التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

خاطفة وكونه ذا القرنين في رؤيا دانيال وكون التيس هو الإسكندر المكدوني وأنهم كانوا يفسرون غلبة هذا لملك فارس وتقويضه مملكته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد بغلبة ذي القرنين على ما كان من غلبته على واحد من خلفاء ذي القرنين. وأنهم ظلوا يتداولون الأسفار والأخبار إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا مصدرها بالنسبة لعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته. وكان ذلك حافزا للسؤال عن ذي القرنين الذي كانت تذكر أخباره العظيمة فأوحى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما شاءت حكمة التنزيل أن يوحى إليه به عن ذلك بأسلوب يتساوق هدفه مع هدف القصص القرآنية من الموعظة والعبرة.

ومع احتمال أن تكون استنتاجات أبي الكلام معقولة فإن هذا يكون واردا بالنسبة لما كان يدور ويتداول من أخبار وآثار وليس على اعتبار أنه الحقيقة التاريخية المقصودة بالآيات القرآنية. لأنه من قبيل التوفيق والتطبيق ولا يمكن أن يعتبر أنه هذه الحقيقة لأن هذا لا يصح إلا إذا كان هناك يقينا من تاريخ أو نصا صريحا في القرآن أو ثابتا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس هناك شيء من ذلك. والحديث الوحيد المعزو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي رواه الطبري وأوردناه قبل تفسير ذي القرنين بالشاب اليوناني الذي بنى الاسكندرية. وقد أوردنا المآخذ على هذا الحديث التي تسوغ عدم الأخذ به.

أما مواضع العظة والعبرة في القصة فمنها : أولا : المحاورة التي حكيت بين الله تعالى وذي القرنين وتضمنت تقرير كون ذي القرنين مؤمنا داعيا إلى الإيمان ويعامل المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالحسنى ويعذب الظالمين المنحرفين. وثانيا : الآية التي تحكي توكيد ذي القرنين بمجيء وعد الله وكونه حقا لا ريب فيه والتي تعني البعث والنشور. وثالثا : ما تضمنته القصة من تقرير كون هذا الملك العظيم الذي بلغ سلطانه وفتوحاته وخطورة شأنه هذا المبلغ الذي كاد يكون سيد مشارق الأرض ومغاربها مؤمنا بالله موقنا باليوم الآخر وداعيا إلى الله ومثيبا للمؤمنين الصالحين بالحسنى ومعاقبا للكافرين الجاحدين حيث يتطابق في صفاته وخطته مع الدعوة التي يدعو إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتتضمنها آيات القرآن. ورابعا : الآيات [٩٨ ـ ١٠١] التي جاءت معقبة على الآيات القصة التي تبدو وكأنها جزء متمم لها ،

١٠١

جاءت لتربط بينها وبين توكيد مجيء القيامة وتنذر الكفار الذين يتصاممون عن آيات الله وذكره ولا يبصرون النور الهادي الذي جاءهم به رسوله بنار جهنم.

ولقد قال المفسر القاسمي في عقب الآيات إنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب في سياق الوقائع. وهو الحق الذي ما فتئنا ننوه به ثم أخذ يورد على ما ورد على باله من فوائد السياق. فمن ذلك :

١ ـ القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل وكون الفوز والظفر إنما هما على قدر بذل الجهد.

٢ ـ تنشيط الهمم فلا ينبغي أن تكون أهوال الأسفار عذرا في الخمول والرضاء بالدون إذا ما تيسرت الأسباب.

٣ ـ واجب الملك أن يبذل جهده في تحقيق شكوى الشاكين وراحة رعاياه وأمنهم ودفع ما يهددهم من أخطار.

٤ ـ واجبه بالتعفف عن أموالهم إذا ما أغناه الله.

٥ ـ التحدث بنعمة الله.

٦ ـ مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال تنشيطا لهمتهم وترويحا لقلوبهم.

٧ ـ تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره.

