التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

ولقد تعددت أقوال المفسرين في الآية الأخيرة حيث قال بعضهم (١) استنادا إلى بعض الروايات والأحاديث : إن يوم الجمعة هو اليوم الذي كان يجب اتخاذه يوم عيد لأن الله انتهى فيه من خلق الكون فاختلف اليهود في الأمر ثم اختاروا يوم السبت لأنه كان يوم راحة الله من خلق الكون فأوجبه الله عليهم وحرّم فيه العمل فمنهم من ثبت على ذلك ومنهم من خالفه وقد أوردوا حديثا نبويا عن أبي هريرة رواه البخاري جاء فيه : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد» ، وحديثا آخر عن أبي هريرة وحذيفة رواه مسلم جاء فيه : «أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فهو تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة والمقضي بينهم قبل الخلائق» (٢) وحيث قال بعضهم (٣) : إن الآية تعني الإشارة إلى ما كان من احتيال اليهود على السبت في صيد السمك وما كان عقوبة الله لهم ومسخهم على هذا الإثم مما أشارت إليه آيات سورة الأعراف [١٦٣ ـ ١٦٦].

ونحن نرجح هذا القول لأننا نراه أشدّ اتصالا بموضوع التحريم والتحليل حيث يكون في الآية إنذار وتنبيه للمسلمين على عدم السير في طريق اليهود لئلا يعاقبهم الله بما عاقب هؤلاء وحيث تبدو الصلة واضحة بين هذه الآية والآيات الأربع ثم بين الآيات الخمس وما قبلها أيضا.

ولسنا نرى هذا الترجيح متعارضا مع الحديثين اللذين رواهما البخاري ومسلم من حيث إنهما ليسا في صدد تفسير الآية.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.

(٢) أورد الحديثين ابن كثير والبغوي انظر التاج ج ١ ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٣) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري وتفسير الخازن.

٢٠١

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)) [١٢٥]

في الآية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتزام خطة الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله وجدال الناس في صددها بالحسنى وإيكال الأمر بعد ذلك إلى الله ، فهو الذي يعلم من هو الضالّ عن سبيله ومن هو المهتدي.

ولم نطلع على رواية ما في صدد نزولها كذلك. ويتبادر لنا أن الصلة بينها وبين سابقاتها قائمة. فموضوع التحليل والتحريم وملّة إبراهيم مما يكثر الجدل فيه. ولعلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أحرج وأثير غضبه في ذلك الموضوع في موقف من المواقف فاقتضت حكمة التنزيل بعد بيان حقيقة هذه الملّة وكونها طريق الله الحق التي أوحى الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباعها وكون ما أوحاه الله في صدد التحريم والتحليل هو الحقّ في هذه الملة أن يهدّأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلّم الخطة الحكيمة التي يحسن أن يسير عليها من جهة وأن يسلّى من جهة أخرى. فذوو القابليات الحسنة والقلوب السليمة لا بدّ من أن يدركوا الحقّ ويهتدوا به ، وأضدادهم لا يدركون لأنهم يتعمدون المكابرة والعناد وليس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبعتهم شيء وليس عليه إلّا أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإذا صار جدال فينبغي أن يكون في نطاق الرفق واللين والحسنى.

تعليق على آية

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

ومع اتصال الآية بالسياق السابق وموضوعه كما قلنا فإن الخطة التي احتوتها والتي جاءت مطلقة عامة من جلال الشأن وبعد المدى في الذروة التي ليس بعدها شيء في صدد الدعوة إلى الإسلام الذي هو سبيل الله والتي تترشح بها الرسالة الإسلامية للشمول والخلود وهي مستمرة التلقين عامة المدى بحيث توجب على المسلمين في كل زمان ومكان أن تكون هي خطتهم في الدعوة إلى الإسلام وبحيث توجب أن تكون خطة كل داع إلى مبادئ الحق والخير التي هي من سبيل الله.

٢٠٢

فالدعوة إلى ذلك إنما تنجح بهذا الأسلوب الحكيم الرائع. أما أساليب العنف والإكراه والإلزام والخشونة فلا تؤدي إلى نتيجة إيجابية سليمة.

ولقد قال بعض المفسرين (١) إن الآية قد نسخت بآيات القتال ، كما قال بعض المغرضين من المبشرين والمستشرقين : إنها خولفت ونقضت حينما قوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتد ساعده. وليس في هذا وذاك صواب فيما نرى ، فالمبادئ التي تضمنتها آيات القتال المدنية متسقة مع هذه الخطة تماما. والقتال إنما شرع ضد المعتدين على المسلمين وليس لإكراه الناس على الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) وعلى ما سوف نزيده شرحا في مناسباته.

وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين المتواترة تكذب كل من يقول من الأغيار إن هذه الخطة قد نوقضت بل الحق الذي لا يماري فيه إلّا المكابر المغرض أنها روعيت أدقّ رعاية وأشدّها (٢).

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)) [١٢٦ ـ ١٢٨]

(١) وإن عاقبتم : بمعنى وإن قابلتم عملا بالمثل. وتستعمل في معنى المقابلة على الإساءة والعدوان.

في الآيات :

١ ـ خطاب موجه للسامعين يؤمرون فيه بأنهم إذا أرادوا أن يقابلوا على

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي.

(٢) اقرأ الجزء السادس والسابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي ، العروبة في الإسلام تحت راية النبي والخلفاء الراشدين. واقرأ كتابنا سيرة الرسول من القرآن الجزء الثاني ٤٩ ـ ٣٠٥ وكتابنا الدستور القرآني فصل النظام السياسي وفصل النظام الجهادي.

٢٠٣

الإساءة والعدوان فيجب أن يكون ذلك في حدود ما كان عليهم من ذلك بدون تجاوز ولا إسراف به مع تنبيههم إلى أن الأفضل لهم إذا صبروا فإن في الصبر خيرا للصابرين.

٢ ـ وأمر للنبي بالصبر وعدم الاستسلام للحزن وضيق الصدر من جراء مواقف المكر والإساءة التي يواجهها.

٣ ـ وتطمين له بأنه إذا صبر فإنما يجعل اعتماده على الله وأن الله مؤيد للذين يتقونه ويحسنون في أعمالهم.

تعليق على آية

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) وما بعدها

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات الثلاث مدنية. وقد روى الطبري عن عطاء بن يسار أحد علماء تابعي التابعين أن الآيات الثلاث مدنية وأنها نزلت بعد وقعة أحد. فإن النبي عليه‌السلام لما قتل حمزة عمّه وبقر بطنه ومثّل به حزن كثيرا فأقسم لئن أظهرنا الله عليهم لنمثّلن بثلاثين منهم فلما سمع المسلمون قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثّلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ، فأنزل الله الآيات. وروى الطبري روايات أخرى من هذا الباب ولقد روى الترمذي حديثا عن أبيّ بن كعب جاء فيه : «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثّلوا بهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فقال رجل : لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كفّوا عن القوم إلّا أربعة» (١). وهذه الروايات تؤيد مدنية الآيات كما هو واضح. ومع ذلك فإن الطبري روى عن بعض التابعين أن بعض المسلمين في مكة قالوا يا رسول الله لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٣٩ ـ ١٤٠.

٢٠٤

فأنزل الله الآيات ثم نسخت بآيات الجهاد. وهذه الرواية تنقض رواية مدنية الآيات. وإلى هذا وذاك فإن الطبري روى عن بعض التابعين وتابعيهم أيضا أن الآيات مطلقة في صدد النهي عن مقابلة أحد على ظلامة ظلمها إلّا بمثلها مع تفضيل الصبر وأنها محكمة غير منسوخة ، ثم قال : والصواب أن الله أمر في الآية الأولى النبي والمؤمنين بأن يعاقبوا من عاقبهم بمثل ما عاقبهم به إن اختاروا العقوبة ، مع تفضيل الصبر وأنه سلّى في الآيتين الثانية والثالثة النبي عما كان من إعراض قومه عن دعوته ومواقفهم منه وما كان يطرأ عليه بسبب ذلك من حزن وضيق صدر. ولم تخرج أقوال وروايات المفسرين عن هذا (١). وفي كلام الطبري الأخير وجاهة وصواب. فليس في مضمون الآيات ولا في سياقها قرينة يمكن أن تؤيد رواية مدنيتها كما أن حكمة وضعها في هذا المكان لا تكون مفهومة مع مضمون هذه الرواية. ولقد ذكرت وقعة أحد بشيء من الإسهاب في سورة آل عمران ، فلو كان ما روي صحيحا لكان محل هذه الآيات هذه السور.

وأسلوب الآيات ومضمونها مما يؤيد مكيتها وقد تكررت الآيات المكية التي تضمنت ما تضمنته هذه الآيات ، ومرّت أمثلة من ذلك. وفي سورة النمل آية فيها نفس العبارة التي جاءت في آخر الآية الثانية وهي : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠) وليس بين هذه العبارة وبين رواية حزن النبي على قتل عمه أي اتساق. لأنها تنهاه عن عدم الحزن من مواقفهم ومكرهم. وبترجيح مكية الآيات تبدو الصلة بينها وبين الآيات السابقة واضحة. فالآية السابقة لها مباشرة تأمر بالجدال بالتي هي أحسن إذا لزم الجدال وبالتزام الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله. فمما يتبادر أن تكون الآيات الثلاث قد جاءت معقبة على الآية السابقة لها وجزءا من السياق والموضوع. وكأنما أريد بها التنبيه على أن الخير كل الخير هو في تلك الخطة فإذا كان من الكفار من يشذ ويعنف ورأى بعض المسلمين ضرورة للمقابلة فلتكن في حدود المماثلة. والصبر مع ذلك هو الأفضل

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٢٠٥

وعلى النبي والمسلمين أن يملكوا زمام أنفسهم فلا يخرجوا عن حدّ الاعتدال ولا يحزنوا ولا يضق صدرهم بما يرونه من مكر الكفار ومواقفهم وتعنتهم. وعليهم بتقوى الله والعمل الحسن الذي يرضيه ، وإنه لمع المتقين المحسنين.

