التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

للانتفاع. والجملة بمعنى أن الله يفعل ذلك على أحسن وجه.

(٥) زوجين : تأتي بمعنى صنفين وبمعنى نوعين وبمعنى ذكر وأنثى.

(٦) ففرّوا إلى الله : بمعنى سارعوا إلى الله بالتوبة هربا من غضبه.

في الآيات الثلاث الأولى : لفت لنظر السامعين إلى بعض مشاهد قدرة الله وأفضاله :

١ ـ فهو الذي رفع السماء وبناها بقوته.

٢ ـ وهو الذي بسط الأرض ومهدها على أحسن وجه.

٣ ـ وهو الذي خلق من كل شيء زوجين ليتم التماثل والتناسب في ملكوت الله. فهو ذو القدرة الشاملة الواسعة ، ولنعم الصنع صنعه والتمهيد تمهيده. وإن في كل هذا لتذكرة من شأنها أن تدعوا السامعين إلى التدبر في عظمة الله وآلائه والاعتراف بها.

ثم جاءت الآيتان الأخريان تعقبان على هذه الآيات وتهتفان بلسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن سارعوا والحالة هذه إلى الله وفروا من غضبه والمصير الرهيب الذي يستحقه الجاحدون ، وأن لا تدعوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين.

وقد جاءت الآيات الخمس عقب الفصل القصصي لتكون نتيجة له ومقررة بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بعث كما بعث الأنبياء وأن ما يدعو إليه هو ما دعوا إليه ومنذرة بمصير الجاحدين من الأمم السابقة.

والآيتان الأخريان وإن كانتا بأسلوب خطاب نبوي موجه للسامعين إلا أن انسجامهما في السياق ظاهر. والمفسرون يقدرون في مثل هذه الآيات محذوفا وهو (قل) ومثل هذا قد تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة بحيث يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ

٤١

هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)) [٥٢ الى ٥٥].

(١) أتواصوا به : هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول.

في الآيات :

١ ـ إشارة إلى أن الكفار في قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ساحر أو مجنون إنما يفعلون كما كان يفعل الذين من قبلهم حيث كانوا يقولون لكل رسول أتى إليهم مثل ذلك.

٢ ـ وتساؤل تعجبي عما إذا كان السابقون واللاحقون قد تواصوا ليقولوا قولا واحدا.

٣ ـ واستدراك تعليلي لذلك بأن الذين جمعهم على وحدة القول إنما هو الاتحاد في خلق الطغيان وسوء النية فالطبيعة الواحدة يصدر عنها مظهر واحد.

٤ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعرض عنهم فلا يحمّل نفسه همّا ، فإنه لا لوم عليه من جراء موقفهم الجحودي وعليه أن يستمر في التذكير الذي هو قصارى واجبه وهو نافع لمن أراد الحق والهداية ورغب في الإيمان حتما.

والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر. وقد احتوت تنديدا لاذعا بالكفار وتطمينا وتثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والآية الأخيرة بخاصة احتوت تنويها بالمؤمنين وذوي النيات الحسنة والرغبة الصادقة ، فهم الذين ينتفعون بالتذكير والإرشاد مما تكرر مثله في المناسبات السابقة.

وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى لدعاة الإصلاح والمرشدين ، فعليهم أن يستمروا في الدعوة ولا ييأسوا من بطء استجابة الناس لدعوتهم وإن دعوتهم لمؤثرة نافعة حتما في ذوي النفوس الطيبة والقلوب الصافية والنوايا السليمة.

٤٢

تعليق على آية

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ)

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتولي عن الكفار لا يعني الكفّ عن دعوتهم وإنذارهم ، فهذه مهمته. والآية التالية استدركت ذلك وأمرته بالاستمرار في التذكير وإنما فيه على ما يتبادر لنا معنى التسلية والتهوين والأمر بعدم المبالاة بإعراضهم وعنادهم مما مرّ منه أمثلة كثيرة.

