التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

وهو باطل بني له في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محقّ بني له في وسطها ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها» (١). وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كفى بك إثما ألّا تزال مخاصما» (٢).

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٧.

(٢) المصدر نفسه.

٨١

يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)) [٦٠ ـ ٨٢]

(١) أو أبلغ حقبا : قيل إن الحقب سبعون أو ثمانون سنة ، والمتبادر من العبارة أنها بسبيل بيان أنه سيظل يسير في طريقه حتى يبلغ ما أراد مهما طال عليه الزمن.

(٢) الحوت : يطلق على السمكة الكبيرة.

(٣) ذلك ما كنا نبغي : هذه علامة المحلّ الذي كنا نقصده.

(٤) فارتدا على آثارهما قصصا : فرجعا يسيران على آثار أقدامهما حتى يبلغا المحل بدون ضلال.

(٥) وآتيناه من لدنا علما : اختصصناه بعلم منا.

(٦) حتى أحدث لك منه ذكرا : حتى أكون أنا الذي أخبرك بسببه بدون سؤال منك.

(٧) إمرا : شيئا عظيما.

(٨) ولا ترهقني من أمري عسرا : لا تحملني العسر أو لا تشتد عليّ باللوم.

(٩) نفسا زكية : نفسا بريئة لم ترتكب ذنبا.

(١٠) نكرا : منكرا.

(١١) قد بلغت من لدني عذرا : قد صرت عندي معذورا على عدم مصاحبتك لي بعد ما جرى.

(١٢) لاتخذت عليه أجرا : لتقاضيت عليه أجرة.

(١٣) أن يرهقهما طغيانا وكفرا : أن يحملهما تبعة طغيانه وكفره أو يشقيهما بذلك.

٨٢

(١٤) خيرا منه زكاة : أكثر طهارة وبراءة واستقامة.

(١٥) أقرب رحما : أكثر منه رعاية لصلة الرحم أو أكثر منه رحمة أو برّا بوالديه.

(١٦) تأويل : بينا اشتقاق ومعاني هذه الكلمة المتعددة في سورة الأعراف والمتبادر من الآية أنه هنا بمعنى سببه الحقيقي أو الحافز الحقيقي عليه.

هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه ، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.

تعليقات على قصة

موسى والعبد الصالح

ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.

وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه (١) : «أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكّاليّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدوّ الله (٢) حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا ربّ

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٤٨ ـ ١٥١.

(٢) يظهر من العبارة أن هذا الرجل غير مسلم. وفي كتب التفسير أنه ابن زوجة كعب الأحبار اليهودي الأصل (انظر تفسير الطبري والبغوي للآيات). ويروي المفسرون أن نوفا قال : إن موسى المذكور في القصة هو موسى بن يشا ، وقد يكون قال القولين في مجلسين فساق ابن عباس الحديث لتكذيبه.

٨٣

فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثمّ انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من مائها فتحرّك وانسلّ من المكتل فدخل البحر فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به ، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلّم عليه موسى فقال الخضر : وأنّي بأرضك السلام ، قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، أتيتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ، لقد جئت شيئا إمرا ، قال : ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرا ، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا

٨٤

البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله ، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ، قال : ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشدّ من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه الخضر بيده ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا ، لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير (١) : وكان ابن عباس يقرأ (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩) وكان يقرأ : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) [٨٠] وقد روى الترمذي (٢) في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» وروى هذا (٣) أبو داود وزاد عليه : «لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» وروى الترمذي في نفس السياق (٤) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزّت تحته خضراء». والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.

وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.

وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر (٥) جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربّه

__________________

(١) انظر التاج أيضا ج ٤ ص ١٥١.

(٢) انظر التاج أيضا ج ٤ ص ١٥١.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه.

(٥) انظر تفسير الطبري والبغوي.

٨٥

فيما سأل أيّ عباده أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو تردّه عن ردى ، قال : ربّ فهل في الأرض أحد؟ قال : نعم ، قال : فمن هو؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك وأراد أن يعرّفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.

وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم ، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفار إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور ، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم ، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها (١) التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.

ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير ، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.

