التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

مبادئ القرآن وتلقيناته وخطوطه وتقريراته العامة ، مما أوردنا كثيرا منه ، وسوف نورد كثيرا منه ، في مناسباته ، يحدوهم إلى ذلك إيمانهم بالله ورسوله وقصد الخدمة الخالصة لدين الله وشرائعه. ويتهيبون في كل ما بذلوه من جهد ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال : «إنه ليمنعني أن أحدّثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعمّد عليّ كذبا فليتبوأ مقعده من النار» (١). وما ورد في حديث ثان رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّا مقعده من النار» (٢). وحديث ثالث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار» (٣). وحديث رابع رواه الإمام مالك عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما كتاب الله وسنّة رسول الله» (٤).

وبفضل هذه الجهود المبرورة لم يبق والحمد لله محل للقول بأن السنة النبوية القوليّة والفعليّة قد اضطربت ولم يعد إمكان للأخذ بها ، وكل من يقول هذا بعد أن

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٦٣.

(٢) المصدر نفسه ص ٥٨ وفي مجمع الزوائد ج ١ ص ١٤٢ ـ ١٤٤ أحاديث عديدة من باب هذين الحديثين رواها أئمة آخرون بطرق مختلفة وعن أشخاص آخرين.

(٣) المصدر نفسه ص ٣٧ والمتبادر أن المحدثات المذمومة هي الأمور الجديدة التي تتناقض مع أحكام ومبادئ وتلقينات كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة الإسلام والمسلمين ، وليست الأمور الجديدة مطلقا. وهناك حديثان نبويان يدعمان ذلك منهما حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» ص ٦٥ ـ ٦٧.

(٤) المصدر نفسه ص ٤٠.

١٤١

ثبتت صحة عدد كبير من الأحاديث والسنن القولية والفعلية مارق أو عدو مغرض يهدف إلى تعطيل مصدر رئيسي من مصادر الشريعة الإسلامية عرف منه كثير مما سكت عنه أو عن تفصيله القرآن سواء في الأمور التعبدية أم في الأمور المدنية. وكل ما يمكن أن يقال هو وجوب التروي والأناة في تلقي السنّة النبوية وحسن تفهمها ودراستها من حيث الرواة والمتون والمطابقة إجمالا مع القرآن وعدم التعارض والتناقض. وقد يكون فيما ورد في كتب الأحاديث المعتبرة منها ولا يتناقض مع صريح القرآن أشياء لا يدركها عقل الإنسان العادي من شؤون الدنيا والآخرة وأحداث الأمم والأنبياء السابقين وما يكون في آخر الزمان ومن الشؤون الغيبية مما سبق التنبيه إليه في مناسبات عديدة. ومثل هذا موجود في القرآن المجيد فلا يجوز للمسلم أن يسارع إلى إنكارها ويجب عليه أن يفوض الأمر في ذلك إلى الله وحكمة الرسول كما هو واجبه بالنسبة لما من مثل ذلك في القرآن مع الاعتقاد بأنه لا بد من أن يكون في ذلك من حكمة ولو لم يستطع لمحها ، هذا مع التنبيه على أن علماء الحديث رحمهم‌الله قد عرفوا كذب كثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبهوا عليها كما نبهوا على ما هو ضعيف أو منقطع من الأحاديث أيضا فصار من الممكن للنبهاء وذوي الدارية التعرف عليها والتوقف فيها وعدم الأخذ بها. أما العامة فعليهم أن يسألوا أهل العلم الموثوقين في داريتهم وورعهم ويقفوا عند كلامهم (١).

ومن الجدير بالتنبيه في هذا المقام أن ما هناك من اختلاف بين علماء الحديث والفقه في سنن رسول الله القولية والفعلية الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة ليس هو على صحتها وإنما هو على احتمال النسخ فيها وبسبيل ترجيح الأقوى سندا منها والاجتهاد فيما إذا كانت وجوبية أو استحبابية أو عامة أو خاصة إلخ مما لا يتسع المقام لتفصيله.

هذا وهناك مسألة هامة يحسن التنبيه عليها أيضا ، وهي أن معظم الأحاديث

__________________

(١) اقرأ لأجل هذا البحث كتاب قواعد التحديث للقاسمي والسنّة للسباعي.

