حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

مبحث التعادل والترجيح

قوله : في التعادل والتراجيح (١).

لا يخفى أنّ مباحث التعادل والترجيح داخلة في مسائل علم الاصول ، لأنّ البحث فيها بحث عن عوارض الأدلة ، وما عرّفوه به من أنه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية يشملها ، ولا ينافي ذلك أنّ بعضهم جعلها خاتمة ، لأنّ ذلك بملاحظة كونها آخر المباحث الذي يتم به مسائل الاصول ويختم به.

ثم إنّ التعادل تفاعل من العدل بمعنى المثل يراد به التماثل والتساوي ، والتراجيح جمع الترجيح يمكن أن يراد به المعنى المصدري يعني الترجيحات ، ويمكن أن يكون بمعنى المرجحات ، والأنسب إفراد لفظ الترجيح كما عبّر به بعضهم ، بل الأنسب التعبير بالتراجح في قبال التعادل ، بل الأولى والأنسب عقد الباب للتعارض كما عن بعض لأنّ التعادل والتراجح من أحوال التعارض وكيفياته ، قال في القوانين : خاتمة في التعارض والتعادل والترجيح ، والأولى ما ذكرنا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١١.

٤٢١

قوله : وهو لغة من العرض بمعنى الاظهار (١).

وجه المناسبة أنه كان كل من الدليلين أظهر نفسه لصاحبه ، قال في المجمع (٢) اعترض فلان فلانا وقع فيه ، وعرض في الطريق عارض منع عن السير مانع ، ولا يبعد كونهما مأخوذين من المعنى المذكور ، ويحتمل أن يكون التعارض مأخوذا من العرض ضدّ الطول كأنّ كلا من الدليلين في عرض الآخر ، وكيف كان يفهم منه التزاحم والتمانع كما يفهم ذلك من لفظ التظاهر أيضا فتدبّر.

قوله : وغلّب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما (٣).

وعرّف في عبارة اخرى عن بعضهم بتنافي مدلولي الدليلين ، واخرى كما عن الفصول (٤) بتنافي الدليلين في مقتضاهما وهي متقاربة ، وإن كان ما في الفصول أحسن ، ويراد من تنافي الدليلين أعم من أن يكون مدلولاهما متنافيين بأنفسهما باعتبار الدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية اللفظية ، أو بملاحظة غيرهما من حكم عقل أو إجماع ، ومن ذلك تعارض أصالتي الطهارة في الإناءين المشتبهين فإنه بملاحظة العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، وكذا تعارض أصالتي الطهارة والنجاسة في الماء المتمم كرا فإنه بملاحظة الإجماع على اتحاد حكم أبعاض الماء الواحد ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقال بعض المحققين من المعاصرين هنا وكذا لو علم إجمالا كذب أحد

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١١.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٢١٤.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ١١.

(٤) الفصول الغروية : ٤٣٥.

٤٢٢

الخبرين ولو كان أحدهما في أبواب الطهارات والآخر في الديات انتهى ، يعني أنه أيضا مشمول للتعريف فهو من أفراد التعارض.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنه لا تنافي بين مدلوليهما أوّلا ولا بضميمة أمر خارج.

ثم إنّ التعارض قد يكون بين أكثر من الدليلين ثلاثة أو أربعة وهكذا ، وتعريفهم بتنافي الدليلين بالنظر إلى أقل ما يتحقق منه التعارض.

ثم إنّ التعارض بين ثلاثة من الأدلة أو أزيد قد يكون بحيث يكون لكل واحد منها دخل في تحقق التعارض كما إذا ورد دليل ظنّي بوجوب الجمعة في الجمعة ودليل آخر بوجوب الظهر فيها ودليل ظنّي آخر بعدم وجوب كليهما فإنه لو لم يكن واحد منها لم يكن تعارض بين الباقيين ، وقد لا يكون كذلك بل التعارض متحقق بين كل اثنين منها كما لو ورد أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ويباح إكرام الشعراء وكانت النسبة عموما من وجه.

ثم لا يخفى أنّ عقد الباب لتعارض الدليلين القائمين على الحكم الكلّي الواقعي ، وحينئذ فإن اريد من الدليلين في التعريف ما يقابل الاصول والأمارات فهو ، وإن اريد خصوص ما يقابل الأمارة فيشمل تعارض الاصول ويخرج تعارض الأمارات كالبيّنتين أو البيّنة واليد ، ولا ينافي ذلك كله ذكرهم لحكم تعارض الاصول والأمارات تطفّلا.

