التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع إلى البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم» (١). وقد ذكر الطبري فيما ذكره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه في السماء السابعة لما عرج به إليها. وروى الطبري بعض الصيغ منسوبة إلى علي بن أبي طالب (رض) مع قوله إنه يقال له أيضا الصراخ. والصيغة المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي من حديث طويل في الإسراء والمعراج رواه البخاري عن مالك بن صعصعة وأشرنا إليه في تعليقنا على المعراج في سورة النجم. وهذا الأمر من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها إذا ما ذكرت في القرآن أو في حديث نبويّ صحيح. والله أعلم.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)) [٩ ـ ١٦]

(١) تمور : تتحرك وتضطرب وتدور.

(٢) يدعّون : يدفعون بعنف.

في الآيات إنذار للمكذبين وبيان لمصيرهم يوم القيامة. ففي ذلك اليوم تضطرب السماء فيه وتتزلزل الجبال وتسير. والويل فيه للمكذبين لآيات الله اللاهين عنها الخائضين فيها خوض المنكر الساخر ، ولسوف يساقون إلى جهنّم سوقا عنيفا. ويقال لهم هذه النار التي كنتم تكذبون بها ؛ فانظروا هل هي حقيقة أم خيال وسحر كما كنتم تزعمون. واصلوها جزاء كفركم وجرائمكم. وإنها لمصيركم الأبدي سواء أصبرتم عليها أم لم تصبروا.

والآيات كما هو ظاهر متصلة بالآيات السابقة. واضطراب السماء والجبال

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ٢٣٠ ـ ٢٣٣.

٣٦١

مما تكرر ذكره في القرآن من مشاهد يوم القيامة تصويرا لهول ذلك اليوم وشدّته على ما هو المتبادر. وأسلوب الآيات قوي لاذع من شأنه إثارة الخوف في الكفار وحملهم على الارعواء. وهو مما استهدفته فيما هو المتبادر أيضا.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)) [١٧ ـ ٢٨]

(١) فاكهين : متلذذين.

(٢) ألتناهم : نقصناهم.

(٣) يتنازعون : هنا بمعنى يتعاطون.

(٤) لا لغو فيها ولا تأثيم : يمكن أن تكون الجملة وصفا للكأس فيكون المعنى أن الكأس الذي يشربونها لا يسكر شاربها وتجعله يفحش بالقول والإثم. ويمكن أن تكون وصفا للجنات. وفي آيات سورة الواقعة آيات قد تفيد أنها وصف للجنات (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦).

(٥) غلمان لهم : كناية عن الخدم.

(٦) كأنهم لؤلؤ مكنون : كأن لونهم اللؤلؤ المصون.

(٧) يتساءلون : هنا بمعنى يتذاكرون ما صاروا إليه من فضل الله.

(٨) السّموم : الهواء الحار اللافح.

٣٦٢

وفي هذه الآيات تنويه بمصائر المؤمنين الذين اتّقوا الله بالإيمان وصالح العمل والبعد عن الإثم مقابلة لذكر مصائر المكذبين جريا على الأسلوب القرآني. وهي واضحة العبارة في وصف مظاهر النعيم الذي يتنعمون به وإدراكهم لما صاروا له من مظهر فضل الله وعنايته جزاء خوفهم منه واتجاههم إليه وحده. وأسلوبها شائق مغر من شأنه بعث الابتهاج والطمأنينة في المؤمنين والتنويه بأعمالهم الصالحة المرضية وحثّ عليها وتشويق غيرهم لها وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. وقد تكرر مثل هذا الوصف المستمد من مألوفات الدنيا وما فيها من صور أحسن المتع للتقريب والتمثيل.

وجملة (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) تتضمن كما هو المتبادر معنى تعقيبيا بالنسبة لما ذكر من مصير الفريقين الكفار والمتقين. فكل منهم ينال وفاقا لعمله وكسبه. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم المتكرر من مسؤولية الإنسان عن عمله وكسبه ونيله ما يستحق من الثواب والعقاب حسب ذلك.

تعليق على آية

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ...)

والضمير في (أَلَتْناهُمْ) راجع إلى المؤمنين كما هو المتبادر. والجملة تعني أن الذرية التي تتبع آباءها المؤمنين بإيمان ينالون ما يناله آباؤهم دون أن ينقص من ثواب آبائهم شيء كما هو المتبادر.

