التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)) [٧٧ ـ ٨١]

(١) من جلود الأنعام بيوتا : تعني خياما من الجلد.

(٢) يوم ظعنكم : يوم ارتحالكم.

(٣) أصوافها وأوبارها وأشعارها : الصوف للضأن والأوبار للإبل والشعر للماعز.

(٤) أثاثا : هناك من قال إنه المال عامة وهناك من قال إنه أثاث البيت ومتاعه. والعبارة هنا تعني لوازم اللباس والبيت معا.

(٥) أكنانا : جمع كن ، وهو ما يستكن فيه ويلجأ إليه من شدة الحر.

(٦) سرابيل : الأولى تعني الثياب التي يكتسي ويتسربل بها الإنسان ، والظاهر أن الكلمة تطلق على عامة أنواع اللباس. والثانية كناية عن الدروع ومعدات الدفاع.

في الآيات عود على بدء في صدد التنويه بقدرة الله وتعداد آياته وفضائله لعل الناس يعقلون ويسلمون ويشكرون. والخطاب فيها معه للسامعين إطلاقا :

١ ـ فعند الله علم كل ما خفي عن الناس من شؤون السماوات والأرض.

٢ ـ والساعة قريبة آتية وليس ذلك عند الله إلّا كلمح البصر أو أقرب فهو القادر على كل شيء.

٣ ـ وهو الذي أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعرفون شيئا وجهزهم بالسمع والأبصار والعقول ليتعلموا ويتفكروا ويسمعوا ويبصروا مما يوجب له عليهم الشكر والعرفان.

١٦١

٤ ـ وإن لمن دلائل قدرته وبديع نواميس كونه أن يجعل الطير قادرة على التقلب في جو السماء دون أن تسقط ، مما فيه آيات لمن صدقت رغبته في الإيمان.

٥ ـ وهو الذي يسّر للسامعين أسباب اتخاذ البيوت لتكون لهم سكنا ويسّر لهم أسباب اتخاذ بيوت من جلود الأنعام خفيفة النقل عليهم في حلّهم وترحالهم ويسّر لهم أسباب صنع ما يحتاجون إليه من أثاث ولباس ومتاع من صوفها ووبرها وشعرها.

٦ ـ وجعل لهم مما خلق من شجر وجبال ما يستظلون به لاتقاء حرارة الشمس وجعل لهم من الجبال أكنانا يستكنون بها لذلك أيضا ، ويسّر لهم أسباب صنع الثياب لاتقاء الحرّ والبرد وأسباب صنع الدروع وغيرها لوقاية أنفسهم في ظروف الحروب والقتال.

٧ ـ وبذلك كله يتم نعمته عليهم لعلهم يعترفون بفضله ويشكرونه ويسلمون وجوههم إليه وحده.

والصلة قائمة واضحة بين الآيات والسياق السابق. والخطاب فيها موجه إلى العقول والقلوب معا بأسلوب نافذ. وإذا كان ما عددته مستمدا مما كان يمارسه العرب من حياة ووسائل فلأنهم أول من خوطبوا به. غير أن ما تعنيه من التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ونواميسه في الكون مما يستقيم توجيهه إلى كل الناس في كل وقت ومكان أيضا. وقصد استرعاء الأذهان والأسماع والتدليل على قدرة الله وإحاطته بكل شيء وإتقان نواميس الكون وأسباب الحياة ، ودعوة الناس إلى التفكير بما يتمتعون به من أفضال الله وشكره واستحقاقه وحده للاتجاه إليه وإسلام النفس له قوي ظاهر.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)) [٨٢ ـ ٨٣]

١٦٢

الآية الأولى موجهة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التطمين والتسلية : فإذا كان من السامعين من يكابر في قدرة الله ويعرض عن دعوته فليس عليه إلا التبليغ والبيان.

والآية الثانية احتوت تقريرا لواقع السامعين وتنديدا بهم فهم يعرفون أن ما يتمتعون به من نعم وأسباب ووسائل هي من فضل الله وتيسيره ومع ذلك فإن أكثرهم ينكرون بأفواههم وأفعالهم ويكفرون بالله ونعمه.

ولقد روى ابن كثير عن مجاهد أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فقرأ عليه : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) فقال الأعرابي : نعم ، قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) الآية ... قال الأعرابي : نعم ، ثم قرأ عليه كل ذلك ، يقول الأعرابي نعم حتى بلغ (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) فولّى الأعرابي فأنزل الله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها).

والرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والمتبادر أن الآيتين جاءتا تعقيبا على الفصل السابق للتنديد بالكفار وإلزامهم بالحجة. والآية الثانية قوية الحجة والإلزام والتنديد معا. لأن الكفار كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المنعم المتفضّل الذي هو الملاذ والملجأ وكاشف الضرّ على ما مرّت حكايته عنهم في آيات كثيرة.

