التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

العاص جاء فيه : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (١). كما أوردوا حديثا فيه حكم نبوي في حادث مشابه للحادث الذي روته القصة ، حيث روي : «أنّ ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا ـ أي بستانا ـ فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار وضمان ما أفسدته المواشي فيها بالليل على أصحابها» (٢) فصار ذلك تشريعا إسلاميا يحكم به قضاة المسلمين حيث كانوا يبرئون صاحب الماشية إذا دخلت الأرض نهارا ويضمنونه ما أفسدته إذا دخلتها ليلا.

ولقد روي عن الحسن في سياق هذه الآيات قوله : «لو لا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه ـ يعني سليمان ـ وأثنى على هذا باجتهاده ـ يعني داود» وأن الله اتخذ على الحكام والحكماء ثلاثا أن لا يشتروا بآيات الله وعهده ثمنا. ولا يتبعوا الهوى ولا يخشوا أحدا وهو ما جاء في آية سورة ص هذه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [٢٦] وفي آية سورة المائدة هذه (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [٤٤] وفي آية سورة البقرة هذه : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [٤١] وهناك حديث نبوي سيق في هذا السياق رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (٣).

هذا ولقد أورد المفسرون (٤) في سياق تفسير هذه السورة وعلى هامش هذه الآيات أيضا بيانات مسهبة عن تسخير الجبال والطير لداود وتعليمه صنعة الدروع.

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ٥٩.

(٢) ورد هذا الخبر في تفسير الطبري والبغوي مرويا عن سلمة عن ابن اسحق عن الزهري عن حرام عن محيصة بن مسعود راوي الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) أورد هذا الحديث مؤلف التاج أيضا انظر ج ٣ ص ٥٣.

(٤) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

٢٨١

وعن تسخير الريح والشياطين لسليمان والبساط العظيم الذي كان يمتطيه هو ورجال دولته وجنوده وينتقلون عليه من صقع إلى صقع. والأبهة العظيمة التي كانت لمظاهره وما كان الجن يصنعون له من عظائم معزوة إلى علماء التابعين والأخبار مشوبة بالخيال والغلوّ وإن كانت تدور في نطاق ما جاء في القرآن من قصص داود وسليمان. وفيها على كل حال كما قلنا في المناسبات السابقة دلالة على أن هذه القصص مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس له مصدر إلا اليهود وما كان في أيديهم من أسفار لم تصل إلينا. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة أننا لم نر طائلا من إيراد ذلك لأنه غير متصل بالهدف القرآني الذي هو العبرة والموعظة وأننا نفضل الوقوف عند ما شاءت حكمة التنزيل ذكره في القرآن منها.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)) [٨٣ ـ ٨٤]

وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة أيوب وما كان من الضرّ الذي أصابه واستغاثته بالله وحده وما كان من رحمة الله به جزاء إخلاصه في العبادة.

وهدف التذكير والعبرة فيها واضح. ولقد ذكرت قصة أيوب في سورة ص بشيء من التفصيل وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.

ولقد أورد المفسرون في هذه السورة أيضا في سياق هذه القصة بيانات مسهبة منها ما هو متطابق مع ما جاء في سفر أيوب ومنها غير المتطابق. ولم نر إضافة شيء جديد على الخلاصة التي أوردناها في سورة ص لأننا لم نر من ذلك طائلا في هدف القصة. [٨٥ ـ ٨٦]

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

٢٨٢

وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل وما كان من صبرهم ورحمة الله بهم لصلاحهم وإخلاصهم.

وهدف التذكير والعبرة فيها واضح أيضا. وقد ذكر الأنبياء الثلاثة في سور أخرى سابقة وعلقنا على شخصياتهم بما يغني عن تعليق جديد.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)) [٨٧ ـ ٨٨]

(١) ذا النون : النون بمعنى الحوت. والجملة كناية عن يونس عليه‌السلام على ما هو المتفق عليه. وقد ذكر في سورة القلم بصيغة (صاحب الحوت).

(٢) إذ ذهب مغاضبا : إذ خرج من بلده غاضبا وساخطا. وقد ذكرنا ما رواه المفسرون وما ورد في سفر يونان من سبب غضبه في سياق سورة الصافات ، فلا ضرورة للإعادة.

(٣) فظن أن لن نقدر عليه : أوجه التأويلات على ضوء ما ورد من قصته في سورة الصافات أنه ظنّ أن لا يلحقه غضبنا إذا ترك قومه وفرّ. فلما لحقه غضبنا وجعلنا الحوت يلتقمه أدرك خطأه وندم وهتف من باطن الحوت وهذا معنى (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) إنه من الظالمين فتاب الله عليه ونجاه من الغم.

