التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

كتاب الله وتوكيد بأنه تنزيل من ربّ العالمين لا إمكان للرّيب فيه. ثم أعقب ذلك إشارة استدراكية إلى ما يقوله الكفار بأسلوب تنديدي كانوا يقولون إن النبي افتراه ؛ وردّ على القول بتوكيد أنه الحق من الله أنزله على النبي لينذر به أناسا لم يأتهم نذير من قبله رجاء أن يهتدوا به إلى طريق الله القويم.

والآيتان الأوليان براعة أو مقدمة استهلالية للآية الثالثة كما هو المتبادر. والآيات الثلاث منصبة في جملتها على توكيد نزول القرآن من عند الله وتكذيب دعوى افترائه التي تكررت حكايتها وتكرر تكذيبها بتكرر المواقف المماثلة.

تعليق على مدى الآية

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)

ولقد روى البغوي عن ابن عباس في صدد جملة (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أنها تعني الفترة بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام. وقال الطبري إنها تعني قريشا الذين لم يأتهم رسول قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا القول أكثر وجاهة فيما يتبادر لنا. وتاريخ قريش لا يرتقي إلى أكثر من بضع مائة سنة على ما شرحناه في سياق سورة قريش فلا تناقض بين هذا القول ورسالات الأنبياء من عيسى وما قبله.

وقد يرد أن رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن لقريش فقط. وأن هناك روايات عن نبيين عربيين بعثا بعد عيسى. وهما حنظلة بن صفوان نبي الرس الذي تدلّ فصاحة اسمه على أنه ليس بعيدا كثيرا عن زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي ذكرنا خبره في سياق سورة (ق) وخالد بن سنان العبسي (١) ولسنا نرى هذا ناقضا لقول الطبري حتى في حالة صحة الروايات. فقريش كانوا وظلوا في الدرجة الأولى هم الذين يوجه إليهم الخطاب في معظم ظروف العهد المكي النبوي برغم ما في القرآن المكي من

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وانظر تاريخ العرب قبل الإسلام ، جواد علي ج ٥ ص ٣٥٩.

٣٤١

إشارات إلى عموم الرسالة النبويّة وشمولها حيث كان هذا هو المتسق مع الحالة الراهنة. وهذا ما انطوى في الآية (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى : ٧] والآية [٩٢] المماثلة في سورة الأنعام على ما نبهنا عليه في سياق تفسير السورتين.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)) [٤ ـ ٩]

(١) عالم الغيب والشهادة : عالم ما هو خفي غائب وما هو حاضر مشهود.

(٢) ماء مهين : كناية عن النطفة التي يتولّد منها الإنسان. والتعبير بسبيل استصغار شأن النطفة.

عبارة الآيات واضحة. وضمائر الجمع المخاطب فيها راجعة إلى الكفار على ما تفيده العبارة. وتكون بذلك الصلة قائمة بينها وبين الآيات السابقة. وقد استهدفت تدعيم الردّ الذي احتوته الآية السابقة لها مباشرة وتضمنت تنديدا بالكفار الذين لا ينتبهون ولا يتدبرون في كون الله العظيم الذي خلق كل شيء فيه على أحسن وأحكم صورة وفي تصرفه فيه بانفراد ببالغ الحكمة وشمول القدرة فلا يغيب عن علمه وحكمه وقدرته شيء في سماء ولا أرض ، ثم الذي خلقهم من تراب ثم جعلهم من نطفة ضئيلة هينة الشأن ومنحهم نسمة الحياة وجهّزهم بالسمع والإبصار

٣٤٢

والأفئدة أي العقول. ولا يرعوون عن التماس الولاء والشفاعة من غيره مع أنه ليس هناك لأحد ولي ولا شفيع من دونه ، ولا يشكرونه على أفضاله ونعمه ويؤدون حقه من الخضوع والإخلاص التام له وحده.

وأسلوب الآيات قوي نافذ إلى القلوب والعقول ومن شأنه إثارة شعور الإجلال والإكبار لله في النفس السليمة الطويلة الراغبة في الحق والهدى وبعث القناعة فيها بوجود واجب الوجود وكمال صفاته وعظيم قدرته واستحقاقه وحده للخضوع والاتجاه.

والحجة في الآيات ملزمة للكفار موضوع الكلام لأنهم يعتقدون أن الله هو خالق الأكوان ومدبرها والضارّ والنافع وحده ، على ما مرّت حكايته عنهم في سور عديدة سابقة.