ولقد روى المفسرون (١) أن الآية لما نزلت حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر. فأنزل الله الآية التالية فطابت نفوسهم وهذا يقتضي أن تكون الآيات قد نزلت منفصلة عن بعضها ، في حين أن الآيتين منسجمتان مع ما قبلهما وبعدهما انسجاما تاما مما يدل على أنها نزلت وحدة. والرواية التي يرويها المفسرون لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وليس فيها ما يوجب حزنا وغمّا في الوقت نفسه على ما هو المتبادر منها.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)) [٥٦ ـ ٥٨]

في الآيات تقرير بأن الله عزوجل إذ خلق الإنس والجن قد أوجب عليهم الاعتراف به وعبادته وحده. ولم يرد منهم رزقا ولا طعاما فإنه هو الرزاق القوي القادر المستغني عن كل شيء.

والآيات أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله في صورة تنديد لاذغ بالذين ينحرفون عنه ويجحدونه أو يشركون معه آلهة أخرى بينما هم يعترفون بأنه الذي خلقهم كما هو شأن مشركي العرب سامعي القرآن. فالله لم يخلقهم ليرزقوه وإنما

__________________

(١) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي وعبارة الثلاثة (قال المفسرون) والبغوي أقدمهم حيث توفي سنة ٥١٦ ه‍.

٤٣

ليعبدوه ويشكروه واتصالها بسابقاتها قائم بكونها أسلوبا من أساليب التذكير وحلقة من حلقات التعقيب على الآيات السابقة.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)) [٥٩ الى ٦٠]

(١) ذنوبا : نصيبا. وأصله الدلو العظيمة واستعمالها هنا يلهم أن السقاة كانوا يتبادلون في ملء الدلاء حتى صار اسم الدلو يقوم مقام الدور والحصة.

(٢) أصحابهم : بمعنى أمثالهم من كفار الأمم السابقة.

جاءت الآيتان خاتمة لآيات السورة والسياق وإنذارا قويا للكفار. وعودا على ما بدأت به السورة : فكما أن كفار الأمم السابقة قد نالهم نصيبهم من عذاب الله وبلائه فلسوف ينال الذين كفروا وبغوا وانحرفوا وجاروا من العرب نصيبهم أيضا. وهو آتيهم حتما فلا محل لاستعجال الله فيه ولسوف يكون يومهم الذي يوعدون به رهيبا شديدا.

والإنذار مطلق يصح أن يكون إنذارا بعذاب الدنيا أو الآخرة أو بالعذابين معا والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه تخويفهم وحملهم على الارعواء.

٤٤

سورة الغاشية

السورة فصلان متناظران ، أحدهما في الإنذار بيوم القيامة ووصف مصير وحالة المؤمنين والكفار فيه. وثانيهما في لفت نظر الناس إلى بعض مشاهد الخلق والكون الدالة على ربوبية الله وقدرته فيه معنى التنديد بالكفار مع بيان مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونها للتبليغ والتذكير وليست لإكراه الناس.

وأسلوب السورة ومضمونها مما يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)) [١ الى ١٦]

(١) الغاشية : كناية عن يوم القيامة حيث يدهم الناس ويغشاهم بغتة أو يشملهم.

(٢) خاشعة : ذليلة أو كسيرة من الذل.

(٣) عاملة ناصبة : مجهدة من التعب والنصب هو التعب الذي ينتج عن

٤٥

العمل الشاق ومما قيل في معناها (تكبرت عن طاعة الله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار).

(٤) آنية : شديدة الحرارة.

(٥) ضريع : نبات شوكي لا غذاء فيه حتى إن الأنعام لا ترعاه حينما ييبس حيث يصبح سمّا قاتلا على ما ذكره الزمخشري.

(٦) ناعمة : هادئة منشرحة من السرور والنعيم.

(٧) لاغية : لغو الكلام ؛ ضجيجه ورذيله.

(٨) نمارق : الوسائد والطراحات التي يجلس عليها.

(٩) زرابي : نوع من الأبسطة.

(١٠) مبثوثة : مفروشة أو ممدودة.