ولقد قلنا في التعليق إن قصة أيوب عليه‌السلام مفصلة في سفر مسمّى باسمه من أسفار العهد القديم. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الحلقة بيانات مسهبة مروية عن علماء الصدر الإسلامي الأول منها المتطابق مع هذا السفر ومنها غير المتطابق وفيها على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة. ومصدر ذلك هو الجاليات الكتابية على ما هو المتبادر. ولقد

٢٨٣

أوردنا ما رأيناه مفيدا وكافيا عن القصة ونبهنا على ما فيها من عبر ومواعظ في سياق تعليقنا الأول فنكتفي بهذه الإشارة.

وهذه حلقة سابعة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة يونس وما كان من اعترافه بخطئه وظلم نفسه واستغاثته بربّه وهو في بطن الحوت واستجابة الله له وتنجيته من كربه لأنّ من دأب الله سبحانه أن ينجي المؤمنين.

وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات. وقد ذكرت قصة يونس بشيء من الإسهاب في سورة الصافات وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. ولقد روى المفسرون (١) في سياق هذه الآيات بيانات مسهبة عن قصة يونس منها ما هو المتطابق مع سفر يونان ومنها غير المتطابق. وفيه على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس له مصدر إلّا الأسفار التي كانت متداولة في أيدي الكتابيين من يهود ونصارى. ولم نر طائلا ولا ضرورة إلى زيادة شيء جديد على ما أوردناه من هذه القصة في سياق سورتي القلم والصافات.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)) [٨٩ ـ ٩٠]

وهذه حلقة ثامنة فيها إشارة إلى ما كان من دعاء زكريا واستجابة الله له وهبته له ابنا رغم شيخوخته وعقم زوجته لأنهم كانوا يسارعون في عمل الخير ويدعون ربهم راجين رضاءه خائفين من غضبه وكانوا خاشعين له.

وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات أيضا. وقصة زكريا ذكرت بشيء من التفصيل في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.

__________________

(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

٢٨٤

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)) [٩١]

(١) التي أحصنت فرجها : كناية عن مريم.

وهذه حلقة تاسعة وأخيرة فيها إشارة إلى مريم وابنها الذي ولدته نتيجة لنفخ الله فيها من روحه وما كان في ذلك من المعجزة التي جعلها الله للعالمين ليشهدوا فيها مظهرا من مظاهر قدرة الله.

تعليق على قصة مريم وجملة

(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا)

وقصة مريم وولادتها لعيسى قد ذكرت بشيء من الإسهاب في سورة مريم. وقد علّقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. إلّا أن نقول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تذكر هذه القصة في سورة مريم عقب ولادة يحيى ذكرت هنا عقب ذلك أيضا حيث أريد هنا كما أريد هناك تقرير كون كل من الولادتين معجزة ربانية فلا ينبغي أن يترتب على معجزة ولادة عيسى اتخاذه إلها أو ابنا لله بمعنى النبوة.

ونقطة أخرى في الآيات تأتي لأول مرة وهي جملة (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا). وقد عبر عن ذلك في آية سورة آل عمران بجملة (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [٤٥] وفي آية في سورة النساء بجملة (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [١٧١] وفي آية سورة التحريم بجملة (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [١٢] وتعليقا على ذلك نقول إن القرآن استعمل تعبير (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [٧٢] في صدد خلق آدم في سورة ص ، وتعبير (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) في صدد خلق الإنسان في سورة السجدة الآية [٩] هذا أولا.

٢٨٥

وثانيا : إن القرآن ذكر في سورة مريم أن روح الله تمثل لمريم بشرا ليهب لها غلاما ولم يذكر أسلوب الهبة. وروح الله في سورة مريم يعني على ما تلهمه العبارة بكل قوة بل وصراحة ملك الله وبين هذا وبين (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) و (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] فرق واضح.

وثالثا : إن القرآن لم يذكر في سورة آل عمران في سياق ذكر قصة ولادة عيسى نفخا ولا روحا مرسلا وإنما بشرى من الملائكة بكلمة الله كما ترى في هذه الآيات : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧).