١٤٢

النبوية مدنية الصدور والرواة ، وحتى التي فيها تفسير الآيات المكيّة وأسباب نزولها وتطبيقاتها وأحداث السيرة النبوية في العهد المكي. وعلى سبيل المثال نذكر أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم الذين روي عنهم آلاف الأحاديث (١). فأكثرهم من أهل المدينة أو ممن انضم إلى الإسلام في العهد المدني والقرشيون منهم كانوا أحداثا أو أطفالا حين هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ولا يصح أن يكونوا قد رووا عنه شيئا في مكة مثل عائشة وابن عباس وابن عمر. وهناك عشرات من أصحاب رسول الله ممن رووا المئات والعشرات من الأحاديث من هذا النوع (٢).

والحكمة التي نلمحها في ذلك أن العهد المكي كان عهد دعوة وحجاج ولجاج بين النبي والكفار. وكان قسم كبير من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هاجر إلى الحبشة ولم يبق إلى جانب النبي إلّا القليل. ومعظم الأحاديث هي من ناحية أخرى في صدد التشريع والتعليم والتأديب للمسلمين وهذا إنما كان مسرحه في الدرجة الأولى العهد المدني.

ولقد كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة يعرفون ما كانت تذكره الآيات المكية من أحداث والأسباب والمناسبات التي كانت تنزل فيها. فالأسئلة في صددها كانت توجه من أهل العهد المدني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصدر منه الجواب فيروونه عنهم والله تعالى أعلم.

__________________

(١) عدد الأحاديث المروية عن أبي هريرة ٥٣٧٤ وعبد الله بن عمر ٢٦٣٠ وأنس بن مالك ٢٢٨٦ وعائشة ٢٢١٠ وابن عباس ١٦٦٠ وجابر بن عبد الله ١٥٤٠ وأبي سعيد الخدري ١١٧٠ (انظر كتاب قواعد التحديث لجمال القاسمي ، ص ٤٧ وما بعدها).

(٢) نذكر على سبيل المثال أسماء أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وعقبة بن عامر رضي الله عنهم وغيرهم وغيرهم وجميعهم من أهل العهد المدني.

١٤٣

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)) [٤٥ ـ ٤٧]

(١) في تقلبهم : في تجوالهم وأسفارهم إلى آفاق الأرض.

(٢) على تخوف : التخوف بمعنى التنقص فيقال تخوف مال فلان الإنفاق أي جعل الإنفاق ماله متناقصا شيئا بعد شيء حتى نفد. ومما قاله المفسرون أيضا : إن معنى الجملة أن يلاحق الله مصائبه عليهم في الأنفس والأموال والثمرات فينتقص من أطرافهم حتى يهلكوا.

في الآيات :

١ ـ تساؤل يتضمن معنى التنديد والإنذار عما إذا كان الذين يمكرون السيئات ويقفون من النبي موقف الجحود والمكر والكيد قد أمنوا نقمة الله وغضبه في حين أنه قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسلّط عليهم بلاء مفاجأة من حيث لا يدرون ، أو يسلّط عليهم أسباب الخوف والهلاك والعذاب والخسران في رحلاتهم وينقصهم في أموالهم وأنفسهم.

٢ ـ وتقرير ينطوي على أن الله إذا لم يفعل بهم شيئا من ذلك عاجلا فلأنه ترك لهم المجال للتدبر والتفكر وفق ما اقتضته حكمته وصفات الرحمة والرأفة التي يتصف بها.

والآيات متصلة بسابقاتها وعاطفة عليها ، ومتسقة مع موضوع السياق بوجه عام كما هو المتبادر. وقد استهدفت إثارة الخوف في قلوب الكفار ومنحهم فرصة الرجوع إلى الله.

وما انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة انطوى بصراحة أكثر في آية سورة الكهف السابقة لهذه السورة : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما

١٤٤

كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (٥٨) ، وآية سورة فاطر هذه : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)) ، وجاء في آية في سورة النحل نفسها تأتي بعد قليل.

ولقد آمن معظم الذين كفروا وكانوا موضوع إنذار الله ظهرت حكمة الله ومعجزة القرآن في إمهالهم وفي كون الله عزوجل إنما توخّى من إنذارهم وتقريعهم صلاحهم وهدايتهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)) [٤٨ ـ ٥٠]

(١) يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل : تتقلب ظلاله أو تدور ظلاله من اليمين إلى الشمال وبالعكس.

(٢) داخرون : صاغرون.

