التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)) [١ ـ ١١]

(١) اللغو : ما لا فائدة فيه من قول وعمل.

(٢) العادون : المتجاوزون للحدود بالعدوان.

في الآيات بشرى بأسلوب التوكيد بالفلاح والفوز للمؤمنين الذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها. وتقرير بأن منازلهم الفردوس خالدين فيها ، وعبارتها واضحة.

والسلسلة من الجوامع القرآنية في وصف المؤمن وأخلاقه وبيان ما يجب عليه تجاه ربّه وتجاه الناس وما يكون من الفلاح والنجاح والسعادة والطمأنينة وحسن العاقبة لأصحاب هذه الصفات التي هي جماع صفات الخير الروحية والأخلاقية والشخصية والاجتماعية. وتنطوي على حثّ على الاتصاف بها كما تنطوي على تقرير أثر الإيمان في نفس صاحبه حيث يجعله يخشع في صلاته لأنه أمام ربّه ويداوم على الصلاة لله فيظل يذكره ويمتنع نتيجة لذلك عن كل فحش وعبث ويؤتي الزكاة ويفعل كل ما هو حقّ وخير وبرّ وعدل وأمانة ووفاء. وهذه الصفات والحثّ على الاتصاف بها والتزامها مما تكرر في القرآن المكي والمدني بحيث تكون من أسس الدعوة الإسلامية.

ولقد روى الترمذي حديثا (١) في صدد هذه الآيات عن عمر رضي الله عنه قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهمّ زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنّا ثم قال أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم عشر آيات».

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والتاج ج ٤ ص ١٦٢ فصل التفسير.

٣٠١

ولقد روى الطبري عن محمد بن سيرين «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلّى نظر إلى السماء فأنزلت الآية (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد». وروى عن ابن سيرين أيضا هذا عن أصحاب رسول الله ونصّ الرواية «أنّ أصحاب رسول الله كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فجعلوا رؤوسهم بعد ذلك نحو الأرض» وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنها محتملة الصحّة.

ولقد تعددت التعريفات التي أوردها أو رواها المفسرون للخشوع منها أنه خشوع القلب والأطراف. ومنها أنه التذلل والخضوع. ومنها أنه الاستشعار بالخوف والتواضع. ومنها أنه غضّ البصر وعدم الحركة والتلفّت. وكلّ من هذه الأقوال واردة ووجيهة. ولقد أورد البغوي بعض الأحاديث النبوية في هذا الصدد منها حديث عن عائشة (رض) قالت : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد». وحديث عن أبي ذرّ (رض) قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه». وحديث عن أنس بن مالك قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتدّ قوله حتى قال لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم». وحديث لم يذكر راويه جاء فيه : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه». وحديث عن أبي ذرّ قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإنّ الرحمة تواجهه».

وجميع التعريفات الواردة وجيهة. والأحاديث وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن عبارتها وروحها تجعل احتمال صحتها قوية. ولقد روى أصحاب السنن حديثا فيه تأييد عن الفضل بن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلاة مثنى مثنى. تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي

٣٠٢

خداج» (١). وروى أبو داود عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلّا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» (٢). وروى أبو داود عن عقبة بن عامر قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلّي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلّا وجبت له الجنة» (٣). وواضح أن الأحاديث والتعريفات استهدفت تأديب المسلم ليكون في صلاته منصرفا عن كل شيء متفرغا في قلبه وجسمه إلى الله عزوجل.

على أننا نرجح أن الآيات انطوت في الوقت نفسه على التنويه بالمؤمنين في العهد المكي وتقرير كونهم متصفين بهذه الصفات. وإذا صحّ ترجيحنا إن شاء الله ففيها صورة واقعية رائعة لأثر الإيمان القوي في ذلك الرعيل الأول رضوان الله عليهم.

وقد يؤيد ترجيحنا آيات عديدة وردت في سور عديدة من السور السابقة فيها تنويه بالمؤمنين وأخلاقهم وصفاتهم وأثر الإيمان فيهم منها هذه الآيات في سورة الذاريات : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩).

وجملة (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) من الأدلة المؤيدة لما قررناه في سياق سورة المزمل من كون الزكاة كانت مفروضة وممارسة في العهد النبوي المكي مثل الصلاة. وكلام المفسرين متسق مع ذلك (٤).

