التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

وواضح أن الآية متصلة بالسياق. وفيها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت ، وقد تكرر معناها لتكرار المواقف والمناسبات.

ولقد روى بعض المفسرين أن أبا جهل سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن ، فقال لقريش : إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمّى الرّحمن ولا نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة فنزلت الآية (١).

ويلحظ أن الجملة جزء من آية متصلة بسياق سابق ولاحق ؛ مما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية.

ولقد روى الطبري عن مجاهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كاتب قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا لا تكتب الرّحمن وما ندري ما الرّحمن لا تكتب إلّا باسمك اللهمّ فأنزل الله الآية حاكية لقولهم منددة بهم. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنيّة مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها فضلا عن صلتها الوثيقة بالسياق السابق.

ولقد حكت إحدى آيات سورة الفرقان سؤال المشركين الاستنكاري عن الرّحمن حينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى الله ويصفه بالرحمن : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ...) [الفرقان : ٦٠] وروى المفسرون رواية مماثلة لهذه الرواية في سياقها (٢). ورووا ذلك أيضا (٣) في سياق آية سورة الإسراء هذه : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠] على ما ذكرناه في سياق تفسير السورتين حيث يبدو أن المشركين ظلوا يجادلون في اسم الرّحمن بشيء في أذهانهم عنه لا يمكن التأكد منه فاقتضت حكمة التنزيل تكرار توكيد أنه اسم من أسماء الله.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ

__________________

(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.

(٢) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.

(٣) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.

٥٤١

جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)) [٣١]

روى المفسرون أن الآية نزلت ردا على تحدّي أبي جهل وغيره من زعماء المشركين حيث طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذهب عنهم جبال تهامة حتى تتسع لهم رقعة الأرض للزراعة وأن يحيي موتاهم حتى يخبروهم إن كان ما يقوله حقا.

وقد تكون الرواية صحيحة ولكنا نرجّح أن الآية لم تنزل بمفردها وفي مناسبة هذا التحدّي لأنها منسجمة جدا مع السياق السابق. فضلا عن عطفها عليه. وفي إحدى الآيات القربية في السياق حكاية تحدّ من الكفار باستنزال آية فمن المحتمل أن تكون بسبيل الردّ عليهم.

على أن جملة (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) تورد على البال احتمالا آخر ، وهو أن المسلمين كانوا يتمنون أن يجاب المشركون إلى طلبهم أملا في إيمانهم وحرصا عليه ، فأريد بالجملة أن يقال لهم إنه ليس من شأن الآيات أن تحملهم على الإيمان. وهذا التمني من المسلمين ليس الأول ، فقد وقع قبل ، وحكته آيات سورة الأنعام بعبارة مقاربة : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) والضمير في (يُشْعِرُكُمْ) عائد إلى المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات.

وهذا الاحتمال لا يتعارض مع القول إن الآية متصلة بالسياق السابق كما هو واضح.

وهناك قراءة مروية عن علي وابن عباس وغيرهما تجعل تعبير (يتبين) بدلا

٥٤٢

من (ييأس) على ما ذكره الطبري وغيره. وصحة هذه القراءة لا تخلّ بالمعنى المراد. حيث تكون بمعنى (ألم يتيقن المؤمنون مما رأوه من شدّة عناد الكفار أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) وإن كانت كلمة (ييئس) أقوى تعبيرا في هذا المقام حيث ينطوي فيها تقرير كون ما ظهر من الكفار من عناد من شأنه أن ييئس المؤمنين من ارعوائهم.

ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن الآية ـ وهي تتضمن الإشارة إلى شدّة عناد الكفار وإصرارهم وترهص باليأس منهم ولو على سبيل تسلية المؤمنين ـ إنما تسجل واقع أمرهم حين نزولها ؛ حيث اهتدى معظمهم وآمنوا.

ولقد روى المفسرون (١) عن ابن عباس أن جملة (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أنها السرايا التي كان يبعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإزعاجهم. وهذا يقتضي أن تكون الآية مدنية. ولقد روى بعض الذين ذكروا مكية السورة أن هذه الآية مدنية حيث يكون في ذلك ـ إذا صحّ ـ تأييد للرواية. غير أن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية فيها صورة مكية لا تتحمل شكا مما يجعلنا نتوقف في مدنية الآية. ونرجح أن القارعة هي ما روي عن إصابة أهل مكة بالجوع ، أو من قبيل الإنذار مما تضمنته آيات سورة الدخان [٨ ـ ١٦] والمؤمنون [٧٥ ـ ٧٧] والسجدة [٢١] التي لا خلاف في مكيتها على ما شرحناه في سياقها.

