التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

وفي هذه الآيات هتاف تنديدي موجّه إلى الكفار في معرض بيان الباعث على جحودهم لله وهو تكذيبهم بالجزاء الرباني يوم القيامة. وتوكيد في معرض الإنذار بأن الله قد جعل عليهم من يحصي ويحفظ كل ما يصدر منهم ويسجله عليهم من كتّاب الله الكرام الذين ينفذون أوامر الله.

وواضح أن التوكيد ينطوي على توكيد الجزاء الأخروي أيضا ، ومثل هذا البيان والتوكيد قد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن.

ولقد تكررت الإشارة إلى الرقباء والكاتبين لأعمال الناس في سور سابقة. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات أيضا بعض الأحاديث. منها حديث عن مجاهد جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه». ومنها حديث مثل هذا مع زيادة عن ابن عباس جاء فيه : «إنّ الله ينهاكم عن التعرّي فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى ثلاث حالات الغائط والجنابة والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره». ومنها حديث عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من حافظين يرفعان إلى الله عزوجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلّا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفيّ الصحيفة». وحديث عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ لله ملائكة يعرفون بني آدم ، وأحسبه قال ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا أفلح الليلة فلان. نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا هلك الليلة فلان».

ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة لتعليق آخر. ومع التنبيه على أن هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإنها يلمح فيها قصد التأديب والتنبيه فإن صحّت فيكون من جملة مقاصدها هذا القصد. والله تعالى أعلم.

٤٢١

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)) [١٣ ـ ١٩]

وفي هذه الآيات بيان لمصير الناس يوم الجزاء وإنذار بخطورته. فالأبرار الصالحون في النعيم ، والفجار الآثمون في الجحيم. وهي مصيرهم الذي لا مفلت لهم منه حتما في ذلك اليوم العظيم الخطر الذي يكون الأمر فيه لله وحده ، والذي لا يستطيع فيه أحد أن ينفع أحدا ولا تغني فيه نفس عن نفس.

والاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها قائم موضوعا وسياقا كما هو المتبادر. ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فالمتبادر من العبارة القرآنية أن من حكمتها تعظيم يوم القيامة وحسابه وتوكيده وترغيب المؤمنين وترهيب الكفار.

والمؤمنون مندمجون في تعبير الأبرار. والكفار مندمجون في تعبير الفجّار. غير أن المتبادر أنه قد أريد بوصف المؤمنين بالأبرار والكفار بالفجّار تلقين كون الإيمان الصادق يوجّه صاحبه نحو الخير والبر ، بينما الكفر يوجه صاحبه نحو الإثم والفجور.

٤٢٢

سورة الانشقاق

في السورة إشارة إلى مشاهد القيامة. وبيان لمصير الأبرار والأشرار فيها. وتوكيد إنذاري وتنديدي للكفار بأنهم ستتبدل حالهم وينالهم العذاب دون المؤمنين الصالحين.

ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول بوحدة نزولها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥)) [١ ـ ١٥]

(١) أذنت لربها : بمعنى استمعت واستجابت وانقادت لربّها.

(٢) حقّت : عرفت الحقّ فانصاعت له.

(٣) مدّت : قيل إنها بمعنى سويت فلا يبقى عليها جبال ولا وديان ، وقيل إنها بمعنى وسعت لتتسع لجميع الناس.

(٤) وألقت ما فيها : أخرجت ما في جوفها : كناية عن خروج الناس من قبورهم.

٤٢٣

(٥) كادح : ساع وعامل.

(٦) ثبورا : هلاكا.

(٧) لن يحور : لن تتبدل حالته ، أي لن يعود بعد الموت.

في الآيات الخمس الأولى ما يلهم أنها في صدد مشاهد يوم القيامة : فحينما تنشقّ السماء انقيادا لأمر ربها وأداء لما عليها نحوه من حقّ الطاعة ، وحينما تنبسط الأرض وتمتد وتنفتح عمّا في باطنها وتقذف به إلى سطحها وتتخلّى عنه انقيادا لأمر ربها كذلك وأداء لما عليها من حقّ الطاعة تكون القيامة قد قامت. وعبارة (تكون القيامة قد قامت) مقدرة تقديرا. والتقدير بديهي لأنه نتيجة طبيعية لما احتوته الآيات الخمس من المشاهد. وهو ما يقرره جمهور المفسرين.