فمما قاله الطبري إن هذه القصص التي أخبر الله عزوجل نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزأوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند

__________________

(١) انظر تفسير الطبري.

٨٦

موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة. وينبىء عن صحة ذلك قوله (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.

ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.

ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [٢٣ ـ ٢٤] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلّا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة ، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية ، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.

ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح

٨٧

معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحرين هو مكان اجتماع بحر فارس وبحر الروم أحدهما قبل المشرق والآخر قبل المغرب. أو أنه طنجة أو أنه بالمغرب. ومن ذلك أنه كان في المكان الذي أوى موسى وفتاه إليه عين ماء الحياة فمس جسد الحوت الماء فدبت إليه الحياة مع أنه كان قد أكل بعضه فتحرك ثم تسرب إلى البحر وكان يتجمد محل تسربه فلما عاد موسى وفتاه إلى مكانهما الأول وجدا مسارب الحوت متجمدة في البحر فسارا عليه حتى بلغا جزيرة في البحر فلقيا الخضر فيها. ومن ذلك أن الملك الذي كان يأخذ السفن هو هدد بن بدد من ذرية العيص بن اسحق. أو الجلندي الأزدي! ومن ذلك أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي أنطاكية أو أيلة أو قرية على ساحل البحر اسمها الناصرة التي سميت النصارى بها!. ومن ذلك أن الكنز الذي كان تحت الجدار هو صحف علم أو لوح من ذهب مكتوب على أحد جانبيه (بسم الله الرّحمن الرّحيم. عجبت لمن يؤمن كيف يحزن. وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح. وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله). وعلى جانبه الآخر (أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي. خلقت الخير والشر. فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه). ويقول البغوي الذي نقلنا عنه النص وهذا قول أكثر المفسرين ، وروي مع ذلك أن الكنز كان مالا مكنوزا. ومن ذلك أن الخضر هو لقب للرجل وأن اسمه بليا بن ملكان وقيل إنه من نسل بني إسرائيل وقيل إنه من أبناء الملوك وقد تزهد. وقيل إنه نبي وقيل إنه ولي قد خصّه الله بعلمه اللدني أي الغيبي.

وروي في صدده مع ذلك أنه كان وزيرا لذي القرنين فأراد هذا أن يكتشف عين الحياة فدخل الظلمة وكان الخضر على مقدمته فاهتدى إلى العين وشرب واغتسل منها فصار حيا خالدا. ومما قاله الخازن إن أكثر العلماء والمتفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على أنه حي. والحكايات في رؤيته والاجتماع به وبوجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر.

٨٨

ومع هذا فالخازن قال أيضا إن هناك من قال إنه ميت. وهذا ما قاله غيره حيث قالوا : إن حياته وموته مختلف فيهما. ومما رووه أن الله أبدل والدي الغلام الذي قتله الخضر بغلام أو بجارية أنجبت سبعين نبيا وأن الغلام كان قاطع طريق مفسدا تأذى منه أبواه. ومما روي أنه قيل لابن عباس لم نسمع لفتى موسى بذكر في حديث موسى والخضر وكان معهما؟ فقال : شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم معه فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة!. ومما رووه : «أنّ موسى لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له : أوصني؟ قال : لا تطلب العلم لتحدّث به واطلبه لتعمل به».

والمرويات المذكورة غير وثيقة الأسناد ، وفيها ما يتناقض مع نصّ الحديث الصحيح ، وفيها ما يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية المعروفة ، وفيها ما يتناقض مع العقل والنقل. ومسألة حياة الخضر بخاصة مخالفة لنص القرآن الذي يقول : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) سورة الأنبياء : [٣٤] وقد نبّه البغوي إلى هذا في معرض تأييد عدم صحة حياته. وقد روى القاسمي عن البخاري وابن حبان وابن تيمية وغيرهم نفيهم الجازم لحياة الخضر وقول بعضهم إنه لا يقول بذلك إلا المغفلون.

