التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

(٢) الأحقاف : معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه. وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضرموت ، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.

(٣) وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه : النذر جمع نذير ، وقد خلت بمعنى وقد مضت ومن بين يديه ومن خلفه قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.

(٤) لتأفكنا : لتصرفنا.

(٥) عارضا : هنا بمعنى السحاب.

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم ، حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده. فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد وقالوا له إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا ، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به ، فأجابهم إن علم ذلك عند الله وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربّه ، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأوا سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلّا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.

والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ليكون فيها عظة للكفار الذين وقفوا نفس الموقف. ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ

٢١

فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.

وتعبير (أَخا عادٍ) هو من التعابير العربية المألوفة ، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه‌السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت : «ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه بياض لهواته وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقلت يا رسول الله إنّ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» (١). وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى مخيلة تغيّر وجهه وتلوّن ودخل وخرج وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سرى عنه وذكرت له الذي رأيت قال : وما يدريك لعلّه يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) الآية [٢٤] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم». وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول : اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ عاقبته فإن كشفه الله تعالى حمد ربّه عزوجل وإن أمطر قال اللهمّ صيبا نافعا». حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى

__________________

(١) روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨.

٢٢

عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)) [٢٦ ـ ٢٨].

(١) فيما إن مكناكم فيه : فيما لم نمكنكم فيه ، أي إنهم كانوا أقوى منكم وأشدّ تمكينا.

(٢) فلولا : هنا بمعنى هلا للتحدي.

(٣) قربانا : هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة.

جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكّر قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غيّ وضلال. فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن ، وقد خذلهم الشركاء عند ما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلّا إفكا وافتراء.

والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب ، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا ، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة.

والمتبادر أن تعبير (ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر

٢٣

القرآن قصصهم ممن كانوا يسكنون البلاد المتاخمة لمساكن الحجازيين السامعين للقرآن والموجه إليهم في بدء الأمر ، أو واقعة على طريقهم ومناطق تجوالهم ورحلاتهم وهي قبائل عاد وتبّع في جنوب جزيرة العرب ، وقبائل ثمود في شمالها ومدين وقوم لوط في الشمال الغربي ومصر في الجنوب الغربي والرسّ في شرق الجزيرة الشمالي وقوم نوح في العراق إلخ ...

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)) [٢٩ ـ ٣٢]

(١) صرفنا : وجهنا أو بعثنا.

(٢) فلما قضى : فلما انتهى.

في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجنّ للقرآن وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها ، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.

تعليق على آية

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ)

وما بعدها

ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث ، منها أنها نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا ، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه

٢٤

استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه ، فقال : «اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدوّ ملّكته أمري ، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلّا بك». ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلّي مرّ به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك (١). وسألوه الزاد فقال : «كلّ عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما ، وكلّ بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجنّ» (٢). ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما : «قيل لعبد الله من آذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال : آذنت بهم شجرة» (٣). وجاء في ثانيهما : «قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بال العظم والرّوث لا يستنجى بهما؟ قال : هما من طعام الجنّ وإنّه قد أتاني وفد جنّ نصيبين ونعم الجنّ فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألّا يمرّوا بعظم ولا بروثة إلّا وجدوا عليه طعاما» (٤). ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ فأيّكم يتبعني؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخطّ على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود :

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي ، وانظر أيضا سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٩ ـ ٣١.

(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

٢٥

فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبيّ الله تلا القرآن ، فلما رجع قلت : يا نبي الله ، ما اللغط الذي سمعت؟ قال : اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق» وفي رواية أخرى عن ابن مسعود (١) يبدو أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله هل رأيت شيئا قال : نعم ، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة» ، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا : «قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا. فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطّفك بعضهم». وفي رواية عن ابن عباس (٢) أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماءهم : حسى وحسى ، ومنسى ، وساصر ، وناصر ، والأردوبيان ، والأحتم ، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاث صنوف منهم على صفة الطيور ، ومنهم على صفة الحيات والكلاب ، ومنهم من يحلون ويظعنون (٣). وفي رواية عن ابن عباس (٤) جاء فيها : لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون : «يا قومنا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به».

