التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا. فقال عمر يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها فقال والذي نفس محمّد بيده ما أنتم أسمع لما أقول منهم» (١). ومنها حديث رواه ابن عبد البرّ عن ابن عباس مرفوعا جاء فيه : «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا ردّ الله عليه روحه حتى يردّ عليه‌السلام». وحديث رواه ابن أبي الدنيا عن عائشة جاء فيه : «قالت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به وردّ عليه حتى يقوم». وهناك أحاديث صحابية في ذلك وفي بعض أحداث ومشاهد من هذا الباب أيضا لم نر ضرورة إلى إيرادها. وواضح أنه يبدو شيء من التعارض بين الجملة المذكورة وهذه الأحاديث ولقد وردت هذه الجملة في سورة النمل أيضا فأوّلها ابن كثير بأن القصد منها إنك لا تسمعهم شيئا يفيدهم. وأوّلناها بمثل ما أوّلناها هنا حيث تراءى لنا أنه الأوجه إن شاء الله.

على أن الذي يتبادر لنا أن الجملة في معنى ومقام غير المعنى والمقام في الأحاديث. وأنها كما قلنا في شرحها هنا في صدد التنديد بالمشركين وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي شرحها في سياق سورة النمل في صدد وصف شدّة مكابرة المشركين وعنادهم بالإضافة إلى تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته. أما الأحاديث فهل بسبيل بيان كون أرواح الموتى التي لا يعتريها الموت هي التي تسمع ما يخاطب بها الأموات الذين كانت في أجسادهم. ومسألة أرواح الناس في حالتي الحياة والموت من المسائل التي لا يدرك كنهها لأنها من أمر الله فيوقف فيها عند ما يقف القرآن والثابت من الأحاديث النبويّة ويؤمن به. والله أعلم.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)) [٥٤]

في الآية تنبيه وتذكير بأطوار خلق الله للناس. فقد خلقهم ضعفاء أولا وذلك

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٤٦١

زمن طفولتهم. ثم جعلهم أقوياء وذلك زمن شبابهم وكهولتهم. ثم جعلهم ضعفاء بعد القوة وشيبا وذلك زمن شيخوختهم وهرمهم. فهو يخلق ما يشاء على الوجوه والأطوار التي تقتضيها حكمته ، وهو العليم بالمقتضيات القدير على خلق كل شيء بحسبها.

والمتبادر أن الآية جاءت داعمة ورادفة لسابقاتها. فقدرة الله تتجلى في تطورات خلقة الناس وأعمارهم أيضا. وفي كل ما يفعله حكمة وغاية. فلا موجب للظنّ إذا انحبس المطر أو هطل أو تأخر البعث أن ذلك بدون حكمة ولا أن يؤدي هذا إلى الشك في قدرة الله تعالى.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)) [٥٥ ـ ٥٧]

في هذه الآيات توكيد للبعث وإنذار للكافرين بهوله : فلسوف تقوم الساعة. ولسوف يقف المجرمون أمام الله. ولسوف يذهلون ويندهشون ويقسمون أنهم لم يكد يمرّ على مفارقتهم للدنيا إلّا ساعة. ولسوف يقول لهم أهل العلم والإيمان إن قسمكم جزاف كما كان شأنكم في الدنيا لأنكم انصرفتم عن التفكير في الآخرة ففوجئتم بها ، وإنكم لبثتم أمواتا طيلة الأمد الذي قدّره الله. وإنكم الآن في يوم البعث الذي وعدتموه ولو أنكم لم تدركوا حقيقة أمركم وموقفكم مما اعتراكم من دهشة وذهول. وانتهت الآيات بتقرير أنه لن ينفع الظالمين ما يقدمون من أعذار ولن يطلب منهم الاستعتاب والتوبة.

والآيات داعمة لما تضمنته الآيات السابقة ومتصلة بها. وفيها قرينة على ما استنبطناه من دلالة على أن الشقّ الثاني من الآيات [٤٨ ـ ٥٣] يتضمن التنديد

٤٦٢

بالكفار لظنهم عدم قدرة الله بسبب تأخر البعث مع ما يقوم من شواهد على قدرته على ذلك في أنفسهم وفي نواميس الكون.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)) [٥٨ ـ ٦٠]

(١) لا يستخفّنّك : لا تدعهم يؤثروا فيك فيحركوك ويعجلوك في أمرك.

في هذه الآيات :

١ ـ تنبيه على أن الله قد ضرب للناس في القرآن من كلّ مثل ، وصرف فيه الكلام بمختلف الأساليب لتفهيمهم وإرشادهم.