__________________

(١) التاج ج ١ ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) انظر تفسير الآيات في تفسيري ابن كثير والبغوي.

٣٠٣

تعليق على الأمانة وخطورتها

وما ورد فيها في كتاب الله وسنّة رسوله

وبمناسبة ورود الآية (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ضمن السلسلة نقول إن التنويه بالذين يرعون أماناتهم والتنديد بمن يخونونها والأمر بأداء الأمانات إلى أهلها قد تكرر في القرآن والسنّة مما يدل على ما أسبغ كتاب الله وسنّة رسوله على هذا الأمر الخطير المتّصل بصلات الناس ومعاملاتهم وحقوقهم ومعايشهم وثقتهم اتصالا شديدا والذي قد ينتج عن الإخلال به العداوة والبغضاء والنزاع في المجتمع الإسلامي. والذي يناقض الإخلال به في حدّ ذاته المعاني الجليلة المنطوية في الإيمان والإسلام.

ففي سورة المعارج آية مماثلة لهذه الآية فيها تنويه بالمؤمنين مثلها وهي الآية [٣٢] وفي سورة البقرة هذه الآية (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) [٢٨٣] وفي سورة آل عمران آية فيها تنديد شديد باليهود لأنهم لا يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها من غيرهم وهي : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) وفي سورة النساء هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (٥٨) وفي سورة الأنفال هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧).

ولقد أخرج ابن أبي حاتم حديثا عن سعيد بن جبير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدميّ هاتين إلّا الأمانة فإنّها مؤداة إلى البرّ والفاجر» (١). وأخرج الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله بن مسعود عن

__________________

(١) النص من تفسير ابن كثير للآية [٧٥] من سورة آل عمران.

٣٠٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها ـ أو قال يكفّر كلّ شيء ـ إلّا الأمانة يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له أدّ أمانتك فيقول أنّى يا ربّ وقد ذهبت الدنيا ثلاث مرات أمر من الله وجواب منه فيقول اذهبوا به إلى أمّه الهاوية فيذهبوا به إلى الهاوية فيهوي بها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنّم حتى إذا رأى أنه قد خرج زلّت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين» (١). وأخرج الإمام أحمد حديثا عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع إذا كنّ فيك فلا عليك مما فاتك من الدنيا ، حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفّة طعمة» (٢). وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن حديثا عن سمرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (٣). وأخرج الترمذي حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» (٤). وأخرج الترمذي أيضا حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ، والمؤمن من أمّنه الناس على دمائهم وأموالهم» (٥). وهناك حديث لم يروه المفسرون وقد ورد في التاج ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» (٦).

وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها. وقد ورد بعضها في هذه الكتب. وواضح ما في الآيات والأحاديث من تلقين وتأديب وتعليم للمسلم يرتفع به إلى أعلى مراتب الأخلاق الفاضلة ويجعل الأمانة بخاصة من أمهات أخلاق المؤمن المخلص.

__________________

(١) النصان من تفسير ابن كثير للآية [٧٢] من سورة الأحزاب.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) النص من تفسير القاسمي للآية [٥٨] من سورة النساء.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) التاج ج ٥ ص ٤١.

٣٠٥

وآيتا النساء [٥٨] والأنفال [٢٧] أوسع شمولا من نطاق التعامل الفردي حيث ينطوي فيهما تلقين لأولي أمر المسلمين وحكامهم وللمؤمنين في صدد مصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وسوف نزيد هذا شرحا في مناسبة تفسير الآيتين.

تعليق على استفراش ملك اليمين

وبمناسبة ورود الإشارة إلى رفع الحظر عن استفراش ملك اليمين نقول إننا علقنا على موضوع الرقيق الذي كان يسمّى ملك اليمين في سياق سورة البلد تعليقا مختصرا مفيدا. غير أن الموضوع الذي جاء في هذه الآيات يتحمل تعليقا آخر لأنه صار من التشريعات الإسلامية وقد ذكر بعد هذه السورة في سور مكيّة ومدنيّة.