وفي تفسير القاسمي استطرادات إلى تعليل ورود جملة : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) [٧٧] دون الاكتفاء بجملة «فاستطعماهم» وورود جملتي (ما لَمْ تَسْتَطِعْ) [٧٨] و (ما لَمْ تَسْطِعْ) [٨٢] والفرق بينهما. وجواز نسبة الإرادة إلى الجدار في اللغة العربية ومدى ما في جملة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [٧٩] و (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً) [٨١] و (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [٨٢] في سياق تعليل الخضر لما فعله وجواز ما فعله من أمور في نظر الشرع وبخاصة قتله للغلام النفس الزكية ...

ونقول بالنسبة لما رؤي أنه إشكالات لغوية إنه لا يصح أن يفرض أي إشكال لغوي في القرآن بعد أن قرر إنه (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) سورة الشعراء : [١٩٥] وإنه

٨٩

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) سورة الزمر : [٢٨] ولا بد من أن يكون كل ما ورد فيه عربيا مبينا سائغا بالأسلوب العربي الفصيح. ونقول بالنسبة للنقاط الأخرى إنها لا طائل من التعلق بها والحوار في صددها فهي من قصة شاءت حكمة التنزيل أن ترد في القرآن بالصيغة التي وردت بها وينبغي أن تبقى في نطاقها وأن يوقف منها عند ما وقف عنده القرآن والحديث النبوي الصحيح مع استلهام ما فيها من موعظة وعبر والله تعالى أعلم.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)) [٨٣ ـ ١٠١]

(١) وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا : كلمة السبب الأولى بمعنى الوسيلة الموصلة إلى المقصد أو العلم. والثانية بمعنى الطريق أو السير نحو القصد.

٩٠

(٢) في عين حمئة : عين ماء حار أو أرض طينية مستنقعة سوداء. وجملة (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ينبغي أن تحمل من حيث المدى اللغوي على المجاز بحيث تفسر بمعنى (كأنها تغرب في عين حمئة) أو مثل قولنا (غرقت الشمس في البحر) ونحن نعلم أنها لم تغرق في البحر وإنما صارت في نظرنا وراءه.

(٣) لم نجعل لهم من دونها سترا : إما أنها بمعنى أنهم ليسوا على شيء من الحضارة ووسائلها أو بمعنى أنه ليس في أرضهم جبال ولا شجر ولا بناء يقيهم الشمس حين طلوعها.

(٤) أحطنا بما لديه خبرا : علمنا بكل ما قام به ، أو كان كل ما قام به في علمنا وإحاطتنا.

(٥) خرجا : ضريبة.

(٦) زبر الحديد : قطع الحديد.

(٧) بين الصدفين : بين الطرفين المتقابلين وقيل بين الجبلين.

(٨) قال انفخوا : كناية عن طلب إحماء الحديد في النار.

(٩) قطرا : النحاس الذائب أو القطران أو الزفت الذائب وهذا هو الأرجح.

(١٠) وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض : يموج بمعنى يتحرك باضطراب. ومعنى الجملة تركناهم يضطربون فيما بينهم بالحركات والاختلاط.

تعليقات على قصة ذي القرنين

ويأجوج ومأجوج وتليقناتها

هذا فصل في قصة ذي القرنين ، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحي به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين ، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلّا بعض إشارات مقتضبة ، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.

٩١

وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.

والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلّها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية ، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [٨٥] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.

ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه : «كنت يوما أخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : ما لي وما لهم ما لي علم إلّا ما علّمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثمّ صلّى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم. قالوا : بلى أخبرنا. قال : جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الاسكندرية فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن ، ثم علا به فقال ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي ، ثم علا

٩٢

به فقال ما ترى؟ قال : أرى الأرض ، قال : فهذا اليمّ محيط بالدنيا ، إن الله بعثني إليك تعلّم الجاهل وتثبت العالم ، فأتى به السدّ وهو جبلان ليّنان يزلق عنهما كل شيء ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سمّاهم» .. والحديث غير وارد في كتب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير وقال إنه لا يصح وفيه نكارة ، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.

وإلى هذا فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورود السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.

ولقد احتوت كتب التفسير (١) بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزوّ إلى بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وغيرهم ، ومنهم من يتطابق مع من سبقه كأنما ينقل عنه وفي بعض ما يورده بعضهم زيادة ونقص وتغاير أيضا.

٩٣

مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريج ومحمد بن إسحق الذي يعزو كلامه إلى «بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين ، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض. وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.

ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل ، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الإسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي أو أنه الإسكندر المشهور الذي بنى الاسكندرية ، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الإسكندر ، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه‌السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة ، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :

قد كان ذو القرنين جدي مسلما

ملكا علا في الأرض غير مفند

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب ملك من كريم مرشد

فرأى مآب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثأطة حرمد

وأن عمره بلغ ألفا وثلاثين سنة وكان وزيره الخضر صاحب موسى وقد دخل معه في الظلمة حينما أراد أن يكتشف عين الحياة فاهتدى الخضر إليها دونه فشرب واغتسل منها فكتبت له الحياة إلى آخر الزمان!. ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم ،

٩٤

أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها ، أو لأنه ملك الروم والفرس ، أو لأنه دخل النور والظلمة ، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس ، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان ، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس!

ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار أو معرّبتان وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله (١٢٠) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء (١٢٠) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلّا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب ، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلّا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الإسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الإسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي

٩٥

القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الإسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال يا ذا القرنين ، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل. وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخّر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء ، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى والكافرين بالشدة والعذاب.

ومما رووه في سياق الآية [٨٦] أنه كان لمدينة القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس اثنا عشر ألف باب وكان اسمها مريحا ويسكنها قوم من نسل ثمود ولولا ضجيجهم لسمع وجيب الشمس حين تغرب من شدة قربهم من مغربها. وأن ابن عباس اختلف مع معاوية على قراءة (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) [٨١] حيث كان الأول يقرأها (عين حمئة) بمعنى طينة سوداء والثاني يقرأها (عين حامية) بمعنى عين ماء حار وأنهما اتفقا على تحكيم كعب الأحبار فأرسلا إليه يسألانه كيف يجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال لهم : إنها تغرب في طينة سوداء ، فوافق بذلك ابن عباس! ورووا في سياق الآية [٨٨] أنه لم يكن بين القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر على أرضهم بناء فإذا طلعت الشمس نزلوا إلى الماء أو اندسوا في سراديب في الأرض حتى تزول فيخرجون إلى معايشهم وأنهم من نسل مؤمني قوم هود وأن اسم مدينتهم مرقيسا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج.

٩٦

وواضح أن معظم الأقوال جزاف لا تتسم بأية سمة علمية وتاريخية عدا ما يشبه اسم وتاريخ الإسكندر المكدوني المعروف باستثناء خرافة عمره ووزارة الخضر له وعين الحياة التي شرب منها هذا الخضر. ومع بقاء ثغرة هامة لم يحاول راوي اسم الإسكندر سدّها وهي ما هو معروف من وثنية الإسكندر المكدوني ومقتضى الآيات بكون ذي القرنين مؤمنا موحدا موقنا بالآخرة يوحي الله إليه ويكلمه كأنه من الأنبياء. ومما رواه الطبري وتابعه غيره أن الجبلين اللذين أنشأ ذو القرنين السد بينهما هما بين أرمينية وأذربيجان وروى ابن كثير إلى هذا أن الخليفة العباسي الواثق أرسل سرية للبحث عن السد فغابت سنتين وعادت بعد أن لاقت الأهوال ورأت العجائب في البلاد التي طوفت فيها واحدة بعد أخرى وقالت إنها رأت بناء من الحديد والنحاس وله باب عظيم وعليه أقفال عظيمة ، وإن عنده حرسا من الملوك المتاخمين له وإنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ولم يذكر المفسر في روايته مكان السد الذي بلغت إليه.

وفي تفسير القاسمي وهو من التفاسير الحديثة في سياق تفسير الآيات عزوا إلى «بعض المحققين» أنه كان يوجد وراء جبل من جبال القوقاز ـ القفقاس ـ المعروف عند العرب بجبل قاف في إقليم طاغستان قبيلتان إحداهما اسمها آقوق وثانيتهما ماقوق عرّبهما العرب بيأجوج وماجوج. وهما معروفتان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. وتناسل منهما كثير من أمم الشمال والشرق في روسية وآسية. وأن السد كان بين مدينتي دربند وخوزار في إقليم الطاغستان حيث يوجد مضيق بين المدينتين يسمى الآن بباب الحديد وبالسد وفيه أثر سد حديدي قديم بين جبلين. وذكر نقلا عن صفوة الأخبار أن السور الذي وصلت إليه سرية الواثق العباسي هو سور الصين الذي يبلغ طوله نحو ١٢٥٠ ميلا وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما ، وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إلى أربعين قدما. وهذا السور لم يبنه إسكندر وإنما الذي بناه الإسكندر هو سد دربند. وكلام هذا المفسر يفيد أن ذا القرنين هو الإسكندر المكدوني