٢ ـ وخطاب للنبي عليه‌السلام بأنه إذا تلا عليهم آية من آيات الله سارع الكفار إلى تكذيبه والقول إن ما جاء به باطل لأن هذا هو شأن الجاهل الضّال المنغلق قلبه والمعمية بصيرته.

٣ ـ وأمر للنبي بعدم التأثر والقلق وبالصبر إلى أن يأتي وعد الله الحق الذي لا بد من تحقيقه ، وعدم ترك مجال للكفار ليستخفوه ويحملوه على العجلة في أمره.

والآيات جاءت معقبة على الفصول السابقة كما هو المتبادر. واحتوت تسلية وتثبيتا للنبي وإنذارا للكفار وتنديدا بهم أيضا. وجاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة تحمل طابع الختام المألوف في سور عديدة.

وقد أوّلنا جملة (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) بما أوّلناها به لأن المقصود منها كما يلهم فحواها وروح الآيات هو تصوير شدّة عناد الكفار وسوء نواياهم وجهلهم وعدم الجدوى منهم بسبب ذلك. وهو تعبير متكرر في

٤٦٣

ألفاظه ومعانيه بنفس القصد على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

تعليق على آية

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)

ولعل بين تعبير (وَعْدَ اللهِ حَقٌ) والأمر بالصبر إلى أن يتحقق ، ونفس التعبير في أوائل السورة لحمة صلة بين بدئها وختامها.

ولقد جاء في السورة وعد الله بنصر المؤمنين أيضا حيث يكون في ذلك قرائن على ترابط فصول السورة وانعقادها في جملتها على بشرى المسلمين بالنصر. ولعل فيها إرهاصا بالنصر الذي كان يوشك أن يتمّ للنبي عليه‌السلام والمسلمين فيما اعتزموا عليه من الهجرة إلى المدينة حيث نزلت هذه السورة في ظروف التهيّؤ لها. ولعلها نزلت في ظروف الاتصال الأول الذي تمّ بين النبي عليه‌السلام وبعض زعماء الأوس والخزرج ، أو الاتصال الثاني الذي آمن فيه عدد كبير منهم ووعدوه فيه بالنصرة والترحيب بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة. ولعله كان يفكر في التعجيل بالهجرة فثبته الله وصبّره حتى تتكامل الأسباب أو يشرف على هجرة أصحابه قبله.

٤٦٤

سورة العنكبوت

في السورة تنبيه على أن المؤمنين معرضون للامتحان الذي يظهر به صدق إيمانهم. وصورة لبعض ضعفاء الإيمان وتنديد بهم. وتقرير بأن واجب الطاعة للوالدين والإحسان إليهما قاصر على غير الشرك. وحكاية لبعض أساليب الإغراء والدعاية التي كان يعمد إليها زعماء الكفار لصدّ المسلمين وردّهم. وسلسلة قصصية احتوت أخبار نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وأممهم. وإشارات إلى مواقف عاد وثمود وفرعون. وصور العذاب الذي حاق بالمكذبين. وعناية الله بالأنبياء والمؤمنين في معرض التنديد والتذكير والتطمين معا. وحكاية لمواقف جدل ومناظرة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار وأهل الكتاب في صدد القرآن. وحثّ للمسلمين على الصبر والثبات على الحقّ والهجرة في سبيل الله والاعتماد عليه. وتنديد بالمشركين لما يبدو منهم من تناقض في عقائدهم بالله ومواقفهم من الدعوة إليه.

وأكثر فصول السورة منسجمة مع بعضها بقوة. وباقيها ليس منقطعا عنها صورا وموضوعا. ولهذا نرجّح أنها نزلت متتابعة بدون فاصل.

وقد روي أن الآيات [١ ـ ١١] مدنيات وقد شكّكنا في ذلك في التعليقات التي علقناها في سياق تفسيرها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ

٤٦٥

يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)) [١ ـ ٧]

(١) لا يفتنون : هنا بمعنى لا يمتحنون في إيمانهم.

(٢) فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين : أوّلها جمهور المفسرين بمعنى ليظهر الصادق والكاذب أو ليتميز الصادق والكاذب نتيجة للامتحان. لأن علم الله أزلي أبدي كذاته فلا يصحّ أن يكون قصد بالكلمة معناها الحرفي. وهو حقّ.

(٣) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه : الجهاد هنا على ما عليه جمهور المفسرين مجاهدة النفس وتحمّل التكاليف والصبر على المشاق والأذى. وهذا المعنى متسق مع الامتحان الذي يتعرّض له المؤمنون في إيمانهم ودينهم. فالذي يجاهد نفسه ويثبت في الامتحان إنما ينفع نفسه في الدرجة الأولى.

بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم المنقطعة التي رجّحنا في أمثالها أنها للاسترعاء إلى خطورة ما بعدها. وهذا المطلع من المطالع القليلة التي لم يعقبها إشارة إلى القرآن مثل السورة السابقة.

وقد تضمنت الآية التالية للحروف سؤالا فيه معنى الإنكار والتعجب عمّا إذا كان يصح أن يظنّ الذين آمنوا أنهم لا يتعرضون للفتنة والامتحان وأنه يكفيهم أن يقولوا آمنّا وذكرت الآية الثالثة في مقام الجواب بأن الله قد جرت سنّته على امتحان إيمان أمثالهم من قبلهم ليتميّز الصادقون من الكاذبين. واحتوت الآية الرابعة سؤالا في معنى الإنكار والتنديد معطوفا على السؤال الأول عمّا إذا كان يظنّ الذين يقترفون السيئات أن يسبقوا الله ويفلتوا منه وبيانا في معرض الجواب بأنهم إن ظنوا ذلك فإنما يكون من سوء حكمهم على الأمور وخطلهم فيه.

٤٦٦

وقد احتوت الآيات الخامسة والسادسة والسابعة تقريرات بالنسبة لأعمال المؤمنين وأثرها :

١ ـ فالذين يرجون لقاء الله وثوابه لهم أن يطمئنوا فإن هذا آت لا ريب فيه.

والله سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يفعل الناس ويضمرونه.

٢ ـ والذين يجاهدون في الله لا ينفعون الله بجهادهم لأنه غني عن العالمين فليس لهم أن يمنوا بجهادهم وإنما ينفعون بذلك أنفسهم ويمهدون لها سبل النجاة والسعادة.

٣ ـ ولقد آلى الله على نفسه أن يتسامح في هفوات الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن يجزيهم بأحسن أعمالهم.

والآيات وإن احتوت مواضيع أو معاني متنوعة. فإنها على ما هو المتبادر منها وحدة متماسكة. ولذلك اعتبرناها وحدة وفسرناها في سياق واحد.

تعليق على الروايات الواردة في صدد

الآيات الأولى [١ ـ ٧] من السورة

وما فيها من تلقينات جليلة

ولقد روى المفسرون (١) روايات عديدة في سبب نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت بمناسبة استشهاد بعض المؤمنين في وقعة بدر وجزع أهلهم عليهم. ومنها أنها نزلت في عمار بن ياسر الذي كان يعذّبه مولاه. ومنها أنها نزلت في أناس مؤمنين منعهم أهلهم من قريش من الهجرة إلى المدينة لما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إليها فكتب لهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يقبل منهم الإقرار بالإسلام حتى يهاجروا. فقرروا الخروج ومقاتلة من يمنعهم وخرجوا فتبعهم المشركون فاقتتلوا فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.

٤٦٧

هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٠]. وقد سمّى من هؤلاء سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآيات والآيات الأربع التالية لها مدنيّة. وروى هذا البغوي وآخرون عن الشعبي من علماء التابعين وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وإن كان الطبري يروي ما يرويه منها بطريق الإسناد المتسلسل إلى الصحابي أو التابعي. ومع أن الروايتين الأولى والثالثة يمكن أن توثق رواية مدنيتها فإننا نرجّح أنها مكيّة. وأن المناسبة التي نزلت فيها هي من نوع ما روته الرواية الثانية. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن المكي وقد اشتدّ في هذه الظروف أذى الكفار وإزعاجهم للمسلمين مما يجعل الرواية الثانية هي الأوجه. وإن كنا نظن أنها أعمّ من حادث أذى عمار لأن هذا الأذى كان في وقت مبكر نوعا على ما تفيده الروايات وعلى ما تلهمه آيات سورة البروج وما روي في سياقها من أذى وتعذيب عمار وأبويه واستشهاد أبويه وشراء أبي بكر لعمار رضي الله عنهما مما ذكرناه في سياق تفسير هذه السورة. ونظم الآيات والصورة التي تضمنتها أقرب إلى النظم المكيّ وصور العهد المكيّ منها إلى النظم المدنيّ وصور العهد المدنيّ. ولا تفهم أي حكمة في وضع آيات مدنيّة في أول سورة مكيّة بدون مناسبة نظمية وموضوعية. والآيات التي تلتها والتي يوجه الخطاب فيها إلى الكفار معطوفة عليها ولا خلاف في مكيّتها. وليس لرواية مدنيّة الآيات إسناد صحيح.

