التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات». حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي متساوق مع التلقين الجليل المنطوي في الآيات لما للخوف من الله والمصير الأخروي من أثر في نفس المؤمن بالله واليوم الآخر فيجعله يبذل كل جهده في عمل الخير والتقرّب إلى الله بصالح العمل واتقاء غضبه بالابتعاد عن كل منكر وإثم. ويبدو من خلال ذلك الحكمة الربانية في تكرار التنبيه في القرآن على أن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يتورعون عن ارتكاب الآثام والفواحش في الدرجة الأولى وفي كون الإيمان بالله واليوم الآخر والترهيب من هوله والترغيب في النجاة فيه من أهم ما اهتمّ القرآن لتوكيده وتقريره.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)) [٦٣ ـ ٦٧]

(١) أعمال من دون ذلك : أعمال غير تلك الأعمال التي ترضي الله وذكرت فيما سبق.

(٢) هم لها عاملون : قال الطبري والبغوي في معناها : لا بد من أنهم لها عاملون. وقال الزمخشري الجملة بمعنى هم عليها معتادون ونحن نرجّح هذا لأنه متّسق مع روح الآيات وفحواها.

(٣) يجأرون : يضجون ويصيحون من البلاء.

(٤) سامرا : السمر تبادل الأحاديث وتمضية السهرة بلهو وفكاهة ، والسامر هو الذي يسمر ويلهو.

(٥) تهجرون : من المفسرين من قال إنها من الهجر بمعنى الترك والإهمال.

٣٢١

ومنهم من قال إنها من الهجر بمعنى الفحش في السبّ. والآية تتحمّل المعنيين.

في الآيات عودة إلى بيان حقيقة المنحرفين الكفار وأعمالهم وإنذار لهم :

١ ـ فقلوبهم غافلة عن الاستشعار بخوف الله وما يجب عليهم نحوه.

٢ ـ وأعمالهم غير تلك التي ترضي الله والتي سبق وصفها وسيظلون مرتكسين فيها لا يدعونها لأنهم معتادون عليها إلى أن يحلّ فيهم عذاب الله وحينئذ فقط يدركون خطأهم فيأخذون بالعويل والاستغاثة. وسيقال لهم حينئذ لا تضجوا ولا تصخبوا ولا تعولوا فلن يفيدكم ذلك شيئا. ولن يكون لكم ناصر من الله. لأنكم كنتم كل ما تليت عليكم آياته ولّيتموها ظهوركم ونكصتم على أعقابكم استكبارا عن سماعها وعنادا.

أما الآية الأخيرة فقد اختلف في تأويلها بسبب الاختلاف في ضمير (به) حيث أرجعه بعضهم (١) إلى القرآن فقالوا إنها بصدد التنديد بالكفار لاستكبارهم عن القرآن وهجرهم إياه وتمضية أوقات السمر بالسخرية به. وحيث أرجعه بعضهم (٢) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إنها بصدد التنديد بهم لاستكبارهم وهجرهم دعوة النبوة وتأليبهم عليه في أسمارهم ونبزهم إياه بالقول الفاحش وحيث أرجعه بعضهم إلى الحرم واعتدادهم بأنهم أهله وهجرهم النبي فيه.

وقد تبادر لنا تأويل آخر وهو التنديد بالكفار لهجرهم النبي وما يتلوه من القرآن استكبارا كأنما يهجرون سامرا يتحدث باللهو والأفاكيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على وجاهة هذا التأويل إن شاء الله.

والاتصال قائم سياقا وموضوعا بين الآيات وبين سابقاتها كما يظهر من التمعّن فيها.

وقد قال بعض المفسرين إن العذاب الذي يجأر منه الكفار هو ما حلّ بزعماء

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري والطبري.

(٢) المصدر نفسه.

٣٢٢

مكة من قتل يوم بدر أو ما حلّ بأهل مكة من قحط وجوع (١) مما أوردنا خبره في تفسير سورة الدخان مع أنه يلحظ من روح الآيات أن الكلام متعلق باليوم الذي لا يكون للكفار فيه نصير وهو يوم القيامة. ولا سيما أنها احتوت تذكيرا بما كان منهم من استكبار وعناد وإعراض. ومثل هذا قد ورد في آيات تعلق الكلام فيها بيوم القيامة. ومرّت أمثلة عديدة منها ولذلك نرجّح أن العذاب هو العذاب الأخروي.