ولقد روى المفسرون أحاديث متنوعة في صدد هذه الآية فيها معان أخرى غير المعنى الذي ذكرناه والذي ذكره المفسرون أيضا. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرّبهم عينه ثم تلا الآية». وحديث رواه البغوي كذلك عن علي بن أبي طالب قال : «سألت خديجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال هما في النار فلما رأى الكراهة في وجهها قال لو رأيت مكانهما

٣٦٣

لأمعضتهما. قالت يا رسول الله فولدي منك قال في الجنّة. ثم قال إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار. ثم قرأ الآية». وحديث أورده ابن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسب ظنّ الراوي أنه قال : «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس الآية».

وحديث رواه الطبري بطرقه عن ابن عباس قال في هذه الآية «المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به وإن كانوا دونه في العمل» وقد روى مثل هذا الحديث بصيغ متقاربة عن علي بن أبي طالب وبعض علماء التابعين. وهذا من قبيل تفسير الآية كما هو واضح. وهناك حديث يرويه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قال : «من أدرك ذريته الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بآبائهم في الجنة وأولادهم الصغار أيضا على ذلك» ومثل هذا مرويّ عن الضحّاك أيضا.

وليس من هذه الأحاديث شيء في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن ليس فيها ما لا يحتمل الصحة نصّا أو معنى. والمحصل فيها بالإضافة إلى المعنى الذي يتبادر من الآية والذي أوردناه قبل أن المؤمنين الذين لهم ذرية مؤمنة أو عاشت ذريتهم في حضانتهم وماتت قبل بلوغها يكرم الله آباءهم فيلحقها بهم في الجنة ولو لم يكن لها عمل أو عمل مواز لعمل آبائها.

وينطوي في هذا المحصل على ما هو المتبادر في جملة ما ينطوي فيها ترغيب وتبشير وتطمين للمؤمنين. على أن جملة (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) وإن كانت كما قلنا قبل قليل تتضمن معنى التعقيب على مصيري الكفار والمتقين فإن مجيئها في هذه الآية يمكن أن يكون منطويا على تقرير كون الذرية التي لا تتابع آباءها بالإيمان تجزي بما كسبت دون أن تنتفع بإيمان وعمل آبائها. وإذا صحّ هذا ونرجو أن يكون صحيحا فيكون فيه توجيه وتحذير وتنبيه واتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة.

٣٦٤

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)) [٢٩ ـ ٣٤]

(١) نتربص به : ننتظر له.

(٢) ريب المنون : الموت أو صروف الدنيا التي تقلق الإنسان وتريبه.

(٣) أحلامهم : عقولهم.

(٤) تقوّله : اخترعه.

في الآيات :

أولا حكاية لما كان الكفار يقولونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردّ وتكذيب لهم وتثبيت وتطمين للنبي والخطاب موجه إليه : فعلى النبي أن يستمرّ في تذكيره ودعوته وأن لا يبالي بأقوالهم. فقد شملته نعمة الله وعنايته. وليس هو كما يقولون كاهنا ولا مجنونا. وإذا كانوا يتواصلون باستمرار مناوأته والإعراض عنه ويقولون إنه شاعر ننتظر موته فنتخلص منه فليقل لهم على سبيل التحدي إنه هو أيضا متربّص بهم منتظر أمر الله وحكمه فيهم وفي نفسه.

ثانيا : أسئلة استنكارية في صدد موقف الكفار وأقوالهم وتحدّ لهم : فهل هم حقا يقولون ما يقولون بقناعة من عقولهم أم بدافع العناد والطغيان؟ وهل يقولون جادين إن النبي هو الذي يخترع القرآن؟ وإذا كانوا جادين صادقين فليأتوا بحديث مثله لأن الاختراع قدر مشترك بينهم وبينه.

