : إنّ ما دلّ على حجّيّة الإجماع ، يكون لنا حجّة إلّا إذا علمنا خطأه ، لا ما إذا احتملنا خطأه ، فعطف المصنّف الاحتمال على العلم بالخطإ ، ليس على ما ينبغي.

(الرابع) من أدلّة حجّيّة خبر الواحد (: دليل العقل) فانّا قد ذكرنا : الكتاب ، والسّنّة ، والإجماع ، واستدللنا بها على حجّيّة خبر الواحد ، فلم يبق إلّا دليل العقل.

(وهو من وجوه : بعضها مختص باثبات حجّيّة خبر الواحد) بما هو خبر واحد.

(وبعضها : يثبت حجّيّة الظّنّ مطلقا) من أي سبب حصل ، كما يقال في الانسداد بذلك.

(أو) يثبت حجّيّة الظّنّ (في الجملة) كالظن الاطمئناني أو الظّنّ الذي يكون مبعثه الأخبار ، لا الظنون الّتي تحصل من أي سبب ، ولو من جريان الميزاب ، أو طيران الغراب ، أو القياس ، أو الاستحسان ، أو ما أشبه ذلك.

وعليه : (فيدخل فيه) أي : في مطلق الظّنّ ، أو الظّنّ في الجملة ـ على ما ذكرناه ـ (الخبر) لأنّه القدر المتيقن من الظّنّ ، سواء كان حجّة من أي سبب ، أو من بعض الأسباب الخاصّة.

(أما الأوّل :) أي : الوجه العقلي الدّال على حجّيّة الخبر بما هو خبر (فتقريره من وجوه) حسب ما يلي :

١٨٦

أوّلها : ما اعتمدته سابقا ، وهو أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرّواة المذكورة في تراجمهم في كون أكثر الأخبار بل جلّها ، إلّا ما شذّ وندر ، صادرة عن الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا يظهر بعد التأمل في كيفية ورودها إلينا وكيفيّة اهتمام أرباب الكتب

______________________________________________________

(أوّلها : ما اعتمدته سابقا) وكنت أرى : انّه كاف لاثبات حجّيّة الخبر ، لكني عدلت عنه في الزّمن المتأخّر (وهو :) إنّا نعلم إجمالا بصدور أكثر هذه الأخبار عن المعصومين عليهم‌السلام ومن الواضح : إنّ الأخبار الصّادرة عنهم ، يجب العمل بها فعلا في الواجبات ، وتركا في المحرّمات ، وحيث لا سبيل الى العلم بها تفصيلا ، فلا بدّ من العمل بكلّ خبر ظنّ بصدوره إن كان العمل بالكلّ متعسرا ، أو متعذرا ، والّا فاللازم العمل بالكلّ حسب العلم الاجمالي.

وبيان هذا الدليل هو : (انّه لا شكّ للمتتبع في أحوال الرّواة) ان يطمئن الى انّهم : أجلاء ، ثقاة معتمدون ، وجماعة منهم عدول ، فإنّ الملاحظ لهذه الأحوال (المذكورة في تراجمهم) وتوضيح حالاتهم في كتب الرجال وغيرها ، لا يشكّ (في كون أكثر الأخبار ، بل جلّها ، إلّا ما شذّ وندر ، صادرة عن الائمة عليهم‌السلام).

فإنّ تنقيح الرّوايات ، وشدّة الاعتناء بها من العلماء الأجلاء ، متنا وسندا ، وجهة توجب هذا العلم ، خصوصا إنّه لم يكن للأئمة عليهم‌السلام مال ، أو سلطة ، أو سلاح ، ممّا تجمع غالبا طلاب الدّنيا وأصحاب الهوى.

(وهذا) أي عدم الشّكّ في صدور أكثر الأخبار حتّى إنّ الخلاف نادر (يظهر بعد التأمّل في) حالات الرّواة و (كيفية ورودها) أي : ورود الأخبار (إلينا) كابرا عن كابر ، وعالما عن عالم (وكيفيّة اهتمام أرباب الكتب) المصنّفة في الحديث من زمان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان شيخ الطّائفة.

١٨٧

من المشايخ الثّلاثة ومن تقدّمهم ، في تنقيح ما أودعوه من كتبهم ، وعدم الاكتفاء بأخذ الرّواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم حذرا من كون ذلك مدسوسا فيه من بعض الكذّابين.