ورابعا : إن روح الآيات التي وردت فيها هذه التعبيرات تلهم قصد تقرير كون خلقة عيسى عناية ربانية ومعجزة ربانية ونفي أي جزئية إلهية عنه وقصد تقرير كون عيسى عبدا من عباد الله ورسوله ولا يصح أن يكون ولدا له أو مندمجا معه في الألوهية أو صورة من صورها وتنزيه الله عن هذه المعاني وتقرير وحدانيته وكمال صفاته كما جاء ذلك في آيات سورة النساء هذه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [١٧٢].

فالواجب والحالة هذه الوقوف عند الحدّ الذي وقف عنده القرآن دون تزيد مع ملاحظة ما تلهمه روح الآيات ومع اعتبار أن التنوع الذي يبدو في التعبيرات هو بقصد التقريب والتمثيل وملاحظة أن ما قصد تقريره متصل بالدعوة النبوية إلى الله

٢٨٦

وحده وتنزيهه عن الولد والشرك بأي معنى من المعاني وصورة من الصور وأن الله ليس كمثله شيء وأن كل صفاته وما يصحّ أن ينسب إليه أو يعبر به عنه بما في ذلك تعبير (روحنا) و (روحه) و (روحه منه) بمعنى حياته يجب أن يكون مندمجا في معنى وضابط ليس كمثله شيء وأن عدم المماثلة مما يمتنع أن يكون شيء ما منه منتقلا إلى غيره.

ولقد جاء وفد من نصارى نجران إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة فتناظر معه في أمر عيسى عليه‌السلام فقرر لهم ما جاء عنه في السور المكية مثل سورة مريم وسورة الأنبياء التي نحن في صددها فأصرّوا على عقيدتهم فقال لهم (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١) كما أمرته آية سورة آل عمران [٦١] فأحجموا ثم قالوا له : ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته؟ قال : بلى فقالوا هذا حسبنا كأنهم رأوا فيه حجة عليه فأنزل الله فيما أنزل في صدد هذه المناظرة آية سورة آل عمران هذه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) (١) [٧] كأنما أريد أن يقال فيها ردا على قولهم إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط من ذلك حجة على أنه ابن الله أو جزء منه أو صورة عنه. فهذا تمحّل في التأويل ابتغاء تبرير الهوى والباطل وغير متسق مع المحكم من القرآن الذي يقرّر بصراحة وقطعية أن الله واحد لا شريك له ولا ولد وأنه ليس ثالث ثلاثة وأن المسيح ليس إلها ولا ابنا لله ولا صورة عنه ولا جزءا منه. وكل ما في الأمر أنه يقرر كون ولادته معجزة ربانية بالأسلوب الذي يمكن أن يعبر به عن ذلك بلسان البشر. حيث ينطوي في هذا توكيد لما قلناه من أن العبارة القرآنية هي للتقريب والتمثيل.

__________________

(١) اقرأ تفسير سورة آل عمران في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والمنار.

٢٨٧

هذا ، ويحسن أن نزيد على ما قلناه في سياق كل حلقة أن تعبير (التنجية) لأنبياء الله و (استجابة الله) لهم وعنايته بهم بسبب إخلاصهم وصبرهم وخشوعهم وعبادتهم وشكرهم قد تكرر في هذه الحلقات : مما قد يجعل من مقاصد تشجيع النبي والمسلمين وتطمينهم والتنويه بهم ودعوتهم إلى التأسي بأنبياء الله.

والسورة بعد مما يقدر أنها نزلت في الثلث الأخير من العهد المكي الذي ماتت فيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت من أعظم مشجعيه ومؤاسييه في مواقفه العصيبة ، ومات فيه كذلك أبو طالب عمّه ومناصره حيث يحتمل أن يكون ضغط زعماء المشركين قد اشتد واشتد نتيجة لذلك غمّ النبي وخوف المؤمنين فجعله هذا كما روته الروايات يذهب إلى الطائف لعلّه يجد نصيرا ويتصل بزعماء القبائل في المواسم وبزعماء الأوس والخزرج أهل يثرب من أجل ذلك وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الحلقات بما فيه البشرى والتطمين بالنجاة والنصر (١).

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)) [٩٢]

(١) أمتكم أمة واحدة : أولا الأمة هنا بمعنى الملّة أو الطريقة أو الدين والجملة بسبيل الإيذان بأن ملّة المسلمين أو دينهم أو طريقتهم وملّة أنبياء الله السابقين أو دينهم أو طريقتهم واحدة لا تعدد لها. وثانيا قرئت التاء بأمتكم وأمّة بالفتح وقرئت بالضم وقرئت تاء أمتكم بالضم وتاء أمة بالفتح. وفي القراءة الأولى تكون أمتكم بدلا من (هذه) التي هي في مقام اسم إن وتكون أمة بدلا من أمتكم أو في مقام الحال ويكون خبر (إن) مقدرا وهو غير متفرقة. وفي القراءة الثانية تكون أمتكم خبر إن وتكون أمة بدلا من أمتكم. وفي القراءة الثالثة تكون أمتكم خبر إن

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٥ ـ ٣٨.