وآية سورة النحل التي ذكرت إحدى الروايات أنها نزلت في الذين منعهم أهلهم من الهجرة إلى المدينة ثم هاجروا هي آية مكيّة وقد رجحنا في سياق تفسيرها نزولها في مناسبة ارتداد جماعة من المسلمين في مكة ثم فرارهم وعودتهم إلى الإسلام وهو ما يلهمه مضمونها بكل قوّة ولا نراها تنطبق على ما ذكرته الرواية المذكورة.

ومع ما للآيات من خصوصية زمنية فإن المسلم واجد فيها تلقينات جليلة

٤٦٨

قوية مستمرة المدى. فأمور الناس لا يمكن أن تسير على ما يشتهونه دائما. وهم معرضون للمصاعب والمشاقّ والأذى التي من شأنها أن تصهر النفوس وتميّز قويّها من ضعيفها وسليمها من زائفها وصادقها من كاذبها. والحكم على الناس وقيمهم إنما يأتي صائبا بعد مرورهم من الامتحان بالمصائب والمشاقّ والأذى. فمن ثبت وصدق فهو القوي الصادق. ومن وهن وجزع فهو الضعيف الكاذب. والذين يثبتون ويصدقون في مقابلة المصاعب والمشاقّ ويصمدون لها بالتحمّل والصبر ومجاهدة النفس إنما ينفعون أنفسهم في الدرجة الأولى. ولن ينجو من يعمل السوء ولن يضيع عمل من آمن وعمل الصالحات.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)) [٨ ـ ٩]

وفي هاتين الآيتين : إشارة إلى ما أوجب الله على الأبناء من إحسان معاملتهم مع والديهم مع استثناء إطاعتهما في الشرك بالله إذا أمرا به أولادهما مهما جاهداهم وألحّا عليهم في ذلك ، وبيان كون الله هو مرجع الناس جميعا فيفصل بينهم في أعمالهم. وتوكيد كون الله سيدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات في عداد الصالحين من عباده.

ولقد ورد في سورة لقمان مثل الوصية التي احتوتها الآية الأولى كما ورد شيء يقارب في سورة الأحقاف. وقد قال المفسرون (١) إن هاتين الآيتين قد نزلتا أيضا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمّه كما قالوا هذا في سياق آيات سورة لقمان بل وفي سياق آيات سورة الأحقاف على ما ذكرناه في سياق السورتين. ومنهم من ذكر أنهما نزلتا في مسلم آخر عصى وهاجر إلى المدينة فأخذ أبواه يلحّان عليه ليرتدّ عن الإسلام ويعود إليهما. ولقد سلكت الآيتان في سلك رواية مدنيّة

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

٤٦٩

الآيات من أول السورة إلى آخر الآية الحادية عشرة ، ولعل الرواية الأخيرة هي سبب ذلك.

تعليق على آية

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً)

إلخ والآية التالية لها

وروح الآيتين ونظمهما ومضمونهما من جهة وورود ما يماثلهما في آيات لا خلاف في مكيتها من جهة أخرى يجعلاننا نرى فيهما صورة من صور العهد المكيّ أكثر من العهد المدنيّ ونشكّ في رواية مدنيتهما كما شككنا في رواية مدنية الآيات السبع السابقة. وليس من شأن رواية كونهما نزلتا في مسلم مهاجر إلى المدينة ومحاولة أبويه حمله على الارتداد والعودة إليهما في مكة أن تضعف من شكّنا لأنها غير وثيقة الإسناد وغير معقولة الحدوث. ولأن طابع الآيتين مماثل لطابع الآيات المكيّة المماثلة ، ومضمونها متّسق مع ظروف العهد المكيّ أكثر.

ولقد آمن عدد كبير من شباب قريش وشاباتهم رغم بقاء آبائهم على الشرك والجحود ومناوأتهم الشديدة للنبي ودعوته. وكان بعض هؤلاء الآباء من الزعماء البارزين. وقد اضطر أكثر هؤلاء الشباب المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة هربا من ضغط آبائهم واضطهادهم (١). فالمتبادر أن حوادث ضغط الآباء على الأبناء قد تكررت وتعددت فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الأمر والتنبيه.

والصلة بين الآيتين والآيات التي قبلهما وبعدهما لا تبدو واضحة. غير أننا نستبعد ـ بناء على ما لمسناه من انسجام الآيات المكية وتسلسل اتصالها ببعضها ـ أن لا يكون للآيتين صلة ما بسابقهما أو لاحقهما. وأن يكونا قد أقحمتا في موضعهما إقحاما. ومما خطر على بالنا أن تكون الفتنة التي ذكرت في الآيات السابقة متصلة بموقف من مواقف الضغط من الآباء على الأبناء أو أن يكون هذا من صورها ومشاهدها. فهو بدون ريب موقف محرج يمكن أن يكون فيه امتحان

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام القسم الأول ص ٣٢١ ـ ٣٤١ طبعة ثانية.