وروح الآية بل ونصّها يزيل ما يمكن أن توهمه عبارة (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) من كون عدم إيمان الكفار قد كان لأن الله لم يشأه. فالعبارة من جهة أسلوبية بسبيل تسلية المؤمنين وتطمينهم وتسكين روعهم. والجملة الأخيرة من الآية من جهة أخرى قوية الدلالة على كون الكفار قد كفروا عن عمد وتصميم فاستحقوا قواصم الله بما صنعوا وبالتالي قوية الدلالة على أن كفرهم كان باختيارهم. وطبعا إن هذا لا يعني أنهم كفروا رغم مشيئة الله. فالأسلوب القرآني قد جرى على نسبة كل شيء إلى هذه المشيئة من باب كون الله تعالى هو المتصرف

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

٥٤٣

المطلق بخلقه وكونه. ويمكن أن يقال إن ترك الناس لاختيارهم وجعلهم ذوي قدرة وقابلية للاختيار هو نفسه بمشيئة الله فيزول الإشكال. وفي جملة (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) التي سبقت هذه الآية ثم في جمل (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٣٣] و (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧] و (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] معالجة قرآنية أخرى لهذا الإشكال. والآية التالية لهذه الآية تنطوي على توكيد لذلك أيضا. وفي سورة يونس آية فيها عبارة مثل هذه العبارة واضحة الدلالة على أنها بقصد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهدئة روعه حيث يتأكد بهذا ما ذكرناه من أهداف العبارة القرآنية. والله أعلم.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)) [٣٢]

(١) أمليت : بمعنى مددت لهم وأمهلتهم.

في الآية التفات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقرر له أن الأمم السابقة قبله استهزأت برسلها فأملى الله لها مؤقتا وأمهلها ثم أخذها أخذا شديدا معروف الخبر مشهود الأثر.

والآية استمرار للسياق. وتعقيب على ما سبقها كما هو المتبادر. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار للكفار. وقد استهدفت فيما استهدفته تذكير الكفار الذين يقفون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقف الاستهزاء والجحود بما كان من عقاب الله لأمثالهم من الأمم السابقة وحملهم على الاتعاظ به. ولقد تكرر محتوى الآية بسبب تكرر المواقف المماثلة ، واستهدافا للهدف الذي استهدفته. ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة (١) إشارات إلى معرفة السامعين لأخبار الأمم السابقة وما حلّ فيهم من نكال الله تعالى بعد الإملاء والإمهال الذي اقتضتهما حكمة الله

__________________

(١) انظر مثلا آيات سورة العنكبوت [٤٨] وإبراهيم [٤٥] وطه [١٢٨] والسجدة [٢٦٠].

٥٤٤

حيث يستحكم بذلك الإنذار والوعظ القرآنيان. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه البخاري ومسلم عن النبي جاء فيه : «إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (١) حيث يتساوق الإنذار النبوي مع الإنذار القرآني كما هو أي في شأن آخر.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)) [٣٣ ـ ٣٥]

في هذه الآيات :

١ ـ تساؤل استنكاري عمّا إذا كان الأحقّ بالألوهية والعبادة ذلك الإله المراقب لكل امرئ والعالم بما كسب والقادر على جزائه عليه ، أم معبود عاجز لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء.

٢ ـ وتنديد بالمشركين الذين يناقضون هذه البديهة فيجعلون لله شركاء من الطراز الثاني.

٣ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحدّيهم في تسمية هؤلاء الشركاء ووصفهم حتى تتبين حقيقتهم. وبسؤالهم سؤالا تنديديا عمّا إذا كانوا بسبيل إخبار الله بوجود شركاء له في الأرض لا يعرفهم أو إذا كان أمرهم منهم هو التعلّق بألفاظ تقليدية ليس لها حقيقة وليسوا منها على حقيقة. وتنبيههم إلى ما في هذا وذاك من سخف.

٤ ـ وبيان لحقيقة أمر الكفار فيما هم عليه من موقف وعقيدة بيانا فيه تنديد من جهة وتسرية عن النبي والمؤمنين من جهة أخرى : فقد زيّن لهم المكر والكيد لرسالة النبي ودعوته فاندفعوا فيهما. وقد عميت أبصارهم فضلّوا عن طريق الحق.

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٣١.