ويقف مفسرو الشيعة عند الآية الثانية ليرووا أنها نزلت للتنديد في كبار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين كانوا يعرفون نعمة الله في اختصاص علي وأولاده من بعده بإمامة المسلمين فأنكروها وصار أكثرهم كافرين (١). والهوى والحقد الحزبيان مع المفارقة العجيبة طابع هذه الرواية كما هو شأن ما يرويه مفسرو الشيعة من أمثالها. وتبدو المفارقة شديدة حينما يلاحظ أن الآية مكية ويعظم إثم روايتهم ومفارقتهم إذا ما لوحظ أنهما يهدفان إلى تكفير جمهور أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ١٦٩.

١٦٣

وفي مقدمتهم معظم كبارهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في أواخر ما نزل من القرآن في أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي في آية سورة التوبة هذه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠).

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)) [٨٤ ـ ٨٩]

(١) شهيدا : جمهور المفسرين على أنها هنا تعني الأنبياء وقد حكت بعض الآيات حضورهم يوم القيامة كشهود على حساب أممهم ومرّت أمثلة منها.

(٢) لا يستعتبون : لا يطلب منهم إبداء الأعذار أو لا يقبل منهم طلب العتبى والاستقالة من الذنب.

(٣) ينظرون : بمعنى يمهلون.

(٤) فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون : الضمير في (ألقوا) راجع إلى الشركاء. وهم الملائكة على الأرجح وقد حكت بعض الآيات سؤال الله للملائكة يوم القيامة عما إذا كان المشركون يعبدونهم وجواب الملائكة بنفي ذلك وتكذيبه.

(٥) وألقوا إلى الله يومئذ السلم : الضمير هنا راجع إلى الكفار. والجملة

١٦٤

بمعنى تقرير إعلانهم الاستسلام والاعتراف بذنوبهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها.

(٦) وصدوا عن سبيل الله : منعوا الناس عن سبيل الله.

في الآيات حكاية لما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة :

ففي ذلك اليوم تقف كل أمة موقف القضاء والمحاسبة ويؤتى بنبيها شهيدا على ذلك ، ولن يؤذن لها بالجدل ولن يقبل منها أعذار. ولسوف يصيرون إلى عذاب شديد ليس إلى تخفيفه عنهم أو تأجيله سبيل. وحينما يرون شركاءهم يهتفون قائلين ربنا هؤلاء هم الشركاء الذين ضللنا بسببهم فيكذبهم الشركاء ويجحدونهم فيقعون حينئذ في الخيبة ويفقدون كل أمل أملوه ولا يجدون مناصا من الاستسلام والاعتراف بذنوبهم. ولسوف يكون عذاب الذين لا يكتفون بالكفر بل يحملون غيرهم عليه مضاعفا وزائدا على عذاب عامة الناس بسبب ما كان منهم من فساد وصدّ عن سبيل الله ، وحينما يأتي بشهداء كل أمة يأتي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على أمته أيضا.

وقد انتهت الآيات بالفقرة الأخيرة لبيان مهمة النبي : فالله قد أنزل عليه الكتاب ليكون فيه البيان الشافي لكل أمر والتوضيح الكافي لكل حدّ حتى لا يبقى حجة لأحد ولا معذرة وليكون فيه الهدى والرحمة والبشرى للمسلمين.

والآيات معقبة على سابقاتها والاتصال بالسياق قائم. وقد استهدفت فيما استهدفته إنذار الكفار وتخويفهم وحملهم على الارعواء. وكثير مما جاء فيها قد ورد في آيات أخرى في سور سبق تفسيرها. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الموصوف فيها فإن صورة القضاء والمحاسبة والشهود هي من مألوفات الدنيا. وقد يكون من حكمة ذلك قصد التقريب والتمثيل على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة.

ولقد روى الطبري عن مجاهد في سياق جملة (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ)

١٦٥

أن الله تعالى يسلّط عليهم حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم ، ولم يرد هذا في أحاديث صحيحة. والأولى الوقوف عند مدى العبارة القرآنية وهو أن الصادين عن سبيل الله سيكون عذابهم زائدا على غيرهم.