والموضوع هو إباحة استمتاع مالك الإماء بإمائه استفراشا بدون قيد وعقد. وما قلناه في تعليقنا في سياق سورة البلد من أن الرقّ كان نظاما عاما مألوفا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام ولم ينشئه الإسلام نقوله في صدد إباحة استفراش الإماء. حيث اقتضت حكمة التنزيل ذلك مماشاة للواقع الذي لا فحش فيه وفيه تخفيف وتيسير على المسلمين.

ولقد توسّع المسلمون في هذا الأمر فاعتبروا كلّ من أمكن خطفه أو شراؤه من السود وغير السود من غير المسلمين رقيقا واستباحوا استفراش النساء اللاتي ينالونهن بهذه الطريقة أو يولدون من آباء وأمهات نالوهم بهذه الطريقة في حين أن الشرع الإسلامي لا يعتبر رقيقا إلّا من كان رقيقا قبل الإسلام أو تولّد منه أو من استرقّه المسلمون من أسرى الحرب أو من الأعداء غير المسلمين أو تولّد منهم. ولا يبيح استرقاق المسلمين أبدا. بل ولا غير المسلمين إذا لم يكونوا أعداء محاربين. ولا يعتبر كل غير مسلم عدوا محاربا ، وإنما العدو المحارب هو المعتدي على المسلمين من غير المسلمين فقط. بل إن إباحته لاسترقاق أسرى الحرب من الأعداء المحاربين من غير المسلمين ليست واجبة بل ظلت في حدود

٣٠٦

ضيقة حيث جعلت للأسرى سبيلا لعدم استرقاقهم على ما تلهمه آية سورة محمد هذه : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (١) [٤] وأكملت السنّة النبويّة المسكوت عنه في هذه الآية حيث أجازت استرقاق من لم يفتد نفسه أو من لم يرض ولي أمر المؤمنين أن يمنّ عليه بدون فداء ومن تولّد منهم.

وبناء على هذا فاستفراش النساء بصفة ملك اليمين إذا لم يكن رقّهم في نطاق هذه الحدود ليس من الشرع الإسلامي في شيء.

ولما كان فحوى وتلقين القرآن والسنّة النبويّة متجهين إلى تحرير الرقّ وإلغائه بمختلف الوسائل فمن الممكن أن يقال إن إلغاء الرقّ المتفق عليه في العصر الحاضر بين معظم دول الأرض ومن جملتها الدول الإسلامية هو متّسق مع ذلك. وهذا يجعل استمرار بعض المسلمين على اعتبار الرقّ مشروعا برغم ذلك ثم برغم خروج جلّ صوره أو كلها من نطاق الحدود الشرعية الإسلامية واستباحة استفراش النساء بصفة ملك اليمين محلّ نظر وعجب وتساؤل بل ومحلّ استنكار شرعي.

هذا ، ولقد نبّه بعض المفسرين إلى أن جملة (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) محصورة الدلالة في الإماء دون الغلمان وأن إتيان الغلمان من ملك اليمين محرّم كإتيان غيرهم وهذا حقّ لا محلّ فيه لتوهّم ولا مكابرة ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها.

كذلك نبهوا إلى أن هذه الجملة هي في صدد إباحة الإماء لمالكيهم من الرجال وأنه لا يجوز للحرة أن تمكّن منها عبدها تأوّلا للجملة وهذا حق وصواب. ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها معا.

__________________

(١) الآية الأولى من السورة وصفت الذين كفروا بوصف الذين صدوا عن سبيل الله أيضا. وهذا الوصف برر قتالهم الذي أمرت به هذه الآية.

٣٠٧

كذلك مما نبّه عليه بعض المفسرين أن في الآيات [٥ ـ ٧] دليلا على حرمة الاستمناء باليد. وقد ذكر البغوي الذي نبّه على ذلك فيمن نبهوا أن هذا قول أكثر العلماء. ولقد ذكر ابن كثير أن الإمام الشافعي رحمه‌الله ومن وافقه استدلّ بهذه الآيات على حرمة الاستمناء باليد على اعتبار أن الآية تأمر بحفظ الفروج باستثناء إتيان الزوجات وملك اليمين. ومما قاله هذا المفسر أن القائلين بهذا استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة بطرقه عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاقلين ويدخلهم النار أوّل الداخلين إلّا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده والفاعل والمفعول به ومدمن الخمر والضارب والديه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره». وقد علق ابن كثير على هذا الحديث قائلا إنه غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته. وهذا التعليق لا ينقض قول الشافعي وغيره من العلماء كما هو المتبادر حيث روي أن رأيهم استلهام من الآية.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)) [١٢ ـ ١٦]

تعليق على آية

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)

والآيات الأربع التالية لها

عبارة الآيات واضحة. وقد جاء مثلها أو شيء منها في سور سابقة مثل سور فاطر والزمر وغافر. وبعض العبارات الواردة هنا تتحمل بعض التعليقات.