(٣) من فوقهم : المتبادر أن المقصد من الجملة العلوّ المعنوي لأن الله سبحانه وتعالى منزّه عن الفوقية التي تتضمن تحديدا وجهة.

في الآيات تساؤل ينطوي على التنديد ثم على لفت النظر إلى مشاهد كون الله وخضوع خلقه له ، فكل ما خلق الله مما يتقلب ظلاله من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين خاضع منقاد لله لا يخرج عن أمره وتسييره. وكل ما في السموات والأرض من حيّ ومن ملك خاضع منقاد له كذلك ، يخافونه ويرهبونه ويسارعون إلى تنفيذ أوامره دون استكبار أو تردد.

والآيات استمرار في السياق نظما وموضوعا ، والخطاب فيها موجه إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في السياق. وقد تضمنت التنديد بهم لشذوذهم

١٤٥

عن جميع خلق الله في كونه. ولعل ذكر الملائكة تضمن تقرير كون الملائكة الذين يتخذهم الكفار أولياء وشركاء لا يخرجون عن سائر خلق الله في الخضوع والسجود له وتنفيذ أوامره. وبهذا يكون الإنذار والتنديد أشدّ استحكاما.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)) [٥١ ـ ٥٥]

(١) واصبا : لازما أو ثابتا أو مترتبا أو خالصا.

(٢) فإليه تجأرون : إليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدعاء.

الخطاب في الآيات موجه للسامعين كمخاطبين. واحتوت الآيات الثلاث الأولى إيذانا لهم بأن الله قد نهى عن اتخاذ إلهين اثنين أي هو مع غيره ، وقرر إنما الإله واحد وهو ذاته وأمر بالخشية منه وحده. فهو الذي له ملك السموات والأرض والذي وجب أن يكون التعبد والخضوع له وحده فكيف يصح أن يتقي أحد غيره. وهو الذي أنعم على الناس بكل ما يتمتعون به من نعم ، وهو الذي يوجه الناس أصوات الدعاء والاستغاثة إليه وحده إذا مسّهم الضرّ. وقد حكت الآية الرابعة حال بعض المخاطبين حيث لا يتورعون عن الشرك بالله الذي يوجهون إليه وحده أصوات الاستغاثة إذا مسّهم الضرّ إذا ما استجاب لهم وكشف عنهم الضرّ. وقد احتوت الآية الخامسة إنذارا وتحديا لهؤلاء. فالذي يفعله هؤلاء هو كفر صريح بنعمة الله وأفضاله عليهم فليتمتعوا قليلا بذلك فلسوف يرون عاقبة هذا الكفر والجحود.

والآيات متصلة بسابقتها موضوعا وسياقا ، وفيها استطراد تنديدي بعقيدة المشركين وتناقضهم حيث كانوا يعتقدون بأن الله هو المعاذ الأعظم والمؤثر الأكبر ويلجأون إليه ويجأرون بالاستغاثة به حينما تحدق بهم الأخطار ويمسهم الضرّ ثم

١٤٦

لا يتورعون عن العودة إلى شركهم بعد أن يكشف عنهم الضر ويبعد عنهم الخطر. وهذا المعنى قد تكرر في آيات عديدة مرّ بعضها. وقوة الإفحام والتنديد آتية من هذه الناحية في الدرجة الأولى. وينطوي في الآيات تقرير كون المشركين إذ يشركون مع الله غيره في الاتجاه والدعاء إنما يشركونهم على أنهم وسائل وشفعاء لديه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرّ بعضها أيضا.

وهناك من قال إن النهي عن اتخاذ إلهين اثنين عنى ما كان معروفا من عبادة الفرس لإلهين هما إلهين النور وإله الظلمات أو إله الخير وإله الشر. لأنه ليس هناك ملة غيرها كانت تعبد إلهين فقط في ظروف نزول الآيات. فالمشركون كان لهم آلهة كثيرون يشركونهم مع الله ، والنصارى كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة ، واليهود كانوا موحدين وكل ما هناك أنهم أو أن منهم من كان يقول ببنوة العزير على ما جاء في آية سورة التوبة هذه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [٣٠] ، فنسجل ذلك دون القطع بصحته أو نفيه لأنه ليس هناك أثر وثيق متصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أصحابه في ذلك.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)) [٥٦ ـ ٦١]

(١) أيمسكه على هون : يسأل نفسه هل يستبقيه حيّا على مضض واستهانة شأن.