وتعليقا على ذلك نقول : إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح

__________________

(١) انظر تفسير الخازن.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر تفسير ابن كثير.

(٤) انظر تفسير البغوي.

٢٦

ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجنّ حتى ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجنّ وهذا الحادث واحد (١). مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين ـ ربما كانت بضع سنين ـ ومع أن فحوى آيات كلّ من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند ، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد ، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه ؛ وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير.

وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما ذهب لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد. والروايات تذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به ، ويلهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع ، في حين أن آية سورة الأعراف هذه : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [٢٧] تفيد أن الإنس لا يرون الجن (٢).

ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه

__________________

(١) انظر تفسير البغوي.

(٢) الآية في صدد إبليس ولكن إبليس هو من الجن كما جاء في آية سورة الكهف هذه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...) [٥٠].

٢٧

قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم». حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجنّ ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.

ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجنّ بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث ، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم ، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحقّ فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا.

وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبثّ الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوىء المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها.

٢٨

ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولقد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [٣٥] من سورة (ص) فيه خبر رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا ، والله تعالى أعلم.

هذا ، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا ـ على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه ـ على الدين النصراني. وهكذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني فلقد آمن برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة ، منها القصص والإسراء ، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم ، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك ، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)) [٣٣ ـ ٣٥].

(١) ولم يعي : ولم يتعب.

(٢) أولو العزم : المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا

٢٩

التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله.

(٣) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره.

في الآيات :

١ ـ سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السموات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى.

٢ ـ وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء.

٣ ـ وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ : ذوقوا العذاب جزاء كفركم وعنادكم.

٤ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لا حق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلّا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلّا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته.

وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله.

ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية ، وهو غريب. ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما ، وأسلوبها ومضمونها

٣٠

يمت إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك.

ولقد ذكر بعض المفسرين (١) أن تعبير (بَلاغٌ) قد قصد به تقرير كون القرآن أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين أو ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون (٢) والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله.

لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد : أن كل الرسل كانوا أولي عزم وأن الله لم يبعث نبيا إلّا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل وأن (من) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا أن بعضهم قال : إن جميع الأنبياء أولو عزم إلّا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ...) الآية [٤٨] سورة القلم. وأن قوما قالوا : هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [٩٠] وأن الكلبي قال : إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم وأن هناك من قال إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير : إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي : إنهم الذين شرّعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلّا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم.

(٢) انظر تفسير الطبري والطبرسي.

٣١

ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : «ظلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم قال : يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمّد ولا لآل محمد. يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلّا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلّا أن يكلّفني ما كلّفهم فقال (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ، ولا قوة إلّا بالله». حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها.

وقد ذكر بعض المفسرين (١) في صدد تعبير (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [٣٥] أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبرسي.

٣٢

سورة الذاريات

في السورة توكيد بالبعث والحساب ، وحملة شديدة على المكذبين الجاحدين وتنويه بالمتقين وأعمالهم الصالحة ومصائرهم في الآخرة. وفصل قصصي مقتضب عن بعض الأنبياء والأمم بينه وبين موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار تماثل ، وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت له ، وآياتها متساوقة متوازية مما يسوّغ القول بأنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)) [١ الى ٦]

(١) الذاريات : كناية عن الرياح الذي تذرو التراب أي تثيره وتحركه. وفي سورة الكهف آية فيها هذا المعنى صريح وهي : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [٤٥].

(٢) الحاملات وقرا : الوقر هو الحملة ، والجملة كناية عن السحاب الذي يكون حاملا للماء.