هذا ، وإذا كان ليس هناك أحاديث صحيحة عن شخصية ذي القرنين فهناك أحاديث نبوية عديدة منها الوارد في كتب الأحاديث الصحيحة عن يأجوج ومأجوج بحيث يكون محل للكلام عنهم في هذا النطاق. من ذلك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة في سياق تفسير الآيات وفي معرض ذكر السد الذي أنشأه ذو القرنين لمنع أذى يأجوج ومأجوج جاء فيه : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّهم يحفرونه كلّ يوم حتّى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله

١٠٢

كأشدّ ما كان حتّى إذا أراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله ، فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه ويفرّ الناس منهم فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضّبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوّا فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون. فوالذي نفسي بيده إنّ دوابّ الأرض تسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم» (١). ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال : «اطّلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : ما تذكرون؟ قالوا : نذكر الساعة. قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدّخان والدجّال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» (٢).

ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان في معرض ذكر نزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان وقتله الدجال جاء فيه : «إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجّال بأنه أخرج عبادا لا يدان لأحد بقتالهم فحرّز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٢ ، وفسر الشارح النغف بنوع من الدود يظهر في أنف الإبل والغنم فيهلكها.

(٢) التاج ج ٥ ص ٣٠٤.

١٠٣

شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتّى يتركها كالزّلقة» (١).

وهناك أحاديث أخرى لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحتها محتملة لأنها من باب ما ورد في هذه الكتب منها حديث رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل». وحديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن زينب بنت جحش قالت : «استيقظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلّق. قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث» (٢). وحديث أورده ابن كثير نقلا عن الطبراني ومرويا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا وإن من ورائهم ثلاث أمم تاويل وتأييس ومنسك» (٣). وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير في سياق تفسير سورة الأنبياء ولما ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ، منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال : إنكم تقولون لا عدوّ لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوّا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب السعاف من كلّ حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج».

ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن مرة أخرى في آيات سورة الأنبياء هذه : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٢١ ـ ٣٢٤ ومعنى لا يدان لا يقدر عليه. وفرسى جمع فريس كقتلى وقتيل بمعنى موتى.

(٢) قال ابن كثير إن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث وهب.

(٣) قال ابن كثير إن هذا الحديث ضعيف منكر.

١٠٤

الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٩٧) حيث تفيد صراحة استمرار وجودهم في الدنيا وحبسهم عن الناس إلى الوقت المعين في علم الله حتى يفتح لهم وينطلقون من حبسهم وينسلون من كل حدب.

ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في بعض الأسفار المتداولة اليوم من أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد كذلك. بعبارة في بعضها شيء ما من التوافق والتساوق مع ما جاء في القرآن وبعض الأحاديث النبوية أيضا. من ذلك ما جاء في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر نبوءة حزقيال ، وحزقيال هذا من سبي بني إسرائيل إلى بابل ومن أنبيائهم في السبي ، ونبوءته تدور على حالة بني إسرائيل وفلسطين وما لا قوه من أهوال وما سيكون أمرهم إليه (وكلمة الرب إليّ قائلا يا ابن البشر اجعل وجهك نحو جوج أرض ماجوج رئيس روش وماشك وتوبل وتنبأ عليه. وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأجعل حلقة في فكك أنت وجميع جيوشك خيلا وفرسانا ومعهم فارس وكوش وفوط وجومر وآل توجرن وأقاصي الشمال وجميع جيوشهم وشعوب كثيرون. في آخر السنين تأتي إلى الأرض المنجاة من السيف المجموعة من شعوب كثيرين إلى جبال إسرائيل التي كانت مستوحشة كل حين فتصعد وتأتي كعاصفة وتكون كغمام يغطي الأرض. إنك يأجوج في آخر الأيام تكون فأتي بك على أرضي لكي تعرفني الأمم بأني سأجلبك عليهم. في ذلك اليوم يوم يأتي جوج على أرض إسرائيل يقول السيد الرب يطلع حنقي في وجهي وفي غيرتي ونار غضبي تكلمت. ليكونن في ذلك اليوم ارتعاش عظيم على أرض إسرائيل. فيرتعش من وجهي سمك البحر وطير السماء ووحش الصحراء وجميع الدبابات الدابة على الأرض وجميع البشر على وجه الأرض. وتندك الجبال وتسقط المعاقل وكل سور يسقط إلى الأرض. لكني أدعو السيف عليه في جميع جبالي فيكون سيف كل رجل على أخيه. وأدنيه بالوباء والدم والمطر الطاغي وحجارة البرد وأمطر النار والكبريت عليه وعلى جيوشه وعلى الشعوب الكثيرين الذين معه فأتعظم وأتقدس

