حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

وثانيا : أنّ الفارق موجود وهو أنه بناء على التخيير في الأخذ يأتي بالفعل بعنوان الوجوب أو يترك بعنوان الحرمة ويحصل الامتثال بذلك ، بخلاف ما قلنا بالاباحة فإنه لا إطاعة فيه.

السادس : أنه بناء على الاستمرارية يلزم المخالفة القطعية في العمل لو أخذ بأحدهما تارة وبالآخر اخرى. وفيه أوّلا : أنه يلزم المخالفة القطعية لو علم إجمالا بأنّ الحكم الواقعي ليس خارجا عن مؤدّى الخبرين وإلّا فيمكن أن يكون كلا الخبرين مخالفا للواقع ، نعم يلزم المخالفة لكلا الأمارتين في الجملة ولا محذور فيه. وثانيا : أنه إنما يتم فيما إذا كان التكليف بالنسبة إلى جميع وقائع مورد الخبر منجّزا في زمان واحد مثل ما لو قلنا في مثال الظهر والجمعة إنّ التكليف بصلاة يوم الجمعة ثابت من أول البلوغ إلى آخر العمر إلّا أنه معلّق على مجيء زمان العمل في كلّ جمعة جمعة ، فلو صلّى الجمعة في اسبوع والظهر في اسبوع آخر يعلم إجمالا بأنه خالف الواقع في أحدهما ، وأمّا لو قلنا بأنّ التكليف مشروط بمجيء الجمعة ففي كل جمعة ليس عليه إلّا صلاة واحدة إمّا الظهر أو الجمعة ، فأيّهما فعل يحتمل الموافقة والمخالفة ، غاية الأمر أنه لو صلّى الظهر في جمعة والجمعة في اخرى يعلم أنه حصلت المخالفة في واحد منهما في السابق ولا محذور فيه على ما هو محقق في مسألة الشبهة المحصورة.

السابع : أنّ مقتضى التخيير بين الخبرين البدوية لا يحتمل غيرها ، لأنّ التخيير ليس إلّا بين الأخذ بمفاد هذا الخبر أو مفاد ذاك الخبر ، ومفاد كل خبر هو كون الحكم على وفق مدلوله أبدا ، فلو عملت مطابقا لأحد الخبرين تارة ومطابقا للآخر اخرى ما أخذت بشيء منهما ، وقد مر الجواب عن هذا الوجه عن قريب.

أقول : وبعد اللتيا والتي قد عرفت أنّ أدلة القول بالاستمرارية مخدوشة ما عدا استصحاب التخيير ، وأدلّة القول بالبدوية أيضا مخدوشة ما عدا كونها القدر

٥٠١

المتيقن ، وما عدا كون الاستمرارية مستلزمة للمخالفة القطعية في بعض الموارد ، أمّا مسألة القدر المتيقن فلا يعارض الاستصحاب لأنّ الاستصحاب مقدّم على الاحتياط ، وأمّا المخالفة القطعية فإنه لا يجوز العمل بالاستصحاب المستلزم لها ، فإذن استصحاب التخيير محكّم إلّا إذا استلزم المخالفة القطعية فتدبّر.

بقي وجه الاحتمالين الأخيرين اللذين ذكرناهما في صدر المبحث ، أمّا وجه الالتزام بالبدوية ما لم يقصد الاستمرار فهو أن يقال إنّ مقتضى القاعدة البدوية لأحد الوجوه المتقدمة ، إلّا أنه إن بنى من أول الأمر عند أخذه بأحد الخبرين أنه يعدل عنه إلى آخر فيما سيأتي فكأنه ما أخذ بالخبر بالنسبة إلى الزمان الآتي ، فهو بعد مخيّر بين الخبرين ، وأمّا وجه الالتزام بالاستمرارية إلّا إذا قصد البدوية فهو أنّ مقتضى القاعدة التخيير الاستمراري إلّا أنه إذا بنى على الالتزام بما أخذه أوّلا فكأنه أخذ بما أخذ أبدا فلا يجوز العدول.

وفيهما ما لا يخفى ، إذ بناؤه على العدول أو الالتزام بما أخذه لا يغيّر حكم الشرع بالتخيير بأحد الوجهين.

وينبغي التنبيه على امور ، الأول : أنه بناء على التخيير البدوي هل يتعيّن عليه ما أخذه بمجرد الأخذ أو بمجيء زمان العمل أو بالشروع في العمل بما اختاره أو بتمام العمل ، ولازمه جواز العدول عمّا أخذه قبل التعيين بأحد الامور الثلاثة؟ وجوه أوجهها أوّلها ، لأنّ التخيير إنّما هو في الأخذ على ما يدل عليه قوله (عليه‌السلام) «بأيّهما أخذت» وأولى من ذلك أن يقال إنه يختلف ذلك بحسب الأدلة التي قدّمناها فبعضها يقتضي التعيّن بمجرد الأخذ كاستصحاب الحكم المختار والقدر المتيقن ، وبعضها يقتضي التعيّن بالعمل كالاستدلال بالمخالفة القطعية فتدبّر.

الثاني : أنه بناء على التخيير البدوي هل يجوز أن يختار أحد الخبرين في

٥٠٢

واقعة والآخر في واقعة اخرى دفعة إذا ابتلى بالواقعتين في آن واحد بتقريب أنه لم يأخذ بواحد منهما بعد حتى يتعيّن عليه ولا يجوز العدول ، أو لا يجوز بل يجب أن يختار أحدهما ويعمل به في كلتا الواقعتين؟ الأقوى الثاني ، لأنه لا يمكن أن يكون حكم الشارع مختلفا بالنسبة إلى فردين من عنوان واحد في زمان واحد سواء كان ذلك في الحكم الواقعي أو الظاهري ، بل الأمر كذلك بناء على الاستمرارية أيضا.

