الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-03-1
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

حيث ذكر أنّه عليه‌السلام ، لا بدّ أن يكون حافظا للأحكام.

واستدل بأنّ الكتاب والسنّة لا يدلّان على التفاصيل ـ إلى أنّ قال : والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام.

______________________________________________________

حيث ذكر) العلّامة أعلى الله مقامه (إنّه عليه‌السلام لا بدّ أن يكون) أي : الامام (حافظا للأحكام) التي تصل الى الأنام ، لا يقال : كيف والامام عليه‌السلام غائب؟.

لانّه يقال : غاب بعد بيان الأحكام ، امّا بجزئياتها ، واما بقوانينها الكلّية المنطبقة على الصغريات ، التي يبتلى بها على طول الزمان.

ولهذا ورد عنهم عليهم‌السلام : «ان عليهم الاصول وعلينا الفروع» (١).

وقال عليه‌السلام : «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا ، فانّهم حجتي عليكم ، وانا حجّة الله عليهم» (٢).

(واستدل) العلّامة (: بأنّ الكتاب والسنة لا يدلّان على التفاصيل) وان كان فيهما اصول الأحكام وقواعدها الكلّية (إلى انّ قال : والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام) (٣) اي : إنّ أحدا لو قال : إنّا نتمكن من العمل بالبراءة الأصلية في مورد الشّك في الأحكام ، فنستغني بذلك عن الامام ، فيقال له : انّ الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الكثيرة الّتي نحتاج فيها الى الرّوايات ، يوجب رفع أكثر

__________________

(١) ـ فقد ورد عن الامام الصادق عليه‌السلام : «علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا». وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦١ ب ٦ ح ٣٣٢٠١ وورد عن الامام الرضا عليه‌السلام : «علينا القاء الاصول وعليكم التفريع». وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٢ ب ٦ ح ٣٣٢٠٢.

(٢) ـ منتخب الانوار المضيئة : ص ١٢٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤٠ ب ٩ ح ٣٣٤٢٤ ، كمال الدين : ص ٤٤٠ ب ٤٥ ح ٤ وفيه (حديثنا) ، الغيبة : ص ١٧٧.

(٣) ـ نهج المسترشدين : ص ٦٣.

٣٢١

ومنهم بعض أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة بعصرة المنجود ، حيث استدلّ على عصمة الامام عليه‌السلام بأنّه حافظ للشريعة ، لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به ـ الى أن قال ـ : «والقياس باطل ، والبراءة الأصليّة ترفع جميع الاحكام» ، انتهى.

ومنهم الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر ، الّا أنّه قال : «إنّ الرّجوع الى البراءة الأصليّة ترفع أكثر الاحكام».

والظاهر أنّ مراد

______________________________________________________

الأحكام ، وقول العلّامة : «جميع الأحكام» ، من باب المسامحة.

(ومنهم : بعض أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة) تلك الرسالة (بعصرة المنجود ، حيث استدل على عصمة الامام عليه‌السلام بانّه حافظ للشريعة ، لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به) أي : بكل حكم حكم يبتلى به الانسان.

(الى أن قال : والقياس باطل) فلا يمكن أن يقال : لا حاجة الى الامام ، لأنّا نقيس الأحكام غير الموجودة بالأحكام الموجودة ، وذلك للنص على بطلان العمل بالقياس في الشريعة (والبراءة الأصليّة ترفع جميع الأحكام) (١) فلا يمكن العمل بالبراءة الأصليّة ـ ايضا ـ عوضا عن الامام عليه‌السلام (انتهى) كلام هذا المستدلّ.

(ومنهم : الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر : إلّا إنّه قال : انّ الرّجوع الى البراءة الأصلية ترفع أكثر الأحكام) (٢) وهذا لم يأت بالمجاز الذي أتى به العلّامة وصاحب رسالة : عصرة المنجود ، ولذا قال الشيخ : (والظاهر : أنّ مراد

__________________

(١) ـ عصرة المنجود مخطوط.

(٢) ـ النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص ٤٧.

٣٢٢

العلّامة وصاحب الرسالة قدس‌سرهما ، من جميع الأحكام ما عدا المستنبط من الأدلة العلميّة ، لأنّ كثيرا من الأحكام ضروريّة لا ترتفع بالأصل ولا يشكّ فيها ، حتى يحتاج الى الامام عليه‌السلام.

ومنهم المحقق الخوانساريّ ، فيما حكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية ، من انّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ، مستدلا بعد مفهوم آية النبأ ، بانّ اعتبار التعدّد يوجب خلوّ اكثر الأحكام عن الدّليل.

______________________________________________________

العلّامة وصاحب الرسالة قدس‌سرهما من جميع الأحكام : ما عدا المستنبط من الأدلّة العلميّة) وانّما كان مرادهما ما عدا المستنبط (لانّ كثيرا من الأحكام ضروريّة) عند المسلمين من أوّل الصلاة الى آخر الدّيات (لا ترتفع بالأصل ، ولا يشك فيها ، حتى يحتاج الى الامام عليه‌السلام) في تلك الأحكام.