والمتبادر أن اختصاص المترفين بالعذاب في الآيات هو من باب تخصيص هؤلاء بالإنذار لأنهم هم الذين يضغطون على الناس ويجعلونهم يحذون حذوهم في الكفر والإعراض. وبخاصة أنهم موضوع الكلام في الآيات [٥٣ ـ ٥٦].

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)) [٦٨ ـ ٧٤]

(١) ذكرهم : هنا بمعنى التذكير والتنبيه والعظة.

(٢) خرجا : بمعنى أجرا أو نفقة أو ضريبة.

(٣) ناكبون : منحرفون.

في هذه الآيات :

أولا : أسئلة تتضمن التنديد والتقريع عن أسباب موقف الكفار من النبي ودعوته :

١ ـ فهل لم يترووا ويتدبروا فيما يسمعون من آيات الله وأقوال النبي فلم

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبري.

٣٢٣

يدركوا ما فيها من حقّ وهدى ومصلحة وخير لهم.

٢ ـ وهل رأوا أن ما جاءهم بدع لم يسبق أن أتى مثله لآبائهم فوقفوا منه موقف المستغرب المنكر.

٣ ـ وهل لا يعرفون شخص نبيهم الذي يدعوهم معرفة قريبة وكافية حتى ينكروه ويتجاهلوه ويعرضوا عنه ويتهموه بالجنون أو الاتصال بالجنّ؟

٤ ـ وهل طلب منهم أجرا أو ضريبة حتى يتهموه ويحملوا دعوته على محمل الغرض والمنفعة الشخصية؟.

وثانيا : ردود قارعة عليهم :

١ ـ فليس النبي مجنونا ولا متصلا بالجنّ وإنما جاءهم بالحقّ من الله على التأكيد.

٢ ـ وإن وقوفهم منه الموقف الذي وقفوه هو بسبب كراهية أكثرهم للحقّ وعدم اتساق الحق مع أهوائهم.

٣ ـ وإن الله تعالى لا يمكن أن يجعل الحق خاضعا للهوى لأن في ذلك فسادا للكون أرضه وسمائه وما فيهما.

٤ ـ وإن ما أنزله الله على رسوله هو ذكر وموعظة لهم وهم يستكبرون عن سماع الذكر والموعظة.

٥ ـ وإن الله هو خير الرازقين وإن النبي ليعرف ذلك فلا يعقل أن يطلب منهم أجرا ولا جزاء لأنه يعرف أن أجر ربه هو خير.

٦ ـ وإن النبي إنما يدعوهم إلى الطريق القويم الذي ينجو من يسير فيه ويسعد.

٧ ـ وإن الكافرين بالآخرة لا يلبّون الدعوة ، وينحرفون عن مثل ذلك الطريق لأنهم لا يحسبون حساب الوقوف بين يدي الله.

٣٢٤

وواضح أن الآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين. وأسلوبها قوي رصين مفحم موجه إلى القلب والعقل معا. ومن شأنه أن ينفذ إلى الأعماق.

تعليقات على محتويات الآيات

١ ـ لقد تعددت تخريجات المفسرين لمدى الآية الأولى منها أنها بسبيل استنكار كفر الكافرين لأن ما جاءهم ليس بدعا وأنه قد جاء لآبائهم من قبل. ومنها أنها بسبيل استنكار كفرهم لأن الله قد اختصهم دون آبائهم بنعمته فأرسل إليهم رسوله لهدايتهم (١). والعبارة تتحمل التخريجين. ومع ذلك فإن في كل منهما إشكالا بسبب آيات في سور أخرى. ففي سورة يس هذه الآية (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٦) وتكرر هذا في آيتي سورتي السجدة والقصص هاتين :

١ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [السجدة : ٣].

٢ ـ (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص : ٤٦].

هذا في حين أنه جاء في سورة النمل هذه الآية : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [٦٨] وتكرر هذا في سورة (المؤمنون) على ما يأتي بعد قليل.