٥٤٥

٥ ـ وإنذار لهم وبشرى للمؤمنين بالمقابلة : فمن كان أمره كذلك فقد ضلّ فلا تجدي فيه دعوة ولا هداية. ومثل هؤلاء قد حقّ عليهم عذاب الدنيا أولا ثم عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأشقّ دون أن يكون لهم من يقيهم ويحميهم من غضب الله ونقمته. وعقباهم الأخروية النار في حين أن عاقبة المتقين ما وعدهم الله به من الجنات التي تجري تحتها الأنهار الدائمة الثمر والظل جزاء إيمانهم وتقواهم.

ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي. وهي بسبيل التنديد والتسفيه والإفحام للمشركين وعقائدهم والتطمين والبشرى للمسلمين الذين أخلصوا إيمانهم بالله وحده. وقد تكرر فيها الإنذار بالبلاء الدنيوي الذي احتوته إحدى الآيات السابقة وآيات سور أخرى سابقة أيضا. ومما لا ريب فيه أنه قصد إلى تبشير المؤمنين بذلك فضلا عن إنذار المشركين.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة بعض الأحاديث عن مشاهد الجنة ونعيمها. منها حديث عن أبي عقيل قال : «بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدّم رسول الله فتقدّمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبيّ بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» (١). ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن عتبة بن عبد السلمي قال : «إنّ أعرابيا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجنة فقال فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود قال مسيرة شهر للغراب الأبتع ولا يفتر». ومنها حديث أخرجه الطبراني عن ثوبان قال :

__________________

(١) روى هذا الحديث بشيء من الزيادة والنقص الشيخان والنسائي أيضا. وقد جاء فيه : (إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ... إلخ). انظر التاج ج ١ ص ٢٧٩.

٥٤٦

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الرجل إذا نزع شجرة من الجنة عادت مكانها أخرى». ومنها حديث عن عبد الله بن جابر رواه مسلم قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يتمخّطون ولا يتغوّطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» (١).

وواضح أن من أهداف هذه الأحاديث التي روى أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة بعضها بالإضافة إلى أحاديث أخرى وردت في هذه الكتب من بابها (٢) تبشير المؤمنين وإثارة الغبطة في نفوسهم. وهذا مما استهدفته الجملة القرآنية.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)) [٣٦]

(١) الأحزاب : الكفار المتحزبين ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته.

(٢) مآبي : مرجعي.

في هذه الآية :

١ ـ تقرير تدعيمي لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق القرآن مستمد من موقف أهل الكتاب : فهم يفرحون بما أنزل الله إليه برغم إنكار الأحزاب بعضه.

٢ ـ وأمر للنبي بأن يهتف بأنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم إشراك أي شيء معه وبالدعوة إليه وحده وبتقريره كونه تعالى مرجعه وحده.

روى البغوي رواية عجيبة في سبب نزول الشطر الأول من الآية الأولى بلفظ (وقال آخرون) إن ذكر الرّحمن كان قبلا في القرآن في أول الأمر فلما أسلم

__________________

(١) روى هذا الحديث مسلم بصيغة أخرى جاء فيها عن جابر : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا : فما بال الطعام؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس». انظر التاج ج ٥ ص ٣٧٦.

(٢) انظر المصدر نفسه ، ص ٣٦٤ وما بعدها.

٥٤٧

عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة. فلما تكرر ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله الآية. وقال في صدد الشطر الأخير إنه يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله في كتاب الصلح بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا ما نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرّحمن. على أن معظم المفسرين لا يروون مناسبة خاصة في نزول الآية ويفسرونها على ظاهرها. والمتبادر أن شطرها الأول هو بسبيل تقرير ما روي من إيمان أهل الكتاب في مكة واستبشارهم بالقرآن المطابق لما عندهم على ما حكته آيات سورة الإسراء [١٠٧ ـ ١٠٩] وآيات سورة القصص [٥٢ ـ ٥٣] التي مرّ تفسيرها. وأن شطرها الثاني هو بسبيل تقرير ما كان واقعا من أمر جماعات المشركين العرب الذين كانوا يؤمنون بالله وإنه هو الخالق الرازق المدبر مع عدم إيمانهم بالبعث وبالوحي النبوي. بل وفي سورة القصص آية تفيد أن بعضهم كان يؤمن بصحة الهدى والوحي النبوي ثم لا ينضوي كليا إلى الإسلام خوفا على منافعه ومركز مدينته ولعلّه عنى هؤلاء أيضا فيما عناه.