ويلوح أن في الآيات توضيحا للآيتين (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) وبذلك تكون الصلة قائمة بين الآيات والسياق السابق. وقد تضمنت أيضا تثبيتا وتطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وآية (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)

٣٦٥

مع أسلوبها الاستفهامي تتضمن تقرير حقيقة أمرهم في مواقفهم ومزاعمهم وهي فقدان حسن النيّة والرغبة في الإيمان وتعمّد الطغيان والعدوان والإنكار وليس شيئا ناشئا عن عقل وتدبر وتروّ.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن قريشا لما اجتمعت في الندوة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قائل منهم أحبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله فأنزل الله الآية (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) ويلحظ أن الآية منسجمة مع السياق بحيث يسوغ الترجيح أنها نزلت مع الآيات السابقة لها جملة واحدة. فإذا صحّت الرواية ولا مانع من صحتها فتكون الآية قد أشارت إلى هذا القول بسبيل الردّ عليه في سياق ما احتوته الآيات من ردود على أقوالهم الأخرى التي صدرت جميعها منهم قبل نزول الآيات.

وفي الآيتين [٣٣ ـ ٣٤] تكرار لحكاية قول الكفار بأن القرآن مخترع من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحدّ لهم تحدّيا ينطوي فيه ردّ وإفحام. ويلحظ أن التحدّيات السابقة تحدّتهم بالإتيان بمثل القرآن ثم بعشر سور على ما مرّ في سور الإسراء ويونس وهود. وهنا تتحدّاهم بحديث ما. وأسلوب المرات السابقة وأسلوب هذه المرة متوازيان يتضمنان تقرير عجزهم وقوّة الاستعلاء عليهم.

وتعبير (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) تقرير لواقع أمرهم عند نزول الآيات وسبب مواقفهم. وليس على التأييد لأن كثيرا منهم أسلم وحسن إسلامه على ما نبّهنا عليه في مناسبات سابقة.

تعليق على كلمة

كاهن ونسبة الكهانة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وكلمة (كاهن) ترد هنا لأول مرة. وقد قال بعضهم إنها عبرانية الأصل وهذا ما يقال في صدد كلمات عديدة غيرها مما مرّ التنبيه عليه. مع أن الكلمة كانت شائعة مستعملة قبل البعثة مع اشتقاقاتها مثل تكهن وكهانة وتعني التنبؤ بالغيب. وصيغها عربية فصحى. ولا يرد على هذا وجود الكلمة في العبرانية بنفس المعنى.

٣٦٦

فالعبرانية والعربية من أصل واحد فلا بدع أن تكون جذور الكلمات فيهما مشتركة.

وهي هنا في مقام تكذيب قول الكفار عن النبي إنه كاهن. وقد وردت في آية في سورة الحاقة في نفس المقام أيضا (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٤٢) والروايات العربية العديدة تفيد أنه كان يظهر بين العرب قبل الإسلام أشخاص يطلق عليهم هذا الاسم. وأن الناس كانوا يرجعون إليهم ليستفتوهم في حلّ بعض مشاكلهم وأحلامهم وكانوا يجيبونهم بالأجوبة المسجعة المطبوعة بطابع من الإلغاز والتعمية والروعة. وكان العرب يعتقدون أن للكهان صلة بالجنّ يوحون إليهم بالأجوبة ويخبرونهم بأخبار الغيب والسماء. وكان الكهان يسبغون على أنفسهم مظهرا من الخطورة التي تجعل العرب يعتقدون ذلك فيهم.

ولعلّه كان في بعضهم بعض المواهب والقوى الغامضة إذا ذاك والتي تفسر اليوم بالقوى المغناطيسية والكهربائية وتظهر بمظهر قراءة الأفكار والشعور من البعد والتأثير الروحاني فكانوا يفسرون ذلك بوحي الجنّ. وقد كان من النساء كاهنات كما كان من الرجال كهان. وقد رويت روايات عديدة عنهم وعن أقوالهم قد يكون فيها صنعة ومبالغة ولكن وجود أناس يتسمون باسم الكهان واتصاف الكهان بمثل هذه الصفات أمران لا شك فيهما ؛ لأن ذكر الكهان في القرآن دليل حاسم على ذلك. والظاهر أن العرب رأوا في النبي ودعوته والقرآن الذي يتلوه شيئا مما كان يبدو من الكهان فنسبوا إليه الكهانة فيما نسبوا. وقد نفى القرآن عنه ذلك في هذه السورة وفي سورة الحاقة كما نفى عنه السحر والشعر والجنون والاتصال بالجن في آيات عديدة في سور عديدة مرّت أمثلة منها نفي تزييف وتنديد وتسخيف.