ونحن نرجّح التخريج الأول. وفي صدد الإشكال الوارد عليه يجوز أن يقال إن آيات سور يس والسجدة والقصص قد قصدت الزمن القريب بينما آيتا سورتي النمل والمؤمنون قد قصدتا الزمن البعيد. وفي الزمن البعيد الذي كانوا يتداولون أخباره جيلا بعد جيل أنبياء عديدون من جزيرة العرب أو حلّوا فيها وقد ذكروا في

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

٣٢٥

القرآن. ويعتبرون آباء أوّلين للعرب الذين يسمعون القرآن مثل هود وصالح وإبراهيم وإسماعيل عليهم‌السلام.

إن الآية الثانية تلهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معروفا عند قومه بنبل الخلق ورجاحة العقل وكرم المنبت قبل البعثة وهو ما ثبت بالروايات الوثيقة ومنها قول خديجة رضي الله عنها الذي وجهته إليه في معرض تثبيته حينما أوحي إليه لأول مرة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها حيث قال لها : «لقد خشيت على نفسي فقالت له كلّا والله ما يخزيك الله أبدا. إنّك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ» (١). ثم في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله بن الزبير حيث قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا فقالت له : «إني أعيذك من ذلك يا أبا القاسم ، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» (٢).

حيث تضمنت استنكارا لموقفهم منه وهم يعرفونه حقّ المعرفة فيعرفون أنه لا يمكن أن يكذب أو يفتري أو يسخف أو يسفّ أو يلهو أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يسعى وراء غرض ومنفعة ذاتية (٣). وفي تفسير البغوي قول لابن عباس في معنى الآية جاء فيه : «أليس قد عرفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود؟».

٣ ـ وإن في أسلوب الآية الثالثة قرينة على أن نسبة الكفار الجنون إلى النبي هي نسبة أسلوبية إلى من يأتي بالشيء الجديد والرأي الغريب حيث تضمنت تصحيحا لوصف ما جاء به وهو الحقّ ولا يصحّ لمن جاء بالحق أن يوجه إليه الجنون أو يوقف منه موقف المستغرب.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٢٦.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٣) انظر أيضا تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.

٣٢٦

٤ ـ رأينا بعض المفسرين (١) يقفون عند جملة (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ليقولوا إنها تعني أن منهم من لا يكره الحقّ مع كفره وليذكروا اسم أبي طالب عمّ النبي الذي لم يؤمن حياء لا مكابرة ولا كراهية للحقّ. ومع أنه كان بين الكافرين من هو معتدل الموقف ومقرّ بقلبه بالحق الذي جاء به النبي على ما شرحناه في سياق آية (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] فإنه يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تكرر نوعها في القرآن مثل (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) [النحل : ٨٣] و (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣] و (أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [القصص : ٥٧] إلخ.

ونقول هنا أيضا إن جملة (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وما في بابها إنما كانت تسجيلا لواقع سامعي القرآن حين نزول الآيات بدليل أن أكثر من نعتوا بها قد آمنوا وحسن إسلامهم وحظوا برضا الله ورضوانه.

وجملة (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) جليلة المدى عامة التلقين في إيجاب التزام الحقّ واتباعه وعدم تغليب الهوى والميول والأنانية والمآرب الخاصة عليه لما في ذلك من فساد كون الله وأهله.

هذا ، ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) حديثا رواه الحافظ أبو يعلى بطرقه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني. تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب. فأوشك أن أرسل حجزكم. وأنا فرطكم على الحوض فتردون عليّ معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم ربّ العالمين أي ربّ قومي أي ربّ أمتي فيقال يا محمّد إنك لا تدري ما

__________________

(١) انظر تفسير النسفي.

٣٢٧

أحدثوا بعدك. إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم. فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت» (١). حيث ينطوي في هذا الحديث تنبيه وإنذار قويان نافذان بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بيّن للناس ما يحسن بهم أن يلتزموه ليكونوا على صراط الله المستقيم وبوجوب ابتعادهم عن كلّ ما فيه ظلم وانحراف وعدوان مهما قلّ.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)) [٧٥ ـ ٧٧]

(١) لجّوا : تمادوا.