ابتدأت آيات السورة بسؤال موجه إلى المخاطب السامع أو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه معنى التنبيه والاسترعاء وتعظيم الأمر المسئول عنه عما إذا كان قد علم ما سوف يكون في يوم القيامة الذي يدهم الناس. وبدء السورة بالسؤال مما جرى عليه النظم في مطالع سور عديدة مرّت أمثلة منه.

ثم أخذت الآيات تصف حالة الناس في ذلك اليوم : فهناك وجوه يظهر عليها الذل والهوان والتعب والإجهاد تلفحها النار الحامية ولا يكون لأصحابها إلا الماء الشديد الحرارة شرابا ، وإلّا الضريع وأمثاله من النباتات التي تعافها الحيوانات طعاما لا تسمن ولا تغني من جوع. وهناك وجوه ناعمة وأثر السرور بالرفاه والرغد. قد رضي أصحابها عن سعيهم في الدنيا وتمتعوا بثوابه. فهم في الجنات العاليات ، لا يسمعون فيها لغو الكلام ورذله ، فيها العيون الجارية والأسرّة المنصوبة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة.

وواضح أن الآيات قد استهدفت التذكير بالآخرة والوعيد للكافرين والبشرى للمؤمنين والأوصاف مستمدة من مألوفات السامعين في الدنيا. لإثارة الخوف في الكافرين والغبطة في المؤمنين بما يعرفونه ويتأثرون به إقبالا وارتياحا ورغبة أو

٤٦

انقباضا واشمئزازا بالإضافة إلى حقيقة الآخرة الإيمانية.

ويلحظ هنا أيضا صور للحياة الأخروية مغايرة لصور أخرى في آيات أخرى ، ولقد علقنا على التباين والتنوع في هذه الصور بما رأينا فيه الكفاية في المناسبات المماثلة السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة فصلت فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.

هذا ، ويلحظ أن السور السابقة انتهت بإنذار الظالمين الكافرين باليوم الموعود وأن هذه السورة بدأت بوصف ما يكون الناس عليه في ذلك اليوم حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)) [١٧ ـ ٢٦]

(١) مسيطر : جبار وقاهر أو محاسب ومراقب.

(٢) إيابهم : مجيئهم ورجوعهم.

الضمائر في الآيات عائدة إلى الكفار على ما تلهمه عبارتها. وقد احتوت :

١ ـ تساؤلا ينطوي على التنديد والتعجب عما إذا لم يكونوا يرون في خلق الإبل وارتفاع السماء وانتصاب الجبال وتسطيح الأرض من عجائب شاهدة على وجود الله وعظمته وقدرته.

٢ ـ وأمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يستمر في التذكير والإنذار وتقريرا تطمينيا له بأن هذا هو قصارى مهمته. فهو مذكر وليس مسؤولا عن جحودهم وكفرهم أو مكلفا بالسيطرة عليهم وإجبارهم على الإيمان.

٤٧

٣ ـ واستدراكا بأن ذلك لا يعني عدم مسؤولية المعرضين عن دعوة الله الكافرين برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم سينالهم عذاب الله الأكبر الذي سوف يكون مرجعهم إليه وحسابهم عليه.

والآيات وإن بدت فصلا مستقلا عن الفصل السابق فالمتبادر أيضا أنها ليست منقطعة عنه ، فقد احتوى ذلك الفصل وصف مصائر الناس في يوم القيامة فجاء هذا الفصل للتنديد بالجاحدين منهم الذين يتغافلون عن مشاهد عظمة الله وقدرته ويتصاممون عن الدعوة إليه ويكفرون بنبيه وإنذارهم وتهوين موقفهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الاستدراك الذي احتوته الآية [٢٣] وعيد من جهة وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أخرى.

ومما يحسن لفت النظر إليه أن المشاهد التي احتوتها الآيات من المشاهد الواقعة تحت حسّ المخاطبين ونظرهم والمالئة أذهانهم بعظمتها ونفعها. وهو مما جرى عليه النظم القرآني لأنه أرعى إلى الانتباه وأدعى إلى النفوذ.