واقتران النفي هنا بذكر نعمة الله يتضمن توكيد صلة النبي بالله وتسفيه رؤية صورة الكهان وسجعهم فيه وفيما يتلوه كما يتضمن التذكير بأن الكاهن لم يكن بسبيل الدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق ومحاربة الشرك والفساد والآثام وبأن قصارى ما عرف عن الكهان أنهم يجولون في نطاق وأفق ضيقين وفي سبيل العيش وليسوا هم بسبيل دعوة عظمى لا يطلب صاحبها عليها أجرا ولا مغنما.

٣٦٧

وهناك حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه : «من أتى عرّافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد» (١). والحديث وإن لم يذكر حكم الكاهن فالمتبادر أنه يشمله ضمنا. وكفر الذي يأتي الكاهن هو من كونه جاء إليه وهو يعتقد باطلاعه على الغيب وقدرته على النفع والضرّ. وهذا وذاك من خصائص الله تعالى ويكون الذي يعتقد بذلك في الناس مشركا بدون ريب. والكاهن بنصبه نفسه لهذه المهمة صار أولى أن يتّصف بهذا الوصف. والله تعالى أعلم.

هذا ، ولقد روي عن ابن إسحاق أن الكهانة عند الجاهليين كانت بمثابة الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى ، وهذا خطأ فيما هو المتبادر فإن الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى يتصفون بصفة دينية ويمارسون مهامّ دينية في حين أنه لم يرو أحد عن كهان العرب شيئا من ذلك.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)) [٣٥ ـ ٤٣]

(١) مغرم : أجر أو تكليف أو ضريبة.

(٢) يكتبون : هنا بمعنى يحكمون ويقضون.

وفي هذه الآيات أسئلة استنكارية أخرى فيها كذلك تنديد بعقائد الكفار

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠١ ، ويروي مؤلف التاج صيغة أخرى رواها الإمام أحمد جاء فيها : «من أتى عرّافا فسأله أو كاهنا فصدقه لم تقبل صلاته أربعين ليلة» وفرق عظيم في الحكم في الصيغتين. والأحاديث التي يرويها مسلم هي أصحّ وأوثق عند علماء الحديث. والله تعالى أعلم.

٣٦٨

ومواقفهم واعتدادهم وتهكم بهم وتحدّ لهم :

١ ـ فهل بلغ فيهم الاعتداد والتناقض إلى أنهم كادوا يظنون أنه لم يخلقهم خالق ، أو أنهم خلقوا أنفسهم ، أو خلقوا السموات والأرض ، أو ملكوا خزائن الله وسيطروا على ملكه حتى لم يعودوا يخشون نقمته.

٢ ـ أم لهم سلّم يصعدون عليه إلى السماء ويطّلعون على الغيب فعرفوا أنهم على حقّ واستغنوا بذلك عن رسالة الله بلسان رسوله وهلا تقدم الذي استمع إلى أخبار السماء واطلع على الغيب منهم فيدلي بما عنده من برهان.

٣ ـ أم تفوقوا على الله فكان نصيبهم البنين بينما جعلوا نصيبه البنات.

٤ ـ وهل عندهم علم الغيب فهم يقررون مصائر الناس ويقضون فيها بما يرون.

٥ ـ وهل رأوا رسولهم يسألهم أجرا على رسالته حتى يستثقلون الأمر ويعرضون عن دعوته إلى الحق والهدى.

٧ ـ وهل موقفهم منه بقصد الكيد له والنكاية به مع أن ذلك إنما هو الحقيقة كيد لأنفسهم.

٨ ـ وهل يعرفون إلها غير الله يلجأون إليه ويحتمون به حتى بلغت الجرأة فيهم هذا المبلغ تعالى الله وتنزّه عما يشركون.

وواضح أن الآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وقد جاءت قوية لاذعة منطوية على تقرير عجزهم وإفكهم وكذبهم فضلا عن السخرية والتنديد بهم. وفيها في الوقت نفسه تصوير لشدّة عناد ومكابرة المشركين وبخاصة زعمائهم.

وأكثر الأقوال والأسئلة والمواقف المحكيّة عن الكفار ورد في سور أخرى سابقة حيث يبدو أنها كانت تتكرر منهم أو تتجدد من قبل فريق بعد فريق فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرارها.