فقد حكي عن أحمد بن محمّد بن عيسى إنّه : «جاء إلى الحسن بن الوشّاء وطلب منه أنّ يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا لأبان بن عثمان الاحمر ، فلمّا أخرجهما ، قال : أحبّ أنّ أسمعهما.

______________________________________________________

والمقصود (من) أرباب الكتب هم (المشايخ الثّلاثة) الصّدوق ، والكليني ، والطّوسي ، أرباب الكتب الأربعة المشهورة ، وقد كانت الكتب في السّابق خمسة ، باضافة «مدينة العلم» للصّدوق ، لكن هذا الكتاب فقد منذ خمسمائة سنة ـ كما يقولون ـ (ومن تقدّمهم) أيضا من العلماء ، الّذين دوّنوا الأصول الأربعمائة ، وغيرها.

فإنّه يظهر بعد التأمّل في كيفيّة اهتمام هؤلاء العلماء (في تنقيح ما أودعوه) ودوّنوا (في كتبهم ، و) أصولهم ، من (عدم الاكتفاء بأخذ الرّواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم) ما لم يسمعوها من مؤلف الكتاب أو يقرءوها عليه.

ولذا كثرت فيهم الإجازة ، وقراءة الحديث عند الأستاذ (حذرا من كون ذلك) الخبر (مدسوسا) ومدخولا (فيه) أي : في ضمن ذلك الكتاب (من بعض الكذّابين) والدسّاسين.

(فقد حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى أنّه) أي : أحمد (جاء إلى الحسن بن الوشّاء وطلب منه) أي : من الحسن (أنّ يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين ، وكتابا لأبان بن عثمان الأحمر ، فلمّا أخرجهما) الحسن إليه (قال :) أحمد :

اقرأهما فإنّي (أحبّ أن أسمعهما) منك ، ليطمئن قلبي ، بأنّ هذه الرّوايات

١٨٨

قال : ما أعجلك اذهب ، فاكتبهما واسمع من بعده.

فقال له : لا آمن الحدثان.

فقال : لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطّلب لاستكثرت منه ، فأنّي قد أدركت في هذا المسجد مائة شيخ ، كلّ يقول : حدثني جعفر بن محمّد عليهما‌السلام».

______________________________________________________

هي روايات الكتابين من غير زيادة أو نقيصة.

(قال) الحسن : (ما أعجلك؟) أي : ما الّذي سبّب لك العجلة في القراءة الآن؟ (اذهب ، فاكتبهما) واستنسخهما (واسمع من بعده) أي : من بعد أنّ تستنسخ الكتاب ، فإنّي أقرأهما عليك.

(فقال له) الحسن : (لا آمن الحدثان) أي : أخاف أنّ أكتب ثمّ أموت ، ولا أوفّق للمقابلة والاستماع منك ، والحدثان عبارة عن الليل والنّهار ، فإنّ كلّ واحد منهما حدث جديد ويكون فيه أحداث جديدة.

(فقال) الحسن : (لو علمت انّ الحديث يكون له هذا) الإقبال و (الطّلب ، لاستكثرت منه) أي : جمعت خبرا أكثر من هذا الّذي جمعت (فإنّي قد أدركت في هذا المسجد مائة شيخ ، كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد عليهما‌السلام) (١).

ولعلّ الأحاديث الّتي لم يجمعها ، كانت في باب المستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، أو كانت مكرّرات مع الأحاديث الّتي جمعها ، أو كان في جمعها عسر وحرج ، والانسان مأمور بالجمع من الطرق المتعارفة ، وبالطرق المتعارفة ، كما هو كذلك بالنّسبة إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لا انّ على الانسان أن يطرق كلّ صباح باب النّاس ليسألهم عن أعمالهم ويعلّمهم الأحكام ، فكذلك

__________________

(١) ـ رجال النجاشي : ص ٢٨.

١٨٩

وعن حمدويه ، عن أيوب بن نوح : «أنّه دفع إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أنّ تكتبوا ذلك فافعلوا ، فانّي كتبت عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا ، فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدثتكم به فليس بسماع ولا برواية ، وإنّما وجدته».

______________________________________________________

جمع الأحاديث ، فلا يستشكل عليه : بانّ عدم استكثاره من الحديث وهو في متناوله ، يوجب سقوط عدالته ، فلا يؤبه بأخباره وأقواله.