١٠٥

وأتعرف على عيون أمم كثيرين فيعلمون أني أنا الرب). وجاء في الإصحاح التاسع والثلاثين من السفر نفسه : (وأنت يا ابن البشر تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأقتادك وأصعدك من أقاصي الشمال وآتي بك إلى جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهمك من يدك اليمنى على جبال إسرائيل تسقط أنت وجميع جيوشك والشعوب الذين معك وللجوارح والعصافير وكل ذي جناح ولوحش الصحراء قد جعلتك مأكلا. على وجه الصحراء تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب ، وأرسل نارا على ماجوج والساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب ويخرج سكان مدن إسرائيل بالسلاح ويسلبون الذين سلبوهم ، في ذلك اليوم أجعل لجوج موضعا ذا اسم قبرا بإسرائيل وادي العابرين في شرق البحر فيسد الوادي على العابرين فيدفنون هناك جوجا وجميع جمهوره ويسمون الموضع وادي جمهور جوج).

ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الرسالة الأولى للقديس يوحنا وهو من ملحقات العهد الجديد في صدد المسيح الدجال : (أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة ولما أنكم سمعتم أن المسيح الدجال يأتي يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون. فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة). ومن ذلك ما جاء في الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهو كذلك من ملحقات العهد الجديد في صدد يأجوج وماجوج والنبي الكذاب (وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع جوج وماجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب ، هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور).

وعلى كل حال فإن من واجب المسلم أن يؤمن بوجود قبيلين اسماهما المعرّبان يأجوج ومأجوج وبأنهما خلق عجيب من خلق الله من بني آدم وبأنهما يخرجان في آخر الزمان من كل حدب لأن ذلك مما ورد في القرآن بصراحة

١٠٦

وقطعية ، ومما ورد عنه تفصيل في أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ولو لم تدرك أمرهم العقول العادية ، مع الوقوف عند ما وقف عنده القرآن ، والثابت من الأحاديث النبوية ومع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكرهم بالأسلوب الذي ذكروا به حكمة. ومع ملاحظة أن ذكرهما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانت متداولة بين اليهود والنصارى في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فيه تشابه من بعض النواحي لما ورد عنهم في الأحاديث النبوية ، وأن صفات وأخبار هذين القبيلين لم تكن نتيجة لذلك مجهولة في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره ، ومع ملاحظة أن ذكرهم جاء في سورة الأنبياء كنذير من نذر الله بقرب القيامة وأهوالها. وجاء في سورة الكهف مع قصة من أهدافها العظة والتدعيم والله تعالى أعلم.

ولم يدع مفسرو غلاة الشيعة هذه القصة دون لمس حيث قالوا في مدى آية : (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) (٨٧) إنها تعني أنه يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابا نكرا حتى يقول يا ليتني كنت ترابا أي من شيعة أبي تراب (١)!. ومؤدى القول أن عليا رضي الله عنه هو الربّ الذي يرجع إليه الناس ليعذبهم.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)) [١٠٢ الى ١٠٨]

(١) ضلّ سعيهم : حبط عملهم وضاع وذهب هباء.

__________________

(١) التفسير والمفسرون ج ٢ ص ٧٠.

١٠٧

(٢) الفردوس : قيل إنها معرّبة من الرومية وأنها تعني البستان الذي يجتمع فيه التمر والزهر. أو الذي يجمع محاسن كل بستان ، أو أواسط الجنات وأفضلها مكانا ، وعلى كل حال فالكلمة كانت معرّبة ومندمجة في اللغة الفصحى ومفهومة الدلالة قبل نزول القرآن.

(٣) حولا : تحولا.

عبارة الآيات واضحة ، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.

وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.

وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني ، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي ، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يظل ثابتا مستمرا عليها لأنه يرجو بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.

ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [١٠٣] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوة النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.

ولقد روى الطبري عن ابن جريج أن المقصود بكلمة (عِبادِي) في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه‌السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة

١٠٨

كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.

ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (١٠٣) أحدهما أنهم أهل الصوامع وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين لأنه رضي بالتحكيم وقالوا لا حكم إلّا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين. وروى عن مصعب بن سعد قال : «سألت أبي عن هذه الآية : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أهم الحرورية؟ قال : لا ، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذّبوا محمّدا وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسمّيهم الفاسقين» (١). وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان. وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا ، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال إن الآية عامة الشمول وهو حقّ. ومن العجيب أن تقال وفي الآية [١٠٥] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.

ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال : «أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها». وحديث عن معاذ بن جبل قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض ، أعلى درجة منها الفردوس». وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

١٠٩

فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما». وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرّحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر أنهار الجنة». وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة مئة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس» (١).

والفردوس في أصلها معرّبة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة ، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.

ولقد روى الطبري في سياق جملة (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) حديثا عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)». وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال : «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)». وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال : «كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلّة له ، فلما قام قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا بريدة هذا ممّن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا». والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٦٦.

١١٠

بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)» (١).

والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة ، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)) [١٠٩ ـ ١١٠]

(١) مدادا : حبرا.

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقرر للناس أن آيات الله ومشاهد عظمته أوسع وأكثر من أن تحصى حتى لو أريد كتابتها وكان البحر مملوءا بالحبر لنفد الحبر قبل أن تنفد ولنفد بحر من الحبر مثله أيضا قبل أن تنفد. وبأن يقرر لهم أيضا أنه بشر مثلهم ، وكل ما في أمره أنه يوحى إليه بأن إلههم واحد لا شريك له وأن على الذين يرجون لقاء الله وما عنده من الحسنى أن يؤمنوا به ويعملوا صالح الأعمال ولا يشركوا به أحدا.

ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس جاء فيه : «قالت اليهود يا محمّد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك (وَمَنْ يُؤْتَ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٣.

١١١

الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) سورة البقرة : [٢٦٩] ثم تقول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) سورة الإسراء : [٨٥] فأنزل الله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً) الآية. روى هذا الحديث الترمذي أيضا (١). ومقتضاه أن تكون الآية مدنية وأن تكون نزلت لحدتها ، ولقد روى الطبري عن طاووس عن مجاهد رواية بصيغتين جاء فيها أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ومكاني أو أحبّ أن أعمل وأتصدق وأحب أن يراه الناس فأنزل الله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ...) الآية [١١٠] وروى أيضا عن عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يتلو هذه الآية ويقول : إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ومقتضاها أن تكون هذه الآية أيضا مدنية وأن تكون نزلت لحدتها كذلك. ولم نطلع على رواية تذكر مدنية آية من الآيتين. وهما متساوقتان في الخطاب والوزن ومتساوقتان في الوقت نفسه مع ما قبلهما في الوزن. والسياق جميعه في صدد الكفار ، ولذلك نتوقف في الروايات ونرجح أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة وجاءتا في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة واحتوتا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسرية عنه تجاه مواقف الكفار الذين حكت الآيات السابقة اتخاذهم آيات الله ورسله هزوا وأنذرتهم من حيث انطواؤهما على تقرير كون مهمته هي إنذار الناس وترك الأمر لهم بعد ذلك. فمن أراد النجاة آمن وعمل صالحا ومن أبى فله الهلاك. وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تدعيم للتلقين الذي احتوته الآيات السابقة. وقد يلحظ أن شيئا من الفرق أو المبالغة بين الأولى وبين آية سورة لقمان [٢٧] التي جاء فيها : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) غير أنه لا محل لقول ذلك لأن القصد هنا وهناك هو تعظيم مقدار علم الله وكلماته وتقرير كونهما أعظم من أن يحدهما وصف أو ينفدا بالتسجيل والكتابة ، بالعبارة التي اقتضتها حكمة التنزيل في كل من الموضعين.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٣.