ويلحظ أن بعض ما جاء في هذه الآيات جاء في أوّل السورة السابقة وفي أواخرها أيضا ونقول هنا ما قلناه قبل من أن مردّ ذلك على ما هو المتبادر تكرر المواقف وتجدد المناسبات.

والعبارة التي جاءت في هذه الآيات عن كيفية خلق السموات والأرض ومدته واستواء الله على العرش وأطوار خلق الإنسان وشمول حكم الله وقدرته قد وردت في سور أخرى سبق تفسيرها ولقد علقنا بما فيه الكفاية على تعبير (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [٧٢] في سياق سورة (ص) فلا نرى ضرورة لإعادة أو زيادة كذلك.

وجملة (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) تنطوي فضلا عن ما ذكرناه من قصد تدعيم الردّ على التنبيه إلى أن كل شيء مما خلقه الله جاء على أحسن ما تقتضيه وظيفته من حالة ونظام وإتقان. وهذا يمكن أن يراه ويلمسه ويدركه كل امرئ مهما كانت ثقافته فيجعله ذلك إذا لم يكن مغرضا مماريا يعترف بوجود الله وعظمته.

٣٤٣

تعليق على آية

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ

فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)

ولقد قال المفسرون في صدد هذه الآية عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين إن المسافة بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام من سني الدنيا فتقطع في نصف يوم بالنزول وفي مثله بالعروج. ووقفوا عند آية سورة المعارج هذه : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) فقالوا بسبيل التوفيق إن آية السجدة هي بصدد المسافة بين الأرض والسماء الدنيا في حين أن آية المعارج هي بصدد المسافة من الأرض السابعة إلى ما فوق السموات السبع وليس في هذا التحليل ما فيه التوقيف المقصود لأن صفة اليوم غير متغيرة ، وهي في آية كألف سنة وفي آية كخمسين ألف سنة. ومنهم من قال إن يوم آية السجدة هو نسبة لأيام الدنيا ويوم آية المعارج هو نسبة لأيام الآخرة (١).

ونقول تعليقا على ذلك ما قلناه في المناسبات المماثلة إن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن من الأمور المغيبة مع وجوب الوقوف من ذلك عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا توسع ولا سيما إذا لم يكن هناك أحاديث نبوية ثابتة كما هو الحال في هذه المسألة ، وأنه لا طائل من التزيد مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون فيما ورد في القرآن حكمة. وقد يتبادر أن من هذه الحكمة التنويه بقدرة الله وعظمة كونه ومطلق تصرفه كما قد يتبادر أن من هذه الحكمة قصد التقريب إلى الأذهان التي اعتادت أن تقيس الأمور بالحركات والأبعاد والأيام. وقصد بيان كون المسافات الشاسعة التي يستعظمها الناس هي بالنسبة لقدرة الله تعالى لا تعدّ شيئا. فالله سبحانه منزّه عما تقتضيه الحركات من حدود وجسمانية وقدرته في غنى عن كل ذلك وليس للأبعاد معها معنى ولا قيام. والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.

٣٤٤

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)) [١٠ ـ ١١]

(١) ضللنا : هنا بمعنى بليت أجسادنا وتناثرت ذراتها وتاهت في الأرض.

في الآيتين :

١ ـ حكاية لتساؤل الكفار تساؤل الجاحد عما إذا كانوا حقيقة سيخلقون خلقا جديدا بعد أن تبلى أجسادهم وتتناثر ذراتها.

٢ ـ وبيان لحقيقة الدافع لهم على هذا القول وهو كفرهم بلقاء الله وإنه هو الذي خلقهم وخلق الأكوان جميعا.

٣ ـ وأمر للنبي بأن يؤكد لهم ذلك وأن يقول لهم إن هناك ملكا للموت وكّله الله بقبض أرواحهم وأنهم راجعون إليه بعد ذلك.

والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة. حيث استؤنف في هذه الآيات حكاية أقوال الكفار أيضا. والفقرة الأخيرة من الآية الأولى تلهم أن إنكارهم للبعث ليس منبعثا من إنكارهم لوجود الله ولكن من اعتقادهم باستحالة البعث بعد بلي الأجساد وهذا هو المتّسق مع ما قررته الآيات الكثيرة التي مرّت أمثلة عديدة منها في صدد اعترافهم بوجود الله وكونه هو الخالق المدبّر المحيي المميت.

