التّفسير الحديث - ج ٥

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٥

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٨

ورسله من أن يخسف الله بهم الأرض فتميد تحت أقدامهم أو يرسل عليهم رجوما من الحجارة فيرون حينئذ مصداق نذره ووعيده.

٢ ـ وتذكيرا لهم بما كان من تكذيب الأمم السابقة وبما كان من عذاب الله فيهم.

٣ ـ ولفتا لنظرهم إلى الطير التي تطير في السماء فتبسط أجنحتها أو تقبضها وما يمسكها عن السقوط إلا الله حيث ينطوي في هذه الظاهرة دليل على قدرة الله وكونه البصير بكل شيء المدبّر لكل شيء.

٤ ـ وتنديدا إنذاريا آخر بأسلوب السؤال الإنكاري عمّن يمكن أن ينصرهم من دون الله إذا ما جاء وقت عذابه لهم أو عمّن يرزقهم غيره إذا هو أمسك عليهم الرزق ، ومع ذلك فقد تمادوا في العتوّ والتمرّد على دعوة الله والنفور منها حيث صاروا بذلك مستحقين لهذا وذاك.

٥ ـ سؤالا تنديديا آخر عمن هو الأفضل أهو الذي يمشي مكبّا على وجهه لا يرى طريقه ، أم هو المستقيم في مشيته الذي يرى الطريق الواضح المستقيم ويسير فيه.

والآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وهي قوية محكمة في تنديدها وإنذارها.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)) [٢٣ ـ ٢٤]

في هاتين الآيتين أمر للنبي بتوجيه الخطاب إلى الكفار في معرض التذكير والتنديد والتقرير بأن الله هو الذي خلقهم في البدء ووهبهم نعمة السمع والبصر والعقل مع تأنيبهم على قلة شكرهم لله على هذه الأفضال. وبأن الله هو الذي كثرهم في الأرض ونمّاهم وسيحشرون إليه.

٣٨١

والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك سياقا وموضوعا. وقد انطوى في الآية الثانية تقرير قدرة الله على حشرهم إليه ما دام هو الذي خلقهم وكثّرهم في الأرض.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)) [٢٥ ـ ٢٦]

في الآية الأولى حكاية لتساؤل الكفار تساؤلا يتضمّن معنى الإنكار والاستخفاف عن موعد تحقيق وعد البعث والحساب والعذاب الأخروي إذا كان ذلك حقا وصدقا. وفي الثانية أمر للنبي بإجابتهم بأن علم ذلك عند الله ، وأنه ليس إلّا نذيرا للبيان والتبليغ.

والآيتان أيضا متصلتان سياقا وموضوعا بما سبقهما. وأسلوب الآيتين والآيتين اللتين قبلهما قد يلهم أن هذه الآيات وما قبلها حكاية أو تسجيل لموقف حجاجي وجاهي بين النبي والكفار أو تعقيب عليه.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)) [٢٧]

(١) زلفة : سريعا أو قريبا.

(٢) تدّعون : بمعنى تطلبون أو تستعجلون.

هذه الآية جاءت في معرض توكيد تحقيق وعد الله ووصف حالة الكفار حينئذ : فلسوف يرون تحقيق هذا الوعد أقرب مما يظنون. وحينئذ تتجهّم وجوههم هلعا من العاقبة. ويقال لهم هذا هو مصداق وعد الله الذي كنتم تنكرونه وتتعجلونه تعجّل الساخر الجاحد. والآية متصلة بالسياق كما هو واضح. وقد تضمنت إنذارا وتعنيفا وردّا.

٣٨٢

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)) [٢٨ ـ ٣٠]

(١) غورا : غائرا في الأرض فينقطع عن النبع والجريان.

(٢) معين : لا ينضب أو جار ظاهر على وجه الأرض.

في هذه الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه سؤال استنكاري للكفار عما إذا كان يستطيع أحد أن يجيرهم من عذاب الله وبلائه الشديد إن مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه قبل نزوله عليهم أو رحمهم حين نزوله. وعمن يستطيع أن يأتيهم بالماء الدائم الظاهر إذا ما أصبح ماؤهم غائرا في الأرض. وأمر له أيضا بإعلان إيمانه وإيمان من معه إيمانا مطلقا بالله وتوكلهم عليه وحده وبإنذار الكفار بأنهم لن يلبثوا حتى يعرفوا من الفريقين المهتدي ومن هو المرتكس في الضلالة.