١١٢

ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية عن شهر بن حوشب قال : «جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فسأله فقال : أنبئني عمّا أسألك عنه أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يحمد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة : ليس له شيء إن الله عزوجل يقول : أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه». وروى ابن كثير هذا الحديث عن طريق الإمام أحمد بزيادة مهمة فيها صورة رائعة كتناجي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده وهذا نصه : «قال شهر بن حوشب قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى ، فقال عبادة : إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من المسلمين من ثبج المسلمين يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعاده وأبدأه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلّا كما يحور رأس الحمار الميت. قال : فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شدّاد : إن أخوف ما أخاف عليكم أيّها الناس لما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة وأبو الدرداء : اللهمّ غفرا ألم يكن رسول الله قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟ أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك؟ قالوا : نعم والله إن من صلّى لرجل أو صام أو تصدّق له لقد أشرك. فقال شداد : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من صلّى يرائي فقد أشرك. ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك». قال عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد الله إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي. من أشرك شيئا فإنّ عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا غني عنه». ولقد أورد ابن كثير نصّا آخر لحديث شداد جاء فيه : «إنه بكى فقيل له : ما يبكيك؟ قال : شيء

١١٣

سمعته من رسول الله فأبكاني. سمعته يقول : أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية ، قلت : يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال : نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراؤون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه». وأورد ابن كثير إلى هذا وفي سياق الآية أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كلّه». وحديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جرى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء». وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشّرك» والحديث الأخير فقط ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الشهيرة وقد رواه مسلم والترمذي (١). وقياسا على ذلك تكون صحة الأحاديث الأخرى محتملة.

وفي الأحاديث توضيح لمدى الآية الثانية التي وردت الأحاديث في صددها وتحذر من أي نوع من أنواع الشرك سواء كان في العقيدة واتخاذ شركاء لله مع الله أم في الأعمال وبيان بأن المقبول عند الله والنافع للمسلم هو ما كان خالصا لله تعالى وحده من ذلك وحثّ عليه. وهذا متسق مع مدى الآية ومدى التلقينات القرآنية عامة ثم مع مدى الطابع المميز للعقيدة الإسلامية بوحدانية الله تعالى دون أي شائبة ولا تأويل ولا اختصاص ولا تعقيد وبالاقتصار على الخضوع له والتعلّق به ونبذ كل ما سواه من قوى أخرى.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٤.

١١٤

سورة النحل

في السورة مواضيع متنوعة ، غير أن طابعها المميز تعداد نعم الله ومشاهد عظمته والتذكير بما يسّر الله للناس من وسائل الرزق وسخر لهم من نواميس الكون لإثبات استحقاقه وحده للعبادة والتنديد بالكافرين والمشركين وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين الشاكرين وتطمينهم. وفيها مبادئ أخلاقية شخصية واجتماعية رائعة. وخطة جليلة للنبي والمسلمين عامة في صدد الدعوة إلى سبيل الله. وفيها إشارات إلى عقائد العرب باتخاذ الله بنات وكراهيتهم للبنات. وإلى هجرة المسلمين الأولى ، وإلى حوادث ارتداد وعودة بعض المرتدين إلى الإسلام ، وإلى قول الكفار بأن شخصا يعلّم النبي ، وإلى حادث تبديل آية مكان آية في القرآن ، وإلى ما حرّم الله من لحوم وذبائح ، وإلى ملّة إبراهيم.

ولا يمكن أن يقال إن فصولها منقطعة عن بعضها بل إن التساوق بينها أو بين أكثرها أكثر ظهورا ، وهذا يبرر القول إن فصولها نزلت متتابعة فدونت متتابعة كما نزلت إلى أن تمت.

وقد روي أن الآيات [١٢٦ ـ ١٢٨] مدنية ، وأسلوبها ومضمونها وسياقها يسوغ التوقف في ذلك ويجعل الرجحان لمكيتها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا

١١٥

فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)) [١ ـ ٤].

(١) أتى : بمعنى الآتي والواقع والمحقق.