ومما يلحظ أن أسلوب الآيات المطمئنة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقررة بأنه ليس مسيطرا ولا جبارا ولا مسؤولا عن الناس وبأن قصارى مهمته التذكير والتبليغ قد تكرر في سور عديدة سابقة وفي السورة السابقة لهذه السورة مباشرة ما يدل على ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ظل يشعر به من ألم وحزن من عدم استجابة معظم الناس وما كان قد ظل يكلف نفسه به من جهد يكاد يفوق الطاقة البشرية إلى حد الأذى والشقاء في سبيل هدايتهم وإقناعهم.

تعليق على ما روي وقيل

في صدد الآيتين

(إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢)

أولا : قال المفسرون : إن هذه الآيات نسخت بآيات القتال ومثل هذا قيل في سياق آيات مماثلة أو قريبة مرّ تفسيرها. وقد علقنا على هذا في سورتي المزمل

٤٨

والكافرون بما يغني عن التكرار.

ثانيا : روى الترمذي في سياق تفسير الآيتين حديثا عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله ثم قرأ (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) (١). وليس في الحديث ما يفيد أنه صدر عند نزول الآيتين ، بل إنه يمكن القول بجزم أنه صدر في العهد المدني وبعد تشريع القتال. غير أن استشهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيتين يفيد أنه أراد أن يقول إن حساب الناس بعد أن يقولوا لا إله إلا الله ويعصموا بها دماءهم وأموالهم إلّا بحقها هو على الله وليس هو مسيطرا عليهم حتى يحاسبهم على غير ذلك. وفي هذا تلقين جليل المدى بكون الناس موكولين إلى دينهم وتقواهم وخشيتهم من الله فيما يكون منهم من أعمال غير معروفة. وأنه ليس للسلطان أن يتعقب الناس لاستكشاف خباياهم وأسرارهم إذا لم يكن دليل على ضرر محقق على أحد أو على أمن الناس والمصلحة العامة ، أما ما فيه ضرر محقق فهو ما عنته الجملة (إلّا بحقه) من الحديث حيث يكون للسلطان حقّ في عمل ما يجب عمله للقصاص والزجر واستيفاء الحق لصاحبه من المبطل الباغي.

ولقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود بدون ذكر صلته بالآيتين أو الاستشهاد فيه بالآيتين. وروي كذلك في مناسبة قتال أبي بكر رضي الله عنه للممتنعين عن الزكاة ، وعلقنا على ذلك في سور المزمل والكافرون بما يغني عن التكرار ويزيل اللبس في الحديث موضوعيا.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٥٨.

٤٩

سورة الكهف

في السورة حملة شديدة على الكفار ، ووصف لشدة عنادهم وجحودهم وما كان يحدثه هذا من حزن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإشارات إلى ما كان من استخفاف الكفار بشأن فقراء المسلمين واعتدادهم بثرواتهم وقوتهم ووصف لهول يوم القيامة ومصير الكفار والمؤمنين فيه. وأمثال ومواعظ في صدد الدعوة النبوية وتسفيه الاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الخير والصلاح. وقصص أصحاب الكهف وموسى مع العبد الصالح وذي القرنين تضمنت المواعظ والتذكير.

وآيات السورة متوازنة ، وليس بين فصولها تغاير أسلوبي بالرغم من تنوعها وهذا وذاك معا مما يبرر القول إنها نزلت متتابعة حتى تمّت.

ويروى أن الآيات [٢٨ و ٨٣ ـ ١٠١] مدنيات ، والسياق والأسلوب والمضمون يسوّغ الشك والتوقف في ذلك.

ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدّجّال» (١). وفي رواية : «من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجّال». وروى الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وفي رواية أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» (٢). وهناك نصوص أخرى مقاربة أوردها ابن كثير في مطلع تفسيره للسورة مروية عن الإمام أحمد بالإضافة إلى هذه النصوص.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٧ ـ ١٨.

(٢) المصدر نفسه.