الثالث : أنه بناء على التخيير الاستمراري هل يجوز له العدول حتى بالنسبة إلى عمل واحد شخصي كما إذا ورد خبران أحدهما دالّ على وجوب السورة والآخر على عدمه فاختار أحدهما في الركعة الاولى والثاني في الركعة الثانية ، وحتى بالنسبة إلى فردين قد تنجّز التكليف بهما في زمان واحد كالتكليف بصلاة الظهر والعصر فقرأ في إحداهما وترك في الاخرى عملا بالخبرين ، أو لا يجوز العدول حتى يؤدّي ما وجب عليه عند اختياره أحدهما وإنّما يجوز له العدول بعد ذلك؟ وجهان ، والتحقيق أنه إن لزم من العدول الكذائي مخالفة قطعية لعلم إجمالي إن كان هناك علم إجمالي فلا ريب في عدم الجواز وإلّا فمقتضى القاعدة جوازه إلّا أن يدّعى انصراف الدليل عن مثل ذلك فليتأمل.

الرابع : قد عرفت أنه يمكن أن يكون التخيير أخذيا ويمكن أن يكون عمليا ، وعرفت الفرق بينهما ، وهنا احتمال آخر للتخيير وهو أن يكون الحكم وجوب تطبيق العمل على مفاد أحد الخبرين في موضوع التعارض ، لا بمعنى جعل أحد المتعارضين طريقا إلى الواقع ليرجع إلى التخيير الأخذي ، بل بمعنى كون حكم العمل لمن أتاه خبران متعارضان هو التخيير بين مفادي الخبرين ، فهو أصل عملي ، كما أنه على التخيير الأخذي ما أخذه دليل اجتهادي ، وتظهر الثمرة في ترتّب لوازم الخبر فعلى التخيير الأخذي تترتّب وعلى العملي بكلا معنييه لا

٥٠٣

تترتّب ، وأمّا لوازم المخبر به فبناء على التخيير الأخذي والعملي بالمعنى الثاني تترتّب وعلى التخيير العملي بالمعنى الأول لا تترتّب.

وربما تظهر الثمرة بين الأخذي والعملي في امور أخر ، منها : أنه لو دل أحد الخبرين على وجوب شيء والآخر على وجوب شيء آخر كالقصر والتمام في السفر إلى أربعة فراسخ مثلا ، فلو فرض أنه غير متمكّن من التمام ومتمكّن من القصر فعلى التخيير العملي يتعيّن عليه ما يتمكّن منه من القصر على ما هو شأن الواجب التخييري في كل مورد ، وعلى الأخذي يجوز له أن يختار الخبر الدال على التمام ليسقط عنه التكليف ، وأيضا بناء على الأخذي لو فاتت عنه الصلاة الكذائية يجب قضاؤها على طبق ما أخذ من قصر أو تمام ، وعلى العملي يتخيّر بالنسبة إلى قضائها أيضا كالأداء.

ومنها : أنه لو دلّ أحد الخبرين على وجوب شيء والآخر على عدمه ، فعلى الأخذي لو بنى على الأخذ بالخبر الأول ثم تركه كان عاصيا فاسقا حيث إنه تارك للواجب ، وعلى العملي لم يفسق من حيث كون عمله مطابقا لأحد الخبرين.

ثم إنّك قد عرفت أنّ الأقوى هو التخيير الأخذيّ لأنه ظاهر الأدلة ، لكن قد يقال إنه وإن كان ظاهر الأدلة إلّا أنّ هنا مانعا عقليا يمنعنا عن القول به فلا بدّ أن نحملها على التخيير العملي ، وهو أنه لا يعقل أن يكون لواقع واحد طريقان متضادّان واقعيان أو جعليان ولو على نحو التخيير للعلم بأنّ أحد الطريقين لا يوصل إلى الواقع البتة لفرض التضادّ بينهما.

والتحقيق أن يقال إنّ جعل الطريقين المتضادين إن كان بمعنى كون كل منهما طريقا فعليا للواقع الواحد بحيث يجب سلوكهما معا فهذا ممّا لا يعقل بالبداهة ، وكذا لو كان كون كل منهما طريقا شأنيا كان عجز المكلّف مانعا عن فعليته نظير الواجبين المتزاحمين بحيث لو فرض بالفرض المحال إمكان سلوكهما

٥٠٤

لكان واجبا ، وذلك لأنّ المانع من طرف الجاعل وجعله لا من طرف السالك حتى يكون عجزه مانعا عن فعلية أحدهما ، وإن كان بمعنى كون أحدهما لا على التعيين طريقا فعليا موكولا إلى اختيار السالك والآخر له شأنية الطريقية وليس بطريق فعلي ولا شأني فهذا لا مانع منه والتخيير فيما نحن فيه من قبيل الثالث (١).

الخامس : قال في المناهج : قد يتعارض الخبران وليس بينهما مرجح ولا يمكن المصير إلى التخيير لمانع كإجماع أو غيره ويجب الرجوع حينئذ إلى الأصل ، إذ لا شك أنّ أخبار التخيير مخصصة بغير ما دلّ الدليل على انتفائه ، فلا يمكن العمل هنا بأخبار التخيير ولا بالمتعارضين معا ولا بواحد معيّن لعدم المرجح ، فيجب الطرح والرجوع إلى الأصل لعدم العلم بالناقل عنه (٢) انتهى كلامه رفع في أعلى الخلد مقامه.