١٤٧

في الآيات حكاية لبعض عقائد وطقوس المشركين في معرض التنديد والتسخيف والإنذار بأسلوب قوي لاذع :

١ ـ فهم يخصصون قسما مما رزقهم الله لشركائهم الذين لا يستندون في إشراكهم مع الله إلى علم وبينة.

٢ ـ وينسبون إلى الله سبحانه اتخاذ البنات في حين أنهم يرغبون عنهن ويشتهون لأنفسهم الأفضل أي البنين ، وفي حين أنهم حينما يبشر أحدهم بولادة بنت يسودّ وجهه ويضيق صدره غيظا ويتوارى من الناس خجلا ويحار فيما يفعله بالمولودة هل يدسها في التراب فيتخلص منها أم يحتفظ بها مع الشعور بالهوان والغضاضة.

٣ ـ ولسوف يسألهم الله عما كانوا يفترونه عليه ويحاسبهم ، ولبئس ما يعتقدون من عقائد ويسيرون عليه من تقاليد.

٤ ـ وهم يضربون في ذلك الأمثال السيئة لله عزوجل ، وإن الأمثال السيئة للذين لا يؤمنون بالآخرة. أما الله القوي الحكيم فإن له المثل الأعلى في كل أمر.

٥ ـ ولولا أن حكمة الله اقتضت أن يؤخر عقاب المجرمين الظالمين إلى أجل معين في علمه ولو أراد أن يؤاخذ الناس ويعاقبهم فورا بما يبدو منهم من انحراف وإجرام لأبادهم حتى لا يبقى على ظهر الأرض دابة تدبّ عليها ، ولسوف يرجع الناس إليه حينما يحين الأجل ولن يستطيع أحد أن يتأخر عنه ولا أن يتقدم.

والآيات متصلة اتصالا استطراديا بالسياق والموضوع ، والآية الأولى تشير إلى ما كان من تقاليد المشركين من تخصيص بعض أنعامهم وزروعهم لشركائهم مما احتوت تفصيله سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وشرحناه شرحا يغني عن التكرار. وما ذكرته الآيتان الثانية والثالثة من نظرة العرب إلى ولادة البنات قد ورد في سور أخرى مرّ تفسير بعضها مثل سورتي الزخرف والصافات وعلقنا على

١٤٨

الموضوع تعليقا يغني عن التكرار كذلك.

ولقد روى الطبري في سياق الشطر الأول من الآية [٦١] أن أبا هريرة سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضرّ إلّا نفسه فالتفت إليه فقال بلى والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم. وروى عن ابن مسعود قوله : «إن الجعل يكاد أن يهلك في جحره بخطيئة ابن آدم».

وما ورد في هذا الشطر قد ورد في سور أخرى مرّ تفسيرها منها الآية [٤٥] من سورة فاطر والآية [٥٨] من سورة الكهف. ومعناها والهدف الذي هدفت إليه صريحان على ما شرحناه في الفقرة الخامسة. ولسنا نرى المقام يتحمل الروايات المروية في سياق الجملة وإن كان المعنى الذي أريد بالروايات قد يتسق مع آية سورة الأنفال هذه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [٢٥] ، إلا أن تطبيق هذا المعنى أو استخراجه من الجملة التي نحن في صددها في غير محله في ما يتبادر لنا. وكل ما نرى أن الجملة قصدته من هذا المعنى هو بيان شدة إثم الظالم والظلم أكثر منه قصد إهلاك كل دابة على الأرض من غير بني آدم الذين وحدهم يظلمون وينحرفون عن قصد وعقل.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الشطر الثاني من الآية حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال : «كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ الله لا يؤخّر شيئا إذا جاء أجله. وإنّما زيادة العمر بالذرّية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة في العمر» والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن صحته محتملة وقد ورد في هذه الكتب شيء من بابه حيث روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (١). وفي الحديث النبوي توضيح متساوق مع

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٦٦.

١٤٩

مدى الجملة القرآنية من جهة وبيان لما يمكن أن ينفع الإنسان بعد موته من أعمال صالحة وحثّ عليها من جهة أخرى.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)) [٦٢ ـ ٦٤]

(١) مفرطون : قرئت الراء بالفتح والتخفيف وبالكسر والتشديد ، والقراءة الأولى بمعنى أنهم مهملون ومتروكون في النار ، أو مقدمون إليها بسرعة. والقراءة الثانية بمعنى أنهم مهملون ومقصرون في حقّ الله.