ولقد روى البخاري في سياق تفسير السورة حديثا عن جبير بن مطعم قال :

٣٦٩

«سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآيات : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٧] كاد قلبي أن يطير» (١) ، حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لما كان للآيات القرآنية الزاجرة من تأثير قوي في نفوس أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضوان الله عليهم.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)) [٤٤ ـ ٤٩]

(١) كسفا : قطعة.

(٢) مركوم : متراكم.

(٣) يصعقون : وردت في القرآن كلمة (فَصَعِقَ) (الزمر / ٦٨) بمعنى الموت من نفخة الصور ووردت كلمة (صاعِقَةً) (فصلت / ١٣) بمعنى عذاب الله. وعلى هذا فتكون الكلمة إما بمعنى الموت أو بمعنى عذاب الله.

(٤) بأعيننا : تحت نظرنا وملاحظتنا وحفظنا وعنايتنا.

وفي هذه الآيات :

١ ـ وصف لاستهانة الكفار بما ينذرون من عذاب الله حتى لو أنهم رأوا قطعة ساقطة من السماء عليهم لقالوا إنها ليست إلّا سحابا متراكما بعضه فوق بعض.

٢ ـ وأمر للنبي بأن لا يغتمّ بموقفهم وبأن يكلهم إلى الله ويدعهم وما هم فيه

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢١٩.

٣٧٠

من ضلال حتى يلاقوا اليوم الذي فيه يموتون ويصعقون بعذاب الله فيتحققوا حينئذ أنه لن يغني عنهم كيدهم ولا مكابرتهم شيئا ولن يجدوا لهم ناصرا.

٣ ـ وإنذار للزعماء الذين يتولّون قيادة المناوأة والمعارضة فإنّ لهم عذابا إضافيا آخر يتناسب مع عظم جرمهم ولو لم يحسبوا حسابه ويوقنوا به.

٤ ـ وحثّ للنبي على الصبر والثبات انتظارا لأمر الله وحكمه ، وتطمين بأنه موضع عناية الله ونظره وحمايته ولن يصيبه من كيدهم شيء. وعليه أن يستمرّ على حمد الله وتسبيحه والتمسك بحبله والاعتماد عليه في جميع أوقاته وحركاته وظروفه وحينما يقوم من مجلسه أو منامه وحينما يغشاه الليل وحينما تغيب النجوم ويسفر النهار.

والآيات كما هو واضح استمرار للسياق. وأسلوبها التطميني للنبي قوي. ولا شك في أنّ هذا الأسلوب التطميني الذي تكرر كثيرا لتكرر المناسبات كان مما يمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقوّة والتأييد والتحمل ويجعله يستمر في مهمته غير مبال بقوة الكفار وكثرتهم ويستغرق في عبادة الله وذكره وهو مطمئن بحسن العاقبة.

وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة. وطابع الختام ظاهر عليها وبخاصة على الآيتين الأخيرتين.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود من جملة (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) هو عذاب القبر قبل عذاب القيامة وروى عن ابن زيد أنه مصائب تصيب الذين ظلموا في الدنيا عقوبة لهم قبل عذاب الآخرة. ويتبادر لنا من تعبير (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) في مقامه أنها في صدد زعماء الكفار وأن الإنذار بعذاب إضافي أو متقدم عن عذاب الآخرة لأنهم لا يكتفون بالإعراض عن الدعوة بل يحملون غيرهم على ذلك. وفي آية سورة النحل هذه (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨) تدعيم لذلك. وقد يكون القول إن المقصود من العذاب المنذر به هو مصائب تصيب الظالمين في الدنيا عقوبة لهم هو الأكثر تناسبا مع ذلك. وفي هذا توكيد للتلقين القرآني الذي انطوى في الإنذار الرباني المتكرر.

٣٧١

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) حديثا عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلّا كان كفارة لما بينهما». وروى عن عائشة حديثا جاء فيه : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا افتتح الصلاة قال : سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك» حيث يفيد الحديث أن التسبيح المأمور به هو حين القيام للصلاة. وهناك من قال إنه المقصود هو تسبيح الله حين القيام من الفراش من النوم. وقد روى أبو داود «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده لا قوّة إلّا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأن الله قد أحاط بكلّ شيء علما ، فإنه من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح» (١). وعلى كل حال فإن الأمر بتسبيح الله عزوجل في كل ظرف مما تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة لأن فيه ذكر الله الذي تطمئن بذكره القلوب. وفي هذا ما فيه من مدد روحاني ومعالجة نفسانية.