وهكذا تكون الآيات الثلاث متممة للخطة الحكيمة الرائعة التي احتوتها الآية السابقة لها. وكما أن هذه الآية قد تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى على ما شرحناه في سياقها تكون الآيات الثلاث مثلها مستمرة التلقين.

وطابع الختام بارز على الآيتين الأخيرتين بخاصة مما هو مماثل لكثير من خواتم السور.

والجمع بين المتقين والمحسنين يتكرر هنا ، وقد علقنا على ما في ذلك من دلالة هامة في مناسبة سابقة ، وتكراره يدل على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من عناية هو جدير بها.

٢٠٦

سورة نوح

هذه السورة قاصرة على رسالة نوح عليه‌السلام لقومه ومناجاته لربّه بسبب جحود قومه ومواقفهم من رسالته. وهي شاذة بين السور المعقودة على أسماء الأنبياء التي احتوت إلى قصة النبي المعقودة باسمه قصص الأنبياء الأخرى وفصولا وعظية وتذكيرية أخرى موجهة إلى كفار العرب. وهي شاذة كذلك بالنسبة للفصول القصصية التي جاءت في سور أخرى في معرض التذكير والتنديد. ومع ذلك فإن أسلوبها متماثل مع أسلوب القصص القرآنية ، وأهدافها متسقة مع أهداف هذه القصص.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها

.

٢٠٧

وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)) [١ ـ ٢٨]

(١) يؤخركم إلى أجل مسمى : يؤخر محاسبتكم وعقابكم على ما قد تقترفونه من ذنوب.

(٢) إلّا فرارا : إلّا تباعدا.

(٣) استغشوا ثيابهم : وضعوا ثيابهم على رؤوسهم ليخفوا وجوههم. والعبارة بقصد تصوير شدة انصرافهم عن الدعوة.

(٤) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا : حدثتهم وهم مجتمعون ومنفردون وسرّا وعلنا.

(٥) مدرارا : كثيرة التهطال.

(٦) لا ترجون لله وقارا : لا تعترفون لله بالعظمة ولا تحسبون حساب قدرته ولا تقدرونه حقّ قدره ولا تطيعونه حقّ طاعته.

(٧) أطوارا : على أشكال ، أو بمعنى ما مرّ خلقكم فيه من أطوار من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلخ ...

(٨) طباقا : بعضهم فوق بعض.

(٩) فجاجا : واسعة.

(١٠) كبّارا : شديدا أو عظيما.

(١١) لا تذرنّ : لا تتركوا.

٢٠٨

(١٢) ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر : أسماء آلهتهم أو معبوداتهم.

(١٣) ديّارا : من يعمر الدار ويسكنها.

(١٤) تبارا : هلاكا ودمارا.

عبارة آيات السورة واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد سردناها مرة واحدة لأنها مترابطة الأجزاء محبوكة الكلام.

وقد تضمنت :

١ ـ تقريرا ربانيا بإرسال نوح إلى قومه لدعوتهم إلى الله وإنذارهم قبل أن يحلّ فيهم عذاب الله.

٢ ـ وحكاية أقوال نوح لقومه ونصحه لهم وترغيبه بمغفرة الله وأفضاله وتحذيره من عذابه ونقمته.

٣ ـ ومناجاة نوح ربّه متذمرا مما كان من قومه من الإعراض والتباعد عن الدعوة وشدة التصامم بالرغم مما كان منه من إلحاح في السر والعلن والانفراد والاجتماع والترغيب والترهيب والتذكير بنعم الله عليهم ولفت نظرهم إلى مشاهد قدرة الله وعظمته في الكون وفي أنفسهم ، ثم مما قام به زعماؤهم وأغنياؤهم من مكر وتحريض على عصيانه وعدم استماع مواعظه ، وتوصية الناس بالتمسك بمعبوداتهم وتقاليدهم ، حيث كان لذلك أثر كبير في إضلال الناس ، وموقفهم موقف العناد والكفر.