تعليق على ملك الموت

ويلحظ أن الآية الثانية تقرر أن ملك الموت هو الذي يتوفّى الناس عند موتهم في حين أن آية الزمر [٤٢] تذكر أنّ الله هو الذي يتوفّى الأنفس عند موتها. وهناك آيات تذكر أن رسل الله (بصيغة الجمع) هم الذين يتوفّون الناس كما جاء في آية الأعراف [٣٧] وفي آية سورة النحل [٣٧] أن الملائكة هم الذين يتوفّون الناس. وهذا ما ورد في آية سورة الأنعام [٩٣] أيضا ولسنا نرى في هذا تناقضا

٣٤٥

جوهريّا حيث يمكن التوفيق بين مدى الآيات بيسر.

ولقد أورد المفسرون (١) روايات معزوّة إلى ابن عباس وبعض التابعين عن ملك الموت وأعوانه وأعمالهم منها أن اسم ملك الموت عزرائيل وهو من كبار ملائكة الله. ومنها أن له أعوانا ينزعون الأرواح من الأجساد حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت. ومنها أن الأرض جعلت له كطست الماء أو راحة اليد يتناول منها من جاء أجله بدون مشقة. ومنها أن خطوته ما بين المشرق والمغرب وأن له حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب فيتصفح وجوه الناس فإذا رأى إنسانا انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة فتنزل به سكرات الموت. ومنها أنه ما على الأرض من بيت شعر أو مدر إلّا يطوف به ملك الموت في اليوم مرتين وفي رواية سبع مرّات لينظر هل فيه واحد أمر أن يتوفّاه! وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن جعفر بن أبي محمد قال : «سمعت أبي يقول نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن فقال له طب نفسا وقرّ عينا يا محمّد فإني رفيق بكلّ مؤمن. واعلم أنه ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في برّ ولا بحر إلّا وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرات حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها». وقد روى ابن كثير الذي أورد هذا الحديث تعليقا عليه عن جعفر أنه إنّما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان ولقنه لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحالة العظيمة! وهكذا يكون ملك الموت بمقتضى هذا الحديث موكلا بقبض أرواح البعوض وغيرها من غير بني الإنسان! ولم يرد هذا الحديث في كتب الصحاح ، والروايات الأخرى غير صحيحة الأسناد كذلك. وهذا من الأمور الغيبية التي لا يصحّ التزيّد فيها عمّا ورد في القرآن إلّا بحديث نبوي ثابت ؛ وواجب المسلم الإيمان بما جاء

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.

٣٤٦

في القرآن من ذلك ولو لم تدركه أو تدرك حكمة ذكره العقول العادية.

ولعل من ذلك ما هو متصل بعقيدة المشركين في الملائكة من أنهم بنات الله وشفعاؤهم عنده وإشراكهم مع الله في العبادة والاتجاه. فهؤلاء الذين يشركونهم معه ويرجون شفاعتهم عنده ويعتقدون بتأثيرهم ليسوا إلّا خدما لله وعبيدا ومنفذين لأوامره وحسب ، وأنهم أشدّاء غلاظ على الكفّار والمشركين بهم. والله أعلم.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)) [١٢ ـ ١٤]

في الآيتين الأولى والثالثة تنبيه على ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يرجعون إلى الله ويقفون بين يديه :

فلسوف يأخذ المرء العجب حينما يرى المجرمين الذين كفروا بالله ولقائه مطأطئي الرؤوس خجلا وخزيا مستشعرين بالندم والحسرة يعلنون يقينهم بالله وصدق وعده وبأنهم قد سمعوا وأبصروا واتعظوا ويطلبون من الله إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا ويتلافوا ما فرط منهم. غير أن ندمهم هذا لن يجديهم نفعا. وسيقال لهم إنكم أعطيتم الفرصة فأضعتموها وتجاهلتم وغفلتم عن هذا اليوم فوقعتم في سوء العاقبة. فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما نسيتم وتجاهلتم وبما كنتم تقترفون من الآثام وتنحرفون عن طريق الحقّ والهدى فقد استحققتم أن ينساكم الله كما نسيتموه وأن تصيروا إلى المصير الوبيل الذي صرتم إليه.

أما الآية الثانية فالمتبادر أنها بمثابة استدراك أو تعليق على قول الكفار المفروض المحكي في الآية الأولى ، فالله قادر على جعل كل الناس يسيرون في طريق الهدى والحق دون أن يشذّ منهم شاذّ. ولكن حكمته اقتضت وقضاؤه سبق أن يكون لجهنّم ملؤها من الجنّ والإنس معا.

٣٤٧

والاتصال قائم كذلك بين هذه الآيات وسابقاتها اتصال تعقيب وإنذار.