٤٧٠

للمؤمن في إيمانه ليتميز الصادق من الكاذب فيه. وبهذا الذي نرجو إن شاء الله أن يكون وجيها تتصل الآيتان بالآيات السابقة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)) [١٠ ـ ١١]

في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى من يدّعي الإيمان بالله في وقت السعة والعافية حتى إذا تعرّض في سبيل إيمانه لأذى الناس جعل أذى الناس وعذاب الله الموعود للكافرين والمنافقين في مستوى واحد فعمد إلى المداراة والمراءاة ليتقي عذاب الناس وأذاهم. ثم إذا فتح الله على المؤمنين ونصرهم وفرج عنهم سارع إلى توثيق رابطته بهم وتوكيد دعواه بأنه منهم. وقد تساءلت نهاية الآية في معرض الإنكار والتنديد عمّا إذا كان أمثال هؤلاء لا يعرفون أن الله تعالى هو الأعلم بما في صدور الناس.

أما الآية الثانية : فمن المحتمل أن تكون تضمنت توكيدا بأن الله تعالى يعلم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ويعلم المنافقين فيه. أو تكون قصدت تقرير كون ما حكته الآية الأولى امتحانا يمتحن الله به الذين يقولون آمنّا ليظهر المؤمن الصادق من المنافق.

تعليق على آية

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ)

إلخ والآية التالية لها وتلقيناتها

والآيتان تمام الآيات الإحدى عشرة التي ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنيّة وقد روى المفسرون (١) أنهما نزلتا في أناس كانوا أسلموا وتخلّفوا عن الهجرة

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.

٤٧١

إلى المدينة وأكرههم زعماء قريش على الخروج معهم إلى بدر فلما انتصر المسلمون في وقعة بدر قالوا إنا مسلمون وإنا خرجنا مكرهين وطالبوا بحصة من الغنائم. كما رووا أنهما نزلتا في أناس من المنافقين في مكة إذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر تفاديا من الأذى.

ومع ما يبدو من اتساق بين الرواية الأولى والقسم الأول من الآية الأولى فإن القسم الثاني منها والآية الثانية تنقضان ذلك. فإذا كان هؤلاء قد انحازوا إلى جانب المسلمين أثناء وقعة بدر فيكونون قد انحازوا مخلصين حالما أمكنتهم الفرصة ولا ينطبق عليهم وصف المنافق. وإذا لم يكونوا قد انحازوا أثناء الوقعة فلا يكون محلّ لادعائهم لأن الفرصة أمكنتهم للانحياز فلم يغتنموها. ولذلك نحن نشكّ في صحة الرواية والمناسبة. هذا مع التنبيه على أن الرواية لا تستند إلى إسناد صحيح.

ووصف (الْمُنْفِقِينَ) من الأوصاف القرآنية المدنيّة كما أن الصورة التي احتواها القسم الثاني من الآية الأولى مماثلة لصورة مدنيّة حكتها آيات مدنية عن المنافقين منها هذه الآية في سورة النساء (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١). ولكن القسم الأول من الآية الأولى ينقض هذا لأن الصورة التي احتواها هي صورة مكية ؛ من حيث إن المؤمنين إنما كانوا يتعرضون للأذى في مكة. ولهذا فنحن نرى الرواية الثانية التي رواها الطبري والبغوي عن الضحاك ومجاهد هي الأوجه ونرجّح بالتبعية مكيّة الآيتين أسوة بسابقاتهما وبسبب ما تلهمه الآيات الآتية بعدهما من جهة ولأنه ليس من مناسبة أو سياق يبرر أن احتمال مدنيتهما بدون تناقض كما أن حكمة وضعهما هنا ـ لو كانتا مدنيتين حقا ـ غير ظاهرة من جهة أخرى.