وعلى أي حال : فمرادهما من جميع الأحكام : أمّا حقيقة وهو : المستنبط ، وإمّا مجازا وهو : من باب ذكر الكلّ وارادة البعض ، لأنّ البعض كثير جدا.

(ومنهم : المحقّق الخوانساريّ ، فيما حكى عنه السيّد الصّدر في شرح الوافية : من إنّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل) واحد ، فلا احتياج الى شهادة عدلين في تعديل الرّاوي ، فاذا قال شيخ الطائفة وحده : انّ محمد بن مسلم ـ مثلا ـ عادل ، كفى ذلك في عدالته ، وإن كان هذا من الشهادة ، والشهادة تحتاج الى نفرين.

قال هذا (مستدلّا بعد مفهوم آية النبأ) الظاهر في انّ العادل إذا اخبر يؤخذ بخبره بدون فحص (: بانّ اعتبار التعدّد يوجب خلوّ أكثر الأحكام عن الدّليل) (١) وذلك لأنّ أكثر الأحكام مستندة الى راو واحد عدل بسبب عادل واحد ، لا بسبب عادلين.

__________________

(١) ـ شرح الوافية مخطوط.

٣٢٣

ومنهم صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد ، بانّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد ـ في مثل الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والمتاجر والانكحة ـ وغيرها ـ بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور.

وهذه عبارة اخرى عن الخروج عن الدّين الذي عبّر به جماعة من مشايخنا.

______________________________________________________

والحاصل : إنّ قلّة وجود الأخبار المزكى رواة سندها بتزكية عدلين ، جعل الأمر دائرا بين الاخذ بالمزكى بعادل واحد ، أو الترك ، والترك ضروري العلم ، فاللازم الأخذ بمن زكّي بعادل واحد.

(ومنهم : صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد : بأنّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد في مثل الصّلاة ، والصوم ، والزّكاة ، والحجّ ، والمتاجر ، والأنكحة ، وغيرها) بأنّ لا نعمل بالأخبار الآحاد الواردة في هذه الابواب من العبادات والمعاملات ، فانّه اذا تركنا ذلك نقطع (بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور) فلا تكون الصلاة صلاة ، ولا الزّكاة زكاة ، ولا الحجّ حجّا ، ولا الصوم صوما ، ولا المتاجر والأنكحة والمواريث وغيرها على وضعها المألوف عند المسلمين.

(و) إنّ شئت قلت : إنّ كلام صاحب الوافية انّما يدل على مراد الشيخ ، لانّه لو لم يكن العمل بأصالة البراءة في المشتبهات الكثيرة محظورا في الشرع ، لم يلزم خروج (هذه) الامور التي ذكرناها ، عن حقيقة كونها صلاة ، وصوما ، وما اشبه ذلك ، فكلام صاحب الوافية (عبارة اخرى عن الخروج عن الدّين ، الذي عبّر به جماعة من مشايخنا) ممّا تقدّمت كلماتهم.

٣٢٤

ومنهم بعض شرّاح الوسائل حيث استدل على حجيّة أخبار الآحاد بأنّه لو لم يعمل بها بطل التكليف وبطلانه ظاهر.

ومنهم المحدّث البحراني صاحب الحدائق ـ حيث ذكر في مسألة ثبوت الرّبا في الحنطة بالشعير خلاف الحلّي في ذلك وقوله بكونهما جنسين وأنّ الأخبار الواردة في اتحادهما آحاد لا يوجب علما ولا عملا ـ

______________________________________________________

(ومنهم بعض شرّاح الوسائل حيث استدلّ على حجّية أخبار الآحاد : بأنّه لو لم يعمل بها) أي : بأخبار الآحاد (بطل التكليف) حيث إنّ الانسان المكلّف لا يتمكن أن يعمل بالأحكام الشرعيّة ـ غالبا ـ إذا أراد العمل بما قام عليه دليل قطعي فقط (وبطلانه) أي : بطلان أن يبطل التكليف (ظاهر) لوضوح : إنّ الشريعة الاسلامية شريعة البشرية الى يوم القيامة ، فكيف يبطل التكليف؟.

(ومنهم : المحدّث البحراني صاحب الحدائق) رحمه‌الله (حيث ذكر في مسألة ثبوت الربا في الحنطة بالشعير) وذلك بأن يأخذ الانسان ـ مثلا ـ الحنطة اقل ، ويعطي الشعير أكثر ، أو بالعكس ، حيث إنّهما جنس واحد شرعا ولا يجوز الزيادة في الجنس الواحد ، فانّ صاحب الحدائق ذكر (خلاف) ابن ادريس (الحلّي في ذلك و) ذكر (قوله) أي : قول ابن ادريس (بكونهما جنسين) والزيادة في الجنسين لا بأس به ، فكما يجوز أن يعطي السكّر أكثر من الشاي ، كذلك يجوز أنّ يعطي الحنطة أكثر من الشعير أو بالعكس.