تعليق على آية

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها)

وقد توهم الآية الثانية أن الله قد حتّم على أهل النار من الأزل أن يحرموا من التوفيق والهدى ليملأ بهم النار. وذكر هذا بعض المفسرين والكلاميين في صدد القضاء والقدر (١). ولكن الآية الثالثة التي تنسب الكفر والنسيان لأصحابه وتجعل النار جزءا عادلا لهم من شأنها أن تزيل الوهم وتجعل الكلام على التحتيم في غير محله هنا وتسوغ القول إن الآية في صدد بيان كون حكمة الله اقتضت أن يترك الناس إلى اختيارهم الذي أودعه فيهم بعد أن بيّن لهم طريق الهدى والضلال حتى تمتلىء جهنّم بأهلها عن بيّنة وعدل والجنة بأهلها عن بينة وعدل وأن لا يجبر الناس على الهدى إجبارا. ولعل في الآيات التالية ما يؤيد هذا التوجيه الذي أكّدته آيات كثيرة سبق تفسيرها والتعليق عليها والذي هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وترتيب الجزاء الأخروي حسب أعمال الناس في الدنيا.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)) [١٥ ـ ١٧]

(١) تتجافى : تتباعد.

في الآيات إشارة إلى صفات المؤمنين ومصيرهم : فهم الذين إذا ذكّروا بآيات الله خرّوا سجدا له إعلانا لإيمانهم به وخضوعهم له وحده وسبحوا بحمده

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الكشاف المذيّل بتعليقات ابن المنير ، وانظر تفسيرها في تفسير النسفي.

٣٤٨

على ما أولاهم من نعم وقدّسوه ونزّهوه ولم يستكبروا عن عبادته. وهم الذين يهجرون النوم والراحة ويقضون أوقاتهم في عبادة الله وحده مستشعرين بالخوف منه وراجين الثواب منه. وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في سبل البرّ المتنوعة. فهؤلاء لا يعلم إلّا الله ما هيّىء لهم من عظيم المكافاة التي فيها قرّة أعينهم وطمأنينة قلوبهم جزاء ووفاقا على ما قدموه من صالح الأعمال.

وواضح أن الآيات قد أعقبت الآيات السابقة في صدد المقابلة بين مصائر الكفار والمؤمنين وأن الاتصال بينها وبين سابقاتها.

تعليقات على آية

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) وما بعدها

ولعل الآيات جاءت بالأسلوب الذي جاءت به كردّ على ما حكته الآيات السابقة من إعلان الكفار يوم القيامة يقينهم بالله واتعاظهم. فالإيمان في الآخرة والندم على ما فات لن يجديا نفعا. وإنما المجدي هو الإيمان والعمل الصالح في الدنيا. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى.

والإمعان في الآيات فحوى وروحا يزيل الوهم الذي قد يرد في صدد الآية الثانية من الآيات السابقة لها كما نبّهنا عليه. فكل ما وصف به المؤمنون قد نسب فعله إليهم وصدوره عنهم باختيارهم الذي أودعه الله فيهم.

ومع إطلاق الآيات الذي يجعلها مستمد إلهام وتلقين وتنويه وغبطة مستمر لكل مؤمن في كل وقت ؛ فإن فيها على ما هو المتبادر صورة قوية للسابقين الأولين من المؤمنين في مكة من قيام في الليل وتقديس وتسبيح دائمين لله عزوجل وخوف منه وأمل فيه وإنفاق لأموالهم في سبيله رضوان الله عليهم. وهو ما تكررت حكايته عنهم في سور عديدة منها السورة السابقة.

وجملة (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) تتضمن بشرى عظيمة غير محدودة من شأنها أن تثير في نفوس المؤمنين الصالحين أشدّ الغبطة والارتياح

٣٤٩

وتحملهم على مضاعفة جهدهم في نيل رضاء الله في العبادة والتسبيح والذكر والإنفاق. وهو مما استهدفته الجملة فيما هو المتبادر.

ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآيات أحاديث نبويّة عديدة. منها حديث رواه الطبري بطرقه بصيغ عديدة متقاربة عن معاذ بن جبل قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تكفر الخطيئة. وقيام العبد في جوف الليل ، وتلا الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) إلى آخرها». وعن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة ومن بله ما أطلعكم عليه اقرأوا إذا شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧)» (١). وروى البغوي بطرقه حديث معاذ بن جبل بتفصيل أكثر قال : «كنت مع رسول الله في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال : لقد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت. ثم قال : ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تطفئ الخطيئة. وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) حتى بلغ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام. وعموده الصلاة. وذروة سنامه الجهاد. ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا نبيّ الله ، قال : فأخذ بلسانه فقال : اكفف عليك هذا. قال : فقلت يا نبيّ الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به. قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم». وروى بطرقه عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليكم بقيام الليل فإنه دأب

__________________

(١) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا في سياق تفسير الآية. انظر التاج ج ٤ ص ١٨١ ـ ١٨٢.