تعليق على جملة

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً

وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)

وقد يرد أن ما نزل من القرآن بعد هذه السورة شيء كثير وفيه كثير من التشريعات والتلقينات والمبادئ والأحداث فكيف يصح أن تذكر الفقرة الأخيرة أن في الكتاب الذي قد يعني ما نزل منه إلى هذه السورة تبيانا لكل شيء. وليس في هذا الوارد شيء ففي ما أنزل الله قبل هذه الآية من الأسس والمبادئ والتلقينات والمواعظ والبراهين على وجوب وجوده ووحدانيته واستحقاقه وحده للخضوع ما يصح أن يقال إنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين. والكتاب كما يطلق على ما نزل من القرآن إلى هذه الآية يطلق على مجموعه. والله عليم بما سوف ينزل بعدها وليس في علم الله سابق ولا حق حتى يصحّ ذلك الوارد.

هذا ، ونقول في نفس الجملة إن الذي يقرأ القرآن بتدبر وإمعان وتكون عنده رغبة صادقة في الحق ولا يكون مبيتا للمكابرة والعناد ومتمحلا بتمحلات سطحية وشكلية وثانوية إزاء بعض التعبيرات والصور القرآنية المتشابهة مما قد لا يدرك حكمتها العقول العادية يظهر على صدق التقرير الذي احتوته حيث يجد فيه حقا كل هدى ورحمة وبشرى وتبيان. ويرى في ذلك أعظم نعمة أنعمها الله على بني آدم ويرى من تمام هذه النعمة أن حفظه الله كما بلغه رسوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ليظل دائما المورد الصافي الذي يجد فيه كل الناس في كل زمان الشفاء والهدى والرحمة والبشرى والبيان الواضح وكل ما فيه صلاح ونجاة وسعادة البشر في الدنيا والآخرة من أسس ومبادئ وتشريعات وتلقينات وأحكام وكل ما فيه حل لكل مشاكل الإنسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية في

١٦٦

كل مكان وزمان وظرف. ولقد انطوى في الجملة في الوقت نفسه دعوة لكل الناس في كل زمن ومكان للنظر فيه ليجدوا ذلك. ولقد أوّل جمهور المفسرين (١) جملة (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) بمعنى بيان ما الناس في حاجة إليه من طرق الهدى والضلال والخير والشر والحلال والحرام والحق والباطل والحدود والأحكام. وفي هذا من الوجاهة ما يتسق مع أهداف القرآن وما لا يتعارض مع ما ذكرناه آنفا. وعلى كل حال فمن الواجب أن تبقى الجملة في هذا النطاق مع عدم فصلها عما سبقها ولحق بها وعدم الخروج بها إلى قصد تبيان نظريات الكون ونواميسه وموجوداته وأحداثه مما يحاوله بعض المسلمين استنباطا من إشارات القرآن الوعظية والتمثيلية والتذكيرية. لأن في هذا كثيرا من التمحل كما فيه إخراج للقرآن عن قدسيته وأهدافه السامية.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)) [٩٠]

تعليق على الآية

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...)

تضمنت الآية تقريرا بأن الله يأمر بالعدل والإنصاف والمساواة ويأمر بما هو فوق ذلك أيضا وهو الإحسان وإيتاء ذي القربى. وينهى عن كل ما فيه فحش ومنكر من قول وعمل وعن كل ما فيه بغي على الناس وعدوان وظلم وجور. وانتهت بتوجيه الخطاب إلى السامعين القريبين بأن الله يعظهم بذلك لعلهم يتذكرون ويعلمون ما يجب عليهم ويعملون به.

ولم يرو المفسرون مناسبة للآية. ويتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآية السابقة لها لتحتوي فصلا من فصول الكتاب التي ذكرت هذه الآية أن فيه تبيانا

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي والقاسمي إلخ.

١٦٧

لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.

والآية من جوامع الكلم القرآنية الرائعة فيما يجب أن يفعله المؤمن وينتهي عنه تجاه مجتمعه أفرادا كانوا أو هيئات وتجاه أقاربه.

فالمتبادر أن العدل في الآية في مقامه وبخاصة والآية مكية لم يقصد به العدل في القضاء أو لم يقصد به ذلك وحسب بل قصد به العدل المطلق الذي يتناول معاني الإنصاف وعدم الإجحاف وعدم تجاوز الحق قولا وفعلا في كل موقف ومناسبة. ومن هذا الباب جملة (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [الأنعام : ١٥٢] من سورة الأنعام على ما نبهنا عليه في مناسبتها. وقد تكرر هذا المعنى في آية رائعة في سورة المائدة وهي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨) حيث يكون هذا من المبادئ المحكمة التي يجب على المسلم أن يلتزم بها في كل حال. وهناك آيات في صدد العدل في القضاء وقد تركنا التعليق عليها إلى مناسباتها.