لكن لا يخفى أنّ تحقق الإجماع على عدم التخيير بين الخبرين في المورد الفلاني مثلا الظاهر أنه مجرد فرض لا واقعية له ، وكذا قيام دليل غير الإجماع أيضا على عدم التخيير لا نعرف له موردا ، نعم قيام الإجماع أو غيره على عدم كون الحكم في الواقع هو التخيير فرضه صحيح واقع كثيرا ، لكنه لا ينفع في نفي التخيير الظاهري ، كما أنّ العلم بعدم الاباحة الواقعية في مسألة أصل البراءة فيما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة لا ينافي الحكم بالاباحة الظاهرية.

__________________

(١) أقول : الإنصاف أنّ وجه عدم المعقولية المشار إليه في القسم الثاني جار في القسم الثالث أيضا ، لأنّ جواز اختيار السالك كل واحد من الطريقين يقتضي طريقيته الفعلية ، ولذا لو أخذ بأحدهما شخص وبالآخر شخص آخر نقول إنّهما آخذان بما هو طريق فعلي لواقع واحد.

(٢) مناهج الاحكام : ٣٢٠.

٥٠٥

ثم على تقدير قيام الإجماع أو غيره على عدم التخيير الظاهري إنّما يتم ما ذكره من الرجوع إلى الأصل العملي لو لم نقل بأنّ الأصل في المتعارضين المتعادلين هو الاحتياط بينهما وإلّا يتعيّن الاحتياط ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ مراده من الأصل أعم من الأصل الفرعي والاصولي ، وقد يقال إنّ الحكم في الفرض المذكور هو الرجوع إلى الاحتياط المذكور ولو قلنا بأنّ الأصل في المتعارضين هو التساقط أو التوقف أو التخيير ، إذ بعد فرض قيام الإجماع على عدم التخيير في مورد خرج ذلك المورد عن تحت عموم أخبار التخيير مع بقائه تحت عموم أخبار الاحتياط من غير معارض ، فلا بدّ أن يحكم فيه بالاحتياط.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتم لو كان سقوط أخبار الاحتياط وعدم الأخذ بها من جهة محض المعارضة بينها وبين أخبار التخيير ، وأمّا لو حملناها على بعض المحامل التي مرّ ذكرها سابقا كالحمل على زمان الحضور أو على الاستحباب مثلا ولو لأجل قرينية المعارض فلا وجه للحكم بوجوب الاحتياط (١).

السادس : أنه لا فرق فيما ذكر من أنّ الحكم في المتعادلين هو التخيير بين ما لو كان المرجع على فرض عدمهما الاصول العملية أو الدليل الاجتهادي من إطلاق أو عموم يوافق أحد المتعارضين والآخر مخالف له ، ولازمه أنه إن اختار المجتهد الخبر المخالف يخصّص به العموم ويقيّد به الاطلاق وإلّا فلا. وما يتوهم

__________________

(١) أقول : بل لا وجه للاحتياط ولو كان سقوط أخبار الاحتياط لمحض المعارضة ، لأنّا بعد ما حكمنا بطرح أخبار الاحتياط سندا لا يمكن الأخذ بها في بعض أفرادها ، نعم لو قيل بأنّ أخبار الاحتياط بعد قيام الإجماع على عدم التخيير في هذا المورد تصير أعم مطلقا من أخبار التخيير ويكون تقديم أخبار التخيير من باب التخصيص والجمع الدلالي لا الطرح كان الأمر كما ذكره القائل فليتأمّل.

٥٠٦

من أنّ الحكم بالتخيير إنما هو في مورد الشك والحيرة ومع وجود العموم أو الاطلاق لا حيرة ، مدفوع بما ذكرنا سابقا من أنّ التخيير إنما هو في موضوع مجيء الخبرين المتعارضين اللذين لا يعلم أنّ أيّهما حق ، وهذا الموضوع متحقق ولو مع وجود العموم أو الاطلاق.

ثم إنّ الحكم بالتخيير في مورد الاصول العملية لولاه واضح لا غبار عليه ، وأمّا في موارد العموم أو الاطلاق فالوجه فيه أنه إن جعلنا التخيير أخذيا يكون ما اختاره المجتهد من الخبرين دليلا اجتهاديا يخصص به العموم أو الاطلاق المخالف له ، وإن كان عمليا فإنه وإن كان في عداد الاصول العملية وما يقابله من العموم أو الاطلاق دليل اجتهادي وشأن الأدلة ورودها على الاصول ، إلّا أنّ حكم التخيير هنا مقدّم على العموم والاطلاق ، والفرق بينه وبين سائر الاصول التي يقدّم عليها العموم أو الاطلاق أنّ موضوع تلك الاصول هو الشك في الحكم الواقعي ، ومع وجود الدليل الاجتهادي يرتفع الشك المذكور ولو تنزيلا ، لأنّ مدلوله هو الحكم الواقعي ، وهذا بخلاف التخيير فإنّ موضوعه الشك فيما جعل حجة من الخبرين المتعارضين ، ومن الواضح أنه لا يرتفع هذا الشك بوجود دليل كاشف عن الحكم الواقعي ، ومع بقاء موضوعه فإن اختار الخبر المخالف للعموم أو الاطلاق يخصص به العموم ويقيّد به الاطلاق ، وبعبارة اخرى يكون التخيير في المسألة الاصولية وإن كان المختار حكما عمليا في ذلك الموضوع.