٣٥٠

الصالحين قبلكم وقربة لكم إلى ربّكم ومكفرة للسيّئات ومنهاة عن الإثم» (١). وأورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق ، سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الآية فيقومون ، وهم قليل».

وينطوي في الأحاديث (٢) تلقينات وترغيبات وتبشيرات نبوية متساوقة مع ما في الآيات من ذلك.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)) [١٨ ـ ٢٠]

عبارة الآيات واضحة. وهي متصلة بالسياق. وقد جاءت بمثابة تعقيب على الآيات السابقة. وفيها مقايسة بين المؤمنين والفاسقين وبيان المصير الحقّ الذي يكون لكل منهم في الآخرة المتناسب مع عمل كل منهم ، واستنكار لأي تسوية بين المؤمن الصالح والفاسق المتمرد. وفيها تدعيم قوي لما ذكرناه قبل في صدد نيل الناس في الآخرة ثوابهم وعقابهم وكونه جزاء عادلا لما قدموه في الدنيا واختاروه من طريق. والمتبادر أن تعبير (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) تعبير أسلوبي بقصد توكيد شدّة البلاء الذي سيصيب الكفار في الآخرة. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار.

وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [١٦ ـ ٢٠] مدنية. وروى

__________________

(١) روى هذا الحديث الترمذي وأحمد والحاكم. وجاء في روايتهم في نهايته «وفي رواية ومطردة للداء عن الجسد» انظر التاج ج ١ ص ٢٩٢.

(٢) هناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

٣٥١

الطبري عن عطاء بن يسار أن الآيات [١٨ ـ ٢٠] نزلت بالمدينة في علي بن أبي طالب والوليد بن عتبة بن أبي معيط «فقد كان بين الوليد وعلي كلام فقال الوليد أنا أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأردّ منك للكتيبة. فقال علي اسكت فإنك فاسق ، فأنزل الله فيهما (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) إلى قوله (تُكَذِّبُونَ)». وروى هذا البغوي بدون عزو إلى راو وبشيء من المباينة هي أن الوليد قال لعلي اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة ، فقال له علي : «اسكت فإنك فاسق» فأنزل الله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمنا واحدا وفاسقا واحدا.

وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والمفروض أن الوليد كان مسلما. والآية تقرر مأوى الفاسقين في النار خالدين فيها. وتنزّه عليا عن القذف بمسلم بصفة الفاسق الكافر. والإمعان في السياق يسوغ القول إن الآيات منسجمة مع الآيات السابقة بل والآيتين اللاحقتين سبكا وموضوعا كل الانسجام. وهذا ما يجعلنا نشكّ في الروايات. والله أعلم.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)) [٢١ ـ ٢٢]

(١) العذاب الأدنى : العذاب القريب.

في الآيتين :

١ ـ إنذار رباني في صيغة التوكيد بأن الله سيصيب الكفار بالبلاء القريب قبل البلاء الأخروي الأكبر لعلّهم يتراجعون عن غيّهم وموقفهم.

٣٥٢

٢ ـ وتقريع في أسلوب السؤال الإنكاري يتضمن تقريرا بأنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن أنذره الله بآياته وذكره بها ثم أعرض وتصامم عنها.

٣ ـ وتوكيد بأن الله منتقم حتما من المجرمين الذين لا تنفع فيهم الموعظة والإنذار.

والآيتان معطوفتان على سابقاتهما ومتصلتان بها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد قال المفسرون إن العذاب الأدنى الذي أنذر به الكفار هو عذاب دنيوي. وهذا ما تلهمه العبارة أيضا. ولقد احتوت السورة السابقة إشارة إلى ما أصيب به الكفار من بلاء دنيوي وتأنيبا لهم على عدم اتعاظهم به وإنذارا ببلاء أشدّ ، فجاءت الآيتان تؤكدان الإنذار والتأنيب.