(٢) أمر الله : من المؤولين من أوّل أمر الله بالساعة والقيامة وقال إن الآية مثل (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] ومنهم من أوّلها بعذاب الله ، وكلا التأويلين محتمل.

(٣) بالروح من أمره : ما اقتضت حكمة الله أن يوحى من أوامره ورسالاته وكتبه وتبليغاته.

(٤) خصيم مبين : مخاصم عنيد ومجادل قوي الجدل.

في الآيات :

١ ـ توكيد بأن أمر الله آت لا ريب فيه فليتأكد السامعون من ذلك ولا يستعجلوه.

٢ ـ وتنزيه لله عن الشركاء الذين يشركهم معه المشركون.

٣ ـ وتقرير بما جرت عليه عادة الله تعالى من إنزال الملائكة بوحيه وما شاء من رسالاته وكتبه وأحكامه وتبليغاته على من يصطفيهم من عباده لإنذار الناس ودعوتهم إلى الإيمان به وحده واتقائه بصالح الأعمال.

٤ ـ وتنبيه على أنه هو الذي خلق السموات والأرض وأن الذي يقدر على ذلك يكون غنيا ومنزها عن الشركاء.

٥ ـ وتبكيت للإنسان الذي خلقه الله من نطفة تافهة فلم يتورع عن الوقوف منه موقف الخصم العنيد والمجادل المكابر.

وطابع المطلع في الآيات واضح. والخطاب فيها وإن كان عاما فروحها ومضمونها يلهمان أنه موجه إلى الكفار المشركين ومتضمن لمعنى التنديد بهم

١١٦

وإنذارهم فهم الذين يستعجلون وعد الله وهم الذين يجادلون في آياته ويقفون منه موقف الخصم العنيد. والمتبادر أن الآية الأولى بسبيل الردّ على ما كان يصدر من الكفار من تحدّ باستعجال أمر الله وعذابه الموعود عند ما تأتي الساعة وتقوم القيامة والاستهزاء بالوعد ، فأمر الله آت لا ريب فيه.

والآية الثانية وهي تقرر ما جرت عادة الله عليه تتضمن توكيد صحة وحي الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته وتقرير كون هذا ليس بدعا يبعث الاستغراب ويسوغ المكابرة ، ولا سيما أن دعوته واضحة بسيطة وهي دعوة إلى الله وحده واتقائه بصالح العمل.

ولما كانت السورة السابقة انتهت بالتنديد بالمشركين والنهي عن الإشراك بالله فقد يكون بدء مقصد السورة بتنزيه الله عن الشرك وإنذار المشركين بعذاب الله قرينة على صحة ترتيب نزول السورتين واحدة عقب الأخرى. ولقد روى الطبري عن ابن جريج قال : لما نزلت الآية الأولى قال رجل من المنافقين إن هذا يزعم أن أمر الله أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا ما نراه أنزل شيء فنزلت : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] فقالوا : إن هذا يزعم مثله ، فنزلت : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [هود : ٨]. وروي عن أبي بكر بن حفص قال : لما نزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) رفعوا رؤوسهم فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وروى البغوي أن المشركين لما رأوا أن ما أنذر النبي لم ينزل ونزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) وثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنه قد أتى حقيقة فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا. والروايات عجيبة. وآية سورة الأنبياء نزلت بعد هذه السورة بمدة ما ، وآية سورة هود نزلت قبلها بمدة ما حيث يظهر هذا أيضا تفكك الروايات ويسوغ ترجيح كون الآيات وحدة تامة احتوت المقاصد التي شرحناها والله تعالى أعلم.

١١٧

ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «بعثت أنا والساعة كهاتين ـ وأشار بإصبعيه ـ وإن كادت لتسبقني» (١). وروى ابن كثير في سياقها حديثا كذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس ، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها يا أيّها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم ، فمنهم من يقول نعم ومنهم من يشكّ. ثم ينادي الثانية يا أيّها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض هل سمعتم فيقولون نعم ثمّ ينادي الثالثة أي. أيّها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا وإنّ الرجل ليمدّنّ حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا وإنّ الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا ، قال ويشتغل الناس».