٤ ـ وحكاية مناجاة نوح ربّه بعد يأسه من قومه ودعائه على الكفار بالهلاك وعدم إبقاء أحد منهم لأنهم بلغوا من العناد والجحود إلى درجة لا أمل فيها لصلاحهم وصلاح نسلهم الذي سوف يسير على غرارهم بتلقينهم ثم حكاية دعائه لنفسه ولوالديه ولكل من آمن بدعوته ولكل مؤمن ومؤمنة.

والمتبادر أن الآية [٢٥] ليست من حكاية قول نوح وإنما هي تقرير ربّاني حيث ذكرت أن قوم نوح أغرقوا بسبب ما ارتكبوه من آثام وخطايا ، وأن مصيرهم

٢٠٩

الأخروي إلى النار أيضا ولن يجدوا لهم أنصارا ينصرونهم من الله وغضبه.

وآيات السورة قاصرة كما هو واضح على رسالة نوح لقومه ، وهي من هذه الناحية شاذة بين سور القرآن المعقودة على أسماء الأنبياء والتي فيها حكاية رسالات الأنبياء الآخرين غير المعقودة عليهم أولا واحتوت مواعظ وتذكيرا وتعقيبا في صدد الرسالة المحمدية ومواقف العرب منها ثانيا.

ومع ذلك فإنه يلحظ في آيات السورة :

١ ـ تماثل غير يسير بين أسلوب التذكير بنعم الله وأفضاله ومشاهد قدرته وبين أسلوب الآيات الكثيرة الموجهة إلى كفار العرب في سور عديدة.

٢ ـ وتماثل غير يسير بين مواقف كفار قوم نوح وتصاممهم ومكر زعمائهم وتحريضهم الناس على عدم الاستماع له وبين ما حكته آيات كثيرة في سور عديدة عن مواقف كفار العرب وزعمائهم ، وقد مرّ من هذا وذاك أمثلة عديدة.

فهذا يلهم أن آيات السورة استهدفت فيما استهدفته تذكير العرب ودعوتهم إلى الاعتبار بقوم نوح وتأنيبهم على مواقفهم المماثلة لمواقفهم. وتسلية النبي والمؤمنين بأن مواقف كفار العرب ليست بدعا فإن قوم نوح أيضا وقفوا نفس الموقف فكانت عاقبتهم الهلاك.

ولابن العربي تفسيرات صوفية لبعض آيات هذه السورة في نص الحكم الذي عقده على نوح عليه‌السلام. من ذلك في آيات (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٢٥) يقول : (مما خطيئاتهم أغرقوا فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة ، فأدخلوا نارا في عين الماء فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد). وفي آيات : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (٢٨) يقول : (إنك إن تذرهم أي تدعهم وتتركهم يضلوا

٢١٠

عبادك أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظروا أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عبيدا فهم العبيد الأرباب. ولا يلدوا أي لا ينتجوا ولا يظهروا إلّا فاجرا أي مظهرا ما ستر كفّارا أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر فيهم ثم يسترونه بعد ظهوره فيحار الناظر ولا يعرف قدر الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره والشخص الواحد. رب اغفر لي أي استرني واستر من أجلي فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك وما قدروا الله حق قدره ولوالدي كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة. ولمن دخل بيتي أي قلبي ، مؤمنا أي مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسهم. وللمؤمنين من العقول والمؤمنات من النفوس ولا تزد الظالمين من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية إلّا تبارا أي هلاكا فلا يعرفون نفوسهم وشهودهم وجه الحق دونهم).

وفي هذا من الشطح بل الهذيان الذي يبتعد به عن معنى الآيات الصريح الواضح وهدفها ويقلبهما رأسا على عقب ما هو ظاهر.

تعليق على أسماء معبودات قوم نوح

ويلحظ أن أسماء معبودات قوم نوح المذكورة في السورة عربية في صيغتها ومعناها وإن كانت تدل على أنها أقدم طورا من العربية الفصحى التي نزل بها القرآن حيث تبدو الصلة ملموحة بين يغوث ، والغوث والغيث والإغاثة ، ويعوق والإعاقة والتعويق. وسواع والسعة ، وودّ والمودّة ونسر الذي هو اسم الطير الجارح المشهور. ولقد روى البخاري عن ابن عباس في سياق تفسير السورة حديثا جاء فيه : «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعده. أمّا ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل وأمّا سواع فكانت لهذيل وأمّا يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ. وأمّا يعوق فكانت لهمدان وأمّا نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم ففعلوا