٢٨٨

وأمة في مقام الحال على ما علّله المفسرون ، وكل من هذه التعليلات وارد والله أعلم.

هذه الآية موجهة على ما يبدو من ضمير الجمع المخاطب إلى النبي والمؤمنين كالتفات وتعقيب بعد سلسلة قصص الأنبياء. واحتوت هتافا لهم بأن طريقة عبادة الله وحده والخضوع له وحده والإخلاص له وحده والاستعانة به وحده وعمل الصالحات والخيرات التي سار عليها أنبياء الله هي الطريقة الوحيدة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها ويثبتوا فيها.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)) [٩٣ ـ ٩٥]

في الآية الأولى : إشارة إلى ما كان من افتراق الناس واختلافهم في أمور دينهم وملتهم وتقرير بأن الجميع راجعون إلى الله.

وفي الآية الثانية : إشارة إلى الفريق الذي سار على الطريقة القويمة وآمن بالله وعمل الصالحات وتقرير بأن عمله لن يضيع وأن الله قد سجله له.

وفي الآية الثالثة : إشارة إلى الفريق الذي انحرف عن الطريقة القويمة فاستحق غضب الله وهلاكه ؛ فإنها بعد أن يكون هلاك الله حل فيه لا يقبل منه رجوع ولا توبة.

أما الآية الثالثة فقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لها (١). منها أن القرى التي يهلكها الله تعالى لا يرجع منهم راجع ولا يتوب منهم تائب ومنها أنه محرم عليهم أن يرجعوا إلى دنيا. ومنها أن القرى التي استحقت هلاك الله فأهلكها لم يكن مقصورا رجوعها وإنابتها إلى الله.

__________________

(١) انظر تفسيرها في كتب الطبري والبغوي والطبرسي والزمخشري.

٢٨٩

ومنها أن القرى التي أهلكها الله لا يبقى منهم أحد وفي هذا تخويف لأهل مكة. والتأويل الأخير وتعليله هما الأوجه فيما يتبادر لنا. وقد خطر لنا تأويل آخر أن القرية التي حقّ عليها القول قد فاتتها الفرصة فلم يبق لها مجال لرجوع وتوبة. وفي هذا كذلك إنذار وتخويف لكفار العرب.

والآيات جاءت معقبة على الآية السابقة كما هو المتبادر وقد توخى فيها على ما تلهمه روحها تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتبشيرهم وتطمينهم بحسن العاقبة مع تنبيه وإنذار للكفار بأنهم يوشكون أن يضيعوا الفرصة فيندمون ولات ساعة مندم. وهذا التنبيه والإنذار قد انطويا في آيات عديدة ومرّت أمثلة منها في سور سابقة.

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)) [٩٦ ـ ٩٧]

(١) من كل حدب : من كل مرتفع والمقصد من كل جهة.

(٢) ينسلون : يأتون ويسرعون.

في الآيتين توكيد لإنذار الكفار الذي رجحنا أن الآية السابقة لهما قد تضمنته ووصف لما ينتظرهم من هول يوم القيامة : فحينما يحين الموعد المعين في علم الله لقيام الساعة وتبدو علائمها التي منها انفتاح يأجوج ومأجوج وزحفهم من كل ناحية أو إلى كل ناحية يكون قد اقترب تحقيق وعد الله. ولسوف تشخص حينئذ أبصار الكفار ذهولا وهلعا فيأخذون في العويل والندم لأنهم لم يحسبوا حساب هذا اليوم وغفلوا عنه ويعترفون بأنهم كانوا آثمين ظالمين.

والآيات متصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر ، والمتبادر كذلك أن الكلام في الآية الأولى متصل بالسد الذي أنشأه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج والذي ذكر في سورة الكهف ووردت الأحاديث بأن انهياره وخروج يأجوج ومأجوج منه

٢٩٠

من علامات الساعة ؛ مما ذكرناه وعلقنا عليه في سورة الكهف تعليقا يغني عن التكرار.

وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار وزجرهم وإرهابهم وحملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما استهدفت ذلك الآيات السابقة لها.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)) [٩٨ ـ ١٠٠]

(١) حصب : الواضح أن الكلمة متصلة بكلمة الحصباء وهي الحجارة الصغيرة التي تكون في الأرض فتتوهج من حرارة الشمس وتغدو كأنها جمرات من نار. والمقصد منها في مقامها تقرير كون الكفار ومعبوداتهم سيكونون وقودا للنار وقد قرئت (حطب) وقرئت (حضب) والحضب كل ما وضع في النار لتأجيجها.

(٢) زفير : هنا بمعنى الأنين الذي يخرج من المتألمين.

وجه الخطاب في الآيات إلى الكفار السامعين في معرض التنديد والتقريع : فهم وما يعبدون من دون الله واردون جهنّم وصائرون لها وقودا ومكتوون بنارها وخالدون فيها ولسوف يصرخون ويئنّون من شدة عذابها وألمه ولن يسمعوا فيها أية بشارة بالنجاة. ولو كان ما يعبدون من دون الله آلهة حقيقيين لما وردوها بطبيعة الحال.

والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وقد صرف بعض المفسرين جملة (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى الشياطين والجنّ ومنهم من صرفها إلى الأوثان. وكلا الاحتمالين وجيه. ولا وجه غيرهما أي إنه لا يصحّ صرفها إلى الملائكة الذين هم من معبودات الكفار بطبيعة الحال. وعلى كل حال فالآيات جاءت كما قلنا بسبيل التنديد والتقريع والإنذار.

٢٩١

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)) [١٠١ ـ ١٠٣]

(١) حسيسها : صوتها والضمير عائد إلى جهنّم.

(٢) الفزع الأكبر : الخوف العظيم من المصير الرهيب.

في هذه الآيات : ذكر لمصير الذين كتب الله لهم السعادة بإيمانهم وأعمالهم الصالحة هم ناجون مبعدون عن النار لا يسمعون صوتها ولا يشعرون بأثرها. وهم متمتعون بما تشتهيه أنفسهم خالدون في النعم لا يخيفهم ولا يحزنهم الهول الأكبر الذي يخيف الكفار. وتستقبلهم الملائكة مبشرين قائلين لهم هذا يوم نعيمكم الحقيقي الذي كنتم توعدون به في الدنيا.

ولقد روى المفسّرون (١) روايات عديدة متغايرة في التفصيل متفقة في الجوهر خلاصتها أن الآيات نزلت في مناسبة جدل نشأ عن الآيات السابقة لها حيث وعظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا في فناء الكعبة الذي كان غاصّا بالأصنام فأشار إليها وتلا الآية : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) فانبرى له شخص اسمه ابن الزبعري ، فقال له إن العرب يعبدون الملائكة والنصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وهم من عباد الله المقربين حسب اعترافك فهل هم أيضا حصب جهنم؟ فنزلت الآيات لتستثني هؤلاء من شمول الآيات السابقة (٢) ولا نريد أن ننفي الرواية ، ولكن الذي نرى أن الآيات تلهمه أكثر وخاصة الثالثة منها هو قصد الثناء والتنويه والتطمين للمؤمنين مقابلة لما احتوته الآيات السابقة لها جريا على الأسلوب القرآني. ومن المحتمل أن الحادث الذي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي وابن كثير والخازن.

٢٩٢

روته الروايات قد وقع فتليت الآيات بسبيل الرد على ابن الزبعري فالتبس الأمر على الرواة. ولقد احتوت آيات عديدة ما احتوته الآيات بسبيل ذكر مصير المؤمنين المخلصين وتطمينهم في المناسبات المماثلة حيث يدعم هذا ترجيحنا. وتكون الآيات بذلك متصلة سياقا وموضوعا بسابقاتها كما هو واضح.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) [١٠٤ ـ ١٠٧]

(١) السجلّ : قيل إنه اسم كاتب من كتّاب النبي وقيل إنه اسم الملك الذي يطوي كتب أعمال الناس وقيل إنه صحيفة الورق التي يكتب عليها وأنكر الطبري القولين الأولين وقال إنه لا سند لهما ورجح القول الثالث وهو الصواب. وتكون الجملة بمعنى كطي الصحيفة التي يكتب عليها الكتب حين ما يريد كاتب أن يكتب وهذا هو الوجه والصواب فيما هو المتبادر.

(٢) الزبور : أكثر المفسرين على أن الكلمة هنا تعني كتب الله المنزلة مطلقا وهو الأوجه المتسق مع الآيات.