والحديث الأول وارد كما أشرنا في الذيل في كتب الأحاديث الصحيحة ، واحتمال صحة الحديث الثاني وارد. واقتراب الساعة مع بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما ذكر صراحة في بعض الآيات القرآنية منها آية سورة القمر : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث إنذار الناس وهذه الحكمة ملموحة في الآيات كما هو المتبادر.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ

__________________

(١) روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بصيغة قريبة عن سهل وهذه الصيغة «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبابة والوسطى» التاج ج ٥ ص ٣٠١.

١١٨

شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)) [٥ الى ١٨]

(١) لكم فيها دفء : لكم فيها ما تستدفئون به. والمتبادر أن القصد من الجملة الإشارة إلى شعر الأنعام وصوفها ووبرها الذي يصنع منه الثياب التي تبعث الدفء في الأجسام.

(٢) لكم فيها جمال : المتبادر أن المقصد الإشارة إلى ما في منظر الأنعام وهي تغدو وتروح من مشهد جميل ومأنوس وبخاصة بالنسبة لأصحابها والحياة التي كان يحياها العرب الذين هم أول من خوطبوا بالقرآن.

(٣) تريحون : ترجعون الأنعام إلى مراحها أي حظائرها وزرائبها بعد الرعي.

(٤) تسرحون : تذهبون بها إلى الرعي في الصبح المبكر.

(٥) لم تكونوا بالغيه إلّا بشق الأنفس : لم تكونوا لتصلوا إليه لو لا الأنعام إلا بكل مشقة وقرئت الشين بالفتح والكسر والجمهور على الكسر.

(٦) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر : معنى قصد السبيل سلوك الطريق الحق ، ومعنى جائر المعوج عن الطريق الحقّ. والجملة تنطوي على تقرير كون هناك طريقان واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن الله يدعو ويهدي إلى الأولى أو

١١٩

أن عليه أن يبين الطريق المستقيم.

(٧) فيه تسيمون : فيه ترعون أنعامكم.

(٨) ذرأ لكم : خلق لكم ، أو نمّى ، أو أكثر ، أو سخّر لكم.

(٩) مواخر : من المخر وهو الجريان والسير في البحر.

(١٠) أن تميد بكم : لئلا تميد وتضطرب.

(١١) وعلامات : دلائل يستدل بها المسافرون في أسفارهم من معالم الطرق أو النجوم على ما ذكره المفسرون.

في الآيات تعداد لنعم الله على الناس وتذكير بما هيأه وسخّره لهم من وسائل الحياة والمعاش ونواميس الكون. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كاستطراد بياني لما احتوته الآيات السابقة وبخاصة الآيتان الأخيرتان منها كما هو المتبادر بحيث يصح القول أنهما سياق واحد. وكل ما فيها قد مرّ في سور سابقة وشرحناه وعلقنا عليه. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره لتكرر المواقف وتنوعها ، وهي موجهة إلى القلوب والعقول معا ، ويزيد في استحكامها وإلزامها أن السامعين يعتقدون أن الله عزوجل هو الذي خلق كل ذلك وأغدق عليهم بكل هذه الأفضال ويسّر لهم كل هذه الوسائل على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّ منها بعض الأمثلة ، وأسلوب الآيات ينطوي على تقرير هذا أيضا.

والآيات وإن كانت مطلقة الخطاب فإن الآية (١٧) تنطوي على تنديد. وهذا التنديد موجه على الأرجح إلى الكفار المشركين الذين ندد بهم في الآيات السابقة وهذا مما يؤيد ما قلناه آنفا من صلة الآيات بسابقاتها وكونها سياقا واحدا.

ومع أن التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ولفت أنظارهم إلى مشاهد الكون ونواميسه منبث في كثير من السور القرآنية وإن معظم ما جاء في هذه الآيات قد جاء في سور أخرى فإن هذه السلسلة أطول السلاسل القرآنية من حيث الشمول والروعة.

وننبه مرة أخرى إلى ما نبهنا إليه قبل من أن أسلوب هذه الآيات وما سبق من

١٢٠