٢١١

فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت» (١). وفي الروايات التي وردت في الكتب العربية وكتب التفسير بيانات أخرى بالإضافة إلى ما جاء في حديث ابن عباس. من ذلك أن سواعا الذي كانت تتخذه هذيل كان في رهاط من أرض ينبع. وفي رواية أنه اسم صنم لهمدان وفي رواية أنه اسم صنم لذي الكلاع وكان على صورة امرأة وأن يغوث كان لمذحج وأهل جرش في اليمن وأن من عبدته بني غطيف من مراد وأنه ابن سواع وكان على صورة أسد وأن يعوق كان لهمدان وخولان في أرحب وفي رواية أن قبيلة خيوان كانت تعبده وأنه على شكل فرس. وأن نسرا كان على شكل طير. وقد قرىء على كتابة لحيانية بالشين بدلا من السين. وأن ودّا الذي كان لبني كلب كان على صورة رجل ، وقد قرىء على كتابات يمنية قديمة كمعبود من معبودات اليمن القديمة وكان يرمز إلى القمر. وقد رويت أسماء رجال جاهليين بأسماء بعض هذه الأصنام مضافا إليها كلمة (عبد) مثل (عبد ودّ) و (عبد يغوث) (٢).

وعلى كل حال فالمتبادر أن العرب في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبله بقليل كانوا يتداولون بينهم أن هذه الأسماء هي أسماء معبودات قوم نوح ثم اقتبسوها وربما عربوها وسموا بها أصناما لهم. وكان ذلك في طور أقدم من طور العربية الفصحى التي نزل بها القرآن فاحتفظوا بها كما هي لأنها دخلت في نطاق القدسية الذي لا يسهل تجاوزه. وقد يدل هذا على أنهم كانوا يتداولون قصة نوح وقومه ومن هنا كان الإلزام واردا في صدد قصة نوح وهدفها في السورة وغيرها. وهذا بالإضافة إلى أنهم لا بد من أن يكونوا عرفوا هذه القصة من طريق أهل الكتاب الذين بين ظهرانيهم والذين وردت القصة في أسفارهم بإسهاب على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٤٥.

(٢) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ، ج ٥ ص ٨٢ وما بعدها.

٢١٢

سورة إبراهيم

في السورة تقرير لمهمة النبي ، وحملة على كفار العرب وبخاصة زعمائهم وتذكير ببعض الرسل السابقين ومواقف أممهم منهم. وإنذار بالمصائر السيئة التي صاروا إليها وتقرير كون الإيمان هو أساس كل عمل صالح وطريق قويم وكون الكفر هو محبط لكل عمل ومورد للهلاك. وتنديد بما انطبع عليه الناس من الكفر والجحود لنعم الله وحكاية لمناجاة إبراهيم ربه وحملته على الأصنام وتقريع صارم للظالمين في معرض تثبيت النبي وتطمينه.

وفصول السورة مترابطة تبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة ، أو فصولا متلاحقة. وقد روي أن الآيتين [٢٨ و ٢٩] مدنيتان ومضمونهما وانسجامهما مع السياق يسوغان الشك في الرواية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)) [١ ـ ٣]

(١) يبغونها عوجا : يريدون أن يجعلوا سبيل الله معوجة منحرفة أو يريدون أن يجعلوا الناس يسيرون على طريقة معوجة منحرفة.

ابتدأت آيات السورة بالحروف المتقطعة للتنبيه والاسترعاء على ما رجحناه

٢١٣

في أمثالها وتبعها تنويه بالقرآن جريا على أسلوب معظم المطالع المبتدئة بالحروف المتقطعة.

وعبارة الآيات واضحة. والمتبادر أن الآية الأولى في صدد تشبيه الناس بدون رسالة نبوية من قبل الله وكتاب رباني كمن هم في ظلمات دامسة لا يستبينون طريق الحق المستقيم الواضح في عقائدهم وسلوكهم ، ثم في صدد التنويه بحكمة الله ورحمته التي اقتضت أن يرسل رسوله ويوحي إليه بآيات كتابه ليخرج الناس من تلك الظلمات وينير لهم سبيل الحق في كل ما يتعلق بأمور الدين والدنيا معا ويدعوهم إلى السير فيها.

وقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة حملة قوية على الكافرين الذين يجعلهم حبّهم وتفضيلهم متع الحياة وشهواتها على الآخرة يقفون موقف الكفر والصدّ من كتاب الله ودعوة رسوله مع ما فيهما من قصد إخراجهم من الظلمات إلى النور ويبذلون جهدهم لإبقاء الأمور معوجة منحرفة.

وفي الآية الثالثة توكيد لما تكرر تقريره في القرآن ومرّ منه أمثلة من كون موقف الجحود والمناوأة الذي وقفه الكفار من الرسالة المحمدية متصل بجحودهم الآخرة وتعلقهم بالدنيا. وفي هذا تنطوي حكمة من حكم التنزيل فيما احتوته آيات عديدة من التهوين بالدنيا ومتاعها والترغيب في ما عند الله عزوجل ، مما مرّ منه أمثلة ويأتي فيما بعد أمثلة عديدة أخرى.