(٣) الجاريات يسرا : السفن التي تجري في البحر بسهولة أو الرياح الجارية في مهابها أو الكواكب الجارية في منازلها حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول.

٣٣

(٤) المقسمات أمرا : المنفذون لأوامر الله وهم الملائكة أو السحب التي تقسم الأمطار على الأرض حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون.

(٥) الدين : الجزاء. والكلمة كناية عن البعث الذي يكون فيه جزاء كل نفس بما كسبت.

ابتدأت السورة بالأقسام الربانية جريا على الأسلوب القرآني في عدد غير قليل من السور المكية وبخاصة القصيرة. وقد قصد بها توكيد كون ما يوعد به الناس من البعث والجزاء هو وعد صادق وأمر واقع حتما.

وروح الآيات وإن كانت تلهم أنها في صدد إنذار السامعين المخاطبين عامة فإن أسلوبها والآيات التالية لها تدل على أن المقصود بالإنذار هم الكفار.

ويلحظ شيء من التساوق بين هذا المطلع وبين خاتمة سورة الأحقاف من حيث توكيد البعث والجزاء مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك.

والمتبادر أن الإقسام بالمقسومات التي هي مشاهد كون الله ونواميسه وعظيم خلقه قد انطوت على قصد التذكير بعظمة خالق الكون وقدرته على تحقيق ما أوعد الناس به.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)) [٧ الى ١٤]

(١) ذات الحبك : ذات الصنع الحسن المتقن أو ذات المسالك والطرائق أو ذات النجوم حسب تعدد الأقوال.

(٢) إنكم لفي قول مختلف : إنكم مختلفون في أقوالكم لستم على شيء

٣٤

واحد أو بمعنى أنكم في أمر القرآن ونبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يبشّر وينذر به مختلفو المذاهب.

(٣) يؤفك عنه من أفك : المتبادر أن (عنه) تعني القول الحق ويكون معنى الجملة يصرف عن الحق في الأقوال من يصرف وهم الخراصون.

(٤) الخراصون : المتوهمون والظانون على غير أساس وعلم.

(٥) غمرة : جهالة غامرة أو شاملة.

(٦) يفتنون : يعرضون أو يحرقون. وقد تكون الكلمة قد استعملت مقابل فتنتكم التي قد تحتوي التذكير بما كان من زعماء الكفار من إعراض وحمل الناس على الانصراف والارتداد عن الدعوة.

(٧) ذوقوا فتنتكم : ذوقوا طعم حريق النار أو ذوقوا جزاء فتنتكم في الدنيا.

وهذه الآيات تبتدئ بقسم رباني أيضا بالسماء ذات الحبك بأن السامعين للقرآن واقعون في اختلاف وارتباك في شأن القرآن والدعوة والنذر الربانية والبعث الأخروي وفهم أهداف ذلك. وتقرر أنهم بسبب ذلك انصرف عنه الراغب عن الحق والهدى. ثم التفتت إلى الذين هم ضاربون في الظنّ والتخمين متعامون عن الحقيقة وتدبرها التفاتا فيه تنديد وتقريع يتمثلان في لفظ (قُتِلَ) فهم ساهون في غمرة الجهالة عن فهم الحق وإدراك الحقيقة ثم يظلون يسألون سؤال الشك والإنكار عن موعد يوم الجزاء الذي يوعدون به. ثم انتقلت إلى توكيد الأمر : فلسوف يأتي ذلك اليوم ولسوف يلقون فيه في النار ولسوف يقال لهم حينئذ ذوقوا عذاب الحريق أو ذوقوا جزاء ما كنتم من حالة العناد والصدّ والانصراف في الدنيا فهذا الذي كنتم تستعجلون وتتحدّون الإتيان به.

والصلة واضحة بين هذه الآيات والآيات السابقة وفيها كما قلنا بيان بأن المخاطبين في الآيات هم الكفار ، وقد استهدفت فيما استهدفته الإنذار لهم وإثارة الخوف في قلوبهم وحملهم على الارعواء.

ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم استعجال العذاب لهم

٣٥

بسبب استعجالهم له على سبيل التحدي.