قال الحلي : (وانّ الأخبار الواردة في اتحادهما) القائلة بانّ الحنطة والشعير جنس واحد في باب الرّبا (آحاد لا يوجب علما ولا عملا) فانّا لا نعلم بهذا الحكم من الشريعة ، ولا نعمل به في أعمالنا الخارجية.

٣٢٥

قال في ردّه : «إنّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدّين إلى دين آخر» ، انتهى.

ومنهم العضدي ، تبعا للحاجبي ، حيث حكي عن بعضهم الاستدلال على حجّية خبر الواحد بأنّه لو لاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك.

ثمّ إنّه وان ذكر في الجواب عنه أنّا نمنع الخلوّ عن المدرك ، لأنّ الأصل من المدارك.

______________________________________________________

(قال) صاحب الحدائق (في ردّه) أي : في ردّ ابن ادريس (: انّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدّين الى دين آخر (١) ، انتهى) كلام الحدائق ، لأنه إذا لم يعمل بأخبار الآحاد في هذه المسائل لا يبقى دين كافيا ، فيلزم أن يتخذ دينا آخر ، ولا يخفى : إن هذه العبارة عبارة غير مناسبة.

(ومنهم) أي : ممّن صرّح بأنّ عدم العمل بالأخبار يوجب الخروج عن الدّين من علماء العامّة (العضدي تبعا للحاجبي) وهو عالم آخر من علماء العامّة ، وهما مشهوران في الاصول (حيث حكي عن بعضهم الاستدلال على حجيّة خبر الواحد : بأنّه لو لاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك). إذ الغالب إن مدرك الأحكام هو أخبار الآحاد.

(ثمّ إنّه) أي : العضدي (وإن ذكر في الجواب عنه) أي : عن هذا الدليل (انّا نمنع الخلو عن المدرك) لأنا نعمل بأصل البراءة مثلا (لأن الأصل من المدارك) أيضا ، فلا يلزم قول القائل بأنه لو لم نعمل بخبر الواحد لزم خلو أكثر الوقائع

__________________

(١) ـ الحدائق : ج ١٩ ص ٢٣١.

٣٢٦

لكنّ هذا الجواب من العامّة القائلين بعدم إتيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحكام جميع الوقائع.

______________________________________________________

عن المدرك.

(لكنّ هذا الجواب) إنّما يكون تاما (من العامّة القائلين بعدم إتيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحكام جميع الوقائع) فان العامّة لا يلتزمون بوجوب وقائع كثيرة ، حتى يلزم من إجراء البراءة الخروج عن الدّين ، بل إنّهم يقولون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بأحكام قليلة ، فإجراء البراءة في غير تلك الأحكام لا يوجب خروجا عن الدّين ، وأما نحن الامامية ، فحيث نقول : بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بكل الأحكام جزئيا أو كليا.

فقد قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النّار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه» (٢). وفي الحديث ، «إنّ في الشريعة بيان كل شيء حتى أرش الخدش» (٣) ، وفي آخر : «حتى أرش الغمز» ـ فلا نتمكن من التمسك بالبراءة في كثير من الأحكام ، لأن التمسك بها يوجب الخروج عن الدّين.

وعبارة المصنّف : «هذا الجواب» : مبتدأ ، و «من العامّة» : خبر.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٣.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٧٤ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٤٥ ب ١٢ ح ٢١٣٩ ، بحار الأنوار : ج ٧٠ ص ٩٦ ب ٤٧ ح ٣ وورد نظيره في المستدرك : ج ١٣ ص ٢٧ ب ١٠ ح ١٤٦٤٣.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٩ ح ٣ وج ٧ ص ١٥٧ ح ٩ ، الاحتجاج : ص ١٥٣ ، بصائر الدرجات : ص ١٤٢ ح ٣ ، المحاسن : ص ٢٧٣ ، نوادر القمي : ص ١٦١.

٣٢٧

ولو كان المجيب من الاماميّة القائلين باتمام الشريعة وبيان جميع الأحكام لم يجب بذلك.

وبالجملة : فالظاهر انّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم للرّجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في معظم الفقه بحكم تكليفيّ ، كأنّه أمر مفروغ البطلان.

والغرض من جميع ذلك الردّ على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدّمة ، ولم يأت بشيء عدا ما قرع سمع كلّ أحد من أدلّة

______________________________________________________

هذا (ولو كان المجيب) عن الاشكال المذكور الذي هو خلو أكثر الوقائع عن المدرك (من الاماميّة القائلين باتمام الشريعة وبيان جميع الأحكام ، لم يجب بذلك) الجواب الّذي ذكره العضدي عن الاشكال المتقدّم.