(٢) استكانوا : استذلوا وخضعوا.

وهذه الآيات استمرار للحملة الإنذارية والتنديدية السابقة على الكفار : فهم مصرون على عنادهم وجحودهم في حالتي سرائهم وضرائهم. فإذا كانوا في حالة اليسر والرغد حسبوا ذلك اختصاصا وتكريما من الله ودليلا على أنهم على حقّ في

__________________

(١) عقب ابن كثير على الحديث قائلا : إن علي بن المديني قال إنه حديث حسن الأسناد إلّا أن حفص بن حميد ـ أحد رواته ـ مجهول لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي وعقب ابن كثير على هذا أنه قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحق ووصفه يحيى بن معين بأنه صالح ووثقه النسائي وابن حبان.

٣٢٨

تقليدهم فظلوا معرضين عن الاستجابة إلى دعوة الله ورسالة رسوله. وهذا ما أشارت إليه الآيات [٥٥ ـ ٥٦] وإذا أصيبوا ببلاء ثم كشفه الله عنهم رحمة بهم تمادوا في طغيانهم وإعراضهم. ولقد أنزل الله بهم بلاء فكشفت التجربة عن هذه الحقيقة لأنهم لم يخضعوا لربهم وما استكانوا وما تضرعوا وما تابوا عمّا هم فيه. وسيظلون على موقفهم إلى أن يفتح الله عليهم بابا ذا عذاب شديد. غير أن هذا الباب حينما يفتح عليهم يكون وقت الندم والتوبة قد فات وأصبحوا في موقف اليائس من رحمة الله.

وقد قال المفسرون (١) إن الآية الثانية تضمنت الإشارة إلى القحط والجوع الذي أصاب أهل مكة حتى أكلوا القدّ والعظام والذي كان بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظرف اشتدّ غضبه عليهم لاشتداد عنادهم وأذاهم. ورووا أن أبا سفيان جاء إلى النبي فناشده الرحم وقال له : ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى ، قال : فادع الله أن يكشف عنّا هذا القحط. فدعا فكشف عنهم فظلوا على عنادهم وجحودهم فنزلت الآيات منددة بهم. وقد ذكروا وأوردوا الرواية في سياق سورة الدخان أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير السورة المذكورة.

وصيغة الآية تلهم صحة رواية إصابة أهل مكة ببلاء رباني وكشفه عنهم. غير أننا نتوقف في رواية مجيء أبي سفيان إلى النبي ومناشدته الرحم وطلبه الدعاء لله بكشف البلاء لأن هذا يستلزم أن يكون مؤمنا بصحة نبوّة النبي وهو ما لم يكن. على أن من الممكن أن يكون النبي قد رأف بقومه حين رأى ما أخذهم من جهد فدعا الله مؤملا أن يكونوا قد اتعظوا ورقّت قلوبهم فكشف عنهم البلاء ، فلما ظلوا مصرّين على كفرهم وطغيانهم ندّد الله بهم هذا التنديد وأنذرهم بعذاب لا يكون لهم فيه باب رحمة وتوبة.

ولا نرى هذا متعارضا مع تقريرنا أن الآيات استمرار للحملة السابقة لأن ذلك ملموح بقوة. وعطف الآيات على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

٣٢٩

الراجع إلى الكفار موضوع الكلام فيه من القرآن على ذلك. ولهذا يسوغ أن يقال إن حكمة التنزيل شاءت أن تشير إلى هذا الحادث الذي يمكن أن يكون وقع قبل نزول السورة في سياق حملة تنديدها على الكفار.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن باب العذاب الشديد الذي أنذرت به الآية الثالثة هو وقعة بدر. وهذا ما روي أيضا في سياق تفسير جملة (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) [١٦] في سورة الدخان. ولقد روى ذلك البغوي أيضا ثم قال وقيل إنه الموت وقيل إنه قيام الساعة. وقد قال ابن كثير إنه عذاب الآخرة. ونحن نرجّح هذا لأنهم يكونون يوم القيامة يائسين مبلسين. والله أعلم.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)) [٧٨ ـ ٨٠]