والآيات متصلة أيضا بما سبقها سياقا وموضوعا. وفيها توكيد لما تلهمه الآيات [٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٦] من الموقف الحجاجي الوجاهي الذي قام بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار والتعقيب عليه كما هو المتبادر. وقد جاءت خاتمة لهذا الموقف أو التعقيب وخاتمة للسورة في الوقت ذاته.

ولقد قال بعض المفسرين (١) إن الآية الأولى تضمنت ردّا على الكفار الذين كانوا يتربّصون بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتمنونه حتى يخلصوا منه وهو ما حكته إحدى آيات سورة الطور السابقة. وقد لا يخلو القول من وجاهة. ولكن التأويل الذي أوّلناها به هو الذي تبادر لنا أنه الأوجه. والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبرسي.

٣٨٣

سورة الحاقة

في السورة إنذار للكفار بعذاب الله. وتذكير بما حلّ بأمثالهم الأولين.

ووصف لهول يوم القيامة. ومصائر المؤمنين والكفّار فيه. وتوكيد قوي بصحة صلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي الرباني وصدور القرآن عنه. ونفي الافتراء والشعر والكهانة عنه. وآياتها متوازنة مقفاة ومترابطة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)) [١ ـ ١٢]

(١) الحاقّة : الحادثة التي يحق فيها الموعود من عذاب الله.

(٢) وما أدراك : ما هنا موصولة والجملة في صدد لفت النظر إلى خطورة الحاقة.

(٣) القارعة : مشتقة من القرع بمعنى الطرق. وهي كناية عن يوم القيامة حيث تقرع الآذان من شدّة هولها.

٣٨٤

(٤) الطاغية : كناية عن البلاء الطاغي الشديد الذي حلّ بمنازل ثمود.

(٥) صرصر : شديد البرد أو شديد الصوت والدويّ.

(٦) عاتية : من العتوّ وهي صفة بمعنى الشدّة التي لا يمكن منعها.

(٧) حسوما : من الحسم بمعنى القطع. والكلمة بمعنى مستأصلة قاطعة.

(٨) صرعى : مصروعين أو مطروحين على الأرض هلكى.

(٩) أعجاز النخل : قرامي شجر النخل وأصولها.

(١٠) خاوية : فارغة أو مهدمة.

(١١) المؤتفكات : المخسوفات. وجمهور المفسرين على أنها قرى قوم لوط.

(١٢) رابية : زائدة. والقصد وصفها بالشدّة الزائدة على المعتاد.

(١٣) الجارية : السفينة والفلك.

الآيات الثلاث الأولى في صدد التنبيه على ما في بلاء الله حينما يحقّ ويحلّ في قوم من الأقوام من هول. وقد استعمل نفس الأسلوب في مطلع سورة القارعة في نفس المعنى. وقد قال المفسرون إن الحاقة كناية عن يوم القيامة. غير أن التذكير بما حلّ من عذاب دنيوي في الأقوام الأولين في الآيات التي تلت هذه الآيات الثلاث يلهم أن القصد من الحاقة التنبيه على بلاء الله وعذابه مطلقا. ويمكن أن يشمل عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما.

وفي الآيات التي تبعت الآيات الثلاث :

١ ـ إشارات تذكيرية مقتضبة إلى ما حلّ من عذاب رباني بالأمم السابقة : فقد كذبت ثمود وعاد بيوم القيامة فأهلك الأولين ببلاء طاغ شديد وأهلك الآخرين بريح قويّة شديدة سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة قطّعتهم تقطيعا مستأصلا حتى صاروا صرعى مطروحين على الأرض كأنما هم قرامي النخل الخاوية المهدمة دون أن يبقى منهم بقية كما يعرف ذلك السامعون.

٢ ـ وقد اقترف فرعون وأقوام من قبله وأهل المؤتفكات الخطيئات والآثام

٣٨٥

وعصوا رسل الله فأخذهم الله أخذا شديدا مهلكا أيضا.

٣ ـ وحينما فاض الماء وطغى وملأ الآفاق حمل الله السامعين في السفينة لتكون الحادثة مذكرة واعظة لا تبرح الأذهان.