وممّا ذكرنا يظهر ما فيما ذكره المصنف (١) في رسالة أصالة البراءة في مسألة ما إذا تعارض النصّان في جزئية شيء للمركّب حيث قال ما ملخّصه : إنّ أخبار التخيير مسوقة لبيان عدم جواز طرح المتعارضين والرجوع إلى الاصول

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٤٩ ـ ٣٥١.

٥٠٧

العملية الجارية عند عدم الدليل ، ومع وجود العموم أو الاطلاق لا محل لأخذ حكم التخيير وطرح الدليل الموجود في المسألة ، ودعوى أنّ التخيير هاهنا أيضا في مقابل أصالة العموم أو الاطلاق فكان كسائر الموارد ، مدفوعة بأنّ هذا الأصل مثبت للدليل الشرعي وسائر الاصول عملية فرعية عند عدم الدليل ، فالتخيير مع جريان هذا الأصل تخيير مع وجود الدليل الشرعي المعيّن لحكم المسألة ، بخلاف التخيير مع جريان الاصول العملية فإنه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل في موردهما.

ثم قال : ولكن الإنصاف أنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصولية ، لأنّ مؤدّاها بيان حجية أحد المتعارضين كمؤدّى أدلة حجية الأخبار فهي دالة على مسألة اصولية وليس مضمونها حكما عمليا صرفا ، ومن المعلوم حكومتها على مثل هذا الأصل كما أنها حاكمة على تلك الاصول الجارية في المسألة الفرعية ، فلا فرق بين أن يرد في موارد هذا الدليل المطلق اعمل بالخبر الفلاني المقيّد لهذا المطلق وبين قوله اعمل بأحد هذين المقيّد أحدهما له ، انتهى.

ومحصّل كلامه في دفع الإشكال أنه حمل التخيير على الأخذي ، ويستفاد منه أنه يبقى الإشكال على تقدير التخيير العملي ، وقد عرفت دفعه عليه أيضا وأنه لا فرق بينهما من حيث حكومة أخبار التخيير على العموم والاطلاق.

ثم إنّ ما ادعاه أوّلا من كون أخبار التخيير مسوقة لبيان عدم جواز طرح الخبرين المتعارضين والرجوع إلى الاصول العملية ، دون ما إذا كان المرجع هو العموم أو الاطلاق ممّا لا شاهد له بوجه ، اللهمّ إلّا أن يدّعى انصرافها إلى ذلك وهو في محل المنع كما لا يخفى.

ثم مع الاغماض عمّا ذكر إنما يرد إشكاله فيما إذا كان المرجع على تقدير

٥٠٨

فقد المتعارضين العموم ، وأمّا إذا كان المرجع هو الاطلاق فلا يتم الرجوع إلى الاطلاق لأنّ دليل الحكمة المثبت للاطلاق غير جار مع وجود خبر يحتمل أن يكون مقيدا وبيانا للمطلق ، إذ إحراز عدم البيان شرط في إطلاق المطلق ، نعم إن بنينا على أنّ ظهور المطلق في الاطلاق أيضا ظهور لفظي كالعام من غير حاجة إلى إجراء دليل الحكمة كما هو أحد القولين في المسألة كان كالعام فافهم واغتنم.

قوله : ثم إنّ أحكام التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام الخ (١).

اعلم أوّلا أنّ القدر المتيقن من مورد أخبار التخيير بل أدلة التراجيح هو المتعارضان في الأحكام الفرعية بالنسبة إلى الأخبار الظنية ، وأمّا المتعارضان في الأحكام الاصولية مثل الأخبار الدالة على حجية ظواهر الكتاب أو حجية الخبر الواحد أو الدالة على الترجيح بالمرجحات أو جواز نسخ الكتاب بالسنّة أو السنّة بالسنّة وأمثال ذلك فالظاهر شمولها أيضا ، كما أنّ الظاهر شمولها للأخبار الدالة على بعض كيفيات المعاد والحشر والصراط والميزان ونحوها مما يتعلق بالاعتقاديات ، والضابط في الكل أنّ ما له تعلّق بكيفية عمل المكلف سواء كان من أفعال الجوارح أو من فعل القلب ومقدّماتها فهو مشمول للأخبار العلاجية إذا تعارض فيه خبران ، ومنه الأخبار المتعلّقة بالموضوعات الشرعية والعرفية المشتبهة الكنه كالغناء والكذب مثلا ، وأمّا الأخبار المتعلّقة بالقصص والحكايات عن الامم الماضية أو الأحكام الطبية أو المواعظ والخطب أو تعديل بعض المسلمين وجرحهم من غير أن يكون راويا لحديث وأمثال ذلك فالظاهر عدم دخولها في الأخبار العلاجية ، كما أنّ الظاهر عدم شمول أدلة حجية الأخبار لها

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٤٤.

٥٠٩

أيضا ، لأنّ مساقها إنما هو فيما يتعلّق بكيفية العمل بوجه من الوجوه المذكورة ، كما أنّ الظاهر عدم شمول الأخبار العلاجية للأخبار القطعية الصدور بالتواتر أو الاحتفاف بالقرائن القطعية لأنّها ظاهرة أو صريحة في كونها بصدد بيان تشخيص الخبر الصادر عن غير الصادر ، نعم الترجيح بمخالفة العامة يمكن إجراؤه في مثل المتواترين أيضا لأنه ترجيح في مقام وجه الصدور لا في أصله.