فأولا : إن المفسرين قالوا في صدد تعبير (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إنه إشارة إلى

٣٠٨

قطعة الطين التي أمر الله عزوجل الملائكة باستلالها من الأرض وخلق منها آدم وأوردوا بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم عن كيفية استلال قطعة الطين وإرسال جبريل ثم ميكائيل ثم عزرائيل إلى الأرض لهذه المهمة ، فيها الغريب العجيب. وليس لما أوردوه سند وثيق. والموضوع من المغيبات التي لا تصحّ إلّا بمثل ذلك.

ولقد قال الذين يميلون إلى استنباط الأسرار والفنون من القرآن والتوفيق بينه وبين النظريات العلمية والفنية إن في الآيات ما يمكن الاستدلال به على كون الإنسان إنما صار إنسانا بعد سلسلة تحولات طويلة جدا بدأت من نشوء الحياة من الماء والطين ، ونرى في هذا تكلفا وتحميلا للعبارة غير ما تتحمل.

والذي يتبادر أن هذه الآيات وأمثالها العديدة التي وردت في سور عديدة وذكر فيها خلق آدم أو الإنسان من طين ثم جعل نسله بطريق النطفة إنما سيقت في معرض التذكير والعظة والتدليل على قدرة الله بأسلوب يستطيع السامعون على اختلاف طبقاتهم فهمه ولمسه والاعتبار به والاستدلال منه على قدرة الله. وأن الأولى الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن مع ملاحظة هذا الهدف البارز فيها. وأنه لا طائل من وراء التزيد والتخمين وتحميل العبارة غير ما تتحمل ونرى ذلك إخراجا للقرآن من نطاق قدسيته وأهدافه كما هو رأينا في كل الشؤون المماثلة.

وثانيا : لقد تعددت التفسيرات التي يرويها المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم لجملة (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (١٤)) منها أنها عنت نفخ الروح فيه بعد ما كان جهادا ومنها أنها عنت استواء الشباب ونبات الشعر والأظافر والأسنان. ومنها أنها عنت الذكورة والأنوثة. ومنها أنها عنت تنقّله في أطوار الحياة بعد الولادة. ويلحظ أن هذه التفسيرات تصح أن ترد بالنسبة للإنسان وللحيوان وبخاصة ذوات الثدي منه على السواء كما لا يخفى. والذي يتبادر لنا أن الجملة قد قصدت التنويه بالإنسان الذي شاءت حكمة الله عزوجل أن يميزه عما سواه من الحيوان بتكامل العقل والتكليف وباختصاصه بالبعث بعد الموت لتوفيته

٣٠٩

بما يكسبه في الدنيا فصار بذلك خلقا آخر. والله أعلم.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)) [١٧ ـ ٢٢]

(١) سبع طرائق : كناية عن السموات السبع وكون بعضها فوق بعض من التطارق. وفي سورة الملك جاء الوصف بعبارة أوضح (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

(٢) شجرة تخرج من طور سيناء : الجمهور على أنها شجرة الزيتون.

(٣) صبغ : بمعنى الإدام.

في هذه الآيات تقريرات أخرى عن مشاهد قدرة الله في الكون وعنايته بالخلق الذي خلقه وأفضاله على الناس فيما جعل لهم فيه من منافع ويسره من وسائل :

١ ـ فقد خلق فوق الأرض سبع سموات بعضها فوق بعض.