(وعن حمدويه ، عن أيّوب بن نوح أنّه) أي : نوح (دفع إليه) أي : إلى أيوب ولده (دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال) نوح لابنه أيّوب (: إن شئتم أنّ تكتبوا ذلك فافعلوا) أي : إذا أحببتم أنّ تستنسخوا هذه الأحاديث في كتاب آخر لنفسكم فافعلوا ذلك (فإنّي كتبت) هذه الأحاديث سماعا (عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه) أي : عن ابن سنان (شيئا) مما سمعت منه ، بمعنى : إنّه لا تذكروا في كتابكم : أنّه روى نوح عن ابن سنان عن الإمام عليه‌السلام الرّواية الفلانيّة ، بل اذكروا إنّا وجدناها في دفتر نوح.

ثم علّل ذلك بقوله : (فإنّه) أي : ابن سنان (قال قبل موته : كلّما حدثتكم به فليس بسماع) عن الإمام عليه‌السلام (ولا برواية) عمّن سمع من الإمام عليه‌السلام (وإنّما وجدته) (١) في الكتب فرويته ، ومعنى ذلك : إن ابن سنان حيث لم يسمع عن الإمام عليه‌السلام ، ولم يسمع عمّن سمع عن الإمام ، احتاط في الأمر وذكر أن مصدر أخباره الوجادة لا الرّواية ، وهو مثلما إذا رأى أحدنا كتاب الكافي حيث لم يسمع الرّوايات عن الكليني ولا عن الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) ـ رجال الكشي : ٥٠٧.

١٩٠

فانظر كيف احتاطوا في الرّواية عمّن لم يسمع من الثّقاة وانّما وجد في الكتب ، وكفاك شاهدا أنّ عليّ بن فضّال لم يرو كتب أبيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه ، وانّما يرويها عن أخويه أحمد ومحمّد عن أبيه.

واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه ، كان صغير السّنّ ، ليس له كثير معرفة بالرّوايات ، فقرأها على أخويه ثانيا.

______________________________________________________

(فانظر كيف احتاطوا في الرّواية عمّن لم يسمع) كما احتاط نوح في الرّواية عن ابن سنان الّذي لم يكن يسمع ما نقله لنوح عن الإمام ، ولا عمّن روى عن الإمام (من الثقاة وانّما وجد) ابن سنان ما نقله لنوح (في الكتب ، وكفاك شاهدا) في ذلك على شدّة احتياطهم في الرّواية.

وممّا يدلّ على وثاقة رواياتنا (أن عليّ بن فضّال ، لم يرو كتب أبيه الحسن عنه) أي : عن أبيه فإنّه لم يقل : روى أبي كذا (مع مقابلتها عليه) أي : والحال إنّه قرء كتب أبيه عند أبيه (وانّما يرويها) أي : تلك الكتب (عن أخويه : أحمد ومحمّد عن أبيه) فيقول : روى أخي أحمد ، عن أبي هذه الرّواية.

(و) لما قيل له : لم لا تروي عن أبيك مع إنّك قابلت الكتب على أبيك؟.

(اعتذر عن ذلك : بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه ، كان صغير السّنّ ، ليس له كثير معرفة بالرّوايات ، فقرأها) أي : قرء تلك الكتب (على أخويه ثانيا) (١) ولهذا يرويها عنهما لا عن أبيه.

بل إن بعضهم ترك الرّواية عن راو لانّه رآه ، قد غرّ حماره في قصة مشهورة.

__________________

(١) ـ رجال النجاشي : ص ١٨١.

١٩١

والحاصل : إنّ الظّاهر انحصار مدارهم على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب ، أو ممّن سمعه منه ، فلم يكونوا يودعون إلّا ما سمعوا ولو بوسائط من صاحب الكتاب ، ولو كان معلوم الانتساب مع اطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم ، حتى انّهم ربّما كانوا يتّبعونهم في تصحيح الحديث وردّه ، كما اتّفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه ابن الوليد قدس‌سرهما.

وربّما كانوا لا يثقون بمن يوجد فيه قدح بعيد المدخليّة في الصّدق.

ولذا حكي عن جماعة منهم التّحرز عن الرّواية

______________________________________________________

(والحاصل : إنّ الظّاهر انحصار مدارهم) وقاعدتهم في نقل الأحاديث (على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب ، أو ممّن سمعه منه) في كتبهم (فلم يكونوا يودعون إلّا ما سمعوا ولو بوسائط) سماعا (من صاحب الكتاب ، ولو كان) الكتاب (معلوم الانتساب) إلى مؤلّفه (مع اطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم) فإنّهم ولو كانوا مطمئنين واثقين بالكتاب وبمؤلفه ، لم يكونوا يودعون رواياته ، ما لم يسمعوا منه أو عن الواسطة الّتي سمع عن صاحب الكتاب.