(وبالجملة : فالظاهر : إنّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم للرّجوع فيها). أي : في تلك الأحكام (الى نفي الحكم) وجوبا أو تحريما ، فاذا شك في الواجب أجرى أصالة عدم الوجوب ، وإذا شك في الحرمة أجرى أصالة عدم الحرمة (وعدم الالتزام في معظم الفقه) حيث لا أدلة قطعية لها ، فلا يلتزم المكلّف (بحكم تكليفي ، كأنّه أمر مفروغ البطلان) لوضوح : أنّه لا يمكن أن يكون المكلّف في أكثر الفقه لا حكم تكليفي له.

(والغرض من جميع ذلك) الكلام الطويل الذي ذكرنا فيه : إنّه لا يمكن أن يرجع في أكثر الفقه الى البراءة ، لأنّه يلزم الخروج عن الدّين ، وأنّه ضروري البطلان ، هو (: الرّد على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدمة) الثانية القائلة بعدم جواز إهمال الأحكام.

(و) لكن هذا الرادّ (لم يأت بشيء) مفيد (عدا ما قرع سمع كلّ أحد من أدلّة

٣٢٨

البراءة وعدم ثبوت التكليف إلّا بعد البيان ، ولم يتفطن لأنّ مجراها في غير ما نحن فيه ، فهل يرى من نفسه إجراءها لو فرضنا ، والعياذ بالله ، ارتفاع العلم بجميع الأحكام؟.

بل نقول : لو فرضنا أنّ مقلّدا دخل عليه وقت الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما يعلّم من أبويه بظنّ الصحّة مع احتمال الفساد عنده احتمالا ضعيفا

______________________________________________________

البراءة) فانّه استدل بأدلة البراءة ، على إنّه إذا شككنا في الأحكام ولم نعمل بخبر الواحد ـ لأنّا لا نراه حجّة ـ يجري أصل البراءة ولا محذور ، (وعدم ثبوت التكليف إلّا بعد البيان). فانّ خبر الواحد إذا سقط ، فلا بيان فلا تكليف.

هذا ما استدلّ به هذا المتصدي لرد هذه المقدمة (ولم يتفطن لأنّ مجراها) أي مجرى البراءة (في غير ما نحن فيه) من الموارد القليلة ، لا في معظم الفقه الذي قام العلم الاجمالي بوجود تكاليف كثيرة فيه إيجابيا أو سلبيا.

(فهل يرى) هذا المتصدي (من نفسه إجرائها) أي : إجراء البراءة (لو فرضنا والعياذ بالله ، ارتفاع العلم بجميع الأحكام؟) وبقاء الظن ، فانّه كما لا يجري البراءة مع ارتفاع كل الأحكام ، كذلك لا يتمكن من إجراء البراءة مع ارتفاع أكثر الأحكام ، وما يقول في البراءة في كل الأحكام ، نقول في البراءة في معظم الأحكام.

(بل نقول) بلزوم العمل بالظنّ إذا لم يحصل للانسان العلم ، ف (لو فرضنا انّ مقلدا دخل عليه) أي : على هذا الذي يجري البراءة فيما إذا لم يعلم بالحكم في (وقت الصلاة ، ولم يعلم) ذلك المقلد (من الصلاة عدا ما يعلم من أبويه بظنّ الصحة) أي : إنّ ما تعلّمه من أبويه يظنّ صحته ، لا إنّه يقطع بذلك (مع احتمال الفساد عنده) أي : عند ذلك المقلّد (احتمالا ضعيفا) بأن كان المقلّد يظن

٣٢٩

ولم يتمكّن من أزيد من ذلك ، فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة ، أو أنّه يأتي به على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ، والمفروض أن قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعيّ.

فاذا لم تجد من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ، فكيف ترخّص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها ، عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظنّ الخاصّ

______________________________________________________

بالصحة ويحتمل الفساد ، لوضوح : انّ الظنّ دائما يقابله الوهم ، وهو عبارة عن الاحتمال (ولم يتمكّن) المقلّد (من أزيد من ذلك) الّذي تعلمه من أبويه وظنّ بصحته ، بأن لم يتمكن من تحصيل العلم بخصوصيات الصلاة : اجزاء ، وشرائط ، وموانعا.

(فهل يلتزم) هذا القائل بالبراءة (بسقوط التكليف عنه) أي : عن ذلك المقلد (بالصّلاة في هذه الحالة) فيقول له : حيث إنّه لا علم لك أيّها المقلّد بالصلاة فأجر أصل البراءة ولا تصلي؟.

(أو أنّه يأتي به على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه) الذي يظنّ بصحة ما قاله أبواه (والمفروض : إنّ قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعي) فانّه مجرد ظنّ عام ، وليس بظن خاص قرره الشارع.

(فاذا لم تجد) أيّها القائل (من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص) وهي مسألة شخصية منفردة (فكيف ترخص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها) أي من تلك الأحكام (عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظّن الخاصّ؟) أي : كيف تقول : أترك الأحكام المشكوكة والمظنونة بالظّن العام ، واعمل فقط بالأحكام ، المعلومة لديك أو المظنونة بالظن الخاص ،

٣٣٠

وترك ما عداه ولو كان مظنونا بظنّ لم يقم على اعتباره دليل خاصّ.