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٩٩ ، وهناك أحاديث أخرى في تسبيح الله وذكره ، انظر ص ٩٦ وما بعدها من الجزء المذكور.

٣٧٢

سورة الملك

في السورة لفت نظر إلى عظمة الله وقدرته في مشاهد الكون ونواميسه ، وتقرير كون الله إنما خلق الناس وقدّر عليهم البعث بعد الموت لاختبارهم. وتذكير بأفضال الله ونعمه على الناس. ووصف لمصير الكفار والمؤمنين الأخروي ، وحملة تنديد وإنذار على الكفار وردود على ما كانوا يقولونه في مواقف الجدل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول بوحدة نزولها.

ولقد روى بعض أصحاب الكتب الخمسة بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك» (١). وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : «ضرب بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خباءه على قبر وهو لا يعلم فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ تبارك حتى ختمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٠.

(٢) المصدر نفسه.

٣٧٣

الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)) [١ ـ ٤]

(١) طباقا : قيل إنها بمعنى طبقات بعضها فوق بعض. وقيل إنها بمعنى متطابقة أي متشابهة أو متساوقة في الإتقان والنظام والانتظام.

(٢) ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت : لا ترى فيما خلق الله عدم تناسب وعدم انسجام.

(٣) فطور : صدوع أو شقوق أو خلل.

(٤) خاسئا : ذليلا منكسرا.

(٥) حسير : كليل أو تعب.

بدأت السورة بالثناء على الله. وهذا من أساليب النظم القرآني في مطالع سور عديدة ، وقد أعقب الثناء تنويه بمطلق تصرف الله عزوجل والإشارة إلى حكمته في خلق الناس وموتهم وبعثهم.

فلله التقديس والثناء. وهو الذي بيده ملك كل شيء المتصرف في هذا الكون تصرّفا مطلقا ، القادر على كل شيء قدرة شاملة تامّة. وهو الذي بيده الموت والحياة والقادر عليهما. وقد جعل ذلك وسيلة لاختبار الجنس البشري حتى يظهر الأحسن منهم عملا ، على غير حاجة وضعف لأنه قوي عزيز لا يدانيه في قوّته أحد وليس هو في حاجة إلى أحد ، والمتّصف مع ذلك بالغفران والصفح والتسامح. وهو الذي خلق السموات السبع بإتقان وانتظام وتطابق لا يمكن أن يرى الناظر إليها أي تفاوت أو تناقض أو صدوع أو شقوق أو خلل مهما دقّق في النظر وعاود التدقيق مرة بعد مرة وأجال النظر في جميع الأنحاء. ولن يلبث أن يرتدّ نظره ذليلا مذهولا حائرا كليلا مما يرى من العظمة ورائع الصنع والإتقان مستشعرا بعجزه عن درك الأسرار الربانية والإحاطة بها مستبينا ضالة شأنه إزاءها.

وأسلوب الآيات تقريري قوي موجّه إلى عقول السامعين وقلوبهم.

٣٧٤

وهي مقدمة لما يأتي بعدها من التنديد بالكفر وإنذار للكافرين. والسؤال والتحدي في الآيتين الأخيرتين يزيدان في قوة الصورة العظيمة التي رسمتها الآيات الأولى لمشاهد كون الله وفي تصوير شعور المرء بها وهو الشعور الدائم العام الذي لا يستطيع أحد أن يتفلت منه حينما يرسل ببصره إلى السموات ويتفكّر في عظيم الإبداع والإتقان والسعة التي لا يحصيها ذهن ولا يحيط بها بصر.

وواضح من أسلوبها أنها موجهة إلى جميع الأذهان استهدافا للتنبيه والاسترعاء والتذكير بعظمة الكون وخالقه وواجب الناس إزاءه. ومن الواجب أن تبقى في هذا النطاق لأن في إخراجها منه ابتعادا عن الهدف القرآني.