والمتبادر أن الآيتين الأخيرتين تشيران إلى حادثة طوفان نوح وسفينته. وأن توجيه الكلام للسامعين بضمير الجمع المخاطب هو من باب ما للحادثة من صلة بهم عن طريق الأجداد الأولين الذين أنجاهم الله على السفينة وهم نوح وأهله كما ورد بعبارة أوضح في مواضع أخرى من القرآن ومنها آية سورة الصافات هذه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وضمير الجمع المخاطب قد ينطوي على قرينة على كون السامعين يعرفون الحادثة ، ويعرفون صلتهم بنوح وأبنائه الذين نجوا على السفينة.

والمتبادر كذلك أن الآيات قد استهدفت تذكير كفار العرب بما كان من تكذيب الأقوام السابقين لرسلهم وما اقترفوه من آثام وما كان من انصباب بلاء الله المتنوع عليهم. وتنبيههم إلى ما يجب عليهم من الاعتبار والاتعاظ. وإنذارهم بما يمكن أن يصيبهم من عذاب وبلاء مثل أمثالهم الأولين.

والأقوام المذكورة في الآيات وعذاب الله المسلّط عليهم قد ذكر في سور سابقة. واستمرار التذكير بذلك مرة بعد مرة بأساليب متنوعة متصل بالهدف الإنذاري الذي تستهدفه القصص القرآنية وبتجدد وتنوع المواقف الإنذارية ومحلها على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ

٣٨٦

راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)) [١٣ ـ ٣٧]

(١) الواقعة : كناية عن قيام القيامة.

(٢) واهية : متداعية.

(٣) الملك : الملائكة.

(٤) أرجائها : أطرافها أو جوانبها.

(٥) ظننت : هنا بمعنى علمت وتيقنت.

(٦) دانية : قريبة للمتناول.

(٧) أسلفتم : قدمتم.

(٨) الأيام الخالية : كناية عن الدنيا.

(٩) هلك عني سلطانيه : ضاع سلطاني وفقدت قوّتي أو فقدت حجتي وبرهاني.

(١٠) فغلّوه : قيّدوه بالأغلال.

(١١) صلّوه : أدخلوه النار يصلى بها.

(١٢) حميم : صديق.

(١٣) غسلين : الصديد.

هذه الآيات احتوت وصف الحالة في يوم القيامة :

فحينما يحين الحين وينفخ في الصور وتحمل الأرض والجبال فتندكّ

٣٨٧

وتنهار ، وتتشقق السماء وتتداعى تكون الواقعة قد وقعت والقيامة قد قامت. وإذ ذاك يحدق الملائكة بجميع الأرجاء والجوانب. ويتجلّى الله على عرشه المحمول من قبل ثمانية من ملائكته فوق الكون والخلق. ويعرض الناس عليه دون أن تخفى منهم عنه خافية. ويكون قضاء الله فيهم حيث يكونون فريقين. فريقا يعطى كتابه بيمينه فيبتهج ويسرّ بما كان عليه من يقين بالله ولقائه وحسابه ويدخل الجنة ليتمتع فيها بالعيشة الراضية والقطوف الدانية. ويقال له كل واشرب هنيئا فهذا جزاء ما قدمت من صالح العمل في الدنيا. وفريقا يعطى كتابه بشماله فيعتريه الرعب ويستشعر بالندم والحسرة ويتمنّى لو لم يبعث ولم يحاسب ، ويعول قائلا إن ماله لم يغن عنه شيئا. وسلطانه أو حجته قد غابت عنه ويؤمر الموكلون بالعذاب بأخذه وغلّ يديه وطرحه في جهنّم وربطه بسلسلة طولها سبعون ذراعا ، لأنه لم يؤمن بالله العظيم ولم يكن يحضّ على طعام المسكين ، ولن يجد له حينئذ صديقا حميما ولا ناصرا معينا ، ولن يكون له طعام إلّا الصديد المعدّ للآثمين أمثاله.

والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة في هدف التذكير والإنذار. فكما أهلك الله المكذّبين الكافرين الأوّلين بأنواع البلاء في الدنيا فقد أعدّ لهم أنواع العذاب في الآخرة. وشأن كفار العرب شأن الكفار السابقين ومصيرهم هو نفس المصير.

وقد ذكر مصير المؤمنين الصالحين في سياق ذكر مصير الكفار للمقابلة والتنويه جريا على الأسلوب القرآني.