٥٠

وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بدّ من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ. وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)) [١ ـ ٨]

(١) قيّما : قيل إنها بمعنى مستقيم لا اختلاف فيه. وقيل إنها بمعنى قوّاما على شؤون الدين وضابطا لها ، وقيل إنها بمعنى قوّاما مراقبا على الكتب السماوية الأخرى. والأول أرجح بقرينة جملة (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) التي هي بمثابة تفسير لها. وفي الآية تقديم وتأخير لحفظ الوزن وتقديرها : الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده قيما ولم يجعل له عوجا على ما ذكره جمهور المفسرين.

(٢) باخع نفسك : مهلك نفسك. وكلمة (أَسَفاً) راجعة إلى هذه الجملة وقد تأخرت عنها لحفظ الوزن أيضا. وهي بمعنى حزنا أو غضبا أو غمّا ، أي فلعلك مهلك نفسك من الحزن والغمّ عن عدم إيمانهم بكلام الله.

(٣) صعيدا جرزا : الصعيد (الأرض) أو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا حياة أو لا نبات فيه ، أو لا ينزل عليه مطر من البلاء.

٥١

بدأت السورة بحمد الله ، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مرّ منه بعض الأمثلة.

واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشّر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا ، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم ، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.

والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبهه إلى ما يحمل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها ، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.

والقسمان متصلان ببعضهما من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.

وفحوى الآية [٤] ثم الآية [٥] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى ، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.

والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس هو إلّا نذير ، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.

ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم وأنهم راجعون إليه. وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم

٥٢

هذه المعاني ، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.

وينطوي في جملة (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) تقرير كون الله عزوجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها ، وحملهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة ، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة ، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ

٥٣

بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)) [٩ الى ٢٦].

(١) الكهف : المغارة.

(٢) الرقيم : قيل إنه اسم لجبل أو لواد وقيل إنه بمعنى المكتوب من الرقم وإنه لوح وجد في مقبرة أصحاب الكهف مكتوب فيه أسماؤهم وقصتهم وهو الأوجه.

(٣) أوى : دخل ولجأ.

(٤) فتية : شباب.

(٥) ضربنا على آذانهم : جعلناهم يفقدون الوعي فلا يسمعون.

(٦) أحصى : أكثر إحصاء وحسابا وعلما.

(٧) ربطنا على قلوبهم : ثبتناهم وصبّرناهم.

(٨) شططا : بعدا عن الحق.

(٩) إذ اعتزلتموهم : ضمير الجمع الغائب راجع إلى الفتية. والجملة من

٥٤

حكاية ما دار بينهم من حديث في صدد انحراف قومهم نحو الشرك.

(١٠) مرفقا : بمعنى فرج أو نجاة.

(١١) تزاور : تميل.

(١٢) تقرضهم : تعدل عنهم.

(١٣) في فجوة منه : في ساحة من ساحاته أو متسع منه.

(١٤) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود : تظنهم وهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال أنهم أيقاظ مع أنهم نائمون.

(١٥) بالوصيد : بالباب.

(١٦) بعثناهم : أيقظناهم.

(١٧) ورقكم : عملتكم الفضية.

(١٨) أزكى طعاما : أطيب طعاما.

(١٩) وليتلطف : ليتحفظ وليحذر من إشعار الناس بهم.

(٢٠) إن يظهروا عليكم : إن يكشفوا أمركم.

(٢١) أعثرنا عليهم : جعلنا قومهم يعثرون عليهم.

(٢٢) الذين غلبوا على أمرهم : كناية عن أصحاب السلطة والحكم.

(٢٣) فلا تمار فيهم : فلا تجادل في أمرهم أو فلا ترتب في أمرهم.

(٢٤) أبصر به وأسمع : ما أشدّ بصره وما أشدّ سمعه أو شديد السمع والبصر.

يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم ، وتعليقا عليها.

وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده ، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم ، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلط الله عليهم نوما طويلا جدا ، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما

٥٥

تطلع وحينما تغرب حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا ، لئلا تتهرّأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة ، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف ، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين ، وظنّ أحدهم أنها يوم أو بعض يوم ، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيّب ، ووصّوه بالتحفظ والحذر لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم ، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم ، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة ، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ، حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفّاهم الله عقب انكشاف أمرهم.