الآيات موجهة للسامعين بصيغة الجمع المخاطب في معرض التذكير والتنديد : فالله هو الذي أنشأ فيهم قوى السمع والبصر والعقل فكان ينبغي عليهم أن يشكروه على هذه النعم باستماع الحق ورؤية الحق وإدراكه بعقولهم. ولكنهم قلّ أن يفعلوا ذلك. وهو الذي خلقهم ونمّاهم في الدنيا وإليه مرجعهم في الآخرة. وهو الذي يحيي ويميت وهو الذي قدّر الليل والنهار ليخلف أحدهما الآخر. فهلا تعقّلوا وأدركوا قدرته عليهم وانتهوا من غفلتهم وعدم حسبانهم العاقبة؟.

وأسلوب الآيات يسوغ القول إن الخطاب موجّه بخاصة إلى الكفار. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا في الحملة التنديدية والإنذارية السابقة لها.

وقد يلحظ أن مثل هذه الآيات قد تكرر أكثر من مرة ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها بأساليب متنوعة لتكرر المواقف المماثلة أو تجددها ، شأن معظم القصص القرآنية بل وكثير من الفصول الحجاجية أو التي احتوت التنبيه على مشاهد عظمة الله وقدرته في خلقه وكونه.

٣٣٠

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)) [٨١ ـ ٨٣]

في الآيات حكاية استدراكية لما كان الكفار يقولونه كلّما تكرر إنذارهم بالبعث والجزاء الأخرويين حيث كانوا يتساءلون بأسلوب المستنكر المرتاب كما كان يفعل الكافرون من الأمم السابقة عما إذا كانوا حقّا يبعثون بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما. ثم يتبعون تساؤلهم بقولهم إنهم أوعدوا بهذا هم وآباؤهم من قبل وليس هو إلّا من قصص الأولين وأساطيرهم.

والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وبدء الآيات بحرف الاستدراك قد يلهم أن الآيات تحكي موقف مناظرة وجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار من نوع المواقف الكثيرة التي تكررت حكايتها في فصول عديدة.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)) [٨٤ ـ ٨٩]

(١) يجير : يحمي من يستجير به وينصره.

(٢) يجار عليه : لا يجرأ أحد على إجارة من غضب عليه وحمايته.

(٣) فأنّى تسحرون : فكيف تنخدعون وتتبعون الأوهام دون الحقائق.

في الآيات أوامر للنبي عليه‌السلام بتوجيه بعض الأسئلة الاستنكارية للكفار وحكاية لما سوف تكون أجوبتهم ؛ بقصد الإفحام والإلزام والتنديد بهم وإثبات أن الله تعالى قادر على بعثهم بعد الموت الذي ينكرونه. وعبارتها واضحة. وهي

٣٣١

مفحمة ملزمة حقا لأنها تقرر واقع اعتقادهم الذي حكته آيات عديدة مرّت أمثلة عديدة منها بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وربّهما ومدبّرهما والذي بيده ملكوت كل شيء والقادر على كل شيء.

والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها كذلك سياقا وموضوعا. ولعلها بسبيل استمرار لحكاية موقف المناظرة والجدل الذي تلهمه الآيات السابقة لها مباشرة.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)) [٩٠ ـ ٩٢]

في الآيات استدراك تقريري بمثابة ردّ آخر على الكفار :

١ ـ فالقرآن إنما جاء بالحقّ وهو تقرير الربوبية لله وحده.

٢ ـ وهم كاذبون في نسبة الولد والشريك له لأنه ليس في حاجة إلى ولد أولا ، ولو كان معه شريك لتنازع معه الملك والخلق ولعلا أحدهما على الآخر وهو محال في العقل والمنطق ثانيا. فتقدّس الله وتنزّه عمّا يصفونه به وينسبونه إليه وهو المحيط علمه بكل شيء ما ظهر وما خفي ، وما مضى وما حضر ، وما هو في المستقبل الغائب ، وتعالى عن كل ما يشركه معه المشركون.

والآيات متصلة بالسياق اتصالا وثيقا كما هو واضح. والردّ الذي احتوته على ما يفترض أن المشركين يقولونه من أنهم يعترفون بالله وقدرته وربوبيته ومن أنهم إذا أشركوا معه غيره فإنما يشركونه للشفاعة. وفي الردّ أسلوب برهاني منطقي من شأنه إفحام المكابر المجادل كما هو المتبادر.