وتعبير الإحسان في الآية جدير بالتنويه بنوع خاص حيث ينطوي فيه إيجاب معاملة المسلم للناس معاملة قائمة على التسامح والتحاسن وعدم الوقوف عند حدّ الواجب من الحق والعدل على اعتبار أن هذا الواجب واجب لا فضل له في أدائه وإنما الفضل والمكرمة فيما يفعله فوق ذلك. وقد روى الطبري أن ابن مسعود كان يقول عنها إنها أجمع آية في القرآن لخير أو لشر. وعن قتادة أنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلّا أمر به فيها وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلّا نهى عنه وتقدّم فيه وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. وقد أورد ابن كثير في سياقها بعد إيراد ما رواه الطبري حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله يحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها» وأورد قصة تذكر أن أكثم بن صيفي حكيم العرب المشهور في الجاهلية أرسل رسولين ليأتياه بنبإ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعث فسألاه عن أمره فأخبرهما باسمه ونسبه ثم تلا عليهما هذه الآية

١٦٨

فردداها حتى حفظاها ورجعا فأخبرا أكثم وتلوا عليه الآية. فقال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا.

و (وَالْإِحْسانِ) بخاصة يمكن أن يدخل في أي مجال ويبدو في أي عمل. فعبادة الله تعالى على أوفى ما يكون من هدوء وطمأنينة واستغراق. والتصدق بأكثر ما يمكن ويجب. والتعفف عن استيفاء المباحات من اللذائذ والشهوات ، والتجمل بالصبر عند الشدائد. والعناية بتطييب نفس الفقير والمحتاج عند مساعدتهما. والتعالي عن مقابلة السباب والمهاترات والخصومة الشديدة. والتسامح في معاملة الناس والصبر عليهم والإغضاء عن تقصيرهم وعدم الإلحاح في مقاضاة ما يكون عليهم من حقوق وإتقان العامل عمله تلقائيا واهتمام المرء الشديد للقيام بواجبه وحفظ مواعيده ووعوده وعهوده وبعده عن مواقف التهم إلخ إلخ ... ما يمكن أن يكون من آثار ومظاهر هذا الأمر الرباني العظيم. وهناك حديث ذو دلالة عظمى في هذا الباب رواه الخمسة عن شداد بن أوس قال : «شيئان حفظتهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» (١).

هذا ، ولم يترك مفسرو الشيعة ورواتهم هذه الآية حيث روى الطبرسي عن أبي جعفر أن المراد بذي القربى فيها قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (هم نحن). وقد فندنا صرف هذه الكلمة في الآيات المكية بخاصة إلى أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سياق تفسير سورة الإسراء فلا نرى ضرورة للإعادة.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٩٦.

١٦٩

أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)) [٩١ ـ ٩٧]

(١) كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا : كالتي حلّت ما غزلت من خيطان وجعلته كما كان بعد أن غزلته وقوي بالغزل والإبرام.

(٢) دخلا : بمعنى دغلا أو خديعة أو مكرا.

(٣) أربى : أكثر أو أقوى.

شرح الآية

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ...)

والآيات السبع التالية وما فيها من تلقينات

الخطاب في الآيات لمخاطبين سامعين ، وفي بعضها ما يدل على أن المقصودين هم المسلمون ، وقد تضمنت الأوامر والتنبيهات التالية :

١ ـ يجب عليهم الوفاء بما عاهدوا الله عليه ، وأقسموا الأيمان باسمه على الوفاء لا سيما أنهم بأيمانهم قد جعلوا الله عليهم كفيلا.

٢ ـ وعليهم أن يذكروا دائما أن الله رقيب عليهم يعلم جميع ما يقولونه ويفعلونه.

٣ ـ وعليهم أن لا يكونوا كالحمقاء التي تغزل الغزل حتى إذا قوي بالبرم

١٧٠

عادت فنكثته وجعلته فتائل كما كان قبل الغزل.

٤ ـ وعليهم أن لا يجعلوا أيمانهم وعهودهم وسيلة للتغرير والخداع وأن لا ينقضوها كمن يفعل ذلك مداراة لقوم يظنون أنهم أكثر وأقوى من الذين حلفوا لهم وعاهدوهم.

٥ ـ وليعلموا أن الله يختبر أخلاقهم وأعمالهم في ما يعرض لهم من أحداث ثم يبين لهم يوم القيامة أعمالهم ويوفيهم عليها بما يستحقون.

٦ ـ وليعلموا كذلك أن الله لو شاء لجعل الناس على وتيرة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يتركهم لقابلية الاختيار التي أودعها فيهم فيهدي بها من أراد الهدى ويضل بها من أراد الضلال. ولذلك فهو لا بدّ من أن يسألهم يوم القيامة عما كانوا يفعلون ويختلفون فيه ويحاسبهم عليه.