في الآيات :

١ ـ في الفقرة الأولى من الآية الأولى حكاية تنديدية مرة أخرى لعقيدة المشركين باتخاذ الله أولادا من صنف يكرهونه.

٢ ـ وفي الفقرة الثانية حكاية تنديدية أخرى لما كانوا يزعمونه من أن لهم الحسنى وهم كاذبون في زعمهم.

٣ ـ وفي بقية الآية تقرير بأسلوب الجزم والإنذار بأن لهم النار التي سوف يطرحون فيها ويهملون.

٤ ـ واحتوت الآية الثانية استطرادا تقريريا مع القسم وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله قد أرسل الرسل من قبله إلى الأمم السابقة فكان من شأن هذه الأمم أن زيّن الشيطان لهم ما كانوا عليه من باطل. وكان وليّهم وهو اليوم كذلك وليّ المشركين الكفار الذين حقّ عليهم عذاب الله الشديد كما حقّ على من سبقهم من أمثالهم.

١٥٠

٥ ـ واحتوت الآية الثالثة تطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنويها بالذين آمنوا به ، فالله لم ينزل عليه الكتاب إلّا ليبين للناس ما هم مختلفون فيه من الحقّ والباطل وليكون هدى ورحمة لمن حسنت نيته وصدقت رغبته في الحق والإيمان.

والآيات كسابقاتها استمرار في الموضوع والسياق السابقين كما هو المتبادر. وقد ورد بعض ما في هذه الآيات في مواضع وسور سابقة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة والزيادة.

تعليق على قول المشركين

(أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى)

والحسنى التي حكت الفقرة الثانية من الآية الأولى أن المشركين كانوا يزعمونها لأنفسهم هي على ما يتبادر في مقام التبجح بما هم فيه من حالة حسنة أفضل من حالة النبي وأتباعه وكون ذلك في نظرهم اختصاصا من الله لهم. وطبيعي أن هذا الزعم إنما هو صادر من زعمائهم الذين كان الجدال والحجاج يدوران بينهم وبين النبي في الأعمّ الأغلب. وقد تكررت حكاية زعمهم هذا في سور أخرى مرّ بعضها. ولقد قال المفسرون (١) بالإضافة إلى هذا الوجه الذي قالوه أيضا : إنها بسبيل حكاية زعمهم على سبيل التبجح والتحدي كذلك إنه إذا كان بعث أخروي فلسوف يكون لهم عند الله الحسنى كما جعل لهم ذلك في الدنيا ، ولا يخلو هذا أيضا من وجاهة. وقد تكررت حكايته عنهم في آيات أخرى مرّ تفسير سورها. حيث يبدو من خلال ذلك شدّة عناد زعماء المشركين الكفار ومقابلتهم للنذر القرآنية كلما كانوا يسمعونها بالتبجح والتحدي وإصرارهم على مواقفهم باعتبار أن ما هم عليه هو الأفضل الذي شاءه الله لهم وأن هذا سوف يستمر لهم أيضا.

ومع خصوصية المواقف الزمنية فإن في التنديد القرآني تلقينا مستمر المدى

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي مثلا.

١٥١

في تقبيح اغترار الناس بما يكونون فيه من حالة حسنة وظنهم ذلك اختصاصا ربانيا بهم ولا سيما إذا رافق ذلك نسيانهم لواجبهم نحو الله والناس.

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)) [٦٥ ـ ٦٩]

(١) فرث : الثفل الذي في الكرش.

(٢) سائغا : لذيذ الطعم.

(٣) سكرا : الجمهور على أن الكلمة تعني النبيذ المسكر المتخذ من العنب والبلح والتمر والزبيب.

(٤) رزقا حسنا : طعاما جيدا وهو العنب والبلح والزبيب والتمر.

(٥) أوحى ربّك إلى النحل : بمعنى ألهمها أو خلقها على ناموس من شأنه أن يسيرها على ما تسير عليه من أعمال وحركات.

(٦) مما يعرشون : مما يسقفون ويرفعون ويجعلونه عرائش. وقد وردت بمعنى التعمير والبناء في آية سورة الأعراف [١٣٧].

(٧) ذللا : جمع ذلول بمعنى ممهد. والكلمة بمعنى مسيرة أو مذللة.

في الآيات تذكير ولفت نظر إلى بعض مشاهد آيات الله ونعمه :

١ ـ فالله ينزل الماء من السماء إلى الأرض فتعجّ بعد الموت والجفاف بالحياة.