والآيات الأولى قد استهدفت ـ كما هو المتبادر بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية التي يجب الإيمان بها ـ تصوير شدّة هول القيامة للتذكير والإنذار. وقد جاء وصف مصير المؤمنين أخاذا من شأنه أن يبعث الطمأنينة والاستبشار والرغبة في العمل الصالح في المؤمنين كما جاء وصف مصير الكفار مفزعا يثير الخوف ويحمل على الارعواء ، وهذا وذاك مما استهدفته الآيات فيما هو المتبادر أيضا.

ولقد استعيرت المألوفات الدنيوية في وصف مصير الفريقين جريا على النظم

٣٨٨

القرآني وتحقيقا لهدف التأثير في السامعين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.

ولقد نبهنا قبل على ما تعنيه عبارات إيتاء كتب الأعمال في الآخرة من اليمين والشمال في مناسبة سابقة فلا ضرورة للتكرار.

ولقد روى الطبري عن بعض التابعين أن كل ذراع من أذرع السلسلة سبعون باعا وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة وأن معنى (فَاسْلُكُوهُ) هو إدخال السلسلة في فيه حتى تخرج من دبره أو في دبره حتى تخرج من منخريه. وفي كتب التفسير الأخرى روايات وأقوال مماثلة بدون سند وثيق. ومهما يكن من أمرها فهي من باب الترهيب وإثارة الخوف في نفوس الكفار.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآية [١٧] أحاديث وروايات عن حملة العرش. ولقد أوردوا مثل ذلك في سياق الآية [٧] من سورة غافر التي تذكر حمل الملائكة لعرش الله تعالى. وقد أوردناه في سياق تفسيرها وعلقنا عليه كما علقنا على موضوع الملائكة بصورة عامة في سياق تفسير سورة المدثر بما يغني عن الإعادة والزيادة.

تعليق على تخصيص الحضّ على

طعام المسكين في الآية [٣٤]

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إنه لم يقصد من عدم الحضّ على طعام المسكين حصر البرّ في إطعام المسكين والإثم في عدمه. غير أن ذلك ينطوي ـ من دون ريب ـ على تلقين قرآني مستمرّ المدى في صدد هذا العمل والحثّ عليه واعتباره من أعظم أعمال البرّ الاجتماعية وبخاصة في البيئات التي تكون الحاجة فيها شديدة وملحّة.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا

٣٨٩

بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)) [٣٨ ـ ٥٢]

(١) تبصرون وما لا تبصرون : قيل إنها بمعنى الدنيا التي ترونها والآخرة التي لا ترونها. وقيل بمعنى ما ترون وما لا ترون من المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة.

(٢) رسول كريم : كناية عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) لو تقوّل علينا بعض الأقاويل : لو افترى علينا بقول ما.

(٤) لأخذنا منه باليمين : لانقضضنا عليه بقوّتنا.

(٥) الوتين : وريد القلب.

(٦) حاجزين : مانعين.

في هذه الآيات قسم رباني بما يراه السامعون وما لا يرونه من مشاهد الكون وأسراره ومن المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة في معرض التوكيد بصحة رسالة النبي وصدق قوله وتبليغه : فهو رسول كريم على الله. وليس هو شاعرا ولا كاهنا. وإن هذا ليبدو حقا واضحا ساطعا لكل من تدبر في الأمر وتروّى فيما يسمعه من الأقوال وكان قلبه نقيا من الخبث مستعدا للتسليم بالحقيقة راغبا في الهدى والحق. لأن ما يقوله يعلو كل العلوّ عن متناول الشعراء والكهان وخاصة في الأهداف والجوهر والمدى. وهو تذكرة وموعظة ينتفع بهما ذوو القلوب النقيّة والرغبة الصالحة والمتّقون لغضب الله الراغبون في رضائه. وهو حقّ اليقين الذي لا يمكن أن يشوبه باطل. وهو تنزيل من الله ربّ العالمين. وإن الله لقادر على البطش به وإهلاكه لو اخترع بعض الآيات ونسبها إليه افتراء دون أن يقدر أحد على إنقاذه منه. وإن الله ليعلم أنه سيكون من الناس من يكذّبونه. ولكن هؤلاء سيندمون ويتحسّرون على تكذيبهم وجحودهم.