٢ ـ ولم يغفل عن تهيئة أسباب الحياة للخلق الذي خلقه على الأرض حيث ينزل الماء من السماء بقدر وحساب فيسكنه في الأرض لينتفع الناس به في حين أنه قادر على إفنائه ، وحيث ينشىء لهم به شجر النخل والعنب وما يجني الناس منه من الفواكه الكثيرة ويأكلونها. وينشىء لهم به أيضا شجرة الزيتون التي تنبت في طور سيناء وتثمر الثمرة التي فيها الدهن والإدام. وحيث سخّر الله للناس الأنعام ليشربوا ألبانها ويأكلوا لحومها ويركبوا عليها ويحملوا أثقالهم وينتفعوا بها شتّى الانتفاعات.

وحيث سخّر الفلك لهم لتجري في البحر فيقوموا عليها بالرحلات البحرية

٣١٠

التي تعود عليهم بمتنوع الفوائد.

والآيات معطوفة على ما سبقها ومتصلة بموضوعها كما هو المتبادر وقصد التذكير والوعظ فيها واضح كما هو شأن ما سبقها أيضا.

وفي استمرار الخطاب للمخاطبين وهم من بني آدم وتذكيرهم بنعم الله عليهم مع أن من هذه النعم ما يستفيد منه غيرهم من الحيوانات توكيد وتدعيم لما قلناه قبل قليل في هدف ومدى جملة (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) كما هو المتبادر.

تعليق على تخصيص طور سيناء

بشجرة الزيتون

وشجرة الزيتون ليست محصورة في طور سيناء كما هو معلوم. وكانت تنبت في بلاد كثيرة أخرى منها ما يجاور طور سيناء أي فلسطين ومنها ما لا يجاوره مثل سواحل شمال إفريقيا وسواحل جنوب أوروبا الشرقية وجزر الأبيض المتوسط. بل كانت تنبت في الحجاز على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩) و (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [١٤١].

والذي يتبادر لنا أن تخصيص طور سيناء بها آت من أن العرب الذين كانوا أول من يسمع القرآن يعرفون أن منطقة طور سيناء وما جاورها هي منابت الزيتون في الدرجة الأولى. ولعلهم أتوا منها بالغراس التي غرسوها في بلادهم حينما كانوا يرحلون رحلاتهم التجارية فيمرون في هذه المنطقة في طريقهم إلى مصر وعودتهم منها.

٣١١

ولقد روى الترمذي والحاكم وصححه حديثا عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا الزيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» (١) حيث ينطوي فيه تنويه بهذه الشجرة المباركة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)) [٢٣ ـ ٣٠]

(١) يتفضّل عليكم : هنا بمعنى يتظاهر بالفضل والتفوّق عليكم.

(٢) بأعيننا ووحينا : بحراستنا وعنايتنا وإرشادنا.

(٣) وإن كنا لمبتلين : ولم نكن بما فعلنا إلّا مختبرين للناس.

هذه حلقة من سلسلة قصصية فيها ذكر بعض الأنبياء مع أقوامهم. ومع أنها لم تجىء عقب حكاية مواقف الكفار جريا على الأسلوب القرآني فإنها جاءت عقب التذكير بمشاهد قدرة الله وأفضاله على الناس. وهذا معنى غير منقطع عن ذلك. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها عقب ذلك لبيان مواقف بعض الأمم من نعم الله وأفضاله.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٢٢.

٣١٢

وعبارة الحلقة واضحة. وقد احتوت إشارة إلى رسالة نوح إلى قومه وموقف قومه منه ومن رسالته وما كان من إنشائه الفلك بأمر الله وتنجية من شاء معه عليه وإغراقه الكافرين بالماء الذي فار من التنّور وصار طوفانا.

والقصة قد تكررت في سور عديدة مسهبة ومقتضبة وما جاء هنا قد جاء في سورة هود خاصة مع تفصيل أوسع. وهدف التذكير والوعظ والإنذار وهو هدف القصص القرآنية عامة بارز على هذه الحلقة. ويلفت النظر إلى ما في أقوال قوم نوح لنبيهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال الكفار العرب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل التحدي بالإتيان بالملائكة ومثل قولهم إن به جنة وتواصيهم بالتربص به حتى يموت إلخ من تماثل حيث استهدف بذلك تذكير كفار العرب بما كان من موقف قوم نوح من نبيهم المماثل لموقفهم وما كان من عاقبة هؤلاء وإنذارهم بعاقبة مماثلة إذا لم يرتدعوا ويرعووا.