وجملة (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تلهم أن الحملة موجهة بنوع خاص على الزعماء الذين يتولون كبر معارضة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويمنعون الناس عن اتباعه كما هو المتبادر.

دلالة جملة

(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)

على عموم الرسالة المحمدية

وتعبير (النَّاسَ) وإن كان يطلق على مختلف فئات السامعين أو أي مجتمع فإن وروده في الآيات مطلقا يتضمن معنى التقرير بأن دعوة النبي هي عامة لجميع

٢١٤

الناس في كل ناحية من أنحاء الأرض لإخراجهم من الظلمات إلى النور. وهذا المعنى مؤيد بآيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. بل أكثر من هذا فإن القرآن قد رشحها لتكون دين العالم جميعه الظاهرة على جميع الأديان ورشح معتنقيها ليكونوا خير أمة أخرجت للناس وخلفاء الأرض قاطبة كما ترى في هذه الآيات :

١ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [الفتح : ٢٨].

٢ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٥٥].

٣ ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠].

٤ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج : ٤١].

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤) [٤].

عبارة الآية واضحة ، وقد احتوت تعليلا لإرسال الله رسله من قومهم حتى يبينوا لهم رسالة الله بلسانهم.

وقد يبدو في كلّ من فقرتي الآية إشكال ، أما إشكال الفقرة الثانية فإنه يزول بالحملة الإنذارية بالعذاب والتعنيف للكافرين في الآيات السابقة واللاحقة وفيما ورد في آيات أخرى من تقييد بأن الله إنما يضلّ الفاسقين والظالمين ويهدي إليه من

٢١٥

أناب ، على ما تكررت الإشارة إليه في المناسبات العديدة المماثلة. والراجح أنها هنا على سبيل تطمين النبي عليه‌السلام وتسليته. فمهمته هي مهمة الرسل من قبله ، وهي التبيين فمن كانت فيه رغبة صادقة بالإيمان والإنابة اهتدى ومن فقدت فيه ضلّ فلا موجب لاهتمامه وحزنه. وقد تكرر هذا كذلك في سور عديدة لتكرر المواقف الداعية إليه.

تعليق على جملة

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)

وإشكال الفقرة الأولى آت من إيهامها أن رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قومه وحسب في حين أن القرآن احتوى آيات كثيرة فيها صراحة قطعية على أنها لعموم البشر ومرشحة لتكون دين العالم أجمع على ما ألمعنا إليه آنفا. غير أن ما احتوته الآيات التالية من التمثيل والتذكير والموعظة أولا وكون السياق هو في نطاق الحملة الموجهة إلى كفار قوم النبي مباشرة يزيلان هذا الإشكال. ولقد كان العرب يحاجون في كون القرآن باللغة العربية في حين أن الكتب السماوية المعروفة بغير هذه اللغة ، ويحاولون أن يدللوا بذلك على أن القرآن ليس من عند الله ، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة فصلت ، فاقتضت حكمة التنزيل على ما هو المتبادر الإيحاء بالآية للتعليل والإفحام الجدلي.

وقد مرّ في سورتي الشورى والأنعام آيات تذكر أن الله أنزل الكتاب على نبيه عربيا لينذر أم القرى ومن حولها. وهذه من هذا الباب. وليس من شأنها أن تتعارض مع الآيات الصريحة القطعية بعموم الرسالة المحمدية.

ومن عجيب الأقوال التي قيلت في صدد التوفيق بين جملة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) وبين عموم الرسالة ما أورده السيوطي في الإتقان نقلا عن الواسطي أن في القرآن جميع لهجات العرب في الحجاز واليمن والشام والعراق ونجد واليمامة (١) كما أن فيه من اللغات الفارسية والرومية والقبطية

__________________

(١) في الإتقان تعداد لهذه اللهجات بأسماء قبائلها وقد بلغ عددها خمسين!.