٧ ـ وعليهم ـ للمرة الثانية ـ ألا يتخذوا أيمانهم وعهودهم وسيلة خداع وتضليل. ففي ذلك تورّط وسقوط بعد الطمأنينة والوثوق ، وفيه صد عن طريق الله حيث يجعل الناس لا يثقون في أيمان بعضهم لبعضهم باسم الله.

٨ ـ وعليهم ألا تغريهم المنافع العاجلة فينقضوا عهودهم التي عاهدوا عليها باسم الله ، فذلك خير لهم لو علموا لأن ما عند الناس ينفد مهما عظم والباقي الدائم هو ما عند الله ومن واجب الإنسان ـ وبخاصة المسلم ـ أن يفضل الدائم الذي هو عند الله على الزائل الذي هو عند الناس.

٩ ـ ولقد كتب الله على نفسه بأن يجزي الذين يثبتون على الحقّ والعهد بأحسن ما عملوا وبجزاء يفوق قيمة عملهم ، وأن يحيي كل مؤمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى الحياة السعيدة الطيبة في الدنيا وأن يجزيه في الآخرة بأحسن أعماله وبجزاء يفوق قيمتها كذلك.

ولقد روى الطبري في صدد الآية [٩١] روايتين أولاهما أنها نزلت في الحلف الذي كان مشركو قريش تحالفوا عليه في الجاهلية فأمرهم الله عزوجل أن

١٧١

يوفوا به في الإسلام (١). وثانيتهما أنها نزلت في جماعة بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام في مكة مهيبة بهم إلى عدم التراجع والنقض بحجة ضعف النبي وأصحابه وكثرة المشركين.

وروى الطبرسي في سياق الآيات [٩٥ ـ ٩٧] عن ابن عباس أن رجلا من حضرموت اسمه عبدان شكى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شخصا اسمه امرؤ القيس بأنه أخذ أرضا له فلما فاتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا أنكر فطلب منه أن يحلف فقال عبدان إنه فاجر لا يبالي أن يحلف ، فقال : إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه فلما قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزلت : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) إلى آخر الآيتين ... فقرأهما رسول الله فقال امرؤ القيس : أما ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها فنزل فيه (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) الآية.

ومقتضى رواية الطبرسي أن تكون الآيات الثلاث مدنية لأن الحادث لا يمكن أن يكون حدث إلّا في العهد المدني. ولم نطلع على رواية تؤيد ذلك فضلا عن أنه لا تفهم حكمة وضع آيات مدنية في سياق متصل يوافق كفار مكة. والآيات بعد معطوفة على ما قبلها ومنسجمة معها سبكا وموضوعا مما يسوغ التوقف في صحة الرواية. وكل ما يمكن أن تكون الآيات تليت في ظروف الحادث المروي فالتبس الأمر على الرواة. وروح الآيات ونصها يسوغان استبعاد رواية الطبري الأولى. والآيات التي تجيء بعد هذه الآيات بقليل تجعل احتمال صحة رواية الطبري الثانية قويا على ما سوف نشرحه بعد.

على أننا ننبه أولا على أن الآية منسجمة مع سائر الآيات نظما وموضوعا

__________________

(١) المتبادر أن المقصود بهذا الحلف هو الحلف الذي عرف بحلف الفضول والذي انعقد بين بطون قريش لمنع المظالم في حرم الله. وقد شهده النبي عليه‌السلام ، وروي عنه فيه حديث جاء فيه : «ما أحبّ أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم وأني أغدر به ولو دعيت به لأجبت» انظر طبقات ابن سعد ج ١ ص ١١٠ ـ ١١١.

١٧٢

بحيث يسوغ القول إنها لم تنزل وحدها وإنما نزلت الآيات جميعا معا. وثانيا على أنه يلمح شيء من الصلة الموضوعية بين هذه الآيات والآية السابقة من حيث إنها احتوت مثلها تبيانا بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من أخلاق وأفعال. وقد تكون الآية السابقة نزلت هي الأخرى مع هذه الآيات لتوكيد القصد الذي تضمنته الرواية الثانية بالإضافة إلى المقاصد الأخرى التي شاءت حكمة التنزيل أن تنطوي في الآيات.

ومع خصوصية الآيات الزمنية ودلالتها على خطورة الموقف الذي نزلت في شأنه مما تضمنته الرواية الثانية التي رجحنا صحتها ومما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل فإنها فيما احتوته من أوامر وتنبيهات تعدّ من روائع المجموعات القرآنية في بابها وتنطوي على تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى على ما هو واضح من الشرح المتقدم.