ويتبادر لنا أن الصلة قائمة بينهما وبين الآيات السابقة لهما مهما بدا عكس ذلك لأول وهلة. فقد احتوتا مشهدا من المشاهد التي كانت تظهر في صفوف

٤٧٢

المسلمين مثل ما احتوت سابقاتهما. وبينما احتوت الآيتان السابقتان لهما مباشرة وعدا وبشرى احتوت هاتان وعيدا وتنديدا حسب الصورة التي انطوت في كل من الجملتين. ولعلّ من الممكن لمس الارتباط بينهما وبين الآيات الأولى من السورة بما انطوت عليه هذه الآيات من ذكر احتمال تعرّض المؤمنين للفتنة والامتحان. ثم ما احتوته الآيتان السابقتان لهما مباشرة من صورة من صور الفتنة احتوتاهما هما من صورة أخرى من صورها. أما تعبير (الْمُنْفِقِينَ) فليس في رأينا قرينة قاطعة على مدنية الآيتين. فالكلمة بمعنى المرائين ومرضى القلب والهائبين والمترددين والمتخوفين. وليست هذه الصورة مستحيلة الظهور في العهد المكي بين صفوف المسلمين.

ولقد احتوت إحدى آيات سورة النحل التي مرّ تفسيرها ما يفيد أن بعض الذين آمنوا ارتدّوا في العهد المكي وشرحوا صدرا بالكفر وبعضهم ارتدّ مكرها أو فتن عن دينه ثم عاد إلى الإسلام على ما مرّ شرحه. وقد يكون في هذا مصداق مؤيد لتوجيهنا إن شاء الله. ومع ما يمكن أن يكون للصورة التي تضمنتها الآيتان من خصوصية زمنية فإنهما انطوتا على تلقين قرآني جليل في صدد صورة أو حالة يمكن أن تظهر في كل وقت ومكان وتستحق التنديد والتقريع. فصدق إيمان المرء إنما يثبت حينما يتعرض للامتحان من أذى أو إغراء فإذا لم يتضعضع فهو المؤمن حقا المستحقّ لرضوان الله وثوابه. أما الذين يتظاهرون بالإيمان في أوقات السّعة والعافية أو لقاء منافع ومغريات ثم يتنكرون لإيمانهم وقت الشدّة فهم المنافقون الذين ليس لهم في صفوف المخلصين مكان ، المستحقون لسخط الله وغضبه وعقابه ولسخط الصادقين من المؤمنين ونبذهم واحتقارهم. وبناء على هذا لم نر محلا للتعليق هنا على النفاق والمنافقين وإيراد الأحاديث الواردة فيهم بمناسبة ورود الكلمة ورأينا تأجيل ذلك إلى سورة البقرة المدنية التي ذكروا ووصفوا في الآيات الأولى منها.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ

٤٧٣

بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)) [١٢ ـ ١٣]

في الآيتين : حكاية لبعض ما كان يقوله الكفّار للمسلمين حيث كانوا يقولون لهم على سبيل الحجاج أو التحدّي أو الإنكار : اتبعونا فيما نحن عليه من دين وتقاليد ودعوا دينكم الجديد ونحن نحمل عنكم وزر خطأكم وما تخافونه من عقاب وعذاب. وتزييف رباني لهم في معرض الردّ ؛ فهم كاذبون فيما يقولون ولن يحملوا عنهم شيئا. بل إنهم سوف يحملون يوم القيامة أوزارهم وأوزارا أخرى معها ، وسوف يحاسبون على جرائمهم ومفترياتهم.

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين ولقد احتوت الآية الأولى مشهدا من المشاهد التي كانت تقع في أثناء الدعوة في العهد المكي والتشاد والتجاذب اللذين كانا يجريان بين بعض المسلمين والكفّار من آباء وأبناء وأقارب وأصدقاء مما حكت بعضه الآيات السابقة ومما يجعل الصلة قائمة بين الآيتين والآيات السابقة. ومما يقوم قرينة مؤيدة لترجيحنا بأن الآيات السابقة هي مكيّة مثل هاتين الآيتين المعطوفتين عليها وليست مدنيّة كما ذكرت الروايات.

وإلى ما ذكرناه فإن الآية الأولى تنطوي على أسلوب طريف من أساليب الجدل والحوار التي كان يعمد إليها الكفار فإنهم كما كانوا يعمدون إلى الأذى والضغط أحيانا وإلى التشويش والتشكيك أحيانا ، وإلى المراوغة والخديعة أحيانا. كما حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها ، كانوا يعمدون إلى التعهد للمؤمنين بتحمل مسؤولياتهم عن خطيئاتهم وذنوبهم وكفرهم إذا عادوا إلى دين آبائهم وتقاليدهم وسبيلهم!.

والمتبادر أن الذين كانوا يعمدون إلى هذه الأساليب هم الزعماء. وقد روى المفسرون (١) في سياق هاتين الآيتين اسم أبي سفيان. والغالب أن هذا القول قد صدر منه أو من غيره لبعض المسلمين في سياق الجدل والحجاج وادعاء التفاضل

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والخازن.