وقد احتوت الآية الأخيرة من هذه الآيات ردا تقريعيا على تحديهم بأن ما كانوا يستعجلونه قد جاء به حيث يمكن أن يكون هذا قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الأحقاف.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)) [١٥ ـ ١٩]

(١) محسنين : يفعلون الحسنات والأفعال الحسنة.

(٢) المحروم : هو المحارف الذي يطلب الدنيا ولكنه لا ينالها أو الذي لا يكون له سهم في الغنائم ولا يجري عليه شيء من الفيء ، أو المحدود في رزقه الذي لا يسأل الناس مع ذلك على ما أورده المفسرون. وهذا الوصف يشبه بل يماثل وصف المسكين الذي ورد في الحديث النبوي الذي أوردناه في تعليقنا على المسكين في سياق الآية [٤٤] من سورة المدثر.

في الآيات تنويه بأعمال المتقين الصالحين في الدنيا ومصيرهم في الآخرة ، فسينزلون في الجنات والعيون ويستمتعون بها بنعم الله جزاء ما كانوا يفعلونه من الأفعال الحسنة في الدنيا حيث كانوا من جهة يقضون أكثر لياليهم بعبادة الله وطلب مغفرته ورحمته ، ويساعدون من جهة أخرى بأموالهم السائلين والمحرومين الذين يتعففون عن السؤال لأنهم يعرفون أن لهم فيها حقا واجبا.

وواضح أن الآيات جاءت لتقابل الآيات السابقة في صدد المفاضلة بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة.

٣٦

تعليق على وصف المتقين

وما فيه من تلقين ودلالة

ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأخيرة من المعنى القوي في اعتبار مساعدة المحتاجين سواء أكانوا من السائلين أم المتعففين عن السؤال حقا واجبا على أصحاب الأموال وما في ذلك من تلقين جليل. ولقد تكرر هذا المعنى في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره مثل سورة الإسراء التي ورد فيها : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [٢٦] ومنها سورة الروم التي ورد فيها نفس العبارة [الآية ٣٨] حيث يدل هذا على أن حكمة التنزيل قد استهدفت تقوية هذا المعنى في نفوس المسلمين حتى لا يرى الأغنياء فيما يساعدون به الطبقات المعوزة وما يؤخذ من أموالهم لذلك عملا تبرعيا وتطوعيا لهم فيه الخيار ولهم فيه حقّ المنّ والاعتداد. وحتى لا يرى المحتاجون في أنفسهم حرجا ولا غضاضة من أخذ ذلك لأنه حقّ لهم. ولقد جاء في آية سورة الحديد : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [٧] وجاء في سورة النور : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) [٣٣] حيث احتوت الجملتان القرآنيتان اللتان لهما أمثال عديدة تقوية لهذا المعنى بأسلوب آخر فيه تلقين رائع أيضا وهو أن ما في أيدي الناس هو مال الله الذي استخلفهم فيه. كذلك يلفت النظر إلى وصف المتقين حيث ينطوي فيه على ما هو المتبادر وصف للرعيل الأول من المؤمنين في مكة حيث استغرقوا في عبادة الله وبخاصة في الليل ، وفنوا في الله ورسوله وفهموا حكمة الله وتلقيناته فكانوا يبذلون أموالهم للمعوزين ويرون ذلك حقا واجبا عليهم ، وفي هذا صورة رائعة لأثر الإيمان في قلوبهم من دون ريب.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما

.

٣٧

تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)) [٢٠ ـ ٢٣]

في الآيات :

١ ـ لفت نظر السامعين إلى ما في الأرض من مشاهد وآيات تقوم براهين قاطعة على وجود الله وعظمته وصحة ما ينذر به نبيه وقدرته عليه كافية لإقناع من حسنت نيته ورغب في معرفة الحق واليقين.

٢ ـ ولفت كذلك وبسبيل ذلك إلى ما في تكوين الإنسان الجسماني والعقلي وإلى السماء وما فيها من أسباب رزق الناس وحياتهم.