٢١٦

والنبطية والحبشية والبربرية والعبرانية والسريانية من حيث إن الله أرسل نبيه إلى جميع الأقوام فاحتوى القرآن من جميع اللغات. وقد يكون حقا أن لهجة قريش التي كانت لهجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته في الدرجة الأولى والتي نزل بها القرآن متطورة مع الزمن عن لهجات العرب قبل نزول القرآن لأسباب وعوامل مختلفة. وقد يكون حقا أن في القرآن ألفاظا معربة من اللغات الأعجمية من فارسية ورومية وعبرانية وسريانية وقبطية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللهجة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزول القرآن كذلك. غير أن العجيب في الأمر الذي لا يؤيده عقل ولا نقل أن يقرر كون ذلك للتوفيق بين عموم الرسالة المحمدية وبين نزول القرآن باللغة العربية واللهجة القرشية. والدراسات أثبتت أن هذه اللهجة كانت هي الشاملة إجمالا لجميع العرب في جميع أنحاء جزيرة العرب وأطرافها حين نزول القرآن بل قبل نزوله بمدة غير قصيرة ومن الأدلة القرآنية على ذلك وصف غير اللغة العربية التي نزل بها القرآن باللغة الأعجمية في آية سورة النحل هذه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) والآيات العديدة التي ذكر فيها أن الله قد جعله عربيا وأنزله عربيا لقوم يعلمون ويعقلون ولعلهم يعلمون ويعقلون كما جاء في آيات سور فصلت [٣ و ٤٣] والشورى [٧] والشعراء [١٩٣ ـ ١٩٥] والرعد [٣٧] ويوسف [٢] والزمر [٢٧ ـ ٢٨] وآيات الزمر مهمة في بابها حيث تنطوي على تقرير كون القرآن مأنوسا لا تعقيد فيه ولا عوج يفهمه جميع الناس على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ومن الأدلة المتواترة اليقينية أن القرآن كان يتلى على مختلف فئات العرب على اختلاف منازلهم في أنحاء الحجاز وغير الحجاز من جزيرة العرب وأطرافها فكانوا يفهمونه ويجادلون فيه وأن النبي كان يتحدث إليهم ويكتب لهم بلسانه في العهد المكي ثم في العهد المدني وبدليل أن ما أثر وعرف يقينا من كلام العرب قبل الإسلام والعائد إلى مائة سنة هو مماثل في ألفاظه ومفرداته وتراكيبه لألفاظ ومفردات وتراكيب القرآن.

ولقد وقف المفسرون أمام إشكال كون القرآن عربيا وكون رسالة النبي محمد

٢١٧

التي يمثلها القرآن هي لجميع الأقوام فقالوا فيما قالوه إن الترجمة كفيلة بإبلاغ القرآن والرسالة المحمدية إلى غير العرب ، وإنه لما كان من غير المعقول أن ينزل القرآن بلغات جميع الأمم فكان الأولى أن ينزل بلغة الرسول الذي أنزل عليه فيكون الناس تبعا للمؤمنين من قومه ويبلغون الرسالة بالترجمة (١). وهو حق. ويحسن أن يضاف إليه ما يكون في ذلك من وسيلة إلى انتشار اللسان العربي أيضا. فما دام القرآن قد رشّح الدين الإسلامي ليكون دين العالم أجمع على ما ذكرناه قبل قليل فإن اللسان العربي الذي هو لسان قرآن الله وسنّة نبيه يكون مرشحا بالتبعية ليكون لسان العالم أجمع أيضا. وقد تكون الترجمة الوسيلة الأولى للدعوة بالنسبة لمن يجهل العربية. ولقد باشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهمة دعوة غير العرب ممن يعرفون العربية وممن لا يعرفونها معا ، وأرسل لهؤلاء رسله وكتبه بالعربية اعتمادا على الترجمة بطبيعة الحال. وكان ملوك فارس والروم ومصر والحبشة من جملة من أرسل إليهم رسله وكتبه. وإذا كان التاريخ الوثيق لم يرو أنه قابل أناسا يجهلون اللغة العربية من كتابيين وغير كتابيين مواجهة ، فمما لا شك فيه أن أصحابه الذين منهم من قاد حملات الفتح ومنهم من اندمج فيها قد قابلوا من أهل الشام ومصر والعراق وفارس أناسا لا يعرفون العربية وأنهم بلغوهم الرسالة المحمدية والقرآن العربي بالترجمة وأن من انضوى إلى الإسلام منهم وهم كثيرون قد انضووا نتيجة لذلك. ثم استمر هذا بعد دور الخلفاء الراشدين وما يزال إلى اليوم مستمرا يبلغ المسلمون القرآن والسنّة المحمدية إلى غير العرب بطريق الترجمة فيقبل الناس على الانضواء إليها في مشارق الأرض ومغاربها.

ولقد حمّل القرآن الأمة العربية مهمة نشر الرسالة الإسلامية على ما شرحناه في سياق سورة الزخرف لأنهم هم الذين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، ولسانهم هو لسانه ولسان القرآن الذي أنزله الله عليه. ولقد قام المسلمون الأولون من العرب بالمهمة خير قيام فدانت بالإسلام غالبية البلاد المفتوحة التي كانت ممتدة في أوائل القرن

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الزمخشري والبغوي والخازن مثلا.