هذا بالنسبة لمدى الآية بذاتها ، ويتبادر لنا أنها من حيث مقامها ليست منفصلة عن السياق والموقف الجدلي مع المشركين مما تضمنته الآيات السابقة. وفيها إلزام قوي لهم بأسلوب آخر : فأهل الكتاب الذين هم أعلم من جماعات المشركين الكفار الذين هم موضوع السياق السابق يستبشرون بما أنزل الله على النبي ويفرحون به ويصدقونه. فإذا كانت تلك الجماعات تنكر بعضه فهذا لا يضيره وعليه أن يعلن أنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به والدعوة إليه وتقرير كون مرجعه ومصيره إليه والثبات على ذلك وكفى.

وما احتواه الشطر الأول من الآية قوي الدلالة على أن ما ذكر فيه من فرح أهل الكتاب هو مستمدّ من مشهد واقعي. ويجوز أن يكون جديدا وقع في ظروف نزول السورة كما يجوز أن يكون ما حكته آيات سورة الإسراء [١٠٧ ـ ١٠٩] والقصص [٥٢ ـ ٥٥]. والأسلوب هنا قوي حيث يتضمن تقرير فرحهم بالقرآن بالإضافة إلى الإيمان به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ذلك بسبب ما وجدوه

٥٤٨

في القرآن من دعوة صادقة وتطابق قوي لما كان عندهم. وهكذا تتوالى شهادات أهل العلم الكتابيين العيانية بصدق الوحي القرآني وأعلام النبوة والرسالة المحمدية والانضواء إليها في العهد المكي الذي كان فيه النبي وأصحابه قلة ضعيفة أمام أكثرية ساحقة قوية كافرة ومناوئة. فيكون في ذلك ردّ مفحم على كلّ مكابرة من الكتابيين على مرّ الدهور.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)) [٣٧]

(١) حكما : بمعنى محكما أو حكمة.

المتبادر أن هذه الآية استهدفت أيضا التدعيم للرسالة النبوية وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موقفه وأنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي : فكما أنزل الله الكتب على الأنبياء السابقين أنزل عليه القرآن. وقد جعله عربيا محكما حتى يتبين السامعون فحوى الدعوة وحكمة الله وأحكامه ولا يكون عليهم فيها إبهام ولا غموض. وعلى النبي أن يلتزم ذلك وأن لا يحيد عنه بعد ما جاءه من العلم ولا يجاريهم أو يسايرهم في أهوائهم. ولن يكون له من الله إن فعل ناصر ولا واق.

والمتبادر أن الضمير في (أَهْواءَهُمْ) راجع إلى الأحزاب. وأن جملة (حُكْماً عَرَبِيًّا) قرينة على أن المقصود هم أحزاب العرب. وأنه ينطوي في كلمة (أَهْواءَهُمْ) تقاليد العرب المشركين المتنوعة أو رغباتهم أو أهواؤهم.

ولقد حكت آيات أخرى في سور سابقة مثل سورتي القلم والإسراء أن المشركين كانوا يودون أن يداهنهم النبي ويلاينهم ويسايرهم في بعض تقاليدهم. فمن المحتمل أن يكونوا قد عادوا إلى محاولاتهم. وأن يكون التحذير متصلا بذلك على سبيل التنبيه والتثبيت.

٥٤٩

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)) [٣٨ ـ ٤٣]

(١) لا معقب : لا ناقض ولا رادّ.

في هذه الآيات أولا : تطمين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردّ على الكافرين :

١ ـ فليس النبي بدعا في رسالته ولا في شخصيته البشرية. فقد أرسل الله من قبله رسلا وكانوا مثله بشرا لهم أزواج ولهم ذرية.

٢ ـ ولم يكن لرسول أن يأتي بآية من عند نفسه حينما كان يتحدّاه الناس وإنما كانت الآيات تأتي بإذن الله وفي الوقت المناسب الذي يقدّره الله لأن لكل أمر وقتا معينا في علمه.

٣ ـ ولله مطلق التصرف في الحكم والأحكام يمحو ما يريد ويثبت ما يريد. وعنده علم كل شيء.

٤ ـ وإن من الممكن أن يري الله النبي بعض ما يتوعد به الجاحدين كما أن من الممكن أن يتوفّاه الله قبل ذلك.

٥ ـ وعلى كل حال فإن قصارى مهمته تبليغ رسالة الله. أما حساب الناس فهو على الله وحده.

وفيها ثانيا : التفات إنذاري إلى الكفّار.

١ ـ فوجّه إليهم سؤال استنكاري عما إذا لم يروا آثار عقوبة الله من تدمير

٥٥٠

وانتقاص من أطراف الأرض التي كانت مساكن الكفار من قبلهم حتى يقفوا موقف المعاند والمكابر.