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)

٣٣٢

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)) [٩٣ ـ ٩٨]

في الآيات :

١ ـ أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يدعو الله أن يرزقه السلامة والنجاة وأن لا يجعله في القوم الظالمين إذا أبقاه حيّا حتى يريه تحقيق ما يوعد الله به الكفار.

٢ ـ وتقرير رباني بأن الله قادر أن يريه تحقيق ذلك.

٣ ـ وأمر ثان للنبي بأن لا يغتمّ لموقفهم وأن يقابله بالصبر والغضّ والدفع بالتي هي أحسن انتظارا لتحقيق وعد الله. فالله عليم كل العلم بحقيقة حالهم ومعتقداتهم.

٤ ـ وأمر ثالث بأن يستعيذ بالله من وساوس الشياطين ونفثاتهم ومخالطتهم في أموره وأفكاره.

والمتبادر أن الآيات وبخاصة الأربع الأولى منها متصلة بالسياق وبخاصة بالآيات [٧٥ ـ ٧٧] التي احتوت تنديدا

بموقف الكفار بعد ما كشف الله عنهم البلاء وإنذارا لهم بالعذاب الأشدّ ؛ وأن الآيات التي جاءت بعدها جاءت في معرض الاستطراد مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني.

والآيتان الأخيرتان غير منقطعتين عن الموضوع والموقف. وقد استهدفتا بثّ الطمأنينة والسكينة في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحثّه على الالتجاء إليه كما ألمّت به الأزمات النفسية وساورته الهواجس والوساوس من جرّاء موقف قومه العنيد.

ولقد تكرر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ونزغاته مما هو متصل بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ونرى أنه يجب الوقوف في هذا الأمر عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن الشيطان ودوره مما كان مفهوما مسلما به عند السامعين ومع ملاحظة ذلك الهدف الذي استهدفته وهو بثّ السكينة والطمأنينة في قلب النبي والمؤمنين

٣٣٣

فيما يكون طروءه على النفس الإنسانية من أزمات وهواجس ووساوس. والله أعلم.

ولقد شرحنا مدى احتمال تعرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهزات الشيطان ونزغاته التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية [٩٨] بالاستعاذة بالله منها في سورة الأعراف فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة.

وفي جملة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) توكيد للمبدأ القرآني المحكم في صدد الدعوة إلى سبيل الله وفي صدد معاملة الناس بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار.

ولقد قال بعض المفسرين إن هذه الجملة قد نسخت بآية القتال أو السيف (١) كما قالوا ذلك بالنسبة للجمل المكية المماثلة. ومع صواب ذلك بالنسبة للأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين على ما قلناه في المناسبات السابقة فإن هذا ليس من شأنه نقض ذلك المبدأ القرآني المحكم المنطوي في الجملة بالنسبة لسلوك المسلمين تجاه بني ملّتهم وتجاه غيرهم من الموادين المسالمين.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)) [٩٩ ـ ١٠٤]

(١) برزخ : حاجز مانع.

(٢) لا يتساءلون : لا يستطيع أحد منهم أن يسأل أحدا معونة أو نصرا.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي.

٣٣٤

(٣) كالحون : الكلوح هو تقلص الشفتين وتشمرهما عن الأسنان عند الغضب أو الخوف.

في الآيات تقرير في معرض الإنذار والتبكيت عما سوف يكون عند موت الكفار وبعده : فحينما يأتي الموت كافرا يستشعر بالخوف والندم ويلتمس من الله إعادته للحياة ليعمل صالحا ويتلافى فيها ما سبق منه. ولكن هذا لن يجديه نفعا. ولن يكون إلّا كلمة تذهب في الهواء لأن بينه وبين العودة قام حاجز مانع إلى أن يبعث الله الناس من قبورهم وحينما ينفخ في الصور ويخرج الناس من قبورهم تنقطع بينهم دعوى الأنساب والعصبيات ولا يكون للناس إلّا أعمالهم. ولا يستطيع أحد أن يسأل نصرا مهما كانت روابط النسب والعصبية وشيجة بينهم. فالذين تثقل موازينهم بالإيمان والعمل الصالح هم الفائزون السعداء ، والذين نخفّ موازينهم بالكفر وسيء العمل هم الخاسرون الخالدون في جهنم. تلفح وجوههم النار وتكلح من شدّتها.