٣٩٠

وانتهت الآيات بأمر موجّه إلى النبي بالتسبيح باسم ربّه العظيم مما ينطوي فيه تسلية وتثبيت بعد هذا التأييد الرباني العظيم من جهة وبعد تقرير طبيعة وجود المكذبين له.

والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر ؛ من حيث توكيد صدق ما يتلوه النبي من الآيات التي فيها تقرير مصائر الكفار والمؤمنين. وهي قوية رائعة في تنديدها وفي إنذارها وفي توكيدها وفي نفيها وفي تثبيتها من شأنها أن تبعث أعظم شعور الثقة في نفس النبي والمؤمنين بل والسامعين إطلاقا إذا تجرّدوا عن العناد والمكابرة والهوى والحقد في صدق صلة النبي بالوحي الربانيّ وصدور القرآن عنه.

ويبدو على الآية الأخيرة طابع الختام الذي اختتمت بمثله سور عديدة.

ويتبادر من ذكر قطع الوتين الذي قال المفسرون إنه عرق يكون في القلب أن السامعين يعرفون أن قطعه مما يودي بحياة الإنسان فورا.

ولقد سبقت حكاية أقوال الكفار بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر وكاهن. وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.

٣٩١

سورة المعارج

في السورة توكيد بوقوع عذاب الله الموعود. وتذكير بعظمة المشاهد السماوية ووصف لهول يوم القيامة وما تكون عليه حالة الكفار فيه. وتقرير لبعض طبائع الإنسان السيئة واستثناء المؤمنين المصلّين الذين يخافون الله والآخرة على اعتبار أن ذلك يحسّن هذه الطبائع ويحفّز على الخير والبرّ والعدل والحق والعفاف. وصورة من صور الهزء التي كانت تبدو من الكفّار نحو النبي ، وتسلية للنبي وتنديد بالكفار بسببها.

وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول بنزولها دفعة واحدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧)) [١ ـ ٧]

(١) سأل : قيل إنها بمعنى دعا وقيل إنها بمعنى السؤال العادي.

(٢) المعارج : جمع معراج وهو ما يصعد عليه إلى أعلى. وهي كناية عن السموات على ما روي عن ابن عباس. وهناك من قال إنها بمعنى ذي الفضل والنعم.

في الآيات : إشارة إلى سؤال سائل عن عذاب الله الموعود وموعد وقوعه

٣٩٢

ومحلّه. وتوكيد بوقوعه على الكافرين دون أن يستطيع أحد دفعه عنهم من الله ربّ السموات الذي يصعد إليه فيها الملائكة والروح في يوم طوله خمسون ألف سنة من أيام الدنيا. وأمر للنبي بالصبر والثبات وعدم الاغتمام وتطمين له : فإذا كان الكفار يرون ذلك العذاب ويوم موعده بعيدا فهو عند الله قريب.

والآية الأولى تحتمل أن يكون السؤال وقع فنزلت الآيات بمناسبته كما تحتمل أن تكون حكاية لما كان يتكرّر وقوعه من الكفار من استعجال العذاب أو التساؤل عن موعده على سبيل الإنكار والتحدّي والاستهتار على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها. وقد احتوت الآيات ردّا تضمّن التوكيد والتنديد والبرهان المستمد من المحسوس وبخاصّة المستند إلى ما هو قائم في مشاهد الكون من عظمة الله وقدرته. بحيث لا يصح في العقل أن يستبعد عليه شيء. ووجود الله سبحانه وعظمته وشمول قدرته وحكمه مما كان يعترف به السامعون على ما مرّت الشواهد القرآنية العديدة عليه فتكون الحجّة هنا مستحكمة فيهم.

تعليق على رواية شيعية في سبب

نزول هذه الآيات

ولقد روى المفسر الشيعيّ الطبرسي عن جعفر بن محمد أحد الأئمة الاثني عشر رواية في سبب نزول هذه الآيات جاء فيها : «لما نصّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا يوم غدير خمّ وقال من كنت مولاه فعليّ مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحجّ والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال والله الذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله. فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) وسورة كالمعارج مكيّة بدون خلاف. والحديث المرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خمّ صدر

٣٩٣

عنه حسب الروايات بعد رجوعه من حجّة الوداع أي قبيل وفاته. أو بعد رجوعه من فتح مكة أي في السنة الهجريّة الثامنة. وجملة «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ ...» آية في سورة الأنفال المدنيّة تحكي في سياقها أقوال مشركي مكّة في العهد المكيّ. والآيات التي بعدها تردّ عليهم. وعلي بن أبي طالب (رض) لم يعد يوم الحديث المروي غلاما فإنه جاوز الثلاثين سنين عديدة. حيث يبدو من ذلك غرابة الرواية وكونها من نوع مرويات الشيعة العديدة التي يروونها في سياق التفسير لتأييد هواهم.