وكيف كان ، لا شك في عدم شمول أخبار التراجيح للمتعارضين من غير الخبرين عن المعصومين (عليهم‌السلام) من سائر الأمارات حتى الخبرين في نقل فتوى الفقيه ، فيرجع فيها إلى ما تقتضيه القاعدة من التساقط أو التوقف أو التخيير ونحوها ، فما قيل في تعارض الخبرين في نقل الفتوى من إلحاقه بنقل الخبرين من الحجة في الرجوع إلى المرجحات المنصوصة فيه أو التخيير مع التعادل بدعوى تنقيح المناط القطعي وهو نقل الحكم الالهي عمّن يكون قوله حجة للمنقول إليه ، أو دعوى أنّ الفقيه نائب عن الإمام (عليه‌السلام) ومقتضى عموم نيابته أن يكون حكم الأخبار المنقولة عنه حكم الأخبار المنقولة عن الإمام (عليه‌السلام) حتى في أحكام التعادل والترجيح ، ضعيف في الغاية ، ودعوى القطع بالمناط عهدتها عليه ، كما أنّ دعوى عموم النيابة إلى هذا الحد كما ترى لا يرضى به فقيه.

واعلم أيضا أنه كما لا يجري أحكام التعادل والترجيح المقرّرة في الخبرين المتعارضين في تعارض سائر الأمارات كذلك لا يجري فيها سائر أحكام التعارض الجارية في الأدلة الشرعية من التخصيص والتقييد وحمل الظاهر على الأظهر ، لأنّ مرجع ذلك كله إلى كون بعض الظواهر قرينة لصرف ظاهر آخر ، وإنما يكون ذلك بالنسبة إلى كلامين لمتكلّم واحد أو لمتكلّمين يكونان كالمتكلّم الواحد كما هو كذلك بالنسبة إلى أدلة الأحكام الشرعية على مذهبنا ، وليس كذلك تعارض البينتين أو قول المعدّل والجارح وقولا اثنين من أهل اللغة أو أهل الخبرة

٥١٠

إلى غير ذلك ، وقيل بجريان قاعدة حمل المطلق على المقيّد في تعارض أقوال اللغويين ، وقيل يؤخذ فيه بالمطلق لأنه القدر الجامع المشترك بين القولين ويطرح القيد إذ الأصل عدمه ، وقيل بالتفصيل بين الموارد ، والكل بعيد عن السداد ، نعم يؤخذ بالقدر الجامع بين المتعارضين ويحكم بأنه معنى اللفظ لكن بمعنى أنه غير خارج عن مدلول اللفظ لا الحكم بأنه الموضوع له بخصوصه فتدبّر.

تنبيهان ، الأول : أنّ حكم التخيير بل الترجيح لا يجري فيما إذا كان هناك خبر واحد وقد تعارض صدره مع ذيله ، لأنّ الظاهر من قوله «يأتي عنكم الخبران المتعارضان» أن يكون المتعارضان ممّا يعلم بعدم صدورهما معا ويشك في أنّ الصادر أيّهما ، والكلام الواحد ليس بهذا الوصف ، لأنه إمّا صادر بأجمعه وإمّا غير صادر بأجمعه لا يحتمل أن يكون بعضه صادرا دون البعض الآخر ، نعم إن كان مثل ما ورد من أنه قال (عليه‌السلام) «ثمن العذرة سحت» (١) وقال (عليه‌السلام) «لا بأس ببيع العذرة» (٢) ممّا كان الخبر مشتملا على كلامين مستقلّين ، لا يبعد شمول الأخبار العلاجية له ، وهو أيضا مشكل لأنّ الظاهر من إتيان الخبرين المتعارضين ما تعدّد الاخبار بهما إمّا بتعدد المخبر أو بتعدّد أخبار شخص واحد في وقتين فليتأمّل.

الثاني : قد يقال إنّ البحث في التعادل قليل الفائدة أو عديم الفائدة لندرة فرض التعادل وعدم وجود أحد المرجحات لأحد المتعارضين سيّما بناء على التعدّي عن المرجحات المنصوصة ، وحينئذ يرد إشكال وهو أنه لا وجه لهذا الاهتمام في الأخبار الكثيرة في بيان حكم التعادل والتخيير بينهما من باب

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ (باختلاف يسير).

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ٣.

٥١١

التوسّع والأخذ بأحدهما من باب التسليم ، وقد سلم من هذا الإشكال من يقول بأنّ حكم المتعارضين مطلقا هو التخيير ويحمل أخبار الترجيح على الندب.

أقول : ندرة فرض وقوع التعادل لا يوجب إشكالا ولا وهنا في أخبار التخيير ، إذ حكم هذا الفرد النادر أيضا لا بدّ من بيانه ، مع أنّ الفرض ليس بهذه الندرة فيما بين المتعارضات سيّما مع ملاحظة أنّ المرجحات قد تتعارض من الجانبين ويتساويان ، والمسألة موكولة إلى تتبّع متعارضات الأخبار في سائر أبواب الفقه.

قوله : والأولى منع اندراجها في تلك المسألة الخ (١).