١٥٢

٢ ـ ويخرج للناس من بطون الأنعام من بين الثفل والدم لبنا لذيذ الطعم شرابا لهم.

٣ ـ ويكون لهم مما تحمله شجر النخيل والأعناب من التمر غذاء وشراب نافعان حسنان.

٤ ـ وقد خلق الله النحل على ناموس عجيب. فهي تتخذ بإلهامه خلاياها في الجبال والأشجار والعرائش والسقوف ثم تنتشر منها كل إلى سبيل لتتناول غذاءها من كل الثمرات وتعود إليها لتخرج من بطونها شرابا مختلف الألوان فيه الشفاء والنفع للناس.

ففي كل هذا آيات بينات على قدرة الله وعظمته وإتقان نواميس كونه لمن تفتح ذهنه وحسن سمعه وأرهف قلبه فتفكر وتعقل.

والآيات متصلة كما هو المتبادر بالآيات السابقة. ففي الأولى نعي على الكفار لإشراكهم بالله وانصرافهم عن سماع الآيات البينة التي أنزلها على رسوله وفي هذه لفت للأنظار إلى آيات الله البينة في نواميس كونه البديعة وما في ذلك من نفع للناس ونعم من الله عليهم ، مما فيه الحجج الدامغة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع ؛ يدركها من حسنت نيته وصدقت رغبته في الحقّ والهدى ، ولا يكابر فيها إلّا من فقد ذلك. وقد تضمنت الآيات حثّا للناس على استعمال عقولهم والتفكّر في آيات الله وآلائه كما تضمنت تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله نتيجة لذلك ، وهذا ما تضمنته الفقرة الأخيرة من الآيات السابقة أيضا.

تعليق على جملة

(تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً)

ولقد كانت هذه الجملة موضوع بحث طويل في تفسير الطبري وغيره وروي في صددها أقوال متنوعة عن ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم. وخلاصتها أن هناك من قال إن الامتنان الرباني يدل على أن الشراب المستخرج من

١٥٣

ثمرات النخيل والأعناب حلال مطلقا. وأن هناك من قال إن كلمة السكر تعني المسكر ويدخل في شمول معنى الخمر الذي هو المسكر ، وأن المقصود من الجملة القرآنية هو النبيذ المستخرج من تلك الثمرات الذي كان مسكرا وأن تحريم الخمر الذي يدخل في مشموله النبيذ المسكر إنما كان تشريعا مدنيا. وكان قبل ذلك مباحا يمارسه المسلمون وغيرهم. فلم يكن في ذكره تناقض مع الواقع. والمتبادر أن القول الثاني هو الأوجه ولا سيما أن القرآن قرر قبل تحريم الخمر أنها كانت ذات منافع اقتصادية في بيئة النبي عليه‌السلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [٢١٩] ، وهذه الآية نزلت قبل الآية التي نهت عن الصلاة في حالة السكر في آية سورة النساء هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [٤٣] ، ثم قبل الآيات التي تضمنت تحريم الخمر وهي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) سورة المائدة [٩٠ ـ ٩١] حيث تدل هذه الآيات على أن الخمر كان مما يمارسه المسلمون شربا وتجارة. ويكون بناء على ذلك لا وجه لإباحة النبيذ المسكر استنادا على آية النحل التي نحن في صددها.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ما يستخرج من ثمرات النخيل والأعناب من شراب غير مسكر مباح ولو سمّي نبيذا. لأن النبذ لغة هو نقع ثمرات النخيل والأعناب في الماء. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب هذا النقيع على ما يستفاد من حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس جاء فيه أنه كان ينقع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهراق (١). ومن حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة جاء فيه : «كنّا ننبذ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ١٣٢.

١٥٤

سقاء يوكى أعلاه وله عذلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» (١).

وهناك أحاديث صحيحة أخرى يمكن أن تكون ضوابط في هذا الباب منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ ، نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرة ، ونهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم» (٢). وحديث رواه مسلم والترمذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نهيتكم عن الظروف وإنّ ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه ، وكلّ مسكر حرام» (٣). وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة : «سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» (٤). وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أسكر كثيرة فقليله حرام» (٥).

تعليق على جملة

(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ)

ولقد روى الطبري عن مجاهد أن جملة (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) تعني القرآن غير

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ١٣٢.