٩٧

المشهور. وقد حاول المفسر أن يوفق بين ما هو معروف من عقيدة الإسكندر المكدوني الوثنية وبين مقتضى الآيات القرآنية وقال إنه لا يقتضي من عقيدة اليونان الوثنية أن يكون هو وثنيا وأن أساتذته أرسطاطاليس وفيثاغوروس إلهيون. ولا تبلغ محاولته حد الإقناع ، وظاهر من كلامه أنه بنى السد لمنع زحف قبائل ماقوق وآقوق ...

وهناك عالمان هنديان مسلمان مشهوران عصريان وهما شبلي النعماني وأبو الكلام آزاد بحثا في موضوع ما جاء في الفصل القرآني بحثا يتسم بسمة العلم والتروي ويستند إلى مصادر عديدة ووثائق أثرية هامة. وقد أدى البحث عند الأول إلى ترجيح كون ذي القرنين هو دارا الكبير ملك الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد ، وأن اليأجوج والمأجوج من قبائل الاسكيت التترية التي كانت تقيم في الشرق من جبال القوقاز ، وأن السد الذي بناه هو السد المعروف بسد دربند القريب من مدينة دربند الواقعة غربي بحر الخزر. وأدى البحث عند الثاني إلى ترجيح كون ذي القرنين هو الملك كورش ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد والذي حكم قبل دارا الكبير والذي قوّض مملكة بابل الكلدانية وأذن لليهود المسبيين في مملكة بابل بالعودة إلى فلسطين وتجديد أورشليم (بيت المقدس) ومعبدها سنة (٥٣٨ ق. م). وأن السدّ هو غير سدّ دربند ، وإنما هو بين طرفي جبل من جبال القوقاز بين مدينتي ويلادي كيوكز وتفليس ، ويعرف باسم مضيق كورش فيما يعرف به من أسماء. وأنه لا يزال موجودا وهو خليط بالحديد والنحاس. وأن يأجوج ومأجوج هم قبائل منغولية كانت تعيث فسادا في البلاد فأنشأ كورش السدّ لمنعهم. وحاول كل من العالمين إثبات أن كلا من رجليهما أنه ذو القرنين بما كان من كثرة فتوحاته وسعة سلطانه وإثبات أن الزرادشتية التي كان يدين بها كل من الملكين تقول بوحدة الله وتأمر بالخير وتدين بالآخرة.

وقد استند الاثنان فيما استندا إليه إلى سفر نبوءة دانيال من أسفار العهد القديم المتداولة إلى اليوم. وكان دانيال من جملة من سباهم نبوخذ نصر إلى بابل على ما ذكر في هذا السفر. ولقد جاء في الإصحاح الثامن منه أنه رأى في منامه

٩٨

كبشا ذا قرنين ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه وإذا بتيس من المعز جاء من المغرب له قرن واحد فهجم على الكبش ذي القرنين وضربه وكسر قرنيه وصرعه على الأرض وداسه ، فالتمس دانيال من جبريل أن يفسر له الرؤيا فطمأنه بأنها بشرى بخلاص إسرائيل من السبي وأن الكبش ذا القرنين هو ملوك ماداي وفارس وأن تيس المعز هو ملك ياوان.

ولقد ذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس (١) في تاريخه الذي ألّفه في القرن الأول للميلاد المسيحي ووصل إلى عهدنا أن أحبار اليهود تقدموا إلى الإسكندر المكدوني حينما جاء إلى أورشليم بعد أن انتصر على ملك فارس دارا الثالث وقوض مملكته وأوردوا على مسامعه رؤيا دانيال وقالوا له إنه هو المقصود من تيس المعز الذي ضرب بقرنه ذا القرنين ملك فارس وكسر قرنيه. فالنعماني فسر ذا القرنين بدارا الكبير بسبب تعاظم ملك فارس في زمنه وأبو الكلام فسره بكورش بسبب كونه هو الذي قوض ملك بابل ونجّي بنو إسرائيل من السبي في زمنه. مع أن الإسكندر الذي فسره اليهود بالتيس ذي القرن الواحد إنما ضرب وغلب دارا الثالث الذي كان في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.