وفي الآيات التالية خطاب للإنسان في صدد مصائر الناس يوم القيامة : فكل إنسان ساع في حياته الدنيا. وكل ساع ملاق عند ربه نتيجة سعيه. فالذي يعطى يوم القيامة كتاب عمله بيمينه يكون حسابه يسيرا هينا ويعود إلى أهله راضيا مسرورا. والذي يعطى كتاب عمله من وراء ظهره فيتمنى الموت فلا يناله ويندب حظه ويصلى النار المستعرة جزاء ما قدمت يداه لأنه كان في حياته مغرورا بما كان له من قوة ومال وما كان يتمتع به من هدوء البال والنعم غير حاسب لحساب الآخرة لأنه كان موقنا بعدم البعث بعد الموت في حين كانت عين الله مراقبة له وبصيرة به ومحصية عليه عمله.

ومطلع السورة من المطالع المألوفة في كثير من السور. وتعبير الانقلاب إلى الأهل مستمد من مألوف الخطاب الدنيوي على ما جرت عليه حكمة التنزيل في وصف المشاهد الأخروية مما مرّت منه أمثلة عديدة. ويلحظ أن كتاب أعمال الكافر الآثم هنا يعطى له من وراء ظهره في حين ذكر في سور سابقة أنه يعطى له بشماله. حيث يبدو أن التعبير الجديد مما يقوم في اللغة مقام ذلك التعبير.

ولقد علقنا على هذا الموضوع وذاك في المناسبات السابقة بما يغني عن التكرار.

٤٢٤

ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق الآية السابقة من السورة وما بعدها حديثا عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه : «قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ليس أحد يحاسب إلّا هلك. قلت : يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس الله تعالى يقول (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال : ذاك العرض يعرضون ، ومن نوقش الحساب هلك» (١). وفي الحديث تفسير أو توضيح لمدى الآيات من جهة وتنبيه للمسلمين ليجتهدوا في تجنب ما يعرّضهم للمحاسبة العسيرة من أعمال من جهة أخرى على ما هو المتبادر.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)) [١٦ ـ ٢٥]

(١) الشفق : الحمرة التي تبدو في الأفق عند غروب الشمس.

(٢) وسق : احتوى أو جمع أو ضمّ.

(٣) اتّسق : تمّ بدرا. وأصل الاتساق الانتظام والتكامل والاستواء.

(٤) طبقا عن طبق : حالا بعد حال.

(٥) يوعون : يضمرون.

قرئت كلمة (لَتَرْكَبُنَ) قراءات متعددة وتعدد تأويل جملة (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حسب ذلك (٢). حيث قرئت بالتاء والباء المفتوحتين على أنها خطاب

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٥٤.

(٢) تفسير الطبري استوعب جميع القراءات والتأويلات المروية. ومنها ما هو غريب مثل كون الجملة تعني تقلّب النبي في السموات طبقة بعد طبقة. أو تطور حالات السموات من احمرار فانشقاق فانفطار.

٤٢٥

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أمره سيتغير من حال إلى حال. وقرئت بالتاء المفتوحة والباء المضمومة على أنها خطاب للسامعين بأن أمرهم سيتغير من حال إلى حال. وقرئت بالياء بدلا من التاء مع الباء المضمومة على أنها خطاب للناس. وجملة (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) التي تأتي بعد هذه الجملة وما بعده قد تساعد على الترجيح بأنها خطاب موجّه للكفار الذين يصرّون على كفرهم. وتكون الأقسام في الآيات الثلاث السابقة للجملة على سبيل التوكيد لهم بأن حالتهم الراهنة التي يغترون ويعتقدون بها لن تدوم لهم وأنها سوف تتغير. ثم جاءت الآيات التالية للجملة :

١ ـ لتتساءل تساؤل الاستنكار والتنديد عن سبب عنادهم وعدم إيمانهم وعدم تأثرهم بالقرآن والسجود لله حينما يسمعون آياته البليغة وعظاته المؤثرة.