ثم اعلم أنّ لنا أبوابا يشبه أن تكون من باب التعارض وليست منها ينبغي الاشارة إليها دفعا لتوهم المتوهم :

منها : باب التزاحم كما إذا توجّه إلى المكلّف تكليفان يقصر الوقت عن امتثالهما كالصلاة اليومية والكسوف إذا قصر الوقت عن إتيان كليهما ووسع إحداهما مع ثبوت التكليف باليومية والكسوف ، ووجه الفرق بينه وبين التعارض

٤٢٣

أنّ مورد التعارض يعلم بعدم إرادة الله تعالى ما أفاده أحد المتعارضين إمّا لأجل عدم صدوره أو لأجل عدم إرادة ظاهره أو غير ذلك ، وبعبارة اخرى يعلم بأنّ مفاد أحد المتعارضين ليس بحكم شرعي ، وهذا بخلاف مورد التزاحم فإنّ المتزاحمين حكمان شرعيان لم يمكن امتثالهما معا ، ومن هنا لم يعقل التعارض بين القطعيين وإلّا لزم التناقض في الواقع ، وأمّا التزاحم فيمكن أن يحصل بين القطعيين أيضا ، وأيضا علاج التعارض إنّما يكون بالترجيح بالمرجحات المنصوصة أو غيرها ، وعلاج التزاحم منحصر في تقديم الأهم لو كان أهم في البين ، ولذا لا يقدّم التكليف غير الالزامي على الالزامي في باب التزاحم أبدا ، لأهمية التكليف الالزامي ، وهذا بخلاف باب التعارض فإنه إذا تعارض ما يدل على الوجوب مع ما يدل على الاستحباب أو الاباحة أو الكراهة فقد يقدّم ما يدل على غير الوجوب لو كان أرجح مما يدل على الوجوب ، وكذا بالنسبة إلى معارضة الحرام وغير الواجب ، وأيضا يكون المرجوح من المتعارضين خاليا عن المصلحة بحيث لو أتى به المكلّف كان لغوا محضا ، بخلاف غير الأهم من المتزاحمين فإنه لو أتى به يحكم بصحته وموافقته لأمره وإن كان عاصيا من جهة تركه للأهم ، لأنّ التكليف بغير الأهم لم يسقط وإنما منع عن تنجّزه عجز المكلف عن امتثاله مع امتثال الأهم ، وبالجملة لا يكون في مورد التعارض إلّا تكليف واحد بأحد المتعارضين ، وفي مورد التزاحم يكون تكليفان واقعيان واقعا قد عجز المكلف عن امتثالهما معا.

فإن قلت : إنّ القدرة من الشرائط العامة لمطلق التكليف على ما هو مقرر في محله كالبلوغ والعقل ، وحينئذ لمّا كان العمل بكلا المتزاحمين غير مقدور لا جرم يكون التكليف منحصرا فيما هو مقدور للمكلّف وهو أحدهما ، فيكون موردهما كالمتعارضين مشتملا على تكليف واحد.

٤٢٤

قلت : قد تكون القدرة شرطا لأصل التكليف نظير البلوغ والعقل بحيث يكون المكلّف به حين العجز خاليا عن المصلحة والطلب ، وقد تكون شرطا لتنجّز التكليف نظير العلم بحيث يكون أصل التكليف ومصلحته

وطلبه ثابتا مطلقا حتى حال العجز كما في صورة الجهل إلّا أنّ المكلّف معذور في ترك الامتثال به ، وتصوير التزاحم إنما يكون في هذا القسم الثاني دون الأول ، نعم يبقى تشخيص موارد القسمين ولسنا بصدد ذلك الآن ، ولعلّك ممّا ذكرنا تتفطّن أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي ليست من باب التعارض بل من باب التزاحم.

أمّا على مذهب المجوّزين فظاهر ، فإنّ الصلاة في المكان الغصبي من أفراد المأمور به وإن كان حراما ، ولذا تصح ويحصل بها الامتثال نظير فعل غير الأهم في إنقاذ الغريقين.

وأمّا على القول بالمنع ، فإنّ المانع لا ينكر كون الصلاة في المكان المغصوب من مصاديق الطبيعة التي تعلق الأمر بها ، فلو اختارها المكلّف فقد أتى بذات المطلوب غاية الأمر عدم تعلّق الأمر بذلك الفرد بخصوصه ولو من باب سراية الأمر بالطبيعة إلى الأفراد لا لقصور في نفس الفرد ، بل لعدم تمكن المولى الحكيم من طلب فعله مع فرض نهيه عنه وتحريمه له ، ولو كانت المسألة من باب التعارض حكم بخروج هذا الفرد من بين الأفراد عن مورد الحكم ، ويقال إنّ الصلاة بقيد كونها في غير المكان المغصوب مأمور بها لا مطلقا ، ويشهد بذلك ما ذكروه من أنه لو صلّى غافلا في المكان المغصوب صحت صلاته ولو كانت المسألة من باب التعارض وتخصيص الأمر بغير مورد النهي لم يكن وجه للحكم بالصحة ، لأنه فعل غير المأمور به واقعا ، إذ لا فرق بين حال العلم والجهل بعد

٤٢٥

التخصيص (١).