ومهما يكن من أمر فإن من واجبنا أن ننوه بجهد العالمين وإن كان من الحق أن نقول إن استنتاجاتهما لا تصل في رأينا إلى مبلغ الإقناع ، وإن كنا نرى أن أبا الكلام كان أقرب إلى التوفيق لأنه استند إلى سفرين آخرين من أسفار العهد القديم ذكر فيهما كورش. وهذان السفران هما سفر نبوءة أشعيا وسفر عزرا. ولقد جاء في الإصحاح الرابع والأربعين من الأول بلسان الربّ هذه العبارة : «أنا القائل لكورش أنت راعيّ وأنت متمم لكل ما أشاء». وجاء في الإصحاح الخامس والأربعين هذه العبارة : «هكذا قال الرب لمسيحه كورش الذي أخذت بيمينه لأخضع الأمم بين يديه وأحل أحقاء الملوك وأفتح أمامه المصاريع إني أسير قدامك فأقوم المعوج وأحطم مصاريع النحاس وأكسر مغاليق الحديد وأعطيك كنوز الظلمة ودفائن

__________________

(١) انظر تاريخ يوسيفوس اليهودي الترجمة العربية طبعة صادر ص ٢٤.

٩٩

المخابئ ، لتعلم أني أنا الرب الذي دعاك باسمك إله إسرائيل. إني لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرفني». ولقد جاء في الإصحاح الأول من السفر الثاني ـ عزرا ـ هذه العبارة : «في السنة الأولى لكورش ملك فارس لكي يتم ما تكلم به الرب بضم أرميا نبه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداء في مملكته كلها وكتابات أيضا قائلا هكذا قال كورش ملك فارس جميع ممالك الأرض قد أعطانيها الرب إله السموات وأوصاني بأن أبني له بيتا في أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا ويبني بيت الرب إله إسرائيل وهو الإله الذي في أورشليم. وكل من بقي في أحد المواضع حيث هو متغرب فليمدده أهل موضعه بالفضة والذهب والمال والبهائم فضلا عما يتطوعون به لبيت الله الذي في أورشليم». حيث يفيد هذا أن كورش حسب عبارة السفرين كان مؤمنا بإله السموات يتلقى الأمر أو الوحي أو الإلهام منه ويعمل على بناء مسجد له من جديد في أورشليم. وأن الله اعتبره وكيلا له ليتمم كل ما شاءه وأنه أخذ بيده وأخضع له الأمم وفتح أمامه المصاريع وفتح له دفائن المخابئ وأعطاه كنوز الظلمة وسار قدامه. ولقد جاء في الإصحاحات التالية للإصحاح الثامن من سفر نبوءة دانيال أخبار رؤى أخرى رآها دانيال وبشارات تلقاها من جبريل وميكائيل بخلاص قومه وانتصار كورش على بابل وتعاظم ملك ماواي وفارس فكان هذا مما عزز به أبو الكلام رأيه بكون ذي القرنين هو كورش ملك فارس بالإضافة إلى ما اطلع عليه من مدونات فارسية قديمة عن أعمال كورش وبنائه السد لمنع أذى القبائل المغولية المنعوتة بيأجوج ومأجوج على النحو الذي ذكرناه آنفا.

وأسفار العهد القديم ليست فوق الشبهة في أسلوب تأليفها ووقته وهدفه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف. ومن جملتها الأسفار الثلاثة ولكنا نعتقد أنها كانت متداولة في أيدي اليهود قبل الميلاد المسيحي بقرون عديدة وأن اليهود كانوا يتداولون ما فيها من أخبار عن كورش وإيمانه بالله وتأييد الله له وما أتاحه له من توفيقات عظيمة خارقة من جملة ذلك ما أشير إليه في القرآن إشارة

١٠٠