٢ ـ لتقرر حقيقة أمرهم والباعث لهم على ذلك والله الأعلم به وهو تكذيبهم بالجزاء الأخروي.

٣ ـ لتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبشيرهم بالعذاب الأليم الذي سوف يلقونه مع استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات حيث يكون لهم الأجر الذي لا يعتريه انقطاع.

والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد استعملت كلمة (فَبَشِّرْهُمْ) على سبيل الاستهزاء كما هو المتبادر أيضا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة.

ومن عجيب تأويلات الشيعة تأويلهم جملة (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) بأن فيها إشارة إلى أن هذه الأمة ستسلك سبيل من كان قبلها من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء (١). وفي هذا من الشطط الحزبي ما يماثل كثيرا مما مرّ التنبيه إليه.

__________________

(١) التفسير والمفسرون للذهبي ، ج ٢ ص ٣٠.

٤٢٦

تعليق على ما يمكن أن يلهمه

أسلوب ومضامين هذه السورة وما قبلها

من احتمال تبكير نزولها

وننبّه على أن بين أسلوب هذه السورة ومضامينها وكذلك أسلوب السور السابقة لها أي الانفطار والنازعات والنبأ والمعارج والحاقّة والملك والطور ومضامينها ، وبين أسلوب ومضامين كثير من السور المبكرة في النزول مثل التكوير والأعلى والليل والفجر والشمس والقارعة والقيامة وق والطارق تماثل كبير مما يبعث الشكّ في صحة ترتيب نزولها في أواخر العهد المكيّ ومما يسوغ الظنّ بأنها مما نزل في عهد مبكر وإن كان ترتيبها في تراتيب النزول العديدة المرويّة متقاربا مع ترتيبها الذي ذكر في المصحف الذي اعتمدنا عليه وسرنا وفقه.

٤٢٧

سورة الرّوم

في السورة إشارة إلى ما كان من انكسار الروم في بلاد الشام وما سوف يكون لهم من غلبة يفرح بها المؤمنون. وتنديد بالكفار لغفلتهم عن الآخرة واستغراقهم في الدنيا وتذكير بمن قبلهم. وتوكيد بمجيء الآخرة. وبيان لمصير المؤمنين والكفار فيها. وتنزيه لله عن الشركاء. وسلسلة رائعة في مشاهد قدرة الله وآياته ونواميسه في كونه في صدد البرهنة على عظمته وقدرته. وإشارة إلى طبائع الناس في الجزع عند الشدة والبطر عند الفرح دون شكر ولا صبر ، وتقرير لما يجب على المؤمنين في هذه الحالات. وتثبيت للنبي وتطمين له ووعد متكرر بالنصر وتوكيد بتحقيق الوعد.

وفصول السورة مترابطة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روي أن الآية [١٧] مدنية. وانسجامها التّام موضوعا وسياقا مع ما قبلها وما بعدها يبرر الشكّ في الرواية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ

٤٢٨

عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)) [١ ـ ٧]

(١) أدنى الأرض : المتبادر أنها كناية عن البلاد المتاخمة للحجاز. وبعض المفسرين قالوا إنها بلاد الشام ، وبعضهم قالوا إنها جزيرة الفرات. وكلا القولين وجيه لأن الروم انكسروا أمام الفرس في بلاد جزيرة الفرات ثم في بلاد الشام في زمن النبي.

بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه من قبل ثم أعقبها : خبر بانكسار الروم في البلاد المتاخمة للحجاز. وبشرى بنصر يحرزونه خلال بضع سنين. وإشارة إلى ما سوف يكون حينئذ من فرح المؤمنين بنصر الله القوي العزيز الرّحيم بعباده القادر على نصر من يشاء. وتوكيد بأن هذا وعد رباني. وبأن الله لا يخلف وعده. ولو أن أكثر الناس لا يعرفون الحقائق وأن كل ما يعرفونه هو بعض أمور ظاهرة من شؤون الحياة الدنيا في حين أنهم غافلون عن الآخرة : مع ما هي عليه من خطورة الشأن.

والسورة من السور القليلة التي أعقب حروفها المتقطعة الأولى موضوع غير القرآن والتنويه به.