٣ ـ وسؤال إنكاري وتعجبي في صدد ما في تكوين الإنسان عما إذا كان السامعون لا يدركون ذلك ولا تذهلهم روعته وعجائبه.

٤ ـ وانتهت الآيات بقسم برب السماء والأرض اللتين احتوتا ما احتوتاه من الآيات والبراهين العظيمة على أن ما يسمعه المخاطبون من نذر وما يتلى عليهم من قرآن حقّ لا يصح الارتياب فيه ، ومثله مثل حاسة النطق في الناس التي لا يصح الارتياب فيها.

والآيات وإن كانت مطلقة التوجيه فالمتبادر أنها موجهة إلى الكفار الذين يجادلون في صحة ما يتلى عليهم وما يوعدون به. وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة سياقا وموضوعا.

وفي (مِثْلَ) قراءتان بفتح الآخر وبرفعه. وفي الأولى جعلت وصفا لمحذوف مقدّر وهو (إنه لحق حقا مثل ما أنكم تنطقون).

وأسلوب الآيات قوي نافذ ، وبعضهم يقف عند جملة (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ويتخذها دليلا على الإعجاز القرآني بما ظهر فنيا من تكوين الإنسان وعجائب خلقته المذهلة. ونحن لا نجاريهم ، فإن كون ذلك مذهلا ليس شيئا جديدا على الناس فهو مما كان ملموسا مدركا يثير الدهشة والذهول عند نزول القرآن. والقرآن إذ يخاطب السامعين الأولين ويلفت نظرهم إلى ما في أنفسهم من

٣٨

عجائب إنما يخاطبهم بما هو من مشاهداتهم ومدركاتهم. وهذا ما يفسر معنى الإنكار والتنديد في السؤال (أَفَلا تُبْصِرُونَ). وهذا القول لا يمنع أن ما ظهر فنيا من أمور كانت غامضة مما يزيد من مدركات الإنسان الحديث ومما يجب أن يجعله موقنا بعظمة المبدع الحكيم فضلا عن وجوب وجوده.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)) [٢٤ ـ ٤٦]

(١) منكرون : مجهولون غرباء عن هذه الديار أو مثيرون للريب.

(٢) راغ : مال وانصرف بخفية.

(٣) في صرة : في صيحة أي ولولت وصاحت حينما سمعت بشرى بأنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم.

(٤) مسومة : معلمة مهيأة.

٣٩

(٥) آية : علامة أو أثر ، وهنا في معنى ما بقي من مساكن قوم لوط من آثار التدمير التي يشاهدها الناس.

(٦) تولى بركنه : تولى وهو مرتكن على قوته أو أعرض وازورّ.

(٧) اليمّ : البحر ، وأصله الماء.

(٨) وهو مليم : وهو مستحق اللوم.

(٩) الريح العقيم : التي لا تبقي على أحد.

(١٠) كالرميم : كالعظم البالي.

في هذا الفصل إشارة إلى حوادث ورسالات بعض الرسل ومصائر أممهم مما احتوت السور الأخرى مثلها بإسهاب تارة واقتضاب تارة أخرى حسب ما اقتضته حكمة التنزيل. وقد جاء عقب الآيات التي حملت على الكفار ونددت بهم وأوعدتهم بسبب جحودهم جريا على الأسلوب القرآني. واستهدفت كما هو المتبادر ما استهدفته الفصول القصصية من التذكير والزجر لحمل السامعين على الارعواء والاتعاظ. فالفصل والحالة هذه متصل بالسياق السابق. وعبارته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ولسنا نرى زيادة بيان في موضوعه لأننا علقنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بما فيه الكفاية.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)) [٤٧ الى ٥١]

(١) بأيد : بقوة وقدرة.

(٢) موسعون : ذوو سعة وشمول.

(٣) فرشناها : بمعنى بسطناها.

(٤) فنعم الماهدون : الماهدون الممهدون الذين يجعلون الشيء قابلا

٤٠