٢ ـ وعقّب على السؤال بأن الله إذا ما حكم بأمر فهو نافذ حتما لا يستطيع أحد أن ينقضه أو يردّه وبأنه سريع الحساب أكثر مما يتوهمون.

٣ ـ وذكروا بما كان من أمثالهم السابقين : فقد مكروا مثل ما يمكرون. ولكن المكر المؤثر المتحقق هو مكر الله فهو يعلم ما تكسب كل نفس ويحصيه عليها. ولن يلبث الكفار أن يروا لمن تكون العاقبة والغلبة ومن الذي يجدي مكره وكيده.

وفيها ثالثا : التفات إلى النبي ثانية بسبيل التثبيت والتطمين : فالكفار ينكرون رسالته فما عليه إلّا أن يقول لهم إنه يجعل الله شهيدا بينه وبينهم فهو خير الشاهدين ثم يجعل الذي عنده علم الكتاب أيضا شاهدا على صحة رسالته.

ولقد روى البغوي في سياق الشطر الأول من الآية الأولى أن اليهود أو المشركين قالوا إن هذا الرجل ليست له همّة إلّا في النساء ، فأنزله الله للردّ عليهم.

وروى في سياق الشطر الثاني أنه جواب لعبد الله بن أبي أمية الذي تحدّى النبي بالإتيان بآية.

والآيات منسجمة مع بعضها. وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو وحدة متماسكة. والرواية الأولى لا يمكن أن تصحّ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتزوّج في العهد المكي إلّا بأمّ المؤمنين خديجة وكانت أكبر منه سنا حينما تزوّجها وبلغت عنده سنّ الشيخوخة ولم يتطلّع إلى غيرها. والطابع المكيّ قوي البروز على الآيات وقد ورد أمثالها في سور لا خلاف في مكيتها. ولم يرو المفسرون الآخرون رواية ما في صدد نزولها وإنما قال بعضهم إن في الآية الأولى ردّا على المشركين الذين كانوا يستغربون أن يكون النبي بشرا يتزوج النساء وينجب ذرية ويظنون أنه ينبغي أن يكون من جنس الملائكة ثم الذين كانوا يتحدّون النبي بالآيات.

ومع وجاهة ذلك بالنسبة للآية الأولى فإن الذي يتبادر أن الآيات متصلة أيضا

٥٥١

بالسياق والمشهد الجدلي. وقد احتوت تثبيتا وردا وتدعيما وإنذارا وجاءت خاتمة قوية للموقف الجدلي وللسورة في آن واحد.

ولقد تضمنت آيات مكية عديدة مرّت أمثلة منها حكاية استغراب المشركين بشرية النبي (١). فمن المحتمل أن يكونوا كرروا ذلك في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ردّا عليهم في سياق ما احتوته الآيات من ردود وتقريرات. ولقد كان تحدّي المشركين النبي بالإتيان بآية مما تكررت حكايته في السياق المتوالي من السورة فاحتوت الآية الأولى كذلك ردّا جديدا على تحدّيهم بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل. ولقد كانوا يعرفون أن الرسل السابقين كانوا يأتون بالمعجزات فاستهدف هذا الردّ تقرير كون ذلك لم يكن إلّا بإذن الله وفي المناسبة والحالة اللتين تقتضيهما حكمته. ولقد كانوا يعرفون حتما أن من الرسل من كان له أزواج وذرية. فإن هذا مستفيض الذكر في كتب أهل الكتب وأوساطهم ، فجاء الردّ بذلك قويّا مفحما.

ولقد أورد المفسرون في سياق جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أقوالا عديدة معزوّة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين أوردناها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآية [٤٤] المماثلة لها في سورة الأنبياء. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه فلا حاجة للإعادة.

ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أحد علماء التابعين أن المقصود بجملة (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود الذين أسلموا في المدينة ثم رويا إنكار الشعبي وسعيد بن جبير من علماء التابعين كذلك لذلك وقالا : كيف يكون عبد الله بن سلام والسورة مكية ، وهذا حقّ. ولقد حكت آيات عديدة مكية تصديق أهل الكتاب لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق وحي القرآن وإيمانهم بذلك على ما مرّ بيانه في هذه السورة ثم في سور عديدة سابقة (٢). والمتبادر أن

__________________

(١) انظر مثلا آيات سورة الفرقان [٨ و ٢٠] وسورة الإسراء [٩٤ ـ ٩٥].

(٢) في التاج حديث يرويه الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه قال : «إن هذه الآية نزلت فيّ». وقد نبّه صاحب التاج أن سند الحديث غريب. انظر التاج ج ٣ ص ٣٦٠.