٤٧٤

والهدى أو كجواب على اعتذار المؤمنين بأنهم يخافون الله واليوم الآخر. والآية تدل على أنه لم يكن بين المسلمين والكفار قطيعة تامة أو عداء شديد. أو أن من الفريقين من كان يتلاقى ويتجادل بشيء من الهدوء. وهذا ما استدللنا عليه من آيات أخرى سبق تفسيرها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)) [١٤ ـ ١٥]

هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية عن بعض الأنبياء والأمم السابقة جاءت بعد حكاية أقوال الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. ومن هنا تكون السلسلة متّصلة بالسياق بطبيعة الحال. وقد استهدفت التذكير والإنذار والعظة بالنسبة للكفار ، والتنويه والتثبيت والتطمين بالنسبة للمسلمين أسوة بمثيلاتها.

وفي هذه الحلقة شيء جديد لم يسبق ذكره. وهو خبر لبث نوح عليه‌السلام ألف سنة إلّا خمسين عاما في قومه. ولقد جعل هذا بعض الباحثين يعيدون ويبدون ويعلقون تعليقات متنوعة. وفي كتب التفسير أقوال على هامش هذه الآية عن عمر نوح والمدة التي عاشها قبل الطوفان وبعده ليست وثيقة السند. ونقول هنا كما قلنا في المناسبات السابقة إن واجب المسلم أن يؤمن بكل ما أخبر به القرآن من أخبار الأنبياء والأمم والوقوف عند هذا الحدّ وعند ما يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحاديث. وأن يؤمن أنه لا بدّ من أن يكون لما يجيء في القرآن والأحاديث الثابتة من حكمة. وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى هذا في صدد الخبر المذكور فهو أن بعض المفسرين (١) قالوا إن حكمة ذكر المدة هي تسلية النبي والتسرية عنه وهو قول وجيه منسجم مع أهداف القصة القرآنية. كذلك فإن سفر التكوين ذكر في الإصحاح

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الخازن مثلا.

٤٧٥

التاسع نفس المدة عمرا لنوح. ولا بدّ من أن يكون السامعون أو بعضهم يعرفون ذلك. وفي هذا ما يدعم تأثير تلك الحكمة والهدف. ولقد ورد في سورة القمر جملة مقاربة لجملة (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) في سياق قصة نوح وسفينته وطوفانه. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)) [١٦ ـ ٢٧]

(١) تخلقون إفكا : تصنعون أشياء كاذبة من الأقوال والأصنام.

(٢) يئسوا من رحمتي : تعبير أسلوبي بمعنى أنهم لن ينالوا رحمتي.

٤٧٦

(٣) إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا : القصد من هذه الجملة تقرير كون الأوثان لن تفيدكم إلّا صلات مودّة دنيوية لا فائدة منها في الآخرة ولا معول عليها. أو إنما اتخذتموها بهدف منفعة الدنيا على غير طائل.

وهذه حلقة ثانية من السلسلة. ولا تحتاج عبارتها إلى أداء آخر. وجلّ ما جاء فيها جاء في سور أخرى وبخاصة في سورة الأنبياء ممّا علقنا عليه بما رأينا فيه الكفاية.

وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى ذلك فهو حكاية أقوال إبراهيم عليه‌السلام بسبيل الاحتجاج على قومه مما فيه بعض الجديد ومما تكرر مثله في السور السابقة تقريرا موجها إلى الناس أو الكفار أو أمرا موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله للناس أو الكفار حيث يتبادر لنا من خلال ذلك حكمة سامية في حكاية أقوال مماثلة صادرة عن من ينتسب السامعون العرب إليه أو بعضهم ويزعمون أنهم على ملّته بسبيل إفحامهم والتنديد بهم.

وفي الحلقة حكاية لتآمر قوم إبراهيم على قتله أو تحريقه. ولقد جاء هذا أيضا في سورة الأنبياء. غير أننا نرى في تكراره هنا أمرا متصلا بالسيرة النبوية. فهذه السورة كما قلنا من آخر ما نزل في مكة من القرآن. وكان زعماء قريش في ظروف نزولها يتآمرون على قتل النبي أو حبسه أو نفيه على ما ذكرته آية سورة الأنفال هذه (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) لأنه كان قد اتفق مع زعماء الأوس والخزرج في المدينة وآمنوا به وأخذ الإسلام ينتشر في المدينة وأخذ المؤمنون يهاجرون من مكة إليها وأخذ هو يتهيأ للهجرة إليها فشعر زعماء قريش بخطر داهم من جرّاء ذلك لأن المدينة طريق قوافلهم وستصبح تحت سلطانه. عدا عن احتمال اتساع نطاق دعوته واشتداد قوته وعواقب ذلك عليهم فأرادوا أن يحولوا دونه. فالمتبادر أن تكون حكمة ما جاء في القصة متصلة بهدف التطمين والتشجيع في موقف متماثل ، بين ما حكي عن إبراهيم وقومه وبين ما كان بين النبي وقومه.