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في ماهية العذاب الأدنى (١). منها أنه مصائب في الأموال والأنفس تصيبهم في الدنيا. ومنها أنه القتل بالسيف صبرا أو الجوع والقتل. ومنها أنه ما أصابهم في وقعة بدر. ومنها أنه الدخان والقحط قبل الهجرة أو بعدها. ومنها عذاب القبر. ومنها أنه فتنة الدجال أو الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان. والقول الأخير غريب في مقامه لأن الإنذار للسامعين من الكفار والفاسقين. وقد يكون بعض هذه الأقوال تطبيقية بعد وقوع المصائب. ويكون في ذلك مصداق لوعيد الله وإنذاره. وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيتين قد استهدفتا تكرار إنذار المشركين وزعمائهم من جهة وتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من جهة أخرى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)) [٢٣ ـ ٢٤]

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي بن كعب قال : «في هذه الآية العذاب الأدنى مصائب الدنيا والروم والبطشة أو الدخان» انظر التاج ج ٤ ص ١٨٢.

٣٥٣

في الآيتين : تذكير بموسى وبني إسرائيل ، فقد نزّل الله على موسى الكتاب. وجعله هدى لبني إسرائيل. وقد جعل من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس إلى طريق الحقّ بأمر الله وتوفيقه بسبب ما بدا من هؤلاء الأئمة من الصبر والإيقان بآيات الله.

والمتبادر أن الآيتين جاءتا لتطمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتثبيتهم في الظرف الذي أخذ موقفهم فيه يتحرّج وأزمتهم تشتدّ من الكفار. فكما فعل لموسى وبني إسرائيل لأنهم أيقنوا وصبروا فسيفعل لهم لأنهم أيقنوا وصبروا أيضا. وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تتصل الآيتان بسابقاتهما اتصالا وثيقا بالرغم مما يبدو لأول وهلة من انقطاعهما.

ولقد تعددت الأقوال في تأويل جملة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) وبخاصة في ضمير (لِقائِهِ) فمن المفسرين (١) من قال إن الجملة لرفع الشك في لقاء الله لموسى أو لرفع الشكّ في لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لموسى ليلة الإسراء ، وأوردوا في صدد ذلك بعض أحاديث غير واردة في كتب الصحاح جاء في بعضها عزوا إلى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة. ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس. ورأيت مالكا خازن النار والدجال». وفي بعضها عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أسري بي إلى السماء رأيت موسى يصلّي في قبره». ومنهم من قال عزوا إلى السدي أن الجملة بمعنى (فلا تكن في شك من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول) ومنهم من قال إنها بمعنى (فلا تكن في شك من تلقي القرآن عن الله مثل تلقي موسى الكتاب) وأورد الزمخشري الذي قال القول الأخير آية يونس هذه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [٩٤] ليؤيد قوله. والأرجح فيما يتبادر لنا أن الضمير في (لِقائِهِ) يعود إلى الكتاب لأنه الأقرب ويكون التأويل الأخير هو

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والكشاف للزمخشري.

٣٥٤

الأكثر وجاهة والأكثر انسجاما مع روح الآيتين ويكون معنى (لِقائِهِ) هو تلقيه ، والله أعلم.

تعليق على الآية

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا

صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)

وضمير (لَمَّا صَبَرُوا) يحتمل أن يكون راجعا إلى بني إسرائيل كما يحتمل أن يكون إلى الأئمة. ورجوعه إلى الأئمة أوجه لأنهم الأقرب إلى الجملة أولا ولأن الوصف لا يمكن أن يكون شاملا لجميع بني إسرائيل لا في زمن موسى ولا بعده لأن أسفار العهد القديم من لدن موسى (١) قد سجلت انحرافات كثيرة دينية وخلقية لفئات كثيرة من بني إسرائيل كانت أحيانا غالبيتهم الكبرى. وهو ما رددته آيات قرآنية عديدة مكيّة ومدنيّة. وقد مرّ منها أمثلة عديدة مثل آية الأنعام [١٤٦] وآيات الأعراف [١٤٨ ـ ١٥٣ و ١٦٠ ـ ١٧٠] وكان ترديده في القرآن أقوى وأشدّ وأوسع لأنه ربط بين مواقفهم من الرسالة المحمدية والقرآن وبين مواقف آبائهم وانحرافاتهم الدينية والخلقية في زمن موسى وبعده كما جاء في آيات سورة البقرة [٤٠ ـ ١٤٩ و ٢٤٦ ـ ٢٥٣] وسورة آل عمران [٥١ ـ ١٢٠] والنساء [٤٤ ـ ٥٢ و ١٤٩ ـ ١٦١] والمائدة [١٢ ـ ١٣ و ٣١ ـ ٣٣ و ٤١ ـ ٤٥ و ٥٠ ـ ٧١].