تعليق على خبر انكسار الروم

وانتصارهم وموقف المؤمنين والمشركين من ذلك

وقد أورد المفسرون روايات عديدة حول هذه الآيات (١). ملخصها المعقول فيها أنها نزلت في ظرف كان فيه حرب بين الروم والفرس في البلاد المتاخمة للجزيرة العربية في الشام وجزيرة الفرات : وانتصر الفرس فيها على الروم ففرح مشركو مكة بذلك وأظهروا شماتتهم بالمسلمين الذين كانوا يقولون بوحدة المنبع والجوهر التي تجمع بينهم وبين الكتابيين الذين منهم الروم النصارى.

__________________

(١) استوعبها الطبري فانظر فيه تفسير الآيات وكل أو جلّ ما ورد في كتب التفسير الأخرى متسق مع ما رواه الطبري إجمالا.

٤٢٩

وأن هذا الموقف قد شقّ على المسلمين وأحزنهم فبشّرهم الله بهذه الآيات وطمأنهم. ومضمون الآيات وروحها يؤيدان هذا الملخص كما هو واضح وإن لم يرد فيها ذكر للفرس وذكر لفرح المشركين وشماتتهم صراحة.

وهناك روايات في صيغ مختلفة عن تشاد ومراهنة بين أبي بكر رضي الله عنه وأمية بن خلف أحد زعماء المشركين على صدق ما بشّرت الآيات به من غلبة الروم بعد انغلابهم (١). ومنها ما يذكر أنهما جعلا مدة وقوع ذلك ثلاث سنين أو خمسا أو ستا والرهان عشر قلائص أو أربعا وأن أبا بكر أعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمر فأمره بزيادة قيمة الرهان ومدّ الأجل لأن البضع يمتد من ثلاث سنين إلى تسع فعدل الاتفاق إلى تسع سنين على مائة قلوص وغلب الروم فكسب أبو بكر الرهان وأسلم من المشركين خلق كثير. ومنها ما يذكر أن أبا بكر خسر الرهان ولكن الروم انتصروا بعد سنة من المدة المتفق عليها فأسلم من المشركين خلق كثير كذلك. والرواية الأخيرة رواها الترمذي عن ينّار بن مكرم الأسلمي بشيء من التفصيل قال : «لما نزلت (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ) [١ ـ ٤] كانت فارس حينئذ قاهرين للروم وكان المسلمون يحبّون ظهورهم على فارس لأنهم وإياهم أهل كتاب وذلك قول الله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٥) وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث. فلما نزلت الآية خرج أبو بكر (رض) يصيح في نواحي مكة (الم) الآية ، قال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم. زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك ، قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا على الرهان. وقالوا لأبي بكر كم نجعل البضع ثلاث إلى تسع سنين فسمّ بيننا وبينك وسطا ، قال : فسمّوا بينهم ستّ سنين فمضت قبل أن تظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري فإنه استوعبها أيضا.

٤٣٠

ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين لأنّ الله قال في بضع سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير» (١).

ومضمون حديث الترمذي هذا قد يفيد أن انغلاب الروم وغلبتهم بعد بضع سنين قد كانت قبل الهجرة. وهذا يقتضي أن تكون السورة أو الآيات نزلت قبل الهجرة بسنين كثيرة مع أنها كانت على ما يدل ترتيب نزولها المتفق عليه تقريبا في التراتيب المرويّة من آخر ما نزل من القرآن في مكة حيث هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد نزولها بمدّة قليلة.

على أن هناك رواية تفيد أن انتصار الروم قد كان في ظرف معركة بدر التي كانت بعد الهجرة بنحو سنة ونصف ورواية أخرى تفيد أنه كان في ظرف صلح الحديبية الذي كان بعد الهجرة بنحو ستّ سنين. وهذه الرواية أوجه لأن بين نزول سورة الروم وصلح الحديبية نحو سبع سنين. وقد سمّى القرآن هذا الصلح بالفتح المبين ونزلت فيه سورة الفتح أو معظمها على ما سوف يأتي شرحه في مناسبتها فكانت فرحة المؤمنين مزدوجة بالفتح المبين الذي كتبه الله لهم على المشركين وبغلبة الروم الذين كان المؤمنون يعتبرونهم حزبا معهم على الفرس الذين كان المشركون يعتبرونهم حزبا معهم بعد غلبة هؤلاء على الروم. وهكذا تحققت نبوءة من نبوءات القرآن في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقّق الله وعده وبشراه فعلا خلال بضع سنين وفرح المؤمنون بنصر الله. وهذه الحقيقة مسجّلة في الكتب التاريخية القديمة المعتبرة.