والآية الأخيرة بمثابة تعقيب على القصة وهدف الإنذار فيها بارز أيضا. فالله يرسل رسله لاختبار الناس ويعاملهم بما يكون من نتائج هذا الاختبار.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ

٣١٣

بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)) [٣١ ـ ٤٤]

(١) أترفناهم في الحياة الدنيا : كناية عن الزعماء والأغنياء.

(٢) هيهات هيهات : ما أبعد ذلك.

(٣) الصيحة : كناية عن عذاب الله وهي عامة المعنى.

(٤) غثاء : ما يحمله السيل من الحشائش الجافة والأوراق الساقطة والأغصان المكسورة. والكلمة كناية عما صاروا إليه بعد عذاب الله من دمار وتحطيم.

(٥) تترى : واحدا بعد واحد.

(٦) جعلناهم أحاديث : جعلناهم عبرة يتحدث الناس عنهم بعدهم.

لم تتضمن هذه الآيات أسماء أنبياء وأقوام. ولكن عبارتها تلهم أنها تعني أقوام هود وصالح وشعيب وغيرهم ممن ذكرتهم سلاسل القصص في السور الأخرى.

وعبارتها واضحة. وهدف التذكير والعظة والتنديد والإنذار فيها بارز في جملتها ثم فيما احتوته من تماثل بين أقوال الأقوام لرسلهم وما حكته آيات عديدة من أقوال كفار العرب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل كونه بشرا مثلهم ومثل كون ما يعدهم من البعث بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما مستحيلا ومثل أنه يفترى على الله الكذب إلخ.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)) [٤٥ ـ ٤٩]

(١) قوما عالين : بمعنى متعالين عن الرسل الذين جاءوهم.

٣١٤

(٢) عابدون : خاضعون أو عبيد.

وهذه الآيات حلقة من السلسلة. وعبارتها واضحة هي الأخرى. وفيها إشارة إلى رسالة موسى وهرون عليهما‌السلام لفرعون وقومه وما كان من إيتاء الله تعالى موسى الكتاب لعلهم يهتدون به. وما كان من استكبارهم واستعلائهم وتبجحهم باستبعاد قوم موسى وهرون وتكذيبهم لهما لأنهم بشر مثلهم فضلا عن ذلك وما كان من إهلاك الله لهم.

وقد استهدفت هي الأخرى التذكير والإنذار كما استهدفته الحلقات السابقة على ما هو باد من أسلوبها.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)) [٥٠]

(١) الربوة : المكان المرتفع النزه.

(٢) معين : نبع لا ينضب.

في هذه الآية إشارة إلى معجزة الله تعالى في عيسى وأمه المتمثلة في ولادته من أمّ لم يمسسها بشر. وما كان من عناية الله بهما وإيوائهما مأوى أمينا في ربوة ذات مياه لا تنضب.

والصلة ملموحة بين هذه الآية وسلسلة القصص على ضوء الآيات القرآنية التي ذكرت ولادة عيسى ورسالته وموقف الناس منهما حيث كانت تلك المعجزة اختبارا للناس فمنهم من كفر بها ومنهم من آمن ومنهم من أساء فهمها وتأويلها ، وحيث كانت رسالة عيسى لقومه فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كذلك على ما حكته آيات قرآنية عديدة مرّت أمثلة عديدة منها.

ولقد تعددت الأقوال في مكان الربوة الموصوفة بالقرار والمعين فقيل عزوا إلى كعب الأحبار وبعض التابعين إنها الرملة وإنها بيت المقدس وإنها مصر وإنها

٣١٥

دمشق أو غوطتها (١). وهي أقوال قائمة على التخمين. وقد قال ابن كثير إنها مكان النخلة التي ألجأ المخاض مريم إليها وأجرى الله تحتها نهرا حينما ولدت ابنها على ما جاء في قصة ولادة عيسى في سورة مريم التي مرّ تفسيرها وقال إن القرآن يفسر بعضه بعضا. وفي إنجيل متى وهو أحد الأناجيل المتداولة اليوم أن ملك الربّ تراءى ليوسف النجار زوج مريم وقال له خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه فأخذهما إلى مصر حيث بقيا فيها إلى أن تراءى ملك الربّ ثانية له وقال له ارجع بالصبي وأمه إلى أرض إسرائيل فقد مات طالبو نفس الصبي (٢). والمرجح أن ذلك كان معروفا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق النصارى الذين يرجح أن الإنجيل المذكور كان متداولا بين أيديهم. فمن المحتمل أن يكون مكان الربوة هو مصر حيث يجري فيها نهر لا ينضب وحيث كانت ذات أرض مخصبة وزراعة مزدهرة. والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)) [٥١ ـ ٥٢]