بل الانصاف : أنّه لو فرض ، والعياذ بالله ، فقد الظنّ المطلق في معظم الأحكام ، كان الواجب الرجوع إلى الامتثال الاحتماليّ بالتزام ما لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة.

______________________________________________________

الذي قرره الشارع؟.

(و) كيف تأذن في (ترك ما عداه) أي : ما عدا القليل من الأحكام ، الذي يعلمه علما أو يظنّه بالظّن الخاص ظنّا ، حتى (ولو كان) معظّم الأحكام المجهولة لديه (مظنونا بظن لم يقم على اعتباره دليل خاصّ)؟.

ومن المعلوم : إنّ هذا المثال الذي ذكره المصنّف هو من باب تقريب الذهن ، والارجاع الى الفطرة ، لا إنّه من الأدلة الشرعية ، فلا يستشكل عليه : بأنّ هذا المثال لا دليل شرعي فيه.

(بل الانصاف انّه لو فرض «والعياذ بالله» فقد الظّن المطلق في معظم الأحكام) بأن لم يكن هناك علم ، ولا علمي ، ولا ظنّ مطلق فرضا ، كما إذا ذهب إنسان الى جزيرة فانقطع فيها ، ثم توجه الى التكليف ولم يكن له علم ، ولا علمي ، ولا ظنّ مطلق بمعظم الأحكام (كان الواجب الرّجوع الى الامتثال الاحتمالي).

مثلا إذا احتمل شيئا واجبا أتى به ، وإذا احتمل شيئا محرّما لم يأت به ، وذلك (بالتزام ما لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعية) فانّه إذا أتى بالامتثال الاحتمالي ، لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة ، بينما إذا لم يمتثل امتثالا احتماليا ، لزم منه طرح الأحكام الواقعية.

وهذا أيضا فطري ، فانّ الانسان إذا انقطع به السبيل عن مقصده ، وأصبح

٣٣١

الثالث : إنّه لو سلّمنا أنّ الرجوع إلى البراءة لا يوجب شيئا ممّا ذكر من المحذور البديهيّ ، وهو الخروج من الدّين ، فنقول : إنّه لا دليل على الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ، فانّ أدلّتها مختصّة بغير هذه الصورة ، ونحن نعلم إجمالا أنّ في المظنونات واجبات كثيرة

______________________________________________________

في مكان في طرف منه جبل مرتفع ، وفي طرف منه بحر ، وفي طرف منه نفاد من الرّمل بحيث لا يمكن سلوك أي : منها ، وفي الطرف الرابع طريق صحراوي يتمكن سلوكه ، لكنّ ظنّه القوي انّ هذه الصحراء لا توصله الى مقصده ، فهل يحكم عقله بسلوك الصحراء لاحتماله الوصول أو أن يبق هناك حتى يموت؟.

(الثالث) من أدلّة عدم الرجوع الى البراءة في المشتبهات الكثيرة حيث لا حجّية لخبر الواحد ، (: إنّه لو سلّمنا إنّ الرّجوع الى البراءة لا يوجب شيئا ممّا ذكر من المحذور البديهي) أي : البديهي الورود والبطلان (وهو : الخروج من الدّين) أو ان يكون الانسان كالأطفال والبهائم ، الى غير ذلك ممّا تقدّم في الدليلين الأولين (فنقول : انّه لا دليل على الرّجوع الى البراءة) فيما شك فيه من المسائل المختلفة الّتي لم يقم عليها دليل بعد عدم حجّية خبر الواحد.

وانّما لا دليل على الرجوع الى البراءة (من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات) الكثيرة بين هذه المشتبهات ، التي هي محل ابتلاء المكلّف (فانّ أدلتها) أي الأدلة الدالة على البراءة من الكتاب والسنّة والاجماع والعقل (مختصة بغير هذه الصورة) أي : بغير صورة العلم الاجمالي الكبير بين الواجبات والمحرمات الكثيرة المتشتتة من أول الفقه الى آخر الفقه.

كيف (و) الحال (نحن نعلم إجمالا : إنّ في المظنونات واجبات كثيرة ،

٣٣٢

ومحرّمات كثيرة.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : أنّ الوجه السابق كان مبنيّا على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها بالخروج عن الدّين وهو محذور مستقلّ ، وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة.

______________________________________________________

ومحرّمات كثيرة) فكيف نرفع اليد عن العلم الاجمالي بذلك ، الى البراءة ، فانّ البراءة في أطراف العلم الاجمالي غير جارية؟.

(والفرق بين هذا الوجه وسابقه) من الوجه الثاني (انّ الوجه السابق : كان مبنيا على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها : بالخروج عن الدّين ، وهو محذور مستقل) غير هذا المحذور الذي ذكرناه الآن في الثالث ، فانّ الخروج عن الدّين لا يجوز ، (وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة).