وواضح أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. والإنذار للكفار فيها رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته حملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما هو المتبادر.

ولقد شرحنا مدى ثقل الموازين وخفتها يوم القيامة في مناسبات سابقة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.

ولقد روى الترمذي في سياق تفسير الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «(وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال تشويه النار فتقلص شفته العالية حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرّته» (١). وأورد ابن كثير حديثين آخرين في سياقها منهما حديث رواه ابن أبي حاتم بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ جهنّم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم سقط على العرقوب». وحديث رواه ابن مردويه

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٦٣.

٣٣٥

بطرقه عن أبي الدرداء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم». حيث ينطوي في الأحاديث تفسير نبويّ فيه إنذار وترهيب متساوقان مع الإنذار والترهيب القرآنيين.

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)) [١٠٥ ـ ١١١]

في هذه الآيات حكاية لمحاورة مفروض وقوعها بين الله تعالى والكفار ، حيث يخاطبهم الله بعد أن يصيروا إلى النار بأسلوب التقريع عمّا إذا لم يكونوا قد نالوا ما يستحقونه لأنهم كانوا يكذبون بآياته كلما كانت تتلى عليهم. ولسوف يجيبون بأن روح الإثم والشقاء قد تغلبت عليهم فضلوا عن طريق الهدى ثم يلتمسون إخراجهم من النار معلنين توبتهم على أن يكونوا إذا عادوا ظالمين مستحقين أشدّ العذاب. فيردّ الله عليهم أن اخسأوا ولا تراجعوني بكلام. فقد كان فريق من عبادي الصالحين المخلصين يتجهون إليّ ويطلبون مني وحدي الغفران والرحمة فاتخذتموهم موضوع هزء وسخرية وكنتم تضحكون منهم واستغرقتم في ذلك حتى نسيتم ذكري. ولقد جزيتهم اليوم بسبب ثباتهم على إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم على ما لحق بهم منكم من الأذى والسخرية فكانوا الفائزين السعداء.

والآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين كما هو ظاهر. والإنذار والتنديد فيها قويان مفحمان ، وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء وهم في فرصة الدنيا ، مع الثناء على المؤمنين وتطمينهم وتبشيرهم ؛ وبخاصة الفقراء والمساكين منهم الذين كانوا

٣٣٦

موضوع سخرية الكفار واحتقارهم على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها.

وبعض المفسرين (١) قالوا في صدد جملة (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) الشقاء الذي كتبه الله عليهم. وروح الآيات وفحواها لا تساعدان على هذا التأويل كما لا تساعد عليه التقريرات القرآنية المحكمة التي تتضمن أن الله هدى الناس إلى طريق الخير والشر وآتاهم قابلية التمييز والاختيار بينهما على ما شرحناه في مناسبات عديدة.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)) [١١٢ ـ ١١٦]

في الآيات استمرار في حكاية المحاورة المفروضة : فلسوف يسأل الله الكفار عن مقدار ما لبثوا في الدنيا فيجيبون أن ما لبثوه لم يكد يتجاوز يوما أو بعض يوم فيما يخيل إليهم وأن الأولى أن يسأل عن ذلك الموكلين بالعد والإحصاء. ولسوف يرد عليهم بأنهم لو عقلوا لعرفوا أنهم لم يلبثوا إلّا أمدا قصيرا حقّا. ولسوف يسألهم حينئذ عما كانوا يظنونه من ظنّ خاطئ بأنهم غير راجعين إليه ولا واقفين بين يديه. وبأن الله كان عابثا لا يستهدف غاية ولا حكمة من خلقهم في حين أن الله عزوجل تنزّه عن العبث وتعالى فهو الملك الحقّ الذي لا يقرر إلّا الحق ولا يفعل إلّا الحق ولا يتوخّى بفعله وقراراته إلّا الحق وهو ربّ العرش الكريم المتصرف المطلق في الكون.