وعبارة الآية [٩٦] هي أسلوبية كما هو المتبادر بسبيل القول إن ما يمكن أن يعود على ناقض عهد الله من عوض ومنفعة من الناس مهما عظم يبقى قليلا بالنسبة لما عند الله وليست بسبيل التحذير من بيع عهد الله بالثمن القليل. وهي على ضوء هذا التوضيح جليلة المدى في صدد حثّ المسلم على الثبات على العهد الذي يكون عاهد الله عليه حينما أمن به وحده وصدق برسالة رسوله وما قد يقتضيه ذلك من التضحية بأي نفع دنيوي لأن الباقي هو ما عند الله وأن ما عند الناس مهما عظم فهو إلى زوال.

والآية الأخيرة من الآيات جديرة كذلك بالتنويه بصورة خاصة حيث تضمنت أولا وعد الله عزوجل بالحياة السعيدة والأجر العظيم لمن آمن وعمل صالحا من ذكر أو أنثى ، وثانيا نصّا صريحا باعتبار المرأة والرجل سواء في التكاليف ونتائجها في الدنيا والآخرة أيضا مما احتوت آيات عديدة سابقة ، إشارة إليه على ما نبهنا عليه سابقا ومما احتوت آيات كثيرة آتية أحكاما كثيرة فيه على ما سوف نشرحه بعد بحيث يصح أن يقال بجزم إن ذلك من المبادئ القرآنية المحكمة.

١٧٣

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى (الحياة الطيبة) منها أنها السعادة والقناعة واللبس الحلال والأكل الحلال في الدنيا ومنها أنها حياة الجنة الأخروية. ويتبادر لنا من الآية وشطرها الثاني أن المقصود من العبارة وهي الحياة الطيبة في الدنيا التي يمكن أن تكون السعادة والطمأنينة والرزق الحلال.

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)) [٩٨ ـ ١٠٥]

(١) إذا بدّلنا آية مكان آية : قيل إنها بمعنى إذا بدّلنا آية قرآنية بآية غيرها وقيل إنها بمعنى إذا بدّلنا حكما أو أمرا بحكم أو أمر آخر.

(٢) القدس : بمعنى المنزّه عن الرجس أو المطهّر.

(٣) يلحدون إليه : هنا بمعنى ينسبون إليه تعليم النبي.

في الآيات :

١ ـ أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعاذة بالله من وساوس الشيطان حينما يتلو القرآن.

٢ ـ وتوكيد بأنه ليس للشيطان أي تسلط وتأثير على الذين آمنوا بالله وتوكلوا

١٧٤

عليه وإنما تسلطه وتأثيره على الذين يتولونه ـ أي يتخذونه وليّا من دون الله ـ وينقادون لوساوسه ويشركونه مع الله.

٣ ـ وإشارة إلى ما كان يقوله الكفار إذا ما سمعوا النبي يقرأ آية بدلا من آية أو رأوه يبدل أمرا أو حكما قرآنيا أو خبرا قرآنيا بآخر حيث كانوا يقولون : إنه هو الذي يخترع القرآن ويفتريه قاصدين بذلك ـ على ما هو المتبادر ـ أن يقولوا : إنه لو كان وحيا من الله لما وقع تبديل وتغيير.

٤ ـ ورد عليهم بأن الله هو أعلم بما يوحى به إلى النبي وحكمته وأن القائلين لا يستطيعون أن يدركوا ماهية وحي الله ولا حكمته.

٥ ـ وأمر للنبي بأن يؤكد بأن ما يتلوه من القرآن هو وحي ربانى ينزل به روح القدس من الله بالحق ليثبت المؤمنين وليكون هدى وبشرى للمسلمين سواء أكان الأصل أو المبدل.

٦ ـ وإشارة أخرى إلى ما كان يقوله الكفار أيضا من أن شخصا معينا هو الذي يعلم النبي وردّ عليهم بأن لسان هذا الشخص أعجمي ولغة القرآن عربية مبينة فصحى فلا يصحّ في العقل أن يكون هذا القرآن العربي الفصيح تعليما من ذلك الشخص الأعجمي اللسان.

٨ ـ وتنديد بالكفار وإنذار لهم : فالذين لا يؤمنون بآيات الله لن ينالوا توفيقه وتسديده ولهم عنده العذاب الأليم وهم الكاذبون المفترون.

تعليق على آيات

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)

وما بعدها إلى آخر الآية [١٠٥]

ولم نر فيما اطلعنا عليه رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. مع أن روحها بمجموعها تلهم أنها نزلت في صدد حادث له صلة بالقرآن ، وأن الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان حينما يقرأ القرآن ، وتوكيد كون الشيطان ليس له

١٧٥

سلطان على المؤمنين ، وتوكيد نزول القرآن على قلب النبي بواسطة الروح القدس من عند الله متصل بهذا الحادث.