(٣) الذكر : قيل إن الكلمة كناية عن القرآن. أو كناية عن اللوح المحفوظ أو كناية عن التوراة أو إنها الكتب المنزلة مطلقا. ويتبادر لنا أنها في مقامها بمعنى التذكير ، وورود كلمة الزبور قبلها قرينة على ذلك فيما نرى.

في الآية الأولى : وعد يقطعه الله على نفسه بأنه سوف يعيد الخلق ثانية كما بدأهم أول مرة ، وإيذان بأنه محقق وعده وقادر عليه. وسيطوي السماء حينئذ كما تطوى صحيفة الورق المعدة للكتابة.

وفي الآية الثانية : إيذان بأن الله قرر في كتبه المنزلة بعد ما ذكر الناس وبين

٢٩٣

لهم طريق الحق والهدى أن الأرض إنما يرثها عباده الصالحون.

وفي الآية الثالثة : تقرير بأن فيما يذكر من ذلك بلاغا كافيا لمن استنار قلبه فآمن وعبد الله وحده.

وفي الآية الرابعة : وجّه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله إنما أرسله ليكون رحمة للعالمين بما يقوم به من تبليغ الناس أوامره ونواهيه وتوضيح طريق الحق والهدى والدعوة إليه.

وأسلوب الآيات قوي نافذ. وفي الآية الأخيرة معان قوية من التحبب والثناء والتطمين للنبي. ثم فيها إشارة قوية إلى مدى الرسالة المحمدية وما توخّى الله فيها من الرحمة الشاملة للعالمين في كل مكان وزمان.

والمتبادر أن طيّ السماء وتمثيلها بالورقة التي تطوى للكتابة إنما قصد به توكيد قدرة الله. فالناس يستعظمون ما يرونه من مشاهد الكون وبخاصة السماء ويستعظمون البعث بعد الموت : فكأنما أريد أن يقال لهم إن ما تستعظمونه ليس هو بالنسبة إلى قدرة الله إلّا شيئا تافها وأن يمثل لهم بمثل يستطيعون فهمه. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع كثيرة في صدد القيامة وأحداثها بأساليب متنوعة. والتنويع دليل على صحة ما نقرره إن شاء الله. وقصد تقرير قدرة الله على ذلك بارز في آية في سورة الزمر فيها عبارة مماثلة وهي : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧).

ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس تأويلا لجملة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) مفاده أن هذه الرحمة شاملة للمؤمنين وغير المؤمنين فيكون للأولين رحمة في الدنيا والآخرة. أما رحمة الآخرين فتتمثل في المعافاة مما أصاب الأمم السابقة من الخسف والقذف والمسخ والاستئصال. ويتبادر لنا أن في هذا التأويل تكلفا وبخاصة في شقه الثاني. وأن هدف الجملة هو تقرير كون الله قد جعل رسالة رسوله رحمة للعالمين جميعهم بسبيل تقرير ما فيها من هدى والحثّ على الانضواء إليها.

٢٩٤

ولقد أورد المفسر نفسه بعض أحاديث نبوية في سياق الجملة منها حديث عزاه إلى مسلم عن أبي هريرة قال : «قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة». وحديث أخرجه الحافظ بن عساكر عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنا رحمة مهداة». وحديث أخرجه كذلك ابن عساكر عن ابن عمر جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين». وصحة الأحاديث محتملة وينطوي فيها إيذان بمدى مهمة الرسالة النبوية وما فيها من هدى ورحمة للناس. وفي هذا تساوق مع الجملة القرآنية.

تعليق على جملة

(أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)

ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الإسلامي الأول التي يرويها المفسرون لجملة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) منها أنها الجنة الأخروية ومنها أنها الدنيا أو أنها أرض الكفار التي يفتحها المسلمون. ومنهم من رأى فيها بشرى فوز النبي والمؤمنين على قريش في النهاية. ويلحظ أن الكلام هو في صدد مصائر الناس في الآخرة وتوكيد وعد الله بتحقيق ذلك مما يجعلنا نرجح الاحتمال الأول. ولا سيّما إن جملة (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) لا يمكن أن تنصرف إلّا إلى عباد الله المؤمنين الموحدين السالكين طريق الحق في حين أن كثيرا ما يتمكن في الأرض أناس غير متّصفين بذلك. وفي أوائل سورة (المؤمنون) التي تأتي بعد هذه السورة آيتان يمكن أن تكونا قرينة على تفسير كلمة (يَرِثُها) بما يتفق مع الاحتمال الأول وهما : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١) ، بل وفي سورة الزمر آية أكثر تأييدا لهذا التفسير وهي : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤) وهذه السورة مكيّة ولم يكن المؤمنون قد انتصروا وصاروا أصحاب السلطان في الأرض.