والآيات استمرار في السياق والموضوع كما هو المتبادر. والمتبادر أن هذا القسم من المحاورة استهدف بيان تفاهة المدة التي يقضيها الكفار في الدنيا مغترين

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبري.

٣٣٧

بقوتهم ، وقد تضمنت تقريعا لاذعا على حسبانهم أن لا حياة وراء حياتهم الدنيوية وأن لا حكمة وغاية وراء وجود الكون. واستهدفت ما استهدفته سابقاتها من إثارة خوفهم وارعوائهم فضلا عن توكيدها حقيقة الآخرة الإيمانية واتساقها مع الحكمة والعدل والحق.

ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال يا أهل الجنة لم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم. رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال يا أهل النار لم لبثتم في الأرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئس ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم. ناري وسخطي امكثوا فيهما خالدين مخلّدين».

وينطوي في الحديث تبشير وإنذار نبويان متساوقان مع الهدف القرآني الذي نوّهنا به كما هو المتبادر.

ومع ما ذكرناه من صلة الآيات وهدفها ففيها وبخاصة في الآيتين الأخيرتين فيهما تلقين مستمرّ المدى موجه إلى الناس عامة في كل ظرف ومكان ليرعووا ويتّعظوا ويتجهوا نحو الله عزوجل مما تكرر وعرف منه أمثلة عديدة.

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)) [١١٧ ـ ١١٨]

في الآية الأولى إنذار لكل من يدعو مع الله إلها آخر ويشركه معه في الاتجاه والعبادة بدون برهان. فحسابه عند ربه ولن يلقى فلاحا. وفي الآية الثانية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يطلب من الله الغفران والرحمة ويقرر له صفته الكمالية في الرحمة وكونه خير الراحمين.

وقد جاءت الآية الأولى كخاتمة للسياق السابق الذي حكى فيه مواقف الكفار

٣٣٨

وأقوالهم وأنذرهم وأوعدهم. كما جاءت هي والآية الثانية خاتمة لآيات السورة. وطابع الختام المألوف في كثير من السور السابقة ظاهر عليهما أيضا. والآية الأخيرة ذات مغزى رائع في مقامها وإطلاقها.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن تعبير (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [١١٧] لا يمكن أن يعني أن هناك شركا قد يكون قائما على برهان وسائغا. وإنما هو تعبير أسلوبي يتضمن نفي قيام أي برهان على ذلك أولا والتشديد في التنديد لأن شرك المشركين لا يستند إلى أي تعليل في أية شبهة من حقّ ومنطق ثانيا. وقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا ومرّت منه أمثلة عديدة.

٣٣٩

سورة السجدة

في السورة توكيد بصلة القرآن بالوحي الإلهي وردّ على الكفار على نسبتهم افتراءه للنبي عليه‌السلام. وتنويه بقدرة الله في مشاهد الكون ونواميس الخلق للبرهنة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع. وحكاية لشكوك الكفار بالبعث والحساب وحملة عليهم ومقايسة بين مصيرهم ومصير المؤمنين. وإشارة إلى رسالة موسى وفضل الله على بني إسرائيل حينما صبروا واتبعوا آيات الله. وتثبيت وتطمين للنبي عليه‌السلام.

وآيات السورة متساوقة ومنسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روي أن الآيات [١٦ ـ ٢٠] مدنية ، وانسجامها مع ما قبلها سبكا وموضوعا يسوغ الشك في الرواية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)) [١ ـ ٣]

وهذه أولى السور في ترتيب النزول الذي سرنا عليه تبتدئ بهذه الحروف. وقد تكرر ذلك بعدها في ثلاث سور مكيّة وسورتين مدنيتين. ولم يورد المفسرون في صددها شيئا جديدا وعطفوا على ما ذكروه في تفسير أول سورة البقرة المشابه. ونرجّح هنا ما رجحناه في سياق مماثلاتها أنها للتنبيه واسترعاء السمع ، وقد أعقب الحروف الثلاثة كما هو الشأن في معظم السور المماثلة إشارة تنويهية إلى القرآن

٣٤٠