(٢) التاج ج ٣ ص ١٢٨ والظرف هو الوعاء. وقد روى مسلم والترمذي عن ابن عمر قال : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحنتم وهي الجرّة وعن الدبّاء وهي القرعة وعن المزفّت وهو المطليّ بالقار وعن النقير وهي النخلة تنسخ نسخا وتنقر نقرا وأمر أن ينتبذ في الأسقية» التاج ج ٣ ص ١٢٧. فالمتبادر أن الحديث الأول قد نسخ هذا الحديث الذي أباح النبذ في أوعية الجلد وهي الأسقية دون الأوعية الأخرى.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه.

(٥) انظر المصدر نفسه.

١٥٥

أن الجمهور على أنها تعني العسل. وقد علق ابن كثير على قول مجاهد قائلا : إن هذا القول صحيح في نفسه لأن في سورة الإسراء آية جاء فيها : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [٨٢] غير أن الظاهر من سياق الآية أن المقصود هو العسل وهو ما عليه الجمهور.

ولقد رويت عدة أحاديث نبوية صحيحة عن فائدة العسل دواء حيث روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري : «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلا ، فذهب فسقاه عسلا فقال : يا رسول الله سقيته عسلا فما زاد إلّا استطلاقا ، قال : اذهب فاسقه عسلا ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : ما زاده إلّا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا فبرىء» (١) ، وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لعق العسل ثلاث غدوات في كلّ شهر لم يصبه عظيم من البلاء» (٢) ، وروي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحبّ أن أكتوي» (٣).

ولقد ثبت في الطب الحديث فوائد عظيمة للعسل في أمراض عديدة مستعصية فجاء هذا مصداقا للقرآن والأحاديث النبوية.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في ابن كثير وانظر التاج ج ٣ ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) انظر ابن كثير.

(٣) انظر التاج ج ٣ ص ١٨٠.

١٥٦

وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)) [٧٠ ـ ٧٢]

(١) الحفدة : جمع حافد ، والحفد في اللغة المسارعة في الخدمة والمساعدة والرعاية. ومن المؤولين من قال إن الكلمة تعني الخدم والحشم ، ومنهم من قال إنها تعني أصهار الرجل أي أزواج بناته. ومنهم من قال إنّهم ممن يساعده من أولاده وأولاد أولاده. ومنهم من قال إنهم أولاد أولاده وهو المشهور ، والمتبادر من العبارة القرآنية أنهم المقصودون في الدرجة الأولى.

في هذه الآيات تذكير بأفضال الله وتنديد بجحود الكفار بأسلوب آخر.

ففي الآية الأولى تذكير بأن الله هو الذي يخلق الناس ويتوفاهم ويقدر أعمارهم. ومنهم من يموت باكرا ومنهم من يشيخ ويهرم ويفقد ما كان له من قوة وينسى ما كان لديه من علم مما تنزّه عنه الله تعالى فهو القادر على كل شيء العليم بكل شيء المستحق وحده للعبادة والخضوع.

وفي الآية الثانية تذكير بفضل الله على الناس وتنديد بالمشركين خاصة. فالله قد فضّل بعضهم على بعض في الرزق ، وهم لا يقبلون أن يشاركهم في أرزاقهم عبيدهم ويكونوا وإياهم سواء فيها فكيف يجيزون أن يكون له شركاء من عبيده وفي ذلك ما فيه من جحود نعمة الله.

وفي الآية الثالثة تذكير للسامعين بأن الله هو الذي أنعم عليهم فجعل لهم أزواجا من أنفسهم ، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ورزقهم من الطيبات. فكيف ينسون ذلك ويؤمنون بالباطل ويكفرون بنعمة الله.

والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقوة الحجة فيها واضحة في تذكير السامعين ما هم فيه ومعترفون به ، والتنديد بالكفار المشركين بما يقعون فيه من تناقض من حيث إنهم يعتقدون أن الله هو المحيي المميت وهو الرازق القابض الباسط المدبر ثم يتجاهلون ذلك فيشركون معه غيره ويؤمنون بالباطل ويكفرون بنعم الله المتنوعة عليهم.

١٥٧

وقد قال بعض المفسرين (١) في جملة : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) [٧١] إن تأويلها أن الله هو الذي قسم للناس أرزاقهم فلم ينس أحدا ، وإذا كان قد فضّل بعضهم على بعض في الرزق فالكل يعيش من رزقه ، وحتى ما يعطيه الأسياد لعبيدهم منه ليسوا هم رازقيه في الحقيقة ونفس الأمر. والتقرير وجيه وصحيح في أصله غير أن أكثر المفسرين (٢) قد أوّلوها بما يتسق مع ما أوّلناها به وهو الأوجه بقرينة التنديد بجحود نعمة الله في الآية التي وردت فيها الجملة.