وقد تلهم الآيات أن الله أوحى إليه ببعض الآيات لتكون مكان آيات أخرى فلما تلا الجديدة وأهمل الأولى المنسوخة استغل الكفار ذلك فأخذوا يدللون به على كذب دعوى النبي بأن القرآن وحي رباني وينعتونه بالمفتري على الله ويقولون إن هناك شخصا يعلّمه. ولعلّهم قالوا فيما قالوه إن الشيطان هو الذي يوسوس له أو يلقي عليه لا وحي الله وإن هذا التبديل دليل على ذلك. ولعل بعض الذين بايعوا النبي على الإسلام والذين لم يكن الإيمان قد رسخ في قلوبهم تأثروا بهذا الحادث وبدعاية الكفار فارتدوا أيضا ، وهذا ما تدل عليه الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات. فاقتضت حكمة التنزيل بالرد عليهم بما جاء في هذه الآيات ، ونفي تعلّم النبي من الشخص المزعوم ونفي تأثير الشيطان على النبي وأمره بالاستعاذة إلى الله منه. والآيات في جملتها تقصد إلى تطمين النبي والمؤمنين وتثبيتهم والردّ على الكفار والتنديد بهم.

وإلى هذا فقد احتوت تلقينات مستمرة المدى سواء أفي تطمين المؤمنين المخلصين من أنه لا سلطان للشيطان عليهم أم في وجوب الاستعاذة بالله منه حينما يتلو المسلم القرآن أم في توكيد كون الذين لا يوفقهم الله ولا يسعدهم ولا يهديهم هم الذين فقدوا الرغبة في الحق والهدى والإيمان وكون هؤلاء هم وحدهم الذين يجرؤون على الافتراء على الله.

والمتبادر أن رمي الكفار بالشرك بالشيطان وتوليه وحصر تأثيره فيهم هو من قبيل الردّ والتشنيع. وقد تكرر هذا في مناسبات عديدة بهذا القصد مرّت بعض أمثلة منها ولقد كانوا يفهمون مفهوم كلمة الشيطان ويعرفون أنها بغيضة على ما شرحناه في تفسير سورة التكوير فلزمتهم الحجة والتنديد.

والآية [١٠٥] جديرة بالتنويه بما انطوى فيها من تقرير كون الافتراء والكذب لا يمكن أن يقعا إلّا من غير المؤمنين. ولقد روى البغوي في سياقها حديثا رواه

١٧٦

بطرقه عن عبد الله بن جراد قال : «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك. قلت : المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك. قلت : المؤمن يكذب؟ قال : لا. قال الله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحته محتملة ، وهو رائع قوي متساوق مع التلقين المنطوي في الآية.

مسألة النسخ في القرآن

وما ورد في الآية [١٠١] من إشارة إلى تبديل آية مكان آية وما في آية سورة البقرة هذه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [١٠٦] صار موضوع بحوث في صدد النسخ والتبديل في القرآن (١).

فهناك من لا يرى مانعا عقليا ولا نقليا من النسخ ويستند في الدرجة الأولى على ظاهر هذه الآيات. ومن هؤلاء من يأخذ ببعض الروايات فيقول إن بعض آيات نسخت تلاوة وبقيت حكما وهي آية رجم الزناة المحصنين التي اختلف في نصها حيث روي هكذا : «إذا زنى الشيخ والشيخة فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وهكذا : «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة والله عزيز حكيم». ومنهم من يقول : إن بعض الآيات نسخت حكما وبقيت تلاوة مع اختلاف بينهم في هذه الآيات حيث يزيد بعضهم فيها وينقص بعضهم ومن الأمثلة على ذلك الوصية للوالدين في آية سورة البقرة هذه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠)

__________________

(١) انظر تفسير هاتين الآيتين في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وانظر الجزء الأول من تفسير القاسمي ص ٣٢ وانظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٨ والنسخ بمعنى إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه. أو بمعنى كل شيء خلف شيئا أو كل شيء نقل عن شيء. وفي (ننسها) قراءتان واحدة من النسيان أي نجعلها منسية وأخرى من الإنساء (ننسئها) بمعنى نؤخرها أو نتركها بدون بدل.