٥٥٢

استشهاد الآية إنما كان بالذين كانوا في مكة من هؤلاء.

ومع وضوح القصد من هذه الجملة وهو استشهاد أهل العلم والكتاب على صحة نبوّة النبي ووحي القرآن فإن الطبرسي المفسّر الشيعي أورد في سياقها فيما أورد رواية عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى ورواية عن أبي عبد الله أنه قال : إيّانا عنى وعليّ أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي وأنه وضع يده على صدره ثم قال : عندنا والله علم الكتاب.

والهوى الحزبي والتكلّف والخروج عن الصدد بارز على الرواية كما هو واضح.

تعليق على جملة (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)

وعلى آية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم للجملة الأولى (١). منها أنها بسبيل الردّ على استعجال الكفار لعذاب الله المنذر به. ومنها أنها بسبيل الردّ على تحديهم النبي بالآيات. ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله قد جعل لكل كتاب أنزله على أنبيائه السابقين مدة محدودة فيثبت منها ما يشاء ويمحو ما يشاء في الكتب التي ينزلها بعد حتى نسخت بالقرآن. ورأى بعضهم في هذا دليلا على صحة القول بالنسخ في القرآن. وقد يكون للقول الأول وجاهة مستمدة من الآيتين [٣٤ و ٤٠] من هذه السورة. وقد يكون للقول الثالث وجاهة من حيث الاستنباط. لأن بعض الأحكام المنزلة على بعض الأنبياء كانت تنسخ بأحكام أخرى تنزل على أنبياء آخرين. ثم نزل القرآن الذي صار هو المرجع للمبادىء والأحكام الإلهية وصار هو كتاب الدين الذي أذن الله أن يظهره على الدين كلّه. غير أن الذي يتبادر لنا أن القول الثاني هو الأكثر اتساقا مع السياق على ما شرحناه آنفا وفي سورة غافر آية تدعم هذا الشرح بقوة.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.

٥٥٣

وهي (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨).

وتعددت كذلك التأويلات التي يرويها المفسرون أو يوردونها باجتهادهم لمدى جملة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) من ذلك إنها بسبيل تقرير كون كل الأحكام والأقدار والأقوال والأفعال الربانية قابلة للمحو والإثبات. واستثنى بعضهم الموت والحياة والسعادة والشقاء ، ويعنون بالسعادة والشقاء تقدير الله الأزلي لسعادة المهتدين الناجين وشقاء الأشقياء الضالين الهالكين في الآخرة بمعنى أن من قدر عليه الشقاء ظلّ شقيا لا يتبدّل أمره وكذلك من قدّر له السعادة. وأنكر بعضهم استثناء السعادة والشقاء وأوردوا للتدليل على ذلك خبرا يفيد أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يدعوا الله فيقولان : اللهمّ إن كنت كتبتني شقيا فامحه عني وأثبتني سعيدا إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وأوردوا مثل هذا الدعاء أو قريبا منه لبعض التابعين أيضا. ومن ذلك أنها بسبيل تقرير كون الله يمحو ما يشاء مما أنزل من الأحكام ويثبت ما يشاء مما هو مقرّر عنده في أم الكتاب. أو إن الذي يثبته هو المقرر عنده في أم الكتاب. ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويمحوها من كتب أعمالهم ويبقي منها ما يشاء. ومنها أنها بسبيل بيان كون الله يأمر بطرح كل ما ليس فيه ثواب وعقاب من أعمال الناس من كتبهم. ومنها أنها بسبيل تقرير مطلق تصرف الله تعالى بالمحو والإثبات في كل ما يريد بكونه وخلقه وأحكامه وعقابه وثوابه وإرزاقه الناس وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقائهم إلخ وأن علم ذلك كله عنده في أم الكتاب. واستدلّ بعضهم بهذه الآية على جواز البداء على الله تعالى أي رجوعه عمّا كان قدّره وقضاه. ورأى بعضهم في هذا التعبير مسّا بذات الله فقال إن لله لوحين واحدا فيه كل ما هو كائن حقا وهذا لا يقع فيه تبديل ولا رجوع وهو المعبّر عنه بعبارة أم الكتاب ، وآخر يمحو منه ما شاء أن يمحوه ويثبت ما شاء أن يثبت.

٥٥٤

وقال بعضهم في الردّ على جواز البداء على الله إن علم الله قديم أزلي وهو من لوازم ذاته وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محال.