فانّ بعض العلماء قالوا بجواز المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الاجمالي ، وبعض العلماء قالوا بجواز المخالفة القطعيّة في أطرافه لقوله : عليه‌السلام «كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١).

فان قوله عليه‌السلام : «بعينه» على قولهم : يفيد إنّ الانسان إذا لم يعرف الحرام بعينه يجوز له الارتكاب وان علم بانّ الحرام بين أمرين ، أو ما أشبه ذلك ـ على ما سيأتي الكلام فيه مفصلا.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠ ، المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

٣٣٣

وهذا الوجه مبنيّ على أنّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ، وأصل البراءة في مقابلها غير جار ما لم يصل المعلوم الاجماليّ إلى حدّ الشبهة الغير المحصورة ، وقد ثبت في مسألة البراءة أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف ، لا الشكّ في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما في ما نحن فيه.

______________________________________________________

(وهذا الوجه) الثالث : (مبني على انّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز) وان لم يستلزم الخروج عن الدّين (وأصل البراءة في مقابلها) أي : في مقابل الاطراف الّتي يعلم علما إجماليا بينها (غير جار ما لم يصل المعلوم الاجمالي إلى حدّ الشّبهة غير المحصورة) أمّا اذا وصل إلى حدّ الشبهة غير المحصورة ، فانّه يجوز ارتكاب بعض الاطراف أو كل الاطراف على الخلاف الّذي يأتي فيما نذكره من مباحث العلم الاجمالي (وقد ثبت في مسألة البراءة إنّ مجراها) أي مجرى البراءة (الشكّ في أصل التكليف) كما إذا لم يعلم الانسان إنّ شيئا واجب عليه أو لا ، أو إنّ شيئا حرام عليه أو لا؟ (لا الشك في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما فيما نحن فيه). حيث يعلم بأنّه تجب عليه صلاة في يوم الجمعة ، لكنّه يشكّ في انّ الصلاة الواجبة هل هي صلاة الجمعة أو الظهر؟ أو يعلم بأن شيئا محرّما بين هذين الحيوانين ، لكن لا يعلم هل هو هذا الحيوان أو ذاك الحيوان؟ فانّه يجب عليه أن يحتاط في الأوّل بفعلهما ، وفي الثاني بتركهما.

وكذلك إذا شك بين حرام وواجب ، كما إذا علم إنّه إمّا يجب عليه الدّعاء عند رؤية الهلال ، أو يحرم عليه شرب التتن ، فانّه يجب عليه امتثال التكليف الواقعي بينهما بفعل الأول وترك الثاني.

ومن الواضح : إنّ ما نحن فيه حيث نعلم بوجوب واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة بين الامور المشتبهة ، يلزم علينا الاتيان بكل محتمل الوجوب ، والترك لكل

٣٣٤

فان قلت : إذا فرضنا أنّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع إلى ما يوافق البراءة ، فما تصنع؟.

قلت : أوّلا ، إنّه مستحيل ، لأنّ العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة ، يمنع عن حصول الظنّ بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب ، وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة للتحريم ،

______________________________________________________

محتمل الحرمة ، فاذا تمكنا من ذلك فهو ، وإلّا عملنا بالظنّ لمكان التعذر أو التعسر عن جميع الاطراف.

(فان قلت :) إنّكم تقولون : بأنّه يجب أن يعمل بالظنّ بهذه الامور المحتملة الكثيرة ، ف (إذا فرضنا إنّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع الى ما يوافق البراءة فما تصنع؟) فأنّ ذلك أيضا خلاف العلم الاجماليّ ، وخلاف التّدين ، لأنّه يستلزم الخروج عن الدّين ، إذ النتيجة لا فرق فيها بين أن يكون من باب الظنّ ، أو من باب إجراء أصل البراءة ، أو أصل العدم.

(قلت : أولا : إنّه مستحيل) ان يظنّ المجتهد بالبراءة في جميع الوقائع المحتملة ، لأنّه مستلزم للتناقض بين علمه وظنه ، وغير معقول أن يظنّ الانسان بطرف ويعلم بطرف آخر (لأن العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة ، يمنع عن حصول الظّن بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب ، وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة للتحريم).

وإنّما قلنا محتملة أي : محتملة في نفسها ، وإلّا فان الانسان إذا قطع بشيء

٣٣٥

لأنّ الظنّ بالسالبة الكليّة يناقض العلم بالموجبة الجزئية ، فالظنّ بأنّه لا شخص من العلماء بفاسق ، يناقض العلم إجمالا بأنّ بعض العلماء فاسق.

وثانيا : إنّه على تقدير الامكان غير واقع ، لأنّ الأمارات التي

______________________________________________________

لا يعقل أن يحتمل خلافه أيضا ، فكيف بالوهم؟ وكيف بالظن؟ (لأنّ الظّن بالسالبة الكلّية) أي الظّن بأنّه لا حكم حسب مقتضى البراءة (يناقض العلم بالموجبة الجزئية) لأنه يعلم انّ في جملة من هذه الأحكام واجبات ومحرمات حسب ما ذكرناه.