٢٩٥

وبعض الباحثين يستلهمون من هذه الجملة مبدأ اجتماعيا ويقولون إنها تنطوي على تقرير كون التمكن في الأرض هو من حظّ كل شخص أو أمّة صالحة سالكة طريق الحق والعدل والخير والتعاون سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ويستدلون على ذلك بواقع الدنيا من حيث تمكن كثير من الأفراد والأمم من مسلمين وغير مسلمين في الأرض ثروة وطمأنينة وسعادة وحكما وسلطانا حينما يكونون متصفين بذلك. وقد لا يخلو هذا من وجاهة متساوقة فعلا مع واقع الحياة ومع الشرح الذي شرحناه به جملة (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الآية [١١٧] من سورة هود. على أن جملة (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) قد تسوغ القول إن المقصود هنا هم المخلصون لله تعالى في الإيمان والعبادة والعمل الصالح. وهم بعد البعثة المحمدية المسلمون الذين يخلصون دينهم لله ويلتزمون حدود أوامره ونواهيه وأوامر رسوله ونواهيه. ولقد وعدهم الله في آية أخرى بالاستخلاف في الأرض إذا اتصفوا بهذه الصفات وهي : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) سورة النور الآية [٥٥] وقد حقق الله لهم وعده فكانوا ورثة الأرض وحكامها في بعض حقبهم وبخاصة في زمن النبي عليه‌السلام بالنسبة لجزيرة العرب ثم في زمن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين لشطر عظيم مما كان معروفا من مشارق الأرض ومغاربها ، ولسنا نرى تعارضا مع ذلك بين هذا وبين الحكمة الاجتماعية التي تحتمل أن تلهمها الجملة.

وقد يرد أن من واقع الحياة أيضا أن يكون الظالمون والمجرمون والمنحرفون وغير الصالحين متمكنين في الأرض أفرادا كانوا أم ملوكا أم أمما. ولسنا نرى في هذا ما ينقض تلك الحكمة العامة الملموحة في الآية. وفي القرآن آيات فيها إقرار بذلك الواقع وإلى جانبها آيات كثيرة جدا فيها إيذان بأن الله أهلك بعضهم فورا أو

٢٩٦

إنه إنما يؤخرهم إلى أجل ثم يأخذهم. ويكون أخذه لهم أليما شديدا أو إنه إنما يملي لهم إملاء وتنديد بالذين يظنون أن ما هم فيه حظوة من الله وإنذارات قارعة لهم بالعذاب والبلاء في الدنيا والآخرة ووعد بنصر المؤمنين والصالحين مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها. والجملة بعد تنطوي على تقرير كون العاقبة والنصر وإرث الأرض في النهاية هي لهؤلاء مهما كان للأولين من نجاح وتمكّن.

تأويل الشيعة للجملة السابقة

واستطراد إلى موضوع المهدي

وما ورد فيه من أحاديث وتعليق عليها

لقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر قوله : إن الصالحين في الآية هم المهدي وأصحابه في آخر الزمان وإن مما يدل على ذلك ما رواه الخاص والعام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا». وروى المفسر حديثا مرويا عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزداد الأمر إلّا شدة ولا الناس إلّا شحّا ولا الدنيا إلّا إدبارا ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس ولا مهدي إلّا عيسى». ثم قال إن الحديث منقطع وإن بعض رواته متروكون أو مهمولون. وإن الأحاديث في ظهور المهدي صحيحة الأسناد. وساق حديثين واحدا رواه أبو داود عن عبد الله فيه نصّ الحديث الذي رواه أبو جعفر مع زيادة هي : «وفي رواية يواطىء اسمه اسمي» (١). وواحدا رواه أبو داود كذلك عن أم سلمة قالت : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : المهدي من عترتي من ولد فاطمة». والحديثان واردان في التاج أيضا أولهما معزوّ إلى أبي داود والترمذي وثانيهما إلى أبي داود والحاكم (٢). وفي

__________________

(١) انظر التاج ج ٥ ص ٣١١ ـ ٣١٢.

(٢) المصدر نفسه.

٢٩٧

هذا المصدر أحاديث أخرى في هذا الصدد منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : «خشينا أن يكون بعد نبيّنا حدث فسألناه فقال إن في أمتي المهديّ يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا قلنا ما ذاك قال : سنين قال فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهديّ أعطني أعطني فيحمله في ثوبه ما استطاع أن يحمله» (١) وحديث رواه أبو داود عن أبي سعيد أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المهديّ مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويملك سبع سنين» (٢).