(حتى إنّهم) أي : الرّواة (ربما كانوا يتّبعونهم) أي : يتّبعون الوسائط (في تصحيح الحديث وردّه) فإن صحّح الرّاوي الحديث ، رووه عنه وعملوا به ، وإلّا تركوه (كما اتّفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه ابن الوليد قدس‌سرهما) فإنّه قال : ما صحّحه شيخي فهو صحيح ، وما ردّه فهو مردود ـ على ما تقدّم نصّ لفظه ـ.

(وربّما كانوا) أي : الرّواة (لا يثقون بمن يوجد فيه قدح) أي : عيب (بعيد المدخليّة في الصّدق) فإنّ ذلك العيب ، وإن لم يكن ضارا بالصّدق ، لكنّهم كانوا يتركون خبر المعيب لمكان ذلك العيب.

(ولذا حكي عن جماعة منهم) أي : من الرّواة (التّحرز عن الرّواية) أي : إنّهم :

١٩٢

عمّن يروي عن الضّعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وان كان ثقة في نفسه ، كما اتفق بالنّسبة إلى البرقي.

بل يتحرّزون عن الرّواية عمّن يعمل بالقياس ، مع أنّ عمله لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنّسبة إلى الإسكافي ، حيث ذكر في ترجمته إنّه كان يرى القياس ، فترك رواياته لاجل ذلك ، وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ فعدل عنه ، وإن كانت كتبه ورواياته حال الاستقامة ،

______________________________________________________

لا يروون (عمّن يروي عن الضّعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وإن كان ثقة في نفسه) فكانوا لا يعتمدن بما يرويه عن الثّقاة ، بسبب إنّه قد يروي عن الضّعفاء ويعتمد المراسيل ، مع وضوح : إن الرّواية عن الضّعفاء واعتماد المراسيل لا يوجب كون الرّاوي كاذبا لا يعتنى برواياته حتّى فيما يرويه عن الثّقاة ، لكنهم تورّعا ما كانوا يروون عن مثله (كما اتّفق بالنّسبة إلى البرقي) فإنّ البرقي وإن كان من الأجلّة ، لكنّه حيث كان يعتمد المراسيل ويروي عن الضّعفاء تركوا رواياته ، بل بعض أعاظم قم أخرجه منها لهذه الجهة.

(بل يتحرّزون عن الرّواية عمّن يعمل بالقياس ، مع إن عمله) بالقياس (لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنّسبة إلى الإسكافي) : ابن الجنيد ، فقد كان من العامّة ، ثمّ صار من فقهاء الشّيعة ، لكنّه حيث بقي على اعتقاده بالقياس لم يرو القوم عنه ، مع ما كان عليه من كمال الوثاقة (حيث ذكر في ترجمته) في كتب الرّجال (إنّه كان يرى القياس ، فترك رواياته لاجل ذلك) الّذي كان يعتقده من القياس.

(وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ ، فعدل عنه) إلى مذهب فاسد في أصول الدّين (وإن كانت كتبه ورواياته) قد كتبها ورواها (حال الاستقامة ،

١٩٣

حتى أذن لهم الإمام عليه‌السلام ، أو نائبه ، كما سألوا العسكري عليه‌السلام عن كتب بني فضّال ، وقالوا إن بيوتنا منها ملاء ، فأذن لهم عليه‌السلام.

وسألوا الشّيخ أبي القاسم بن روح عن كتب ابن عذاقر الّتي صنّفها قبل الارتداد عن مذهب الشّيعة ، حتّى أذن لهم الشّيخ في العمل بها.

______________________________________________________

حتّى أذن لهم الإمام عليه‌السلام أو نائبه) في الأخذ برواياته (كما سألوا العسكري عليه‌السلام عن كتب بني فضّال وقالوا : إن بيوتنا منها ملاء ، فأذن لهم عليه‌السلام) أنّ يأخذوا بها.

هذا بالنّسبة إلى إذن الإمام عليه‌السلام في الأخذ بكتب بني فضّال ، حيث إن بني فضّال كانوا مستقيمين ثمّ انحرفوا في العقيدة.