(فالظّنّ بأنه لا شخص من العلماء بفاسق ، يناقض العلم إجمالا بأن بعض العلماء فاسق) لأن معنى لا شخص من العلماء بفاسق : القطع بعدم فسق أحد من العلماء ، فكيف يتمكن أن يعلم إجمالا بأن بعض العلماء فاسق؟ والتناقض كما يأتي من العلمين في الطرفين ، وفي الظنّين من الطرفين ، كذلك يأتي في ظنّ من طرف وعلم من طرف آخر.

نعم ، إذا كان كلا الطرفين جزئيا فلا بأس ، كما إذا ظنّ بأن بعض من في الدار رجل ، وظنّ بانّ بعض من في الدار ليس برجل ، وكذلك بين العلمين الجزئيين وبين علم وظنّ جزئيين ، أمّا أن يظنّ بأنّ كل من في الدّار رجل ، ويعلم بأنّ بعض من في الدار ليس برجل ، فهو التناقض بعينه.

(وثانيا : إنّه على تقدير الامكان) وعدم استحالة أن يظنّ المجتهد بالبراءة في جميع الوقائع المحتملة مع علمه الاجمالي بالأحكام الكثيرة ، فانه (غير واقع) مثل هذا الظّن والعلم ، في طرفي الأمر بالنسبة الى المجتهد (لأن الأمارات الّتي

٣٣٦

يحصّل المجتهد منها الظنّ في الوقائع لا تخلو عن الأخبار ، المتضمّن كثير منها لاثبات التكليف وجوبا وتحريما.

فحصول الظنّ بعدم التكليف في جميع الوقائع أمر يعلم عادة بعدم وقوعه.

وثالثا : ولو سلّمنا وقوعه ، لكن لا يجوز حينئذ العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ؛ لأجل العلم الاجماليّ المفروض ، فلا بدّ حينئذ

______________________________________________________

يحصّل المجتهد منها الظنّ في الوقائع لا تخلو عن الأخبار ، المتضمّن كثير منها لاثبات التكليف وجوبا وتحريما) فكيف يظن المجتهد بالبراءة في جميع الأحكام والحال إنّ مستند ظنّه نفس الأخبار المثبتة للتكاليف الوجوبية والتحريمية؟.

إذن : (فحصول الظّن) للمجتهد (بعدم التكليف في جميع الوقائع ، أمر يعلم عادة بعد وقوعه) وإنّما قال عادة : للامكان العقلي في أن يكون ظنّه غير مستند الى الأخبار بل الى القياس ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو الاصطرلاب ، أو ما أشبه ذلك.

(وثالثا : ولو سلّمنا) إمكانه و (وقوعه) بأن أمكن الظّن مع العلم الاجمالي ووقع في الخارج (لكن لا يجوز حينئذ) أي : حين يظنّ بعدم التكليف إطلاقا (العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع).

وإنّما لا يجوز العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع (لأجل العلم الاجمالي المفروض) فان الفرض إنّه يعلم إجمالا بوجود تكاليف كثيرة بين واجب ومحرم من أول الفقه الى آخر الفقه.

(فلا بدّ حينئذ) أي : حين عدم جواز العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع

٣٣٧

من التبعيض بين مراتب الظنّ بالقوّة والضعف ، فيعمل في موارد الظنّ الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط وفي موارد الظنّ القويّ بنفي التكليف بمقتضى البراءة.

ولو فرض التسوية في القوّة والضعف كان الحكم كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع من التخيير إن لم يتيسّر لهذا الشخص الاحتياط ، وإن تيسّر الاحتياط تعيّن الاحتياط في حقّ نفسه

______________________________________________________

(من التبعيض بين مراتب الظّن بالقوّة والضّعف ، فيعمل في موارد الظّن الضعيف) ظنا (بنفي التكليف) حيث فرضنا انّه ظنّ «بنفي التكليف» في جميع الأحكام ، ففي الظنون الضعيفة يعمل (بمقتضى الاحتياط) للعلم الاجمالي بوجوب التكاليف (وفي موارد الظّن القوي) ظنّا (بنفي التكليف) يعمل (بمقتضى البراءة) حتى يكون جمعا بين البراءة وبين الاحتياط ، فالاحتياط : في الظنون الضعيفة ، والبراءة في الظنون القوية.

(ولو فرض التسوية في القوة والضعف) بأن كانت كلّ الظنون في مرتبة واحدة ، لا إنّ بعضها قوي وبعضها ضعيف (كان الحكم كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع) بأن كانت كل تلك الأحكام مشكوكة (من التخيير) فيتخير بالعمل ببعض الظنون وعدم العمل ببعض الظنون.