ما ذكره في وجه عدم اندراج مسألتنا في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين مشترك في جميع أفراد تلك المسألة ، لأنّ مرجع الشك في الكل إلى الشك في جعل الحكم في المرجوح سواء كان ذلك الحكم المشكوك هو الحجية كما نحن فيه أو الوجوب أو المشروعية ونحوهما كما في الموارد الأخر ، فلا بدّ من بيان الفارق من وجه آخر.

قوله : فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرد قوة في أحد الخبرين الخ (٢).

محصّل ما ذكره : أنّ مرجحية المرجح إنما تكون إذا كان المرجح مقويا لما هو مناط الحجية ، وحيث إنّ ملاك الحجية فيما نحن فيه هو الظن الشأني والمفروض تساوي المتعارضين في هذا المناط فلا يثمر كون أحدهما مشتملا على مزية لا يتقوّى بها هذا المناط كما يتقوّى بها لو كان المناط هو الظن الفعلي.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٥٠.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٥١.

٥١٢

ويرد عليه : أنه لا مانع من تقوية ذلك المناط بما يكون من سنخه من المرجحات مثل أن يكون أحد الخبرين المتعارضين معاضدا بمثله فإنه يقع التعارض في الحقيقة بين ظنين شأنيين وبين ظن شأني واحد ، ولا ريب في كون الأول أرجح بحسب مناط الحجية ، وكذا مثل أن يكون راوي أحدهما أعدل أو أضبط فإنّ الظن الشأني فيه أقوى من الآخر ، بل وكذا الرجحان بكون أحدهما مظنون المطابقة للواقع بالظن الفعلي الحاصل من الأسباب المتعارفة في طريقة العقلاء فإنه يقوى بذلك مناط الحجية لأنّ من شأن تلك الأسباب إفادة الظن وقد حصل ، نعم لو حصل الظن بمطابقة أحدهما من الأسباب غير المتعارفة عند العقلاء كالنوم والاستخارة والرمل ونحو ذلك لم ترجح به ، لأنّ هذا الرجحان الحاصل من الامور المذكورة ليس من سنخ مناط الحجية ، إذ لم يكن من شأن الامور المذكورة إفادة الظن نوعا فتدبّر.

قوله : وإن قلنا بالتخيير ... من باب السببية (١).

محصّل ما ذكره أنه ليس الامور التي توجب أقربية مضمون أحد المتعارضين إلى الواقع ممّا يوجب الترجيح في حكم العقل بناء على السببية ، وهو كذلك لكنّا نقول لو فرض الشك في ثبوت الترجيح لأجل احتمال كون ذي المزية ممّا جعله الشارع مرجحا تعبّدا لا من حيث كونه أرجح في مناط الحجية فلا ريب أنّ العقل لا ينفي ذلك الاحتمال بمجرد كون المتعارضين متساويين في ملاك أصل الحجية ، بل لنا أن نقول يمكن أن يكون ما جعله الشارع مرجحا مؤكّدا لما هو مناط الحجية ، إذ يحتمل أن تكون المصلحة المقتضية لحجية قول العادل عدالته فيكون وصف الأعدلية مؤكّدا لتلك المصلحة وحينئذ لا يقطع العقل بتساوي

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٥٢.

٥١٣

المتعارضين في مناط الحجية حتى يحكم بالتخيير ، ولكن الأقوى مع ذلك هو الحكم بالتخيير بضميمة أصالة عدم المرجح الكذائي. لا يقال إنّ الأصل لا يثبت التساوي الواقعي بين المتعارضين حتى يحكم العقل بالتخيير بناء على عدم حجية الاصول المثبتة. لأنّا نقول : ليس موضوع حكم العقل خصوص المساواة الواقعية بل أعم منه ومن المساواة بحكم الشارع ظاهرا تعبّدا ، بل يمكن أن يقال إنّ موضوع حكم العقل أعم من ذلك أيضا بدعوى أنّ موضوعه مطلق ما لم يعلم مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر فلا يحتاج إلى إجراء الأصل لاحراز وصف التساوي فافهم.

قوله : وفيه : أنّ الظاهر خروج مثل هذه المعارضات (١).

يمكن تقريب الاستدلال بوجه لا يتوجه إليه هذا الجواب وهو أن يعلّل اختلال نظام الفقه بوجود الأخبار المتعارضة في أكثر المسائل ، إذ قلّما مسألة من المسائل الخلافية لا يوجد فيها الأخبار المتعارضة في جميع أبواب الفقه وانتظامها إنما هو بالترجيحات كما لا يخفى ، هذا.

وربما يستدل على أصالة وجوب الترجيح بوجوه أخر ، منها : أنّ وجوب الأخذ بأحد المتعارضين ثابت وباب العلم بتعيّنه منسدّ فيجب بحكم العقل تعيينه بالظن الحاصل من المرجحات ، فكما أنّ دليل الانسداد يثبت أصل حجية الأخبار كذلك يثبت حجية الظن في مقام الترجيح في الخبرين المتعارضين.

وفيه أوّلا : أنّ المقدّمة الاولى من مقدّمات دليل الانسداد وهو العلم الاجمالي بثبوت أصل التكليف غير ثابتة هنا ، إذ لو اريد بالتكليف فيما نحن فيه التكليف بالحكم الفرعي فعدم كونه معلوما واضح ، لاحتمال كذب كلا الخبرين

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٥٤.

٥١٤

وكون الحكم في الواقع مخالفا لهما ، وإن اريد التكليف بوجوب الأخذ بالحجة الشرعية فيما بين الخبرين المتعارضين فليس في هذا المقام واقع مجهول يجب تعيينه ، لأنّ كلا منهما متصف بما اتّصف به الآخر فهما سواء في الحجية الشأنية بالفرض.