وتعددت الأقوال المروية والواردة في مدى (أُمُّ الْكِتابِ) كذلك ... منها أنها الحلال والحرام ، ومنها أنها علم الله الشامل لكل شيء. ومنها أنه الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل. ومنها أنه المحتوي لكل شيء سواء ما شاءت حكمة الله محوه أم شاءت إثباته. ومنها أنه علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون وأنه قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا. وهذا القول الأخير مروي عن ابن عباس عن كعب بن أبيّ أحد علماء أصحاب رسول الله. وقد قال الطبري الذي استوعب الأقوال المرويّة تعقيبا عليها إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال (عنده أصل الكتاب وجملته ويدخل في ذلك ما شاء أن يمحوه وما شاء أن يثبته).

وبعض هذه الأقوال متصل بموضوعي اللوح والقدر. وقد علقنا عليهما في سورتي البروج والقمر بما يغني عن التكرار. ونكتفي بالقول هنا إنّ فيما رواه المفسرون وقالوه حول الجملة الثانية ما هو أمور غيبية لا يصح الأخذ بشيء منها إلّا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس هناك شيء صحيح عنه في صدد هذه الجملة. وكل الأقوال اجتهادية وتخمينية. ويلمح شيء من التعارض بينها في الوقت نفسه. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سلسلة استهدفت الردّ على الكفار وإفحامهم وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجاه مواقفهم منه وإن ما احتوته هو بسبيل ذلك حيث أريد بها تقرير كون الله عزوجل مطلق التصرف في جميع الأمور ما علم منها وما لم يعلم وما غاب وما حضر وما حدث وما لم يحدث. وما مضى وما يأتي فإذا شاءت حكمته أن يقع أمر في الموعد وقع ، وإذا شاءت حكمته أن يمحوه أو يثبته تمّ ذلك حسب مشيئته. وأن الأولى أن تظلّ الجملة في هذا النطاق دون تخمين وتزيد وخروج عن الصدد والله تعالى أعلم.

[تم بتوفيق الله تعالى الجزء الخامس ويليه إن شاء الله تعالى

الجزء السادس وأوله تفسير سورة الحج]

٥٥٥

فهرس محتويات الجزء الخامس

تفسير سورة الأحقاف............................................................. ٧

تعليق على آية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ...).................................... ١٦

تعليق على جملة (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي).......................................... ١٧

تعليق على جملة (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ).......................................... ٢٠

تعليق على آية (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً).......................................... ٢٤

تفسير سورة الذاريات............................................................ ٣٣

تعليق على وصف المتقين........................................................ ٣٧

تعليق على آية (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ).......................................... ٤٣

تفسير سورة الغاشية............................................................. ٤٥

تعليق على ما روي في (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ)......................................... ٤٨

تفسير سورة الكهف............................................................ ٥٠

تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف........................................ ٥٧

تعليق على الآية (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ).................................... ٦٢

تعليق على الآية (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ)...................................... ٦٤

تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان................................. ٦٩

تعليق على آية (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ)....................................... ٧١

تعليق على وصف إبليس أنه من الجن............................................ ٢٧٥

تعليق على قصة موسى والعبد الصالح............................................. ٨٣

تعليق على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج...................................... ٩١

تفسير سورة النحل............................................................ ١١٥

تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل....................................... ١٢٢

تعليق على جملة (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ).......................................... ١٣٨

تعليق على قول المشركين (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى).................................... ١٥١

تعليق على جملة (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً)......................................... ١٥٣

تعليق على جملة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ).................................... ١٥٥

تعليق على جملة (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)............................... ١٥٨

أرذل العمر................................................................... ١٥٨

تعليق على جملة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ)........................................ ١٦٦

تعليق على الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)............................... ١٦٧

شرح الآية (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ)................................................. ١٧٠

تعليق على آيات (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ).................................. ١٧٥

مسألة النسخ في القرآن........................................................ ١٧٧

تعليق على آية (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ)...................................... ١٨٣

تعليق على جملة (رُوحُ الْقُدُسِ)................................................ ١٨٤

٥٥٦

تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان......................................... ١٨٤

تعليق على آية (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ)................................... ١٨٦

تلقينات الآية (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ).................................... ١٨٩

تعليق على جملة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ).................................... ١٩٢

تلقين آية (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً)............................................. ١٩٥

التلقين الذي احتوته جملة (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ)....................... ١٩٧

تعليق على آية (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ).......................................... ٢٠٢

تعليق على آية (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا)........................................... ٢٠٤