ومنها : باب التنزيل مثل قوله (عليه‌السلام) «التراب طهور المؤمن عشر سنين» بعد قوله (عليه‌السلام) «لا صلاة إلّا بوضوء» (٢) فقد يتوهم أنّ ذلك من باب التعارض والتخصيص بأن خصص عموم لا صلاة إلّا بوضوء بما إذا صلّى مع التيمم عند عدم وجدان الماء ، وليس كذلك بظاهر التنزيل بل لسان التنزيل يقرر العموم ويؤكّده فكأنّه قيل لم يخصص عموم لا صلاة إلّا بوضوء لأنّ التيمم وضوء ، نعم يرجع ذلك في اللب إلى التخصيص لكن لا يلاحظ فيه قوة الدلالة من جهة النصوصية أو الأظهرية كما يلاحظ في باب التعارض ، بل لو كان دليل التنزيل في أدنى درجة الحجية والظهور يعمل به ويقدّم على ذلك العموم وسرّ التقديم سيظهر في وجه تقديم الحاكم على المحكوم.

ومنها : باب الورود مثل ما لو علّق الحكم في أحد الدليلين على موضوع ينتفي ذلك الموضوع بوجود الدليل الآخر الوارد عليه كما إذا قال : المتحيّر في مقام العمل يبني على الحالة السابقة أو يتخيّر ، فإذا وجد المكلّف في المورد دليلا أو أصلا فيرتفع به تحيّره قهرا ويعرف حكم عمله فيخرج عن موضوع الدليل المورود ، ومثل ما لو كان اعتبار الدليل المورود مختصا بما إذا لم يوجد في مورده الأصل الكذائي أو الدليل الكذائي كما في الغلبة فإنّ حجيتها مختصة بما إذا لم يكن في موردها أمارة اخرى ، فإذا وجدت هناك أمارة اخرى انتفى اعتبار الغلبة

__________________

(١) أقول : الإنصاف أنه على مذهب المانعين يكون المسألة من باب التعارض بحسب الميزان الذي ذكرنا في الفرق بينه وبين التزاحم ، لأنّ الفرد المجمع خارج عن مورد الأمر باق تحت عموم النهي ولو من باب سراية حكم الطبيعة إلى الأفراد.

(٢) مستدرك الوسائل ١ : ٢٨٨ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٧.

٤٢٦

وجدانا. وبالجملة يقدّم الوارد على المورود مطلقا من غير ملاحظة الترجيح وهو من باب التخصص ولا يحتاج التقديم إلى برهان.

ومنها : باب الحكومة وهي على ما عرّفه المصنف أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الآخر وشارحا ومفسّرا له ، وأنّ المراد منه ما عدا ما يفيده الدليل الحاكم فإنه وإن كان مرجعه في اللب إلى التخصيص أو التقييد إلّا أنه بغير الملاك الذي يحكم بالتقييد والتخصيص في باب التعارض ، فإنّ ذلك في باب التعارض بحكم العقل وفي باب الحكومة بحكم اللفظ ، سواء كان ذلك مدلولا له أو يفهم من سياقه.

واعلم أنه قد يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر قصدا من المتكلّم في مقام شرحه وتفسيره ، وليسمّ حكومة قصدية كما في حكومة أدلة الحرج والضرر على أدلة الأحكام مثل أن يقال إنّ قوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) معناه أنّ الأحكام المجعولة في الدين لم يجعل ما كان من أفرادها حرجا على المكلّف ، وأمّا لو قيل إنّ معناه أنه لم يجعل في الدين حكم حرجي مطلقا فيكون في عرض سائر أدلة الأحكام ناظرا إلى الواقع ، ويعارض أدلة الأحكام بالعموم من وجه وليس حكومة في البين.