تعليق على جملة

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)

يروي المفسرون أقوالا عديدة ومنسوبة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم في صدد هذه الجملة (١). فمنها في صدد (وَالرُّوحُ) أنها تعني جبريل عليه‌السلام الذي يرجّح أنها عنته في آيات في سور أخرى سبق تفسير بعضها مثل سورتي النحل والشعراء. ومنها أنها تعني أرواح الناس حينما تنقضي آجالهم مما ذكر في حديث رويناه في سياق بعض آيات سورة إبراهيم التي سبق تفسيرها. ولقد ذكر الروح مع الملائكة في سورة القدر بأسلوب يدلّ على أنه رئيس الملائكة ويكون على رأسهم في نزولهم إلى الأرض كما ذكرت في مثل هذا المقام أو بعبارة أخرى في قيام الملائكة والروح صفّا أمام الله يوم القيامة في إحدى آيات سورة النبأ التي يأتي تفسيرها بعد قليل حيث يسوّغ الترجيح أنها هنا من هذا الباب. ومنها في صدد (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أن الرقم هو المسافة التي بين تخوم الأرض إلى فوق السموات السبع حسب أيام الدنيا يقطعها الملائكة والروح في يوم واحد. ومنها أنها بمعنى أنه لو صعد غير الملائكة من منتهى أمر الله في أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين سنة والملائكة يقطعونها في ساعة واحدة. ومنها أن الرقم هو يوم القيامة ومنها أنه مدة

__________________

(١) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

٣٩٤

الدنيا. وقد حاول المفسرون الذين رووا القولين الأولين التوفيق بين هذا الرقم وبين ما جاء في سورة السجدة التي مرّ تفسيرها في هذا الجزء فقالوا إن يوم سورة السجدة هو من الأرض الأولى إلى السماء الأولى في حين أن يوم المعارج من تخوم الأرض السابعة إلى ما فوق السماء السابعة.

ولقد أورد ابن كثير بسبيل تأييد كون اليوم هو يوم القيامة حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : «قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا». ومع أن المفسر عقّب على هذا الحديث قائلا إن شخصين من رواته ضعيفان فإنه أورد حديثا آخر رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة جاء فيه : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقّها إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلّما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإما إلى النار» (١). هذا في حين أن فحوى الآيات يتّسق مع القولين الأوّلين أكثر وأن المتبادر من هذا الفحوى هو بيان كون المسافات الشاسعة الهائلة التي يستعظمها الناس مثل ما بين الأرضين والسموات ليست شيئا بالنسبة لقدرة الله تعالى. ولسنا نرى تعارضا بين هذا وبين ما جاء في الحديث الصحيح في الوقت نفسه حيث يبدو منه أن القصد هو بيان كون يوم القيامة طويلا جدا على الناس حتى لكأنه خمسون ألف عام مما يعدونه من أيامهم.

ومهما يكن من أمر فالخبر الذي احتوته الجملة القرآنية من المغيبات المتصلة بسرّ الله وملائكته. ومن الواجب الوقوف عنده موقف التصديق دون التخمين مع واجب تنزيه الله تعالى عن المكان والحدود الجسمانية ومع واجب الإيمان بأنه لا

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٦ ، وللحديث تتمة بالنسبة للمواشي التي لا تؤدّى زكاتها.

٣٩٥

بدّ من أن يكون لورود الجملة بالأسلوب الذي وردت به حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة على ضوء الآيتين الأخيرتين [٦ و ٧] أنها بسبيل الردّ على الكفار الذين يستعجلون العذاب استهتارا أو تحدّيا ويسألون هازئين عن سبب تأخيره بأن ما يظنونه بعيدا هو عند الله تعالى قريب وإن اليوم عنده ليعدل خمسين ألف سنة من سنيهم. والله أعلم.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)) [٨ ـ ١٨]

(١) المهل : عكر الزيت.