وجملة (لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) صريحة الدلالة على سبب جعل الله تعالى منهم أئمة يهدون بأمره. والآيات التي ذكرنا أرقامها آنفا من مكيّة ومدنيّة ونصوص الأسفار الكثيرة جدا. ثم عدم إيمان من لم يؤمن منهم بالرسالة المحمديّة التي ذكرت الآيات القرآنية أن صفات نبيها مكتوبة في التوراة وأنهم كانوا

__________________

(١) إن هذا مبثوث بكثرة في معظم أسفار العهد القديم بحيث لا يحتاج إلى إيراد الأمثلة. فكل من تصفح هذه الأسفار أو شيئا منها يجد الدليل على ذلك. اقرأ إذا شئت كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم».

٣٥٥

يعرفون أنها الحقّ وأن كتابها منزل من الله برغم إيمان بعضهم الذين استطاعوا التغلّب على الأنانية والهوى كل ذلك قد أنهى وجود السبب المذكور كما هو المتبادر.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)) [٢٥ ـ ٣٠]

في الآيات :

١ ـ تقرير تطميني للنبي والمؤمنين وإنذاري للكفار بأن الله سيفصل بين الناس يوم القيامة في ما اختاروه من الطرق المختلفة حيث يحقّ الحقّ ويؤيد أهله ويزهق الباطل ويخذل أصحابه.

٢ ـ وتساؤل إنكاري يتضمن التنديد بالكفار عمّا إذا لم يكن قد بان لهم وهداهم ووعظهم ما أهلكه الله قبلهم من القرون والأجيال الكثيرة الذين يعيشون ويمشون في مساكنهم ، ففي ذلك موعظة كافية لمن يسمع ويعي فهل فقدوا السمع فلا يسمعون.

٣ ـ وتساؤل استنكاري آخر يتضمن التنديد بالكفار أيضا عمّا إذا لم يروا بأعينهم أن الله تعالى يرسل الماء إلى الأرض الجافة اليابسة فيخرج به زرعا يأكلونه هم وأنعامهم. وفي هذا من الدلالة على قدرة الله ما فيه الكفاية. فهل فقدوا الإبصار فلا يبصرون.

٤ ـ وحكاية لما يتكرر صدوره منهم من التساؤل الاستخفافي عن موعد

٣٥٦

تحقيق ما يوعدون به من البعث والحساب إن كان صدقا. وأمر للنبي بإجابتهم تتضمن الإنذار والتوكيد معا بأن ذلك آت في اليوم الذي هو في علم الله وأن إيمان الكافرين في ذلك اليوم وندمهم لن يجدياهم ولن يكون لهم إمهال وفرصة أخرى.

٥ ـ وأمر آخر للنبي بأن يذرهم وما هم فيه من ضلال ويعرض عنهم ولا يبالي بموقفهم منتظرا حكم الله وأمره. فهم أيضا منتظرون ذلك مصرّون على غيّهم وعنادهم.

والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا أيضا. وقد جاءت ختاما للسورة. وأسلوب الختام مماثل لأسلوب ختام سور عديدة.

وقد يمكن أن تكون الآية الأولى تعني بني إسرائيل كما يمكن أن تعني الكفار أو تعني الناس عامّة. وقد رجحنا أنها تعني الكفار لأن الضمير فيها مماثل للضمائر التي في الآيات التالية لها والتي يظهر أنها تعني الكفار بجلاء. وهو ما جعلنا نعرضها مع هذه الآيات. وفي حال صحة احتمال صلتها بالآية التي سبقتها فيكون فيها تقرير لواقع اختلافات بني إسرائيل فيما بينهم ما قررته آيات عديدة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها.

والآية الثانية تنطوي على توكيد جديد بكون سامعي القرآن يعرفون البلاد التي أهلكها الله من قبلهم بسبب كفرهم معرفة مشاهدة ويعرفون أخبارها السابقة. وهو ما أكدته آيات عديدة مرّ بعضها ومن ذلك ما ورد فيه هذا بصراحة حاسمة مثل آيات سورة الصافات هذه : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨) وآية سورة العنكبوت هذه : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨).

٣٥٧

وكلمة (الفتح) جاءت في القرآن بمعنى الحكم والقضاء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [٨٩] وآية سورة سبأ هذه (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (٢٦) وجاءت بمعنى النصر والانتصار على العدو كما جاءت في سورة الفتح (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) وآية سورة النساء هذه (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) [١٤١].