تعليق على جملة

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)

والمتبادر أن هذه الجملة ليست في معنى تأبيد هذا الفرق ولا في معنى أن هذا التفضيل اختصاص رباني لفريق دون فريق وإنما هي تقرير لواقع الأمر بدليل أن سعة الرزق وضيقه في تبدل وتنقل دائمين وأن كثيرا ما يكون من هو موسع الرزق في يوم مضيقا عليه أو على ذريته في يوم ، ومن هو ضيق الرزق في يوم موسعا عليه وعلى ذريته في يوم مما هو مقتضى سنّة الله في الناس وظروف الحياة والعمل ، وتفاوت الناس المتبدل المتحول دائما في المواهب والنشاط والسعي.

أرذل العمر

ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب في جملة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وإذا صحّ هذا القول فإنه يكون من قبيل الاجتهاد المتصل بظروف المعيشة في ذلك الوقت. والوصف الذي جاء بعد هذه الجملة (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) هو المحكم الذي يعني أن أرذل العمر هو الذي يكون الشيخ فيه قد ضعفت قواه العقلية بنوع خاص ضعفا شديدا. ولقد

__________________

(١) الطبرسي.

(٢) الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري. والطبرسي أورد التأويلين معا.

١٥٨

روى البخاري عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو : «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجّال وفتنة المحيا والممات» (١) وأننا لنعوذ بالله بدورنا مما استعاذ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)) [٧٣ ـ ٧٦]

(١) فلا تضربوا لله الأمثال : هنا بمعنى لا تجعلوا بين الله وغيره تماثلا ، أو لا تجعلوا له أمثالا وأندادا.

(٢) أبكم : الأخرس الذي يولد أخرس.

(٣) كلّ : عبء على غيره لا نفع فيه.

وفي هذه الآيات :

١ ـ إشارة تنديدية إلى الكفار المشركين أنهم يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم سببا من أسباب الرزق في السموات والأرض ولا يستطيع نفعهم في شيء من ذلك.

٢ ـ ونهي تقريعي موجه للسامعين أو للكفار المشركين عن جعل الأنداد والأمثال لله. فلا يصحّ أن يكون لله ندّ ولا مثل لأن الله يعلم كل شيء وغيره من الناس والأنداد لا يعلمون شيئا. وإن مثل هذا العمل كمثل التسوية بين العبد

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٣٩.

١٥٩

المملوك الذي لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء وبين الشخص الحرّ الذي يتصرف في ماله تصرّفا حرا فينفق منه سرّا وجهرا حسبما يتراءى له دون مانع. وكمثل التسوية بين العبد الأبكم الذي ليس هو إلّا عبئا على مالكه لا يستطيع أن ينتفع به بأي شيء ولا يأتي له من ناحية بأية فائدة وخير ، وبين الطلق اللسان الذكي الجنان ، الذي يسير على هدى ويأمر بالعدل ويفعل الخير. فالتسوية بين هذا وذاك وبالتالي فالتسوية بين الله وبين الأنداد والشركاء الذين يشركهم المشركون مع الله إنما تصدر عن جهل وضلال.

٣ ـ وتقرير بأن الله وحده هو المستحق للحمد على أفضاله ونعمه.

والصلة بين الآيات وسابقاتها مستمرة موضوعا وسياقا حينما يمعن النظر فيها ، وفيها من القوة والتنديد اللاذع ما في الآيات السابقة.

وقد روى بعض المفسرين (١) أن المثلين مضروبان في صدد المفاضلة بين المؤمن الصالح والكافر الآثم وروى بعضهم أشخاصا بأعيانهم من المؤمنين والكفار وقالوا إنهم المعنيون بالمثلين ، مثل أبي بكر وأبي جهل أو أمية بن خلف وعثمان وحمزة وعثمان بن مظعون. ومثل عثمان بن عفان ومملوك له حيث كان عثمان ينفق على الإسلام والمولى يكره الإسلام. والمتبادر لنا أن الآيات في صدد المشركين الكفار والتنديد بهم عامة على ما تدل عليه الآية [٧٣].

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

١٦٠