ولقد كانت هذه الأحاديث حافزا لغير واحد من المنتسبين إلى سلالة فاطمة الطاهرة المتسمين باسم محمد ـ لأنها هي وحدها التي خلّفت ذرية يمكن أن تنتسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للخروج من آن لآخر على السلطان الإسلامي القائم أولهم محمد بن عبد الله المسمّى بالنفس الزكيّة الذي خرج باسم المهدي في زمن المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وآخرهم محمد بن عبد الله مهدي السودان في أواخر القرن الماضي. كما كانت هذه الأحاديث مددا للشيعة الإمامية الاثني عشرية والسبعية ليعتبروا إمامهم المختفي في الكهف هو المهدي الذي سوف يخرج يوما ويحكم الأرض. ونخشى كثيرا أن يكون الهوى الحزبي قد لعب دوره في هذه المرويات ليتسلح الذي حدثته أو تحدثه نفسه بالخروج على السلطان بها كخبر نبوي يجب الإيمان به أو ليتسلح بها الشيعة الإمامية أو السبعية ليستمدوا منها الأمل والثبات على عقيدتهم. والله أعلم.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) المصدر نفسه.

٢٩٨

لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)) [١٠٨ ـ ١١٢]

(١) آذنتكم على سواء : روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة بمعنى أعلمكم أني وأنتم على حرب لا صلح بيننا.

(٢) إن أدري : لا أدري.

(٣) فتنة : اختبار وابتلاء.

في الآيات : أمر للنبي بتبليغ الناس بأن ما يوحى إليه هو أن إلههم واحد لا شريك له وبأن يسألهم سؤال دعوة وتنبيه عما إذا كانوا مستعدين للاعتراف بذلك وإسلام أنفسهم لله وحده وبأن يقول لهم إذا امتنعوا عن ذلك أني قد أعلمتكم بالأمر وأبلغتكم وحي الله وصار بيننا حرب لا صلح له ولست أدري موعد تحقيق وعد الله هل هو قريب أم بعيد. ولست أدري إذا كان الله أراد اختباركم فجعل لكم مهلة إلى وقت معين في علمه. وأن الله على كل حال يعلم ما تقولونه وتبيتونه في جهركم وسرّكم وقصارى مهمتي إبلاغكم وإنذاركم وقد قمت بها.

ولقد قرىء فعل القول في الآية الأخيرة بصيغة الماضي كما قرىء بصيغة الأمر. وتضمنت الآية دعاء النبي لله بأن يحكم بينه وبين قومه بالحق والاستعانة به على ما يقوله الكفار افتراء على الله وزورا. وعلى قراءة فعل القول بصيغة الأمر يكون ذلك أمرا من الله بأن يدعو ويستعين. وعلى القراءة الثانية يكون ذلك حكاية لدعائه واستعانته. والنفس تطمئن لصيغة الأمر لأنها متسقة مع صيغة الآيات الأخرى أكثر ، وقد رجّح هذا الطبري وقال إن عامة الأنصار عليه.

والآيات متصلة كذلك بسابقاتها. وأسلوبها قوي نافذ. وقد جاءت خاتمة للسياق الذي جاء معقبا على سلسلة آيات الأنبياء وجاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة ، وطابع الختام عليها بارز مماثل لكثير من خواتم السور.

٢٩٩

سورة المؤمنون

في السورة تنويه بصفات المؤمنين ومصيرهم السعيد. وتوكيد بالبعث ، وتذكير بقدرة الله في خلق الإنسان والأكوان وما فيها من منافع وحقه في الشكر والإخلاص. وسلسلة قصص بعض الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم في صدد التمثيل والإنذار للكفار وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتطمينهم. وحملة على الكفار لاغترارهم بما يتمتعون به في الدنيا. وتبكيت لهم على وقوفهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقف العناد والاتهام مع معرفتهم له ومع ما في مهمته من الخير المحض لهم المجرّد عن كل غرض. وحكاية لبعض أقوالهم في إنكار البعث وردود قوية عليهم من مشاهد قدرة الله وملكوته واعترافهم بذلك. وتصوير مصائر المؤمنين والكفار الأخروية بما فيه التطمين والبشرى للأولين والرعب والهول للآخرين.

وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا يبرر القول أنها نزلت متتابعة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ

.

٣٠٠