ولقد تعددت روايات المفسرين في ما تعنيه الفتح هنا حيث حكت الآية الرابعة تساؤل الكفار عنه بأسلوب السخرية والاستخفاف وحيث أنذرهم القرآن بالذلّ والخزي والعذاب فيه. منها أنه فتح مكة أو نصر بدر. ومنها أنه يوم القيامة. والقول الأخير هو الأوجه على ما تلهم الآية الخامسة التي ردّت عليهم وأنذرتهم بأن إيمانهم يوم الفتح لن يجديهم ولن يكون لهم فيه مهلة أو فرصة أخرى. وهذا إنّما يصدق على يوم القيامة كما هو المتبادر. ولقد جارتهم الآية فنعتت هذا اليوم بيوم الفتح ردا على تحدّيهم واستخفافهم. وهو حقا يوم فتح ونصر على من يبقى كافرا ويموت كافرا.

وأمر النبي بالإعراض عنهم لا يعني أن ينقطع عن إنذارهم وإنما هو أسلوبي بقصد تثبيت النبي وتسليته ودعوته إلى عدم الاغتمام لموقفهم. وقد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. ولقد كرر المفسرون القول والروايات في سياق الآية الأخيرة بأنها نسخت بآية السيف. ونكرر ما قلناه في المناسبات السابقة المماثلة بأن ذلك وجيه بالنسبة لمن يبقى على كفره وعدائه.

٣٥٨

سورة الطور

في السورة توكيد للبعث والحساب. ووصف لمصائر الكفار المكذبين ، والمؤمنين المخلصين يوم القيامة. وتنزيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهانة والشعر والجنون والغرض الشخصي. وتنديد مفحم بالكفار لما هم عليه من تناقض وعناد ومكابرة وسوء نيّة وما يبيتونه من المكائد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينسبون إليه من تهم. وإنذار لزعمائهم الذين يتولون كبر هذا الموقف المجرم. وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحثّه على الاستمرار في مهمته وتطمين له بأنه موضع عناية الله وأن عليه الاعتماد عليه وتفريغ قلبه لعبادته وتسبيحه في كل وقت وانتظار قضائه العادل. وآياتها متوازنة منسجمة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)) [١ ـ ٨]

(١) الطور : جمهور المفسرين على أنه طور سيناء. والطور لغة مرادف للجبل.

(٢) كتاب مسطور : قال بعض المفسرين إنه القرآن وقال بعضهم إنه كتب الله إطلاقا. ومسطور بمعنى مكتوب.

(٣) رقّ منشور : الرقّ هو قطعة الجلد الأملس المعدّ للكتابة. وأكثر ما كان

٣٥٩

يتخذ من جلد الغزال. ومنشور بمعنى المبسوط أو المعدّ للكتابة والقراءة.

(٤) البيت المعمور : كناية عن الكعبة. وبعض المفسرين رووا حديثا نبويّا بأن في السماء بيتا مثل الكعبة يسمى بهذا الاسم (١).

(٥) السقف المرفوع : كناية عن السماء. وقد وصفتها إحدى آيات سورة الأنبياء بالسقف [الآية ٣٢].

(٦) البحر المسجور : تعددت الأقوال في المقصود من الكلمة (٢). والمسجور هو الممتلئ في قول ، والفارغ في قول ، والمتّقد نارا في قول. وفي سورة غافر هذه الآية : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [٧٢] بمعنى يلقون فيها وقودا. وفي سورة التكوير هذه الآية : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) بمعنى أشعلت نارا واتقدت أو ملئت أو أفرغت وهناك قول بأن المسجور بمعنى المحبوس وإن الجملة تعني بحرا محبوسا في السماء أو تحت العرش. وعلى كل حال فلا شك في أن سامعي القرآن كانوا يفهمون المقصد من الجملة عدا القول الأخير المأثور عن بعض التابعين.

احتوت الآيات أقساما ربانية ببعض الأماكن والمشاهد المباركة والعظيمة للتوكيد بأن عذاب الله الموعود واقع لا محالة ولن يستطيع أحد دفعه ولا منعه.

وبدء السورة بمثل هذه الأقسام من أساليب النظم القرآني المألوف في مطالع السور. والآيات على ما تلهمه الآيات التالية لها مقدمة لحملة إنذارية وتنديدية على الكفار.

ولقد أشرنا في شرح الكلمات إلى حديث يرويه المفسرون عن البيت المعمور. وهذا الحديث مروي بصيغ متعددة متقاربة أوردها الطبري في سياق الآيات. منها هذه الصيغة رواها الطبري بطرقه عن مالك بن صعصعة قال : «قال

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والبغوي.

(٢) انظر تفسير الآية ثم تفسير آيات غافر [٧٢] والتكوير [٦] في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

٣٦٠