ولقد أورد الطبري وغيره في سياق الآيات بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول في ما كان من وقائع ومكائد متبادلة بين الفرس والروم وفي ما كان من أحوال الفرس والروم من حالات دينية واجتماعية وسياسية وعمرانية وما كانت في القسطنطينية خاصة من آلاف الكنائس وما كان يعقد فيها من مجالس دينية إلخ ... اختلطت فيها الحقائق مع الخيال والمبالغات وتدلّ مع ذلك

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

٤٣١

على أن هذه الأمور مما كانت متداولة في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولم نر طائلا من إيرادها لأنها لا تتصل بأهداف الآيات ولا ترتكز على علم وثيق.

أما وحدة المنبع والجوهر التي من أجلها حزن المسلمون من انكسار الروم وفرحوا بانتصارهم فهي مؤيدة بآيات قرآنية عديدة وردت في سور عديدة مرّ تفسيرها ونبّهنا على دلالاتها. ومنها ما تضمن خبر فرح الكتابيين بما كان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي القرآني مثل آية الرعد هذه : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [٣٦] ومنها ما تضمن تقرير يقينهم بأنه منزّل من عند الله مثل آية الأنعام هذه : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [١١٤] ومنها ما تضمن خبر إيمانهم صراحة مثل آيتي القصص هذه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (٥٣) ومنها ما تضمن وحدة الجوهر بين الشريعة الإسلامية والشرائع النبويّة السابقة مثل آية سورة الشورى هذه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [١٣].

وكان كل هذا مما يثير المشركين. ولا سيما أن القرآن كان يندد بهم لكفرهم بكتاب الله ونبيه برغم ما كان من إيمان أهل الكتاب وتصديقهم. فلما انتصر الفرس فرحوا وشمتوا وحزن المسلمون واغتموا.

وواضح أن شرحنا هذا لا يتناقض مع ما قررته الآيات العديدة من مكيّة ومدنيّة من وقوف فريق من أهل الكتاب غلّبوا المآرب والهوى على الحق والهدى وبخاصة اليهود في الحجاز من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن موقف الجحود والمناوأة مما شرحنا أسبابه المؤيدة بالنصوص القرآنية في مناسبات سابقة ولا مع ما استجدّ فيما بعد من موقف العداء والحرب بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والروم امتد إلى ما بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد اعتدى عمال الروم على رسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتدت القبائل العربية النصرانية على

٤٣٢

قوافل المسلمين فأدّى هذا إلى ذاك. أي إن جهة الروم كانت هي البادئة في العدوان. وصار من حقّ المسلمين وواجبهم أن يدفعوا العدوان.

هذا ، ولما كان القرآن يستهدف من الأخبار والقصص الموعظة والتدعيم والتطمين والتثبيت والإنذار والتبشير فقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون هذه الحادثة وسيلة إلى ذلك أيضا فاحتوت الآيات بشرى عامة بنصر الله ووعده بالنصر والفرح للمؤمنين وتوكيده بأنه لا يخلف وعده وتنديدا بالناس الذين يهتمون للأمور العابرة والشؤون الظاهرة ويغترون بها ويغفلون عن المهم الخطير.

وننبّه على أن هناك قراءة بفتح الغين في (غُلِبَتِ) وضم الياء في (سَيَغْلِبُونَ) غير أن الأوجه قراءة الضمّ في الأولى والفتح في الثانية لأن من الثابت أن الروم غلبوا في ظروف البعثة ثم غلبوا.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)) [٨ ـ ١٠]

(١) أثاروا الأرض : حرثوها واستغلوها.

(٢) السوأى : تأنيث الأسوأ والكلمة خبر لكان.