وثانيا : أنّ الرجوع إلى الأصل هنا لا محذور فيه من طرح العلم أو الخروج من الدين ونحو ذلك ممّا يلزم من العمل بالأصل في الأحكام الشرعية المنسدّ فيها باب العلم. وبعبارة اخرى المقدّمة الثانية من مقدّمات دليل الانسداد أيضا غير ثابتة هنا ، وذلك لأنّ الأصل هنا مطابق لأحد الخبرين غالبا.

ومنها : أنه يلزم على تقدير عدم الترجيح بالمرجحات والأخذ بغير الراجح ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا. ولا يخفى أنّ هذا الوجه أحد الوجوه العقلية التي استدل به على حجية الظن مطلقا ، وقد مر مع أجوبته مفصّلا في رسالة الظن في المتن فراجع.

ومنها : أنّ بناء العقلاء على الترجيح عند تعارض الأمارات كتعارض المقوّم والخارص ونحوهما فيقدّمون الأرجح ، وهذا الوجه يشبه الوجه السابق أو هو هو وجوابه جوابه.

قوله : بمنع بطلان التالي وأنه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين (١).

الترجيح بالأعدلية والأكثرية بالعدد في تعارض البيّنات قد أفتوا به في بعض الصور ، وهو ما إذا لم يكن المدّعى به في يد المتداعيين بل في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه ، وذلك لأجل نصوص خاصة بالصورة المذكورة ولم يقل أحد بالترجيح في غيرها سوى ما حكي عن الاسكافي ، فيعلم أنّ الترجيح عندهم

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٥٤.

٥١٥

خلاف الأصل.

قوله : ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا (١).

الضمير راجع إلى حكمه بالترجيح لو لا الإجماع.

قوله : فتأمّل (٢).

لعلّه إشارة إلى أنّ ما ذكره من مبعّدات حمل الترجيح على الاستحباب ليس بمبعّد أصلا ، مثلا استحباب الأخذ بالخبر الموافق للكتاب المستلزم لجواز الأخذ بالمخالف غير بعيد ، إذ المراد بالمخالف ليس هو المباين ، بل المراد مخالفته لعموم أو إطلاق ونحوه ، كما أنّ المراد بالموافق أيضا موافقته لظاهر من ظواهر الكتاب ، فالخبر الموافق غير مقطوع الصدق ، كما أنّ الخبر المخالف أيضا غير مقطوع الكذب ، بل كلّ منهما في كل منهما محتمل إلّا أنّ الموافق أرجح ، فيناسب أن يكون الأخذ به أولى.

قوله : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين وهي أخبار (٣).

قد يورد على التمسك بهذه الأخبار في إثبات وجوب الترجيح حيث إنّ جلّها ضعيف السند ، ولو لم يكن ضعف إلّا في مقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة كفى في الوهن ، لأنّ غيرهما لم يشتمل إلّا على بعض المرجحات التي متأخرة عمّا اشتمل عليه الروايتان بحسب الرتبة.

والجواب : أنّ ما ورد في بيان مطلق الترجيح يمكن دعوى تواتره ولو لم يكن متواترا فإنه قريب من التواتر ، وبملاحظة عمل العلماء واستنادهم إلى هذه

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٥٥.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٥٦.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ٥٧.

٥١٦

الأخبار وغيره من القرائن والشواهد على صدور هذه الأخبار يحصل القطع بصحة الترجيح هذا ، مضافا إلى أنّ المقبولة بنفسها كافية لنا حيث إنّها مقبولة عند الفقهاء معتمدة لديهم يتمسكون بها في أبواب كثيرة منها مسألتنا هذه ، ومنها عدم جواز الترافع إلى حكّام الجور ، ومنها إثبات ولاية الفقيه ، ومنها عدم جواز ردّ حكم الحاكم ، ومنها وجوب الاحتياط في الشبهات أو استحبابها ، وبالجملة الإشكال في هذه الأخبار من حيث السند مع كثرتها واعتضاد بعضها ببعض لا وقع له.

فإن قلت : هب أنّ صدور أخبار الترجيح في الجملة متواتر أو مقطوع به إلّا أنه لا ينفع إلّا في مرجحية ما هو مرجح بمقتضى جميع تلك الأخبار ولم نجد له مصداقا من بين المرجحات المذكورة فيها.

قلت : يكفي استفادة وجوب أصل الترجيح في الجملة من الجميع ، وأمّا الرجوع إلى خصوص المرجحات المذكورة فيها فيتم بالإجماع المركّب فإنّ كل من قال بالترجيح لم يقل بعدم مرجحية هذه الامور بل يقول إمّا بمرجحية خصوص هذه أو ما يعمّ غيرها من المرجحات غير المنصوصة بناء على التعدّي عن المرجحات المنصوصة كما سيجيء اختياره.

قوله : الأول ما رواه المشايخ الثلاثة الخ (١).

لا يخفى أنّ هذه الرواية الشريفة مشتملة على جملة من المرجحات لم يجمعها خبر مثلها.

منها : صفات الراوي الأربعة ، ولم يذكر في رواية من روايات الباب الترجيح بها عدا ما في مرفوعة زرارة من ذكر الأعدلية والأوثقية ، ولا يبعد أن

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٥٧.

٥١٧

يكون عطف الأوثقية على الأعدلية عطف تفسير ، ويحتمل أن يراد منها الأصدقية ، ويحتمل إرادة ما يشملهما.