٤٧٧

ويلحظ أن إبراهيم قال بعد أن نجّاه الله من النار إني مهاجر إلى ربي. والمتبادر أيضا أن تكون حكمة حكاية ذلك متصلة بما كان من إزماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الهجرة إلى المدينة وبقصد تلقينه بأن إبراهيم قد فعل ذلك من قبل ، وملّته هي ملّة إبراهيم.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في تأويل جملة (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) أنها بمعنى الولد الصالح أو الثناء والذكر الحسن أو جعل ملّته متّبعة وما في ذلك من نصيب له في أجر المتّبعين. وكل هذا مما تتحمّله العبارة التي تنطوي على تلقين مستمر المدى بأن الله تعالى ييسّر وينعم على الصالحين المستقيمين الخير والكرامة في الدنيا أيضا بالإضافة إلى الآخرة مما انطوى في آيات عديدة مرّ تفسيرها.

ويلحظ أن الآية [٢٧] اقتصرت على القول إن الله وهب إبراهيم إسحق ويعقوب مع أن إسماعيل هو ابن إبراهيم البكر. وفي هذا تكرار لما جاء في الآية [٧٢] من سورة الأنبياء وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة (ص) بما يغني عن التكرار.

ولقد روى الطبري أيضا على هامش جملة (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) عزوا إلى قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم وتقذرهم وتحشرهم النار مع القردة والخنازير». وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بزيادة في آخره بعد كلمة الخنازير وهي : «تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتأكل ما سقط منهم». وقد أورد ابن كثير هذا النصّ بحديث أسنده الإمام أحمد عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص في ظروف بيعة يزيد بن معاوية.

وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. وليس في كتابي الطبري وابن كثير بيان بالمقصود بالأرض التي ينحاز أهلها إلى مهاجر

٤٧٨

إبراهيم ويبقى فيها شرارها إلخ. ونخشى أن يكون من وحي الفتن التي حدثت في الصدر الإسلامي الأول والله أعلم.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)) [٢٨ الى ٣٥]

(١) في ناديكم : في مجالسكم أو دار اجتماعاتكم.

(٢) المنكر : يقال لكل ما هو مغاير لكريم الأخلاق وفاضل الصفات.

وهذه حلقة ثالثة في لوط وقومه. وقد ذكر ما فيها في السور السابقة ، وبينها وبين ما ذكر في سورة هود خاصة تماثل. وعبارتها واضحة. وقصد الموعظة والتذكير والإنذار والتثبيت واضح فيها. ولقد علّقنا على القصة بما رأينا فيه الكفاية. وليس فيما ورد هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا القول إن الآية أو العلامة التي تركت من القرية المدمرة هي على الأرجح أطلال سدوم وعمورة على ساحل البحر الميّت في غور أريحا والتي كان يمرّ بها قوافل الحجاز وهي ذاهبة إلى فلسطين فمصر أو آئبة منهما إلى الحجاز ؛ وهما البلدان اللذان ذكر سفر التكوين

٤٧٩

تدميرهما بعذاب الله على ما شرحناه بخاصة في سياق سورة الصافات.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)) [٣٦ ـ ٤٠]

(١) كانوا مستبصرين : كانوا يتبجحون بحسن البصيرة والعقل.

(٢) وما كانوا سابقين : وما كانوا سابقين الله بحيث يعجز عن اللحوق بهم ويفلتون من عذابه.

وهذه حلقة رابعة فيها إشارات مقتضبة إلى رسالات شعيب وموسى عليهما‌السلام وإلى ما كان من أمر عاد وثمود. وقصد الإنذار والتذكير والموعظة فيها ظاهر. وقد علّقنا على قصصهم في السور السابقة بما فيه الكفاية. وليس هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا التنبيه إلى تعبير (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) في صدد ذكر عاد وثمود ؛ حيث تحتوي الجملة دليلا صريحا على أن المخاطبين يعرفون أخبار هؤلاء القوم وأن منهم من شاهد آثارهم ورأى في تدمير بلادهم آثار عذاب الله فيهم أيضا أو اعتقد ذلك.

ثم التنبيه إلى جملتي (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) و (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث ينطوي فيها توكيد جديد للمبدأ القرآني

٤٨٠