في هذه الآيات : سؤال يتضمن التنديد بالغافلين عن الآخرة بسبب عدم تدبرهم في الأمر وتفكيرهم منطقيا وهادئا يجعلهم يدركون أن الله تعالى لا يعقل أن يكون قد خلق السموات والأرض وما بينهما عبثا ، بل لحكمة جليلة تقوم على الحقّ ولأمد معين في علمه.

٤٣٣

٢ ـ وإشارة إلى سبب ذلك وهو كون أكثر الناس لا يؤمنون بلقاء ربهم ولا يوقنون به فينصرفون عن هذا التدبر والتفكير.

٣ ـ وسؤال آخر يتضمن التنديد بهم أيضا : فإذا كانوا لا يتدبرون في الأمور فهل لم يتجولوا في أنحاء الأرض ويروا عاقبة الذين من قبلهم ويعرفوا أخبارهم فيتعظوا بها؟ فقد كان الذين قبلهم أشدّ منهم قوّة وإعمارا واستغلالا للأرض ، فلما جاءتهم رسل الله بالبينات وقفوا منهم موقف المكذّب المستهزئ ولم يتورعوا عن ارتكاب السيئات فجازاهم الله سوءا بسوء ، ولم يكونوا في ذلك مظلومين وإنما كانوا هم الذين جنوا على أنفسهم.

والآيات متصلة بالآيتين الأخيرتين من الفصل السابق اللتين جاءتا بمثابة استطراد وانتقال إلى التنديد بالكفار الذين لا يعرفون الحقائق ويغفلون عن المصير الأخروي. وهكذا تكون هذه الآيات استمرارا في الاستطراد وفي نقل الكلام إلى الكفار ومواقفهم. وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني الذي مرّت منه أمثلة كثيرة.

وأسلوب الآيات قوي مستحكم وموجّه إلى القلب والعقل معا. وقد تكرر فحواها كثيرا مما مرّ منه أمثلة عديدة. والآية خاصة تحتوي بالإضافة إلى التنديد سؤالا استنكاريا يتضمن من جديد معنى التقرير بأن السامعين يعرفون مما وصل إليهم من أخبار ووقعت عليه عيونهم من مشاهد أثناء رحلاتهم أن أهل البلاد التي كانوا يرحلون إليها مما هو في جزيرة العرب أو جوارها هلكوا ودمرت بلادهم بعذاب رباني وكانوا أقوى منهم وأشدّ. ومن هنا يأتي التنديد والتذكير ملزمين مستحكمين.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)

٤٣٤

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)) [١١ ـ ١٦]

(١) يبلس : ييئس.

(٢) يتفرقون : هنا بمعنى يصنفون فرقا.

(٣) يحبرون : يسرون ، من الحبور.

(٤) محضرون : مساقون إليها سوقا. والإحضار هو إجبار المرء على الحضور.

عبارة الآيات واضحة. وهي متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والأولى منها تنطوي على برهان خطابي. فالله الذي يعترف المشركون بأنه خلق الكون والخلق بدءا قادر على إعادة خلقهما ثانية. وقد تكرر هذا البرهان في المناسبات المماثلة التي مرّ كثير منها. والمتبادر أن الآية الثانية استهدفت فيما استهدفته إدخال اليأس على المشركين من الشركاء والشفعاء الذين يشركونهم مع الله ما داموا قد كذّبوا بآيات الله وأنكروا الآخرة وحملهم على الارعواء والتفكير قبل الحسرة والندم.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)) [١٧ ـ ١٩]

(١) تظهرون : وقت الظهر في النهار.

في الآيات تنزيه لله وتقرير لاستحقاقه الحمد والتقديس في كل وقت وفي كل مكان : في الصباح والمساء ، والظهر والعشية ، وفي الأرض والسموات. فهو الذي

٤٣٥

يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها. وهو يحيي الناس ويخرجهم من الأرض بعد موتهم كذلك.

والآيات تنطوي على قصد التدليل على قدرة الله تعالى على إحياء الناس ثانية تدعيما لما جاء في الآية الأولى من الآيات السابقة. وهي متصلة بها اتصال استمرار في الموضوع وتعقيب عليه كما هو واضح.