أما التعليق فهو :

١ ـ حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ، وفريق إنهم خمسة سادسهم كلبهم ، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى ، وبالقول إنه لا يعلمهم إلّا قليل من الناس وبألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا ، وبألا يسأل عنهم أحدا من السامعين ، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.

٣ ـ وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.

٤ ـ وأمر آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السموات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.

٥٦

تعليقات على آيات قصة

أصحاب الكهف والرقيم

ولقد تعددت روايات المفسرين (١) عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير. والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس وأنهم ثمانية أشخاص وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس (٢) وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم ، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك وأزهق أرواح كثير منهم وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظنّ بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلّا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم ـ يمليخا ـ إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مرّ عليها مئات السنين ، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة ،

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

(٢) انظر الطبري.

٥٧

وكانوا كذلك من النصارى ، فاطمأنّ وقصّ عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله ، وازدادوا إيمانا بالبعث ، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه ، ثم لم يلبثوا أن توفّاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا ، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرّا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.

هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين أولاهما معنى الرقيم وثانيهما مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف ، وأنه قريب من الأيلة دون فلسطين حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.

ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته ، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا ، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك ، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق النصارى

٥٨

الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤ ـ ٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره ، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض ، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا (١).

ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [٨٥] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عزوجل لا يعجزها شيء ، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بدّ من أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.

__________________

(١) انظر الجزء الثاني من المجلد الثالث من تاريخ المطران الدبس والجزء الثاني من المجلد الرابع أيضا.

٥٩

ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب ، ومما ينطوي فيه حكمة الإيحاء بما أوحى به من صورها.

فهناك تماثل بين الفتية المؤمنين وقومهم المشركين وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه الذين كان عدد كبير منهم من شبان قريش الذين كان آباؤهم مشركين مناوئين للدعوة المحمدية وكانوا يتعرضون لأذى آبائهم واضطهادهم بقصد ردهم إلى الشرك بعد الإيمان ، والبعث والنشور والجزاء الأخروي من أهم ما كان يثير الجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين. والقصة قد احتوت خبرا فيه آية من آيات الله تتصل ببعض مشاهد البعث بعد الموت في واقعة شوهدت من قبل جمهور عظيم من الناس وتنوقلت أخبارها العجيبة.

وفي كل هذا مواضع للعبرة والتطمين والأسوة والإنذار والتدعيم كما هو واضح ، ويلفت النظر بخاصة إلى الآية [٢١] حيث احتوت إشارة إلى أن العثور على الفتية بعد أن استيقظوا وماتوا كان وسيلة لجعل الناس يتيقنون بأن وعد الله حقّ وأن الساعة آتية لا ريب فيها مما هو متصل بما نقرره.

كذلك يلفت النظر إلى أن الآيات الأولى من السورة حملت على الذين يقولون إن لله ولدا وإن هذه القصة النصرانية التي جاءت على أثرها تقرر أن الفتية كانوا يؤمنون بالله وحده وأن هذا الإيمان هو الذي جعلهم موضع عناية الله ورحمته. فقد يلهم هذا وجود صلة بين آيات القصة ومطلع السورة ويلهم أنها قد توخّي فيها التدعيم للدعوة النبوية. وبخاصة التوحيد الذي لا شائبة فيه ولا تأويل ، ومن الجدير بالذكر أن الخلاف كان مستشريا بين فرق النصارى منذ القرن الميلادي الأول حول المسيح حيث كان بعضهم لا يسوّي بين المسيح والله ولا يعتقد ببنوته الطبيعية له كما كان يعتقدها بعضهم ، وبعضهم يعتبره بشرا مرسلا من الله ولد بمعجزة وبعضهم يعتبره رمزا لله وحسب على ما شرحناه وأوردنا شواهده ومصادره

٦٠