(٢) العهن : الصوف.

(٣) يبصرونهم : بمعنى يرونهم أو يعرفونهم والضمير راجع إلى الأصدقاء الحميمين أو الأقارب المذكورين في الآيات.

(٤) صاحبته : كناية عن الزوجة.

(٥) فصيلته : أسرته الخاصة ، مثل عشيرته.

(٦) تؤويه : تضمه أو تجيره.

(٧) لظى : متقدة أو شديدة الالتهاب.

(٨) نزاعة للشوى : قرئت نزاعة بالضم وبالفتح. وفي حالة الضم تكون خبر (لأنها) وفي حالة الفتح تكون حالا أو ظرفا أو مفعولا لفعل مقدر وهو (أعنيها) والشوى جمع شواة وهي بشرة الجسم أو أطراف الجسم غير المقاتلة ، والجملة تعني أن النار تنزع من شدّتها بشرة الجسم أو أطرافه.

(٩) أوعى : كنز وادّخر.

٣٩٦

وفي هذه الآيات إشارة إلى عذاب الله الموعود الذي أكّدت الآيات السابقة وقوعه وقربه : ففي ذلك اليوم تكون السماء كعكر الزيت قتاما أو ميوعة والجبال كالصوف ليونة وتناثرا ومع أنهم يرى بعضهم بعضا ويتعرف بعضهم على بعض فإن كلا منهم مشغول بنفسه لا يستطيع أن يسأل نصرا من صديق أو عونا من قريب ولا يمكن أن يجاب. ويكون هول العذاب الشديد على المجرمين حتى ليتمنى الواحد منهم لو فدى نفسه بكل عزيز عليه من أولاده وزوجته وأخيه وعشيرته وكل من في الأرض ليتمكن من النجاة. ولكن لا نجاة. فقد أعدّت جهنّم الشديدة الاتقاد لكل من أدبر وأعرض عن سماع آيات الله والاستجابة إلى الدعوة إليه وكان كل همّه جمع المال وكنزه لتنزع أطرافهم وتشوى بشراتهم دون أن يقضى عليهم بالموت ليظلوا يقاسون هول العذاب.

والآيات كما هو واضح متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وفيها تأييد لما قلناه في سياق الآيات السابقة وكونها للإنذار والتأكيد بوقوع العذاب الموعود وقربه.

وقد تضمنت وصفا مرعبا من شأنه إثارة الخوف والهلع في الكفار وهو مما استهدفته الآيات هنا كما استهدفته الآيات السابقة والمماثلة بالإضافة إلى المقصد الأخروي الواجب الإيمان به. ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا فيه تفسير للمهل قال : «إنه كعكر الزيت إذا قرّب إلى الوجه سقطت فروته من شدّة حرارته» (١).

تعليق على اختصاص جمع المال

وكنزه بالتنديد

وكما قلنا في صدد اختصاص عدم الحضّ على طعام المسكين في الآيات السابقة نقول هنا في صدد اختصاص جمع المال وكنزه بالتنديد ؛ من حيث إنه ليس من قبيل الحصر. ولكنه ينطوي على تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد تقبيح كنز المال والشحّ به عن سبل البرّ والخير ومساعدة المحتاجين.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٤٤.

٣٩٧

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥)) [١٩ ـ ٣٥]

(١) هلوعا : سريع التأثر والتّهيج مما يلمّ به أو سريع الضجر والتبرّم.

(٢) جزوعا : شديد الخوف والاضطراب.

في الآيات الثلاث الأولى إشارة إلى ما انطبع عليه الإنسان من أنانية وحرص وسرعة تأثر : فهو سريع التهيج مما يلمّ به. وهو أناني لا يفكر إلّا في نفسه فإذا أصابه شرّ جزع واضطرب وإذا انفرجت أموره ونال خيرا أمسك وبخل.