ولقد صرف بعض المفسرين عبارة الموت إلى العدم الذي يسبق الحياة ، وعبارة الحياة إلى الحياة الدنيا. والذي تلهمه الآية الثانية هو قصد بيان حكمة الله في خلق الناس وإماتتهم وإحيائهم ثانية وهو اختبارهم في الدنيا ومعرفة صالحهم من طالحهم. لتوفيتهم جزاء أعمالهم في الحياة الأخروية بعد الموت. وفيه ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى في كون الناس مدعوين إلى العمل الصالح والتسابق فيه وكون حكمة خلقهم أو تميزهم عن سائر خلق الله متصلة بذلك. وقد تكرر هذا أكثر من مرة في السور السابقة وكتبنا تعليقا على مداه في سياق سورة هود ، فنكتفي بهذا التنبيه.

ولقد روى البغوي عن كعب الأحبار في وصف السموات السبع أن الأولى موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر أو نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء. ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور. والتحفظ في مثل هذه الأحاديث أولى كسائر ما يورد على هامش ما يرد في القرآن من مشاهد الكون إذا لم يكن مستندا إلى أثر نبوي وثيق.

٣٧٥

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)) [٥]

(١) الدنيا : هنا بمعنى القريبة أو المواجهة للناس.

الآية معطوفة على الآيات السابقة ومتصلة بموضوعها : فقد زيّن الله السماء التي يراها الناس بمصابيح وجعل من هذه المصابيح في الوقت نفسه رجوما للشياطين الذين أعدّ الله لهم عذاب السعير في الآخرة أيضا.

ورجم الشياطين من السماء بالشهب قد تكرر ذكره وعلقنا على ذاتية الموضوع في سياق تفسير سورة الجن بما يغني عن الإعادة. وإذا كان من شيء يحسن أن يقال هنا هو أن من الممكن أن يستلهم من الآيتين وما قبلهما وما بعدهما قصد تقرير كون الله عزوجل بالمرصاد لكل من يجرؤ على حدوده ويقف منه موقف المتمرّد مهما خيّل للناس أنه قوي شديد كشياطين الجنّ مثلا الذين لهم في أذهان السامعين صورة ضخمة مفزعة. أما تزيين الدنيا بالمصابيح فهو تعبير متكرر ومتسق مع شعور الناس على اختلاف طبقاتهم بما تقع عليه أنظارهم من مشاهد السماء ونجومها وشهبها وبما في أذهانهم من ذلك بسبيل العظة والتنويه. ومن الواجب أن يبقى ذلك في هذا النطاق مثل سائر التعابير القرآنية المماثلة. ولقد تكرر في القرآن تقرير كون مصير الشياطين في الآخرة هو العذاب والنار مما مرّ منه أمثلة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا

٣٧٦

نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)) [٦ ـ ١١]

(١) شهيقا : هنا بمعنى الصوت القوي.

(٢) تكاد تميز من الغيظ : تكاد تتشقق أو تتفجر من الغيظ. والمقصد من الجملة وصف شدّة السخط على الكفار أو وصف شدّة النار.

(٣) إن أنتم إلّا في ضلال كبير : قيل إنها إجابة خزنة جهنم للكفار في معرض التنديد ، وقيل إنها تتمة حكاية كلام الكفار لرسلهم. والقول الثاني هو الأوجه في نظرنا.

وفي هذه الآيات إنذار للكافرين بالله وآياته : فلهم أيضا عذاب جهنم وبئست هي مصيرهم. وحينما يقبلون عليها سيرونها في حالة تبعث الرعب والفزع حيث يكون لها صوت مرعب من شدّة فورانها وتكاد تتشقّق وتتفجّر من الغليان أو سخطا على الكفار. وكلما ألقي فيها فوج منهم سألهم الموكلون بها سؤال المندد المقرع عمّا إذا لم يكن قد أتاهم نذير يعظهم ويخوفهم من هذا المصير فيجيبون إجابة المتحسّر النادم أنه قد جاءنا نذير فوقفنا منه موقف المكذّب وسفّهناه وأنكرنا أن يرسل الله رسلا للناس وقلنا له إنه في دعواه في ضلال كبير فاستحققنا هذا المصير. ولو كنا نعقل أو نسمع ما صرنا إليه. وهكذا يعترفون بما اقترفوه من ذنوب فسحقا لهم وبعدا.