وما احتوته الآية الثالثة بخاصة قد تكرر في أكثر من سورة من السور السابقة لنفس القصد. وقد علقنا على عبارتها في المناسبات السابقة بما فيه الكفاية.

وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [١٧] مدنيّة. وهذا غريب. واللحمة بادية الوثاقة بينها وبين ما بعدها بحيث تكون معها وحدة لا تنفصل. لذلك نشكّ في صحّة الرواية.

ولقد أورد الطبري في سياق الآيتين الأولى والثانية قولا لابن عباس بأنهما قد جمعتا مواقيت الصلاة فحين تمسون للمغرب والعشاء وحين تصبحون للفجر وحين تظهرون للظهر وعشيا هو العصر.

وهو استنباط وجيه مرّت أمثلة أخرى منه. ولقد روى البغوي بطرقه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد». وروى كذلك عن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرّحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم». وأورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قال حين يصبح (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته».

وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتها مع ذلك

٤٣٦

محتملة وهي بسبيل الترغيب في ذكر الله وتقديسه وتسبيحه ، إعلانا للإخلاص له وتقربا إليه. والمتبادر أن انتفاع المسلم بذلك يكون رهنا بائتماره بأوامر الله وسنّة رسوله وانتهائه عن ما نهى الله ورسوله عنه. فإن لم يفعل فليس ذلك بمزيل للمسؤولية عنه.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)) [٢٠ ـ ٢٧]

(١) منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله : في الجملة لفّ ونشر كما يقول البلاغيون. وتقديرها منامكم بالليل وابتغاؤكم فضل الله ورزقه في النهار.

(٢) قانتون : خاضعون.

في الآيات الخمس الأولى تنبيه على آيات الله ونعمه ومشاهد كونه ونواميسه :

١ ـ فمن آياته خلق الناس من أصل ترابي فلم يلبثوا أن كثروا وانتشروا في أنحاء الأرض.

٤٣٧

٢ ـ ومنها أنه خلق لهم من جنسهم وأنفسهم أزواجا منهم ليسكن ويستأنس ويطمئن كل زوج بزوجه وأوجد فيهم عاطفة التوادّ والتراحم تجاه بعضهم.

٣ ـ ومنها خلقه السموات والأرض واختلاف ألوان الناس وألسنتهم.

٤ ـ ومنها أنه قدّر الليل والنهار لينام الناس في الأول ويسكنوا ويستريحوا ، ويكدّوا في الثاني في سبيل الرزق وابتغاء فضل الله وقضاء مصالحهم وحاجاتهم المختلفة.

٥ ـ ومنها أنه هو الذي يرسل البرق فيخيف به الناس من جهة ويؤملهم برحمته من جهة أخرى حيث ينزل الماء على أثره من السماء فيحيي به الأرض بعد جفافها وموتها.

٦ ـ ومنها أن نظام الكون ونواميسه في السموات والأرض تقوم بأمره على أتمّ وجه وأحكمه حتى إذا حان الوقت الذي في علمه دعي الناس إليه فلبّوا الدعوة وخرجوا من باطن الأرض.

ففي كل ذلك آيات بيّنات ودلائل ساطعات على عظمته وبالغ قدرته وكونه مصدر كل نعمة ورحمة ومدبر كل أمر ، يدركها ويقنع بها من حسنت نيته وصفا قلبه وفكّر وتعقّل ورغب في تدبّر الأمور ومعرفة الحقّ والحقيقة.

وفي الآيتين الأخيرتين تقرير تعقيبي على هذه الآيات :

١ ـ فكل من السموات والأرض والحالة هذه خاضع له.

٢ ـ وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده.

٣ ـ وإعادة الخلق ثانية أهون من بدئه ؛ وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز القادر الذي لا يعجز عن شيء ، والحكيم الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة والصواب.

٤٣٨

تعليقات على سلسلة آيات مشاهد

قدرة الله ونواميسه في الكون

والآيات معقبة على سابقاتها بقصد البرهنة على عظمة الله وقدرته والتنبيه على نواميسه في خلقه وكونه. فهي استمرار للسياق والموضوع السابقين. وهي من أوفى السلاسل القرآنية الجامعة الرائعة في بابها.