(وسألوا الشّيخ أبي القاسم بن روح عن كتب ابن عذاقر) محمّد بن عليّ الشلمغاني (الّتي صنفها قبل الارتداد عن مذهب الشّيعة) ، حيث كان أول أمره من فقهاء الشّيعة وألف بعض الكتب ، ثمّ انحرف عن هذا المذهب (حتّى أذن لهم الشّيخ في العمل بها).

وفي الرّجال : إن الشّلمغاني كان متقدّما في أصحابنا ، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب ، والدخول في المذاهب الرّديئة ، حتّى خرجت فيه توقيعات (١) ، وأخذه السّلطان وقتله وصلبه ببغداد ، وله من الكتب الّتي صنّفها في حال الاستقامة : «كتاب التّكليف» رواه المفيد إلّا حديثا منه في باب الشّهادات ، وهو إنّه يجوز للرجل إن يشهد لاخيه ـ إذا كان له شاهد واحد ـ من غير علم الشّاهد ، وانّما يعتمد على أيمان المشهود له في اقامة الشّهادة له.

لا يقال : فكيف عملوا بروايات الفطحيين ، والكيسانيين ، والواقفيّة ، ومن

__________________

(١) ـ للمزيد راجع كتاب كلمة الامام المهدي عليه‌السلام للشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي قدس‌سره.

١٩٤

والحاصل : أنّ الأمارات الكاشفة عن اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرّضا عليه‌السلام ، أكثر من أن يحصى ، ويظهر للمتتبّع.

والدّاعي إلى شدّة الاهتمام ـ مضافا إلى كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قوام شريعة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا قال الإمام عليه‌السلام ، في شأن جماعة من الرّواة : «لو لا هؤلاء لاندرست

______________________________________________________

إليهم من المنحرفين؟.

لأنّه يقال أوّلا : كان العمل بروايات أولئك من جهة إن الأئمّة عليهم‌السلام أجازوا للاخذ برواياتهم ، كما أجازوا الأخذ بروايات بني الفضّال.

ثانيا : إن العمل كان حيث كانوا يقطعون بعدم تدخل انحرافهم في رواياتهم ، بخلاف أمثال الشّلمغاني حيث لم يطمئنوا بوثاقتهم بعد ظهور الانحراف منهم ولم يقطعوا بعده بعدم تدخّل انحرافهم في رواياتهم.

(والحاصل : إن الأمارات الكاشفة عن اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، في الأزمنة المتأخرة عن زمن الرّضا عليه‌السلام ، أكثر من أن يحصى ، ويظهر للمتتبّع) في كتب الدّراية والرّجال ذلك بوضوح.

(والدّاعي إلى شدّة الاهتمام) من قبل أصحابنا بالرّوايات سندا ، ودلالة ، ومضمونا ، أمور ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : (مضافا إلى كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قوام شريعة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الفروع ، وجزئيّات الأصول ، مثل أحوال الجنّة والنّار ، والقبر والقيامة ، وما أشبه ذلك (ولذا) أي : لكونها أساسا للدّين ، وقواما للشّريعة (قال الإمام عليه‌السلام ، في شأن جماعة من الرّواة لو لا هؤلاء لاندرست

١٩٥

آثار النبوّة» ، وإنّ النّاس لا يرضون بنقل ما لا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التّواريخ الّتي لا يترتّب على وقوع الكذب فيها أثر ديني ، بل ولا دنيوي ، فكيف في كتبهم المؤلفة ، لرجوع من يأتي إليها في أمور الدّين ، على ما أخبرهم الإمام عليه‌السلام ، بأنّه يأتي على النّاس زمان هرج لا يأنسون إلّا بكتبهم ،

______________________________________________________

آثار النبوّة) وانمحت من الوجود معالمها.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : (و) مضافا إلى (انّ النّاس) أي : عامّة النّاس من المؤرّخين ومن أشبههم (لا يرضون بنقل ما لا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التّواريخ) عن عاد ، وشدّاد ، ونمرود ، وفرعون ، ومن أشبههم ، وغير ذلك من المطالب التاريخيّة (الّتي) لا تحتاج إلى هذه الدّقّة لانّه (لا يترتب على وقوع الكذب فيها أثر) أي : فساد (ديني ، بل ولا دنيوي).

فانّ الانسان إذا اشتبه ـ مثلا ـ في إن نمرود كان في أي : قرن ، أو أنّ شدّاد بنا جنّته أو لم يبنها لم يكن له أثر في دينه ودنياه.