تفسير سورة نوح.............................................................. ٢٠٧

تعليق على أسماء معبودات قوح نوح............................................. ٢١١

تفسير سورة إبراهيم........................................................... ٢١٣

دلالة جملة (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ)...................................... ٢١٤

تعليق على جملة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ)........................................ ٢١٦

تعليق على جملة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ)............................................. ٢٢٢

تعليق على آية (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا)........................................ ٢٣٢

تعليق على آية (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِ)......................................... ٢٤٠

تفسير سورة الأنبياء........................................................... ٢٥٣

تعليق على جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ)..................................... ٢٦٢

تعليق على قصة إبراهيم مع قومه في هذه السورة................................... ٢٧٦

تعليق على قصة داود وسليمان في هذه السورة.................................... ٢٧٩

تعليق على قصة مريم.......................................................... ٢٨٥

تعليق على جملة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ)..................................... ٢٩٥

تأويل الشيعة للجملة السابقة وموضوع المهدي.................................... ٢٩٧

تفسير سورة المؤمنون........................................................... ٣٠٠

تعليق على الأمانة وخطورتها.................................................... ٣٠٤

تعليق على استفراش ملك اليمين................................................ ٣٠٦

تعليق على آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ)................................ ٣٠٨

تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون.................................... ٣١١

تعليق على محتويات الآيات..................................................... ٣٢٥

تفسير سورة السجدة.......................................................... ٣٤٠

تعليق على الآية (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ)......................................... ٣٤١

تعليق على آية (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ)............................. ٣٤٤

تعليق على ملك الموت......................................................... ٣٤٥

تعليق على آية (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ)...................................... ٣٤٨

تعليقات على آية (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ)..................................... ٣٤٩

تعليق على الآية (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ)................................... ٣٥٥

تفسير سورة الطور............................................................. ٣٥٩

تعليق على آية (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ)................................ ٣٦٣

تعليق على كلمة كاهن......................................................... ٣٦٦

تفسير سورة الملك............................................................. ٣٧٣

تعليق على آية (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً)............................. ٣٧٩

تفسير سورة الحاقة............................................................. ٣٨٤

٥٥٧

تعليق على الحضّ على طعام المسكين............................................ ٣٨٩

تفسير سورة المعارج............................................................ ٣٩٢

تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات................................ ٣٩٣

تعليق على جملة (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ)...................................... ٣٩٤

تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه............................................ ٣٩٧

تعليق على الآيات (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً)................................... ٣٩٨

تعليق على الآية (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ)...................................... ٤٠٠

تفسير سورة النبأ.............................................................. ٤٠٤

تفسير سورة النازعات.......................................................... ٤١٠

تفسير سورة الانفطار.......................................................... ٤١٩

تفسير سورة الانشقاق......................................................... ٤٢٣

تعليق على ما يلهمه أسلوب ومضامين السورة..................................... ٤٢٧

تفسير سورة الروم............................................................. ٤٢٨

تعليق على خبر انكسار الروم................................................... ٤٢٩

تعليق على قدرة الله ونواميسه في الكون.......................................... ٤٣٩

تعليق على آية (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ)...................................... ٤٤٠

تعليق على آية (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)..................................... ٤٤٨

تعليق على آية (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...).................................... ٤٥٠

تعليق على جملة (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا)...................................... ٤٥٣

تعليق على آية (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)................................ ٢٤٥٥

تعليق على جملة (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)............................... ٤٥٧

تعليق على سماع الموتى لخطاب الأحياء........................................... ٤٦٠

تعليق على آية (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)....................................... ٤٦٤

تفسير سورة العنكبوت......................................................... ٤٦٥

تعليق على الآيات [١ ـ ٧] من السورة........................................... ٤٦٧

تعليق على آية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ)...................................... ٤٧٠

تعليق على آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ)................................. ٤٧١

تعليق على آية (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها)........................................ ٤٨٢

تأويل جملة (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)................................................. ٤٨٤

تعليق على آية (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ)..................................... ٤٨٦

استطراد إلى مكتسبات النبي قبل النبوة........................................... ٤٩٢

تعليق على آية (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ)....................................... ٤٩٦

تعليق على آية (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا)........................................ ٤٩٩

تفسير سورة المطففين.......................................................... ٥٠٧

تنبيه........................................................................ ٥١٤

تفسير سورة الرعد............................................................. ٥١٥

تعليق على جملة (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ)...................................... ٥٢٥

تعليق على مجموعة الآيات [١٩ ـ ٢٥].......................................... ٥٣٣

تعليق على جملة (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)................................. ٥٤٠

تعليق على جملة (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)............................................ ٥٥٣

٥٥٨