المتبادر أن الآيتين قد جاءتا بمثابة تعقيب على السلسلة : فقد أمر الله فيهما الرسل أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا الصالحات وأن يثبتوا على الطريق الحقّ وأن لا يخشوا ويتقوا إلّا الله وأن يتيقنوا أن الذي دعوا إليه واحد والطريقة التي وصوابها واحدة وأنهما لا يتحملان تعددا ولا اختلافا.

وقد قال بعض المفسرين إن الخطاب في الآيتين موجه إلى النبي وإن جاء بصيغة الجمع (٣) وقد لا يخلو القول من وجاهة تؤيدها صيغة المخاطب. على أن توجيه الخطاب إلى الرسل جميعهم هو توجيه معنوي بقصد تقرير وحدة أهداف رسالات الأنبياء للناس وتقرير وحدة جوهر الشرائع الإلهية التي من جملتها إحلال

__________________

(١) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن.

(٢) الإصحاح الثاني.

(٣) انظر تفسير البغوي.

٣١٦

كل ما هو طيب دون حرج ولا قيد. ويكون النبي قد أدمج في عدادهم فكان الخطاب لهم غائبين وله حاضرا مخاطبا.

ولقد روى المفسرون (١) في سياق هذه الآيات حديثا نبويا رواه مسلم والترمذي في فصل التفسير من كتابيهما في سياق تفسير سورة (المؤمنون) جاء فيه : «إنّ أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أيّها الناس إن الله طيّب ولا يقبل إلّا طيبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٥١). وقال : «(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] قال وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك». حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح نبويّان يفيدان أن الخطاب في الآيتين ليس قاصرا على الرسل وإنما هو موجّه إلى أممهم وبخاصة الذين آمنوا بهم وبنوع أخص أمة آخر الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي صار على جميع الأمم السابقة اتّباعه وإن الذين ينحرفون عن ذلك إلى الحرام وغير الطّيّب في المأكل والمشرب والملبس يكونون منحرفين عن طريق الله الحقّ مما احتوت تقريره آيات كثيرة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها ومما فيه تلقين جليل مستمر المدى بالإضافة إلى ما في الآيتين من تلقين جليل في تقرير وحدة الطريقة التي سنّها الله تعالى لرسله والمرسلين إليهم وإيجابه التزام الصالحات والتقوى عليهم.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)) [٥٣ ـ ٥٦]

(١) فتقطعوا : تفرقوا.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير وانظر أيضا التاج ج ٤ ص ١٦٣.

٣١٧

(٢) زبرا : من المفسرين من فسّر الكلمة على أنها جمع زبور بمعنى كتاب وقد وردت هذه في إحدى آيات سورة القمر فصار معنى الجملة تفرقوا مللا عديدة كل ملّة التزمت كتابا. ومنهم من قرأها بفتح الباء وفسرها بمعنى قطعا. وقد وردت هذه الكلمة في إحدى آيات سورة الكهف في هذا المعنى فصار معنى الجملة تفرقوا قطعا. والتفسيران وجيهان. والجملة على كل حال بمعنى تفرقوا شيعا وأحزابا مع أن ملّة الله واحدة.

(٣) غمرتهم : جهالتهم أو غفلتهم أو حيرتهم.

في الآيات :

١ ـ إشارة تنديدية إلى ما صار إليه الناس : فقد تفرقوا واختلفوا وتعددت كتبهم وأهواؤهم وفرقهم واعتدّ كل فريق بما هو عليه وظنّه الحقّ.

٢ ـ وأمر للنبي بأن لا يبالي بذلك وأن يدع من لا يريد الارعواء مرتكسا في غفلته وجهالته إلى الحين الذي يعلمه الله.

٣ ـ وسؤال تنديدي عمّا إذا كان هؤلاء يظنون أن ما يتمتعون به من كثرة المال والولد هو اختصاص تكريمي لهم من الله بإغداق نعمه وخيراته.