والآيات معطوفة على سابقتها ومتصلة بها. ولعل عطف الكفار على الشياطين قد قصد به تشديد التقريع ؛ فهم من طبقة واحدة ومصيرهم واحد. والوصف قوي مرعب والمحاورة المفروض حدوثها لاذعة مستحكمة. ومن شأن ذلك إثارة الفزع والندم في الكفار وحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي

٣٧٧

البحتري الطائي قال : سمعت من سمع من رسول الله قوله : «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وحديثا آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل أحد النار إلّا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنّة» وهذا وذاك متساوق مع ما أخبر الله به من مما سيكون من اعتراف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم للنار. ومتصل فيما يتبادر لنا بالهدف الذي استهدفته الآيات.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)) [١٢]

احتوت هذه الآية بيان مصير المؤمنين الذي يتّقون الله وعذابه المغيّب عنهم ؛ مقابلة لبيان مصير الكفار جريا على الأسلوب القرآني. فإنّ لهم من ربّهم المغفرة والأجر الكبير. وفي الآية بشرى وتطمين وتثبيت للمؤمنين في الوقت نفسه.

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)) [١٣ الى ١٤]

المتبادر أن الخطاب في الآية الأولى موجّه للمكذبين ، وفي الآيات والحالة هذه عود على بدء إلى التنديد بالكفار وإنذارهم.

وقد تضمنت الأولى تحديا لهم : فسيّان عند الله أن تسروا ما تقولون أو تجهروا به فهو عليم به لأنه عليم بكل ما يجول في صدور الناس وأفكارهم. وتضمنت الثانية حجّة برهانيّة على ذلك : فالله هو الذي خلق الناس ومن الطبيعيّ أن يعلم أعمالهم وما يدور في أفكارهم وما تخفيه صدورهم. وهو اللطيف الذي يعرف دقائق الأمور ، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ

٣٧٨

رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)) [١٥]

(١) ذلولا : مسخّرة للانتفاع بها بيسر وسهولة.

(٢) مناكبها : أرجائها.

في الآية :

١ ـ تذكير بفضل الله على الناس بما كان من تسخيره الأرض وتيسيره الانتفاع بخيراتها ليسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه.

٢ ـ وتقرير بأن مرجع الناس إليه ليحاسبهم على أعمالهم.

وواضح أن الآية استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا.

تعليق على آية

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي

مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)

ومع أن من المحتمل أن يكون الخطاب فيها موجها للكافرين الذين هم موضوع الخطاب في الآيات السابقة فإنها تنطوي على ما هو المتبادر على تلقينات جليلة المدى :

١ ـ فقد سخّر الله الدنيا للجميع فليس لأحد أن يمنع أحدا من السعي في مناكبها والانتفاع منها.

٢ ـ وقد حثّ الجميع على السعي في مناكبها فليس لأحد أن يأكل سعي غيره أو يسلبه ثمرات سعيه ويقعد هو عن السعي.

٣ ـ وقد سخّر الدنيا ومنافعها لجميع الناس ولكنه نبههم إلى أن هذه المنافع لا تنال إلّا بالسعي والعمل.

٤ ـ وقد قرر أن الرزق الذي يستخرجه الناس من الأرض هو في الحقيقة

٣٧٩

رزقه لأنه هو الذي خلق مادته وأوجد القوى والأسباب التي تساعد على إخراجه ، فلا حقّ لأحد أن يدّعيه لنفسه أو يحتكره من دون الناس.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)) [١٦ ـ ٢٢]

(١) تمور : تتحرك وتضطرب.

(٢) حاصبا : رجوما من الحجارة.

(٣) نكير : نكيري أي إنكاري عليهم أو إرسال عذابي عليهم.

(٤) صافات : باسطات أجنحتهن.

(٥) يقبضن : يقبضن أجنحتهن حتى ليخيل للرائي أنهن يكدن يسقطن.

(٦) لجوا : تمادوا.

(٧) عتوّ : تمرّد وتكبّر.

(٨) نفور : إعراض وابتعاد.

(٩) مكبّا : منكبّا.

(١٠) سويّا : مستقيم القامة.

وهذه الآيات موجهة أيضا للسامعين الكافرين. وقد تضمنت :

١ ـ إنذارا بأسلوب سؤال إنكاري عمّا إذا كانوا آمنوا وهم يكذبون بآيات الله

٣٨٠