وقد جاءت بأسلوب تتناوله أفهام الناس على اختلاف طبقاتهم ويتسق مع الآثار المحسوسة المماثلة والواقعة تحت مشاهدتهم. والنهايات التي انتهت بها كل آية مثل (يتفكرون. ويسمعون. ويعقلون. والعالمين) تدل على أنها موجهة إلى القلوب والعقول معا. وبخاصة إلى الطبقة التي عندها شيء من العلم بالأمور وفي قدرتها التدبر والتعقل والتفكر لتذكرها بمسؤوليتها الناتجة عن ما وهبها الله من عقل وفكر وعلم وتهيب بها إلى الانتفاع بكل ذلك وترى ما في كون الله ومشاهد خلقه من آيات العظمة والقدرة والاستحقاق للعبادة والخضوع فتستجيب إلى دعوته ولا تقف موقف المكابرة والمماراة والعناد.

ولقد مرّ في سورة فاطر آية في مثل هذا السياق تقرر أن العلماء هم الذين يخشون الله لأن علمهم يجعلهم بالدرجة الأولى يدركون ذلك. وعلقنا على ما تضمنته من مدى وتلقين مستمر المدى. ونبّهنا على ما في مثل هذه المقاطع في الآيات التي نحن في صددها وغيرها من تساوق وتدعيم لما قررناه في ذلك التعليق.

على أن هذا لا ينبغي أن يعني أن الآيات غير موجهة إلى غير هذه الطبقة. فروح الآيات تلهم أن كل إنسان عاقل راشد مكلّف بالتدبّر والتعقّل في آلاء الكون ونواميسه حتى يتبين له خلاله عظمة الله تعالى وقدرته. وكل ما يصح أن يكون هو أن تلك الطبقة تتحمل مسؤولية أشدّ في ذلك.

وما احتوته الآيات قد تكرر كثيرا في السور السابقة. وإن جاء هنا أجمع وأروع. ومردّ التكرار في هذه كمردّه في تكرار القصص والمواعظ والتنديد والإنذار

٤٣٩

والترغيب والتبشير ، وهو تكرر مواقف الدعوة وتنوعها كما نبّهنا عليه في المناسبات السابقة.

وجملة (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) جاءت بمثابة استدراك بمعنى أن ما ذكر من أن الإعادة أهون من البدء إنما هو من قبيل البرهان لأذهان البشر الذين اعتادوا أن يروا أن إعادة الشيء ومحاكاته أهون من ابتداعه. ولا يكون هذا التمثيل واردا في حقيقته نحو الله لأن البدء والإعادة بالنسبة إليه سيّان.

ولقد قال بعضهم إن البرق هو مخاريق من نار يحملها الملائكة التي يسوقون السحاب أو لمعان سيوفهم وأسواطهم التي يسوقون بها أو لمعان أجنحتهم. وليس لهذه الأقوال سند وثيق وليست متسقة مع الحقائق العلميّة اليقينية. والعبارة القرآنية جاءت للتنبيه على آثار البرق في الناس والتدليل على بديع نواميس الله وخضوعها له وتصريفها بإرادته والأولى الوقوف عند هذا الحدّ.

تعليق على آية

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا

إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)

واستطراد إلى ما قرره القرآن من مساواة

بين الرجل والمرأة ومركز الزوجة

والآية الثانية رائعة المدى والتلقين المستمر. فالله عزوجل إنما جعل لكل نفس زوجا منها ليسهل سكن كل منهما لزوجه في نطاق المودة والرحمة اللتين شاء الله تعالى أن يجعلهما بين الزوجين ، فمن واجب الإنسان ومن باب أولى من واجب المسلم ذكرا كان أم أنثى أن ينظر إلى الرابطة الزوجية على هذا الاعتبار وأن يبذل جهده في عدم الحيدان عنه. وفي هذا إلى ذلك ما فيه من إعارة القرآن عناية كبرى لهذه الرابطة. وقد يلمح في الآية وعلى ضوء آية سورة الأنعام هذه (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [٩٨] تقرير لمبدأ تساوي الرجل والمرأة

٤٤٠