٤ ـ واستدراك تبكيتي بأنهم مخطئون في هذا الظنّ وأنهم لا يعرفون حقيقة الأمر.

ولقد ورد في آيات أخرى أن الله تعالى يملي للكفار بما يمدهم به من مال وبنين ليستدرجهم وليكون لهم فتنة واختبارا وأن كيده متين كما جاء في آية سورة القلم [٤٣ ـ ٤٤] وسورة الأعراف [١٨٢ ـ ١٨٣] وسورة طه (١٣١) التي مرّ تفسيرها حيث يتبادر أن في هذه الآيات توضيحا لما احتواه الاستدراك التبكيتي في جملة (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦) في الآية الأخيرة.

والآيات معقبة على ما قبلها أيضا. والضمير الغائب راجع إلى المنحرفين عن الأمة أو الطريقة الواحدة التي شرّعها الله للناس بواسطة أنبيائه وإلى الكفار

٣١٨

برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن كفرهم هو انحراف عن تلك الملّة. وفيها تنديد لاذع بهم لانحرافهم عن ملّة الحق التي جاء بها رسل الله ثم رسوله الأخير خاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولظنهم الظنون الباطلة في تعليل ما هم فيه من قوّة ومال.

والأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك الكفار في غمرتهم تعبير أسلوبي تكرر في القرآن بمعناه. ولا يعني طبعا ترك إنذارهم كما قلنا في المناسبات السابقة. والراجح أنه ينطوي على تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عناد الكفار ومكابرتهم واستغراقهم في ضلالهم.

وفي الآيات صورة لما كان من مباهاة الكفار بأموالهم وأولادهم واعتدادهم بذلك وحسبانهم إياه دليلا على عناية الله بهم وادعائهم بأنهم على حقّ بما هم عليه. ولقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها مما يدل على أنهم كانوا يسوقونه من حين إلى آخر في معرض الجدل والمماراة.

ولقد أورد ابن كثير على هامش هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم. وإنّ الله يعطي الدنيا لمن يحبّ ومن لا يحبّ. ولا يعطي الدين إلّا لمن أحبّ. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه. والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدّق به فيقبل منه. ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده النار. إنّ الله لا يمحو السيّء بالسّيئ ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث».

وفي الحديث الرائع صورة من صور الوعظ والتنبيه النبوي متساوقة مع التلقين الجليل الذي انطوى في الآيات وبخاصة في بيان كون ما تيسر للإنسان من مال في الدنيا ليس دليلا على رضاء الله عنه وحظوته لديه إذا كان الإنسان منحرفا عن طريق الله الحق.

٣١٩

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)) [٥٧ ـ ٦٢]

(١) وهم لا يظلمون : الجملة في مقامها في معنى لا ينقص شيء مما يستحقه الإنسان على عمله.

عبارة الآيات واضحة. وهي بمثابة استدراك لما سبقها. فالوصف السابق هو للكفار المنحرفين عن دين الله الذي بعث الله به رسله والذين لا يرعوون ولا يرتدعون ويتمسكون بما هم فيه من باطل ويعتدون به ويظنون بالله غير الحق. وهناك فريق من الناس اتبعوا دين الله الحق فآمنوا بالله وخافوا وفعلوا ما أمروا به من الخير. ولم يشركوا به شيئا. وتيقنوا بأنهم راجعون إليه. فهؤلاء هم السابقون إلى الخيرات النائلون لرضاء الله.

والمتبادر أن الآية الأخيرة بمثابة استدراك على ما في الآيات : فالله إذ يبين صفة المؤمنين المستحقين لرضائه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وخوفهم منه ويثني عليهم لا يكلف نفسا إلّا وسعها ولا يطلب من أحد إلّا ما هو قادر على فعله وهو مسجل لهم أعمالهم في كتاب ينطق بالحق دون أن ينقص لهم منهم شيئا.

وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الجليل الذي شرحناه في سياق سورة الأعراف.

هذا ، ولقد روى الترمذي (١) حديثا عن عائشة رضي الله عنها : «أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : لا يا بنت الصدّيق ، ولكنهم الذين يصومون

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ فصل التفسير ص ١٦٣.

٣٢٠