لكنّ التخيير بترك بعض الظنون والعمل ببعض الظنون إنّما هو (ان لم يتيسر لهذا الشخص الاحتياط) وإلّا عمل بالاحتياط في الكلّ حسب العلم الاجمالي إن لم يتيسّر له الاحتياط التام ، بإتيان جميع محتملات الوجوب وترك جميع محتملات التحريم من المظنونات.

(وإن تيسّر الاحتياط) التام (تعيّن الاحتياط في حقّ نفسه) لمقتضى العلم

٣٣٨

وإن لم يجز لغيره تقليده ، ولكنّ الظاهر انّ ذلك مجرّد فرض غير واقع ، لأنّ الأمارات كثيرة منها مثبتة للتكليف ، فراجع كتب الأخبار.

______________________________________________________

الاجمالي (وإن لم يجز لغيره تقليده) لأن التقليد إنّما يجوز للعالم ، والمفروض انّ هذا الشخص جاهل بالأحكام ، وإنّما يعمل فيها بالظنّ ، والظنّ لا يورث العلم بالواقع.

نعم ، لو لم يتمكن المقلّد إلّا منه ، وجب عليه اتباعه بحكم العقل ، لأنّه أعلم منه بموارد الظّن بالأحكام.

(ولكنّ الظّاهر : إنّ ذلك) الّذي ذكرناه بقولنا : ولو فرض التسوية في القوة والضعف (مجرّد فرض غير واقع ، لأنّ الأمارات كثيرة منها مثبتة للتكليف) ومثل تلك الأمارات توجب الظّن على الأقل (فراجع كتب الأخبار) حتى تطّلع على إن كثيرا من الأخبار والأمارات توجب ظنّ الانسان ظنّا قويّا ، فليست الظّنون الحاصلة للانسان متساوية ـ على ما ذكره الفرض ـ.

ثم إنّ الأوثق قال بعد الوجوه الثلاثة للمصنّف ما لفظه : هنا وجه رابع لعدم جواز العمل بأصالة البراءة ، وهو : لزوم اختلال النظام ، وضياع النفوس ، والأموال ، والأعراض ، لو كان العمل باصالة البراءة في أكثر الأحكام المشتبهة مرخّصا فيه شرعا ، إذ يلزم حينئذ أن يبني على البراءة كل من شك في جواز إتلاف صنف من النفوس ، وفي جواز التصرّف في نوع من أموال الناس ، أو في نكاح طائفة من النساء ، أو في أداء قسم من الحقوق ، وبذلك تختل الانساب ، وتستباح النفوس والأموال ، وهذا حدّ يقطع كل أحد بفساده.

مع إنّه ربّما لا يمكن العمل بأصالة البراءة ، كما في صورة التّداعي ودوران مال بين شخصين ، لأجل الشبهة في حكمه ، كما في منجزات المريض الدائرة

٣٣٩

ثمّ إنّه قد يردّ الرجوع إلى أصالة البراءة تبعا لصاحب المعالم وشيخنا البهائيّ في الزّبدة ، بأنّ اعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتف في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظنّ.

______________________________________________________

بين كونها من الأصل أو الثلث ، وكذلك الحبوة تختلف في كونها للولد الأكبر بلا عوض أو معه (١) ، انتهى.

لكن يمكن أن يقال : إن الاشكال غير وارد ، وذلك لحكم العقل بعدم ما يلزم الاختلال ، وبالتقسيم حسب قاعدة العدل العقليّة ، في الاموال ، فهو تخصيص للبراءة ، كما إنّ العقلاء غير المتشرعة الّذين يرون الاباحة المطلقة ، لا يقولون بها في مثل هذه الموارد.

(ثمّ إنّه قد يردّ الرّجوع الى أصالة البراءة) عند من لا يرى العمل بالخبر الواحد (تبعا لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزّبدة) بما حاصل الرّد (بان اعتبارها) أي : اعتبار البراءة (من باب الظّنّ ، والظّنّ منتف في مقابل الخبر ونحوه) أي : نحو الخبر (من أمارات الظّن) أي : من الأمارات التي توجب الظّن ، فان الظّن الخبري أقوى من ظنّ البراءة.

وإنّما كان الظن الخبري مقدّم على الظّن الناشئ من البراءة ، لأنّ الخبر ونحوه من الأمارات التنجيزية ، والبراءة من الأمارات التعليقية ، والتعليقية دائما لا تطاول التنجيزية ، كما إنّ الخبر الذي يدلّ على حجيّة خبر الواحد مثل : «لا عذر لأحد من موالينا في التّشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (٢) مقدّم على الخبر الذي يدل

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ١٩٧ ـ ١٩٨ مقدمات دليل الانسداد.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ٣٨ ب ٢ ح ٦١ وج ٢٧ ص ١٥٠ ب ١١ ح ٣٣٤٥٥ ، رجال الكشّي : ص ٥٣٦ ، بحار الانوار : ج ٥٠ ص ٣١٨ ب ٤ ح ١٥.

٣٤٠