والآيات التالية استثنت من ذلك المصلّين المداومين على الصلاة : فهؤلاء يعرفون ما عليهم في أموالهم من حقّ واجب للسائل والمحروم. ويؤمنون باليوم الآخر. ويخافون من عذاب ربهم الجدير بالخشية. ويرعون ما يقطعونه من عهد. ويلتزمون في صلاتهم الجنسية مجالهم المشروع من زوجات وملك يمين حافظين فروجهم عن غير هذا المجال ، لأن الذين يتجاوزونه يكونون معتدين. ويحتفظون بما اؤتمنوا عليه من أمانات. ويؤدون ما عندهم من شهادات على وجهها الحقّ. ويحافظون على صلاتهم في أوقاتها. فلهؤلاء عند الله التكريم في الجنات.

تعليق على الآيات (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً)

إلى الآية ٢٥ وما ينطوي فيها من تلقينات

والآيات متصلة بسابقاتها. والمناسبة قائمة خاصة بينها وبين الآية الأخيرة السابقة لها مباشرة. وقد انطوت على تقرير أثر الإيمان وعبادة الله في نفس الإنسان

٣٩٨

واتجاهه وسلوكه ، وتقويم ما في طبيعته من أنانية وجزع من الشر ومنع للخير. وهي من روائع المجموعات القرآنية المنطوية على جليل التلقينات الأخلاقية والاجتماعية المستمرة المدى.

واختصاص المصلّين بالذكر في الاستثناء وتكرار التنويه بالدوام على الصلاة والمحافظة عليها في أول المجموعة وآخرها آت ـ كما هو المتبادر ـ من كون الصلاة هي مظهر رئيسي من مظاهر الإيمان بالله أولا ووسيلة مستمرة للتذكير بالله وأوامره التي فيها كل خير ونواهيه التي تنهى عن كل شرّ ثانيا. وهذا مما يجعل المصلّي يندفع في عمل الحق والعدل والخير ويمتنع عن الإثم والفواحش. وعلى هذا فإذا صدر من مصلّ آثام ومنكرات وتغلبت فيه الأنانية والجزع والبخل والمنع فلا يكون في الحقيقة مصليا لأن صلاته لا تكون صادرة عن إيمان صحيح فلا تفيد في تصفية روحه وتنقية قلبه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة لعلق شرحا يغني عن التكرار.

ومع أن الآيات انطوت كما قلنا على تقرير أثر الصلاة في المصلي الصادق فإن من الممكن أن يكون فيها أيضا صورة لما كان عليه المؤمنون الأولون في العهد المكي من أخلاق وما كان للصلاة والإيمان فيهم من أثر عظيم مما احتوت تقريره آيات عديدة في سور عديدة على ما ذكرناه في سياق الآيات الأولى من سورة (المؤمنون).

وإذا صح هذا ـ ونرجو ذلك ـ فإن في الآيتين (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قرينة على أن الزكاة كانت مفروضة على المؤمنين ومعينة المقدار.

ولقد روى الطبري عن مجاهد والشعبي وغيرهما من علماء التابعين أن جملة (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) تعني غير الزكاة أيضا. ومع أن هناك آيات عديدة حثّت على التصدّق بصورة عامة بحيث يدخل في ذلك الصدقات التطوعية فإنّ المتبادر من روح العبارة هو كما قلنا قصد المقدار المحدد

٣٩٩

المستوجب على الأموال باسم الزكاة في الدرجة الأولى.

ولقد روى البخاري حديثا جاء فيه : «أتي النبيّ مالا فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا فقال إني أعطي الرجل وأدع الرجل. والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي. أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع. وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير. منهم عمرو بن تغلب فقال عمرو ما أحبّ أن لي بكلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمر النعم» (١). حيث ينطوي في الحديث معالجة نبوية نفسانية لمختلف فئات المسلمين تورد على هامش بعض ما جاء في هذه الآيات. وفيها تلقين رفيع نفساني للمسلمين وبخاصة لأولي الأمر منهم.

تعليق على مدى الآية

(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ)

والآية كما هو المتبادر تعتبر القيام بالشهادة من صفات المؤمنين الصادقين وتنوّه بمن يفعل ذلك. وهناك آيات فيها حثّ على ذلك منها آية سورة النساء هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [١٣٥] وآية سورة المائدة هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [٨] وآية سورة الأنعام هذه (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [١٥٢] وآية سورة الطلاق هذه (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [٢] وهناك نهي عن كتمان الشهادة وإنذار لكاتميها كما هو في آية البقرة هذه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [٢٨٣] ونهي عن مضارة الشهداء كما هو في آية البقرة

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٤٤.

٤٠٠