وقد يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر قهرا بأن يكون ثبوت حكمه مستلزما لرفع حكم الآخر ، وليسمّ حكومة قهرية كما في حكومة بعض الاصول على بعضها الآخر وحكومة الأدلة الاجتهادية على الاصول العملية إن جعلنا تقديمها عليها من باب الحكومة ، فإنّ استصحاب طهارة الماء المغسول به الثوب النجس مستلزم لطهارة الثوب ورفع نجاسته فيقدّم على استصحاب نجاسة الثوب ، لأنّ الشك فيها

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

٤٢٧

وإن كان موجودا إلّا أنه منزّل منزلة العدم بحكم استصحاب طهارة الماء ، وكذا ورود الدليل الاجتهادي في وجوب شيء مثلا مستلزم لرفع الحكم المجعول للشاك في الوجوب فكأنه قال : لا تشك في الوجوب واعلم بوجوبه ، ولمّا كان توجيه الحكومة القصدية في الأدلة بالنسبة إلى الاصول بعيدا في الغاية حملناها على القهرية ، وسيأتي تمام البيان.

واعلم أيضا أنه قد يكون الدليل الحاكم يرفع الحكم بلسان رفع الحكم كما في أدلة الحرج بالنسبة إلى أدلة الأحكام ، وقد يكون يرفع الحكم بلسان رفع الموضوع كما في مثل استصحاب فسق زيد بالنسبة إلى قوله أكرم العدول.

ثم اعلم أيضا أنه قد يكون الحاكم في المعنى مخصصا للمحكوم كالأمثلة المذكورة ، وقد يكون معمّما له كاستصحاب عدالة زيد مثلا بالنسبة إلى قوله أكرم العدول فإنه لو لم يكن هذا الحاكم لم يحكم بوجوب إكرام زيد.

واعلم أيضا أنّ الحاكم قد يقتضي التصرف في نفس الدليل المحكوم وقد يقتضي التصرف في مقتضى المحكوم مثلا قوله (عليه‌السلام) «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (١) حاكم على أدلة أجزاء وشرائط الصلاة ، لكن يحتمل أن يراد منه أنّ كل ما جعل جزءا أو شرطا للصلاة قد ارتفع حال السهو ، فتكون الأجزاء والشرائط ما عدا الخمسة علمية ، وعلى هذا قد تصرف في نفس أدلة الأجزاء والشرائط وقيد إطلاقها بغير حال السهو ، ويحتمل أن يراد منها مجرد عدم الاعادة التي كانت أثرا للشرطية المطلقة والجزئية المطلقة ، فتكون الصلاة الخالية عن الجزء أو الشرط المنسيين صلاة ناقصة إلّا أنّ الشارع رتّب عليها أثر الصلاة التامة وهو عدم الاعادة.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤.

٤٢٨

ثم إنّ الحاكم قد يكون بنفسه ناظرا إلى المحكوم كأدلة الحرج بالنسبة إلى أدلة الأحكام ، وقد يكون ناظرا أو حاكما عليه بملاحظة دليل اعتباره كما في الأدلة الاجتهادية بالنسبة إلى الاصول العملية فإنّ حكومتها عليها بملاحظة وجوب تصديق العادل مثلا أو غيره من أدلة حجية تلك الأدلة على ما قرره المصنف (رحمه‌الله) في وجه الحكومة فإنه لو لم يلاحظ لسان دليل حجيتها بهذا النحو الخاص لم يكن حكومة وكان من باب التعارض.

ثم لا فرق في تقديم الدليل الحاكم بين أن يكون منافيا للدليل المحكوم بحيث لو لم يقدّم الحاكم كان معارضا للمحكوم كأكثر الأمثلة المتقدمة ، أو لم يكن منافيا كما في تقديم الاصول الموضوعية الموافقة للحكمية عليها فإنّ الاصول الحكمية ساقطة ما دامت الاصول الموضوعية موجودة موافقة أو مخالفة على ما هو التحقيق عند المصنف وجمع آخر ، وكذا الأدلة الاجتهادية بالنسبة إلى الاصول الموافقة.

ثم لا فرق أيضا بين أن يكون الحاكم والمحكوم كلاهما من الأدلة الاجتهادية كأدلة الحرج بالنسبة إلى أدلة التكاليف أو كلاهما من الاصول كالأصل الموضوعي والحكمي ، أو يكون الحاكم من الأدلة والمحكوم من الاصول كما مر في حكومة الأدلة على الاصول أو العكس كحكومة استصحاب الطهارة على قوله (عليه‌السلام) «لا صلاة إلّا بطهور» بناء على القول بأنّ الأمر الظاهري مقتض للاجزاء ولو مع كشف الخلاف ، وأمّا على القول بعدم الاجزاء فيكون الاستصحاب حاكما على قاعدة الاشتغال المقتضية لاحراز الطهارة بالعلم بها لا على قوله (عليه‌السلام) «لا صلاة» ، ولذا يجب الاعادة بعد كشف الخلاف ، وكحكومة قاعدة الفراغ بناء على كونها من الاصول على الاستصحاب بناء على كونه من الأمارات ، وكحكومة الاصول الموضوعية الجارية في موضوعات

٤٢٩

الأدلة على الأدلة موافقة كانت أو مخالفة.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكومة أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر نظر تفسير وبيان قصدا أو قهرا توسيعا أو تضييقا بالنظر إلى نفسه أو بملاحظة دليل حجيته ، إلى آخر ما ذكر من جهات التعميم.