ومنها : الشهرة في الرواية ، والمراد كونها معروفا بين غالب أصحاب الرواية ولا يجب أن تكون متفقا عليها وإن عبّر عنها بالمجمع عليه في موضعين من المقبولة لأنه يصدق عرفا على المشهور الذي في قبال الشاذّ النادر.

ومنها : موافقة الكتاب أعم من أن يكون الخبر الموافق موافقا لنصّه أو ظاهره من عموم أو اطلاق ويكون الخبر المخالف مخالفا لنصّه أو ظاهره ، فإن كان مخالفا لنصّ الكتاب فإنه مطروح ولو مع عدم المعارض فلا ينبغي عدّ المورد من موارد الترجيح ، وإن كان مخالفا لظاهر الكتاب فالترجيح للموافق سواء كان المخالف مباينا للكتاب أو أخص مطلقا أو من وجه.

ومنها : مخالفة العامة ، والظاهر أنّ المراد منها مخالفة الرواية لفتاوى العامة كما يظهر من بعض الروايات الأخر ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد بموافقة العامة موافقة الرواية لفتواهم في الجملة ولو واحدا منهم ، ولا يجب كونها موافقة لفتوى الجميع.

ويحتمل بعيدا أن يراد منها مخالفتها لروايات العامة على ما صرّح به في روايتي الراوندي وسيجيء ذكرهما في المتن ، وضابط هذا المرجح ترجيح ما ليس فيه أمارة التقية على ما فيه أمارتها من موافقته لفتواهم أو رواياتهم أو كونه شبيها لقولهم مثل ما إذا علّل الحكم في الخبر بقياس أو استحسان أو نحوه ممّا يناسب مذاقهم وإن كان أصل الحكم مخالفا لهم ولرواياتهم ، ولعلّه المراد من قوله (عليه‌السلام) «ما يشبه قول الناس ففيه التقية» (١) أو «كونه موافقا لما هو حكّامهم

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٦ (باختلاف يسير).

٥١٨

وقضاتهم أميل إليه» (١).

قوله : من حيث ظهور صدرها في التحكيم (٢).

يمكن حملها على أخذ الفتوى ممّن عرف الحرام والحلال من الشيعة حيث تكون الشبهة حكمية كما يظهر من الرواية ، وحينئذ تندفع جملة من الشبهات المذكورة في المتن.

قوله : ولا غفلة كل من الحكمين عن المعارض (٣).

يمكن فرض عدم الغفلة بأن كان المعارض عنده مرجوحا هذا ، مع أنّ الغفلة أيضا لا تعدّ إشكالا في أمثال أزمنة صدور الرواية فإنّ جميع أخبار المسألة في ذلك الزمان لم يكن موجودا عند جميع الرواة ولا موجودا في كل أصل وكتاب وكانوا يعملون بما عندهم من الأخبار بعد الفحص عما يمكنهم الفحص عنه.

قوله : ولا اجتهاد المترافعين (٤).

لا يبعد أن يكون الإمام (عليه‌السلام) أمرهم أوّلا بأخذ فتوى الرواة العارفين بالأحكام ، ولمّا فرض السائل اختلاف فتوى الحكمين أمرهم (عليه‌السلام) بالاجتهاد في مستند الحكم باعمال المرجحات ، وليس ذلك ببعيد لسهولة أمر الاجتهاد في ذلك الزمان فتدبّر.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ (باختلاف يسير).

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٦٠.

(٣ ، ٤) فرائد الاصول ٤ : ٦٠.

٥١٩

قوله : إلّا أن ينزّل الرواية على غير هاتين الصورتين (١).

يمكن دفع هذين الإشكالين بل ما قبلهما أيضا بأنّ الرواية بصدد بيان جنس المرجحات لا الترتيب ولا حكم معارضة بعضها مع بعض أو مع غيرها من سائر المرجحات.

قوله : نعم المذكور في الرواية الترجيح باجتماع صفات الراوي (٢).

لا نسلّم ذلك ، إذ ليس ما يوجب اعتبار اجتماع الصفات إلّا من حيث العطف بالواو وهذا لا يقتضي ذلك ، حيث إنّ الواو لمطلق الجمع في أصل الحكم وهو هنا الترجيح فافهم.

قوله : الثاني ما رواه ابن أبي جمهور (٣).

قد زاد في هذه الرواية على ما في المقبولة من المرجحات موافقة الاحتياط ، ولا يخفى أنها لا يمكن أن تكون مرجحة لصدق الخبر الموافق وصدوره بل لا يستدرك بالاحتياط إلّا إدراك الحق من مدلول الخبرين لو لم يكن خارجا عنهما ، وقد مر سابقا أنّ الاحتياط ليس مرجحا ولا مرجعا ، فلا بدّ أن يحمل الأمر به هاهنا على الاستحباب أو الارشاد.

قوله : التاسع ما عن الكافي بسنده عن المعلّى الخ (٤).

يمكن أن يراد منه الترجيح بالأحدثية ، وأن يراد الترجيح بعلو الإسناد وقلّة الواسطة ، ووجه الترجيح بالأحدثية إمّا احتمال كون الأسبق صدر تقية كما يستفاد من خبر الكناني أو كونه منسوخا كما يظهر من رواية محمد بن مسلم. ولا

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٤ : ٦١.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ٦٢.

(٤) فرائد الاصول ٤ : ٦٥.

٥٢٠