١٧٧

التي نسخت في آية سورة النساء هذه التي عينت للوالدين نصيبا من تركة أبنائهما : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) [١١] والآيات التي فرضت على المسلمين تقديم صدقة بين يدي نجواهم الرسول ثم ألغتها في سورة المجادلة وهي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٣) ومثل الآيات التي قررت أن المسلمين يقدرون أن يقاتلوا عشرة أضعافهم مما خففت ذلك إلى الضعف في سورة الأنفال هذه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦). ومنهم من يأخذ ببعض الروايات فيقول إن بعض آيات كانت تتلى ثم نسخت تلاوة وحكما وهي آيات الرضاعة حيث روي أنه كان في القرآن آية تعيّن عدد الرضعات التي يحرم بها النكاح (عشر رضعات معلومات) ثم نسخن بخمس رضعات معلومات ثم نسخن تلاوة وحكما. ومنهم من يأخذ ببعض الروايات فيقول : إنه كانت آيات تتلى ثم نسخت أو أنسيت مثل آيات يروى أنها كانت تتلى في سورة البينة وهي : (لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيا وإن سأل ثانيا فأعطيه سأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفره) ومنها آيات في إحدى سور المسبحات وهي : (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) ومنها هذا النص : (جاهدوا كما جاهدتم أول

١٧٨

مرة) ومنها هذا النص (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) ومنها سورة برمتها كانت تتلى في القنوت في الوتر وتسمى سورة الحفد والخلع.

وليس ما أوردناه من أمثلة هي كل ما روي عن الناسخ والمنسوخ في القرآن. فهناك أولا روايات كثيرة جدا غير ما أوردناه وبخاصة في نسخ أحكام آيات بآيات أخرى وهناك ثانيا اختلاف بين أهل التأويل والاستنباط وعلماء القرآن ومفسريه حيث يثبت بعضهم نسخا فينكره بعضهم بالنسبة لكثير من روايات الناسخ والمنسوخ (١). وقد اعتنى بعضهم بهذا الأمر لما له من صلة بالتشريع الإسلامي والتنزيل القرآني وأدى ذلك إلى تصنيف مصنفات عديدة فيه (٢).

ولقد جاء جذر النسخ في القرآن في معنى الإزالة كما هو في آية سورة البقرة [١٠٦] التي أوردناها قبل وكما هو في آية سورة الحج هذه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) [٥٢] وفي معنى آخر وهو التسجيل والكتابة كما جاء في آية سورة الجاثية هذه : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩) وآية سورة الأعراف هذه : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤). وواضح أن موضوع الكلام هو المعنى الأول. غير أن الذين قالوا بجواز النسخ في القرآن لم يقفوا فيه عند هذا المعنى الذي ينطبق على نوع واحد من أنواع الأمثلة المتقدمة وهي رفع النصّ القرآني بالمرة. بل جعلوه شاملا للتعديل الذي شاءت حكمة الله إدخاله على

__________________

(١) انظر الأبواب الثاني والثالث والرابع من كتاب النسخ في القرآن للدكتور مصطفى أبي زيد.

(٢) انظر الباب الثاني من الكتاب نفسه.

١٧٩

أحكام النصوص أو تبديلها مع إبقاء النصوص المعدلة والمبدلة أيضا كما هو واضح في بعض الأمثلة بحيث يقال : إنهم عنوا مدى الكلمة أكثر من معناها الحرفي. وهناك من لم ير سواغا للنسخ بجميع الأشكال المذكورة ويرى ذلك غير متسق مع علم الله وحكمته وفيه معنى (البداء) أي بدا لله أن يرجع عما أنزل وقدّر وينزهه عن ذلك وينكر الروايات التي لا تستند في الحقيقة إلى إسناد قوي ، باستثناء رواية الرجم التي رواها أصحاب الصحاح الخمسة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (١) ويؤول ما ظاهره يدل على أنه ناسخ أو منسوخ. غير أن الجمهور على أنه ليس من مانع عقلا ونقلا من النسخ بمداه وليس بمعناه الحرفي فقط تلاوة أو حكما وأن ذلك لا يعني البداء فالله هو الحكيم المقدر الذي ينزل ما شاء ويبدل ما شاء بمقتضى حكمه وأن ذلك متسق مع حكمة الله التي تقضي بتغير الأحكام بتغير الظروف.

والبداء في القرآن جاء بمعان متنوعة ، فجاء بمعنى الظهور بعد الخفاء مثل ما في آية طه هذه : (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [١٢١] وبمعنى الظهور بدون توقع مثل ما في آية سورة الزمر هذه : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [٤٧] وبمعنى تبديل رأي برأي أو موقف بموقف لأسباب طارئة مثل ما في آية سورة يوسف هذه : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥) وعلى كل حال فكل من هذه المعاني يستتبع أن يكون ظهور بعد خفاء وعلم بعد جهل وحدث غير متوقع وكل هذا محال على الله عزوجل. غير أن الذين يسوغون النسخ بمداه يقولون إنه لا يعدو أن يكون الأمر

__________________

(١) هذا نصّ الحديث قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب وهو على منبر رسول الله : إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها وو عيناها وعقلناها فرجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف (انظر التاج ج ٣ ص ٣).

١٨٠