(فكيف) لا يهتمّ المحدّثون والفقهاء (في كتبهم المؤلفة ، لرجوع) كلّ (من يأتي) من بعدهم إلى يوم القيامة (إليها) أي إلى تلك الكتب (في أمور الدّين؟).

والشّاهد (على) انّهم كتبوا الكتب لأجل استفادة النّاس منها في أمور دينهم ودنياهم (ما أخبرهم الإمام عليه‌السلام : بأنّه يأتي على النّاس زمان هرج) يكثر فيه الفتن والاضطرابات ويقلّ فيه الصّدق والأمانة ، فلا يتمكّن النّاس من الخروج عن دورهم ، ولا يوثق بكلّ أحد لاجل أخذ الأحكام ، ولذا (لا يأنسون إلّا بكتبهم) (١) المدوّنة في الحديث والأخبار ، فيستفيدون منها ويأنسون بها.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٢ ح ١١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٨١ ب ٨ ح ٣٣٢٦٣.

١٩٦

وعلى ما ذكره الكليني قدس‌سره ، في ديباجة الكافي من كون كتابه مرجعا لجميع من يأتي بعد ذلك ما تنبّهوا له ونبّههم عليه الأئمّة عليهم‌السلام من أنّ الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كما يظهر من الرّوايات الكثيرة.

منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرّحمن على سيدنا أبي الحسن الرّضا عليه‌السلام ، كتب جماعة من أصحاب الباقر والصّادق عليهم‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام.

وقال عليه‌السلام : «إن أبا الخطّاب

______________________________________________________

(و) يشهد (على) ذلك أيضا (ما ذكره الكليني قدس‌سره في ديباجة الكافي : من) انّ مقصوده في تأليفه الكتاب (كون كتابه مرجعا لجميع من يأتي بعد ذلك).

الثّالث : ما أشار إليه بقوله : (ما تنبّهوا له) وهذا خبر بقوله : «والدّاعي» وقول المصنّف «مضافا» «ومضافا» كانا جوابين آخرين ، فانّ داعي النّاس إلى الاهتمام بالأخبار ما التفتوا إليه (ونبّههم عليه الأئمّة عليهم‌السلام : من إن الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كما يظهر من الرّوايات الكثيرة) ذلك.

(منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرّحمن على سيدنا أبي الحسن الرّضا عليه‌السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصّادق عليهما‌السلام ، فانكر منها أحاديث كثيرة) أي : لم يقبلها وأنكرها (أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال عليه‌السلام : إن أبا الخطّاب) وكان من الرّواة ، ثمّ اعتقد إن الصّادق عليه‌السلام نبيّ يوحى إليه ، وانّه أي : أبا الخطّاب ، هو رسول هذا النّبيّ إلى النّاس.

١٩٧

كذّب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام.

ومنها : ما عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان المغيرة بن سعد ، لعنه الله ، يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتستّرون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها

______________________________________________________

وأبو الخطّاب هذا قد (كذّب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام) (١).

لكن لا يخفى : إن الدّسّ الّذي كشف عنه الإمام وأزاحه ؛ أمر شاذّ لا يقدر عليه كلّ أحد ولا يتّفق في كلّ عصر وزمان ، إذ كيف يمكن الدّسّ إلّا إذا كان الكتاب مضطربا في كيفيّة خطوطه وصفحاته ، أو كان الّذي يدسّ متقنا ومتفننا جدا ، حتّى يتمكّن أن يكتب مثل خطّ الكاتب ، وكلاهما أمر شاذّ كما هو واضح.

(ومنها : ما عن هشام بن الحكم : أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان المغيرة بن سعد لعنه الله يتعمّد الكذب على أبي) أي : على الإمام الباقر عليه‌السلام (و) كان (يأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه) أي : أصحاب المغيرة (المتستّرون بأصحاب أبي) حيث انّهم لم يكونوا من الأصحاب حقيقة وانّما كانوا يظهرون ذلك تجسّسا ودسّا ، كما هي عادة الجواسيس إلى يومنا هذا ، فيظنّ النّاس بهم خيرا ، والحال انّهم في الواقع مندسون ، و (يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها) أي :

__________________

(١) ـ رجال الكشّي : ص ٢٢٤ ، تحف العقول : ص ٣٠٧.