٢١٨

الثاني الهجري من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين والهند شرقا ومن جبال القفقاس وأرمينية وبحري قزوين والخزر وهضبة تركستان شمالا إلى بلاد السودان والحبشة والصومال جنوبا وشملت فيما شملت قسما من غرب أوروبا وسواحلها الجنوبية والغربية وجزر البحر الأبيض المتوسط. وكان انتشار اللغة العربية يسير سيرا سريعا في الوقت نفسه في مختلف أنحاء هذه المساحة الشاسعة والواسعة مع انتشار الإسلام لأنها لغة الدين الذي أقبل أهلها على اعتناقه والذي لا يفهم فهما صحيحا إلّا من منابعه وهي القرآن والحديث وبلغته الأصلية فضلا عن وجوب تلاوة القرآن باللسان العربي الذي أنزله الله به في الصلاة وفضلا عن أن هذا اللسان هو لسان الحكام في البلاد ، حتى غدت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة تقريبا لأهالي البلاد التي تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي والتي ظلت تحت السلطان العربي بدون انقطاع وغدا نصف مفردات لغات الأمم الأخرى التي في شرق هذه الساحة وغربها وجنوبها وشمالها والتي حالت المنازعات والمنافسات بين العرب دون بقاء سلطانهم فيها حيث يبدو من هذا صحة ما قلناه من أن اللغة العربية كانت مرشحة لتكون لغة العالم تبعا لترشح الإسلام ليكون دين العالم.

ولم يتوقف انتشار الإسلام قط ـ واللغة العربية تبعا له ـ برغم ضعف السلطان العربي في القرن الثالث الهجري وبعده بل إن عدد الذين دانوا بالإسلام في هذا الدور بلغ أضعاف من دانوا به في دور قوة السلطان العربي وتجاوز الحدود التي وقف عندها إبّان قوة هذا السلطان إلى آفاق بعيدة في الصين والهند وجزر المحيط الهندي والمحيط الكبير مثل أندونيسيا والفلبين واليابان وفي أواسط إفريقية وفي أوروبا وأميركا الجنوبية والشمالية بفضل استمرار المسلمين العرب ومن غدا في حكمهم من المستعربين على القيام بالمهمة التي حملهم إياها القرآن لأن عناصر الاستجابة إليه ليست القوة والغلبة ولكنها المبادئ السامية الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والإنسانية التي انطوت فيه وفي الأحاديث النبوية المتساوقة والتي لا تحتاج إلّا إلى قلوب صافية ونوايا حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى مجردة عن العناد والأنانية والمآرب ثم إلى دعاة مخلصين. ولسنا نشك في أن الله

٢١٩

سيظل يقيض لدينه الدعاة المخلصين وييسر الظروف والسبل حتى يتحقق وعده بإظهاره على الدين كلّه لأنه شرعه وأرسل نبيه به ليكون هدى ورحمة للعالمين ، وستظل اللغة العربية تنتشر معه بإذن الله.

وواضح مما تقدم أن المسلمين الأولين من عرب ومستعربين لا بدّ من أنهم قد ترجموا القرآن إلى لغات عديدة لأن ذلك كان الوسيلة الأولى إلى عرضه على الأمم ودعوتها إلى الإسلام. غير أنه ليس هناك على قدر ما نعلم ترجمات قديمة يصح أن تكون مرجعا كما أننا لا نعلم أن الترجمات القديمة كانت للحروف أو المعاني. والفرق مهم بين الأمرين. وهناك من يقول قديما وحديثا باستحالة الترجمة الحرفية أو عدم جوازها. وقد يكون في هذا صواب ووجاهة غير أنه لم يمنع كثيرا من الأفراد مسلمين وغير مسلمين في زماننا وما قبله من ترجمة القرآن بلغات عديدة ترجمة حرفية في بعضها كثير من الأغلاط والتحريف المقصود وغير المقصود. ولما كان واجب عرض القرآن على الأمم غير العربية والدعوة إلى الإسلام هو واجب مستمر ثمّ لما كان كثير من المسلمين من غير العرب لا يزال يجهلون العربية وهم في حاجة لا مناص منها إلى فهم القرآن بلغاتهم فإن هذا وذاك يقتضيان أن يكون للقرآن ترجمات رسمية بلغات عديدة يوقف عندها وتكون مرجعا. وهو ما يجب على الدول الإسلامية أن تتفق على تحقيقه حتى لا يظل الأمر فوضى ويترك الميدان لمن يقتحمه من أفراد مسلمين وغير المسلمين بحيث تؤلف هيئة إسلامية تنظر أولا في أمر جواز وإمكان الترجمة الحرفية ثم تشرف على الترجمة الحرفية أو ترجمة المعاني حسب ما تتفق عليه بعد التمحيص والدراسة إلى لغات عديدة فتكون الترجمات التي تنبثق عن ذلك هي الصحيحة الصادقة التي يوقف عندها. مع التنبيه على أن هذه الترجمات هي للدعوة والفهم وليست للصلاة التي لا يجوز أن تؤدى بغير قرآن عربي مبين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة الشعراء.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ

.

٢٢٠