١٩٨

الى المغيرة ، لعنه الله ، فكان يدسّ فيها الكفر والزّندقة ويسندها إلى أبي ، الحديث.

ورواية الفيض بن المختار المتقدّمة في ذيل كلام الشّيخ ،

______________________________________________________

تلك الكتب (إلى المغيرة لعنه الله ، فكان يدسّ فيها) ، عقائد وأباطيل أهل (الكفر والزّندقة).

أصل «الزّندقة» ـ مشتق من كتاب المجوس الّذي يسمى : «زند وبازند» ـ وهي كلمة معرّبة تقال لأتباع المجوسيّة ، ثمّ قيل لكلّ من كان يقول الكفريّات أو يسلك ذلك السّلوك.

ولا يخفى : إنّه يلزم التحقيق حول كلّ من رمي في التّاريخ ـ بالزّندقة ، لانّ عادة الحكّام ومن أشبههم اتّهام النّاس ، لأجل إنزال العقاب بهم ، وتنفير النّاس منهم ، وكثير ممّن اتّهمهم حكام بني أميّة ، وبني العبّاس ، وبني عثمان ، ومن إليهم بالزّندقة ، بريئون من هذا الاتّهام ، ألم يرم يزيد الإمام الحسين «عليه‌السلام» : بأنّه خارجي؟ ورمى هارون العبّاسي الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام بأنّه يريد شقّ عصى المسلمين ، والى غير ذلك من الاتّهامات الكاذبة؟. (و) كان المغيرة (يسندها) أي : تلك المجعولات الّتي يدسّها في الكتب (إلى أبي) أي الإمام الباقر عليه‌السلام ، الى آخر (الحديث) ، وفي بعض النسخ : يسندها إليه ، يعني : إلى الإمام الصادق عليه‌السلام ، لا إلى الإمام الباقر عليه‌السلام.

وفي بعض الكتب : يدفعها إلى أصحابه ، ثمّ يأمرهم أن ينشروها في الشّيعة ، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ ، فذلك ما دسّه المغيرة بن سعيد.

(و) منها : (رواية الفيض بن المختار ، المتقدّمة في ذيل كلام الشّيخ) حيث

١٩٩

الى غير ذلك من الرّوايات. وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما علم إجمالا من الأخبار الكثيرة من وجود الكذّابين ، ووضع الأحاديث ، فهو انّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين الحديث والرّجال بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ،

______________________________________________________

قال عليه‌السلام : «إن النّاس قد أولعوا بالكذب علينا» (١) إلى آخر الحديث ، وقد ذكرنا هناك : إنّ الكذّابين منذ زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يكذّبون على الرّسول كما كانوا يكذّبون على الأئمّة عليهم‌السلام لأمور : أولا : لتمشية أمورهم ، ثانيا : لتشويه معالم الدّين ، ثالثا : للتشويش على الرّسول والأئمّة الطّاهرين عليهم‌السلام.

(إلى غير ذلك من الرّوايات) في هذا المجال الداعية لشدّة الاهتمام بالأخبار.

لا يقال : فكيف ادّعى المصنّف ـ مع وجود هذه الرّوايات ـ : العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار ، بل جلّها إلّا ما شذّ ـ كما تقدّم في كلامه ـ؟.

لانّه يقال : (وظهر ممّا ذكرنا : إن ما علم إجمالا من الأخبار الكثيرة) المماثلة للثّلاثة الّتي ذكرناها (من وجود الكذّابين ، و) ما علم إجمالا من : (وضع الأحاديث) المكذوبة على المعصومين عليهم‌السلام في الأصول والفروع (فهو انّما كان قبل زمان مقابلة الحديث ، وتدوين الحديث) حيث قد اشتد الاهتمام بهما في زمان الإمام الرّضا عليه‌السلام وإن كان قبله ـ أيضا ـ يدوّن الحديث ويقابل.

(و) كذلك كان ما علم إجمالا من الدّسّ والوضع وجودا قبل زمان تدوين علم (الرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام) ، امّا بعدها فلا.

وبذلك يندفع إشكال من يقول : بأنّا كما نعلم إجمالا بصدور أكثر هذه الأخبار ـ الّتي بأيدينا ـ عن الأئمّة عليه‌السلام ، كذلك نعلم بأنّ جملة منها موضوعة ومدسوسة

__________________

(١) ـ رجال الكشّي : ص ١٣٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٦ ب ٩٢ ح ٥٨ (بالمعنى).

٢٠٠