وللمصنف في تعريف الحكومة عبارتان : إحداهما ما ذكره هنا وهو قوله وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه. والثانية : ما ذكره في خاتمة رسالة الاستصحاب وهو قوله : ومعنى الحكومة على ما يجيء في باب التعادل والتراجيح أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم (١) انتهى.

ولا يخفى أنّ الفقرة الثانية من العبارة الثانية ناظرة إلى ما يوجب توسيع دائرة المحكوم ، كما أنّ الفقرة الاولى ناظرة إلى ما يوجب تضييق الدائرة ، وقد أخلّ بها في العبارة الاولى وهي محتاج اليها كما عرفت. قيل إنّ الأولى هي العبارة الاولى وما ألحقه في العبارة الثانية أي الفقرة الثانية منها خارج من حقيقة الحكومة داخل في باب التنزيلات. وفيه : أنّ الحكومة أيضا قسم من التنزيل غاية الأمر أنها تنزيل ضمني في مقابل التنزيل الصريح مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «الطواف بالبيت صلاة» (٢).

ثم إنّ المصنف هاهنا ذكر ميزانا للحكومة بقوله : وميزان ذلك أن يكون

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣١٤.

(٢) المستدرك ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

٤٣٠

بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل الحاكم لغوا خاليا عن المورد نظير الدليل على أنه لا سهو في النافلة الخ (١) وقد ضرب عليه خط المحو في بعض النسخ وهو الأولى ، لأنه لا يشمل هذا الميزان حكومة الأدلة على الاصول وحكومة بعض الاصول على بعض سيما إذا كان الحاكم والمحكوم من جنس واحد ، ولعله يوافق الميزان المذكور تعريف بعضهم للحكومة بأن يكون تعقّل أحد الدليلين متوقّفا على تعقّل الآخر من دون العكس ، ويرد عليه : ما يرد عليه.

وكيف كان ، ليس باب الحكومة من التعارض حتى يجري فيها ما يجري فيه من أحكام التعادل والترجيح ، وهذا فيما إذا كان الحاكم والمحكوم متوافقين في الحكم واضح لعدم التنافي بينهما ، وأمّا إذا كانا متخالفين فإن كان الحاكم متصرفا في موضوع دليل المحكوم بأن يحكم بخروج فرد من أفراد الموضوع عن موضوع دليل المحكوم يعني تنزيلا فكذلك لا تنافي بينهما بعد التنزيل المذكور لأنه يرجع ذلك إلى أنّ حكم الدليل المحكوم مطّرد في جميع أفراد موضوعه وعدم جريانه في ذاك الفرد لأجل خروجه عن الموضوع ، وإن كان متصرفا في أصل الحكم المدلول عليه بالدليل المحكوم ، فلا تعارض بينهما أيضا في ظاهر المدلول بحسب لسانهما في كيفية الافادة ، وإن كانا متنافيين في اللب ، ضرورة أنّ ما يكون شارحا ومفسّرا للشيء لا يعدّ منافيا له كما في التفسير الصريح كأن يقول أكرم العلماء وقال أردت من ذلك عدولهم دون فسّاقهم فإنه لا يعدّ قوله الثاني منافيا للأول ومعارضا.

وبالجملة المعارضة بين الشيئين إنما تكون إذا كانت مخالفتهما بنحو

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٣ (مع اختلاف يسير).

٤٣١

المخاصمة ، ومخالفة الحاكم مع المحكوم ليست كذلك بل بنحو المصالحة.

ومن ذلك ظهر عدم المعارضة بين الأدلة الاجتهادية والاصول العملية إن جعلنا تقديمها عليها من باب الحكومة كما هو مختار المتن هنا ، لكن المصنف صرّح في المتن هاهنا بخروجها عن التعارض من جهة اختلاف الموضوع ، حيث إنّ موضوع الأدلة هو الأفعال الواقعية وموضوع الاصول هو الأفعال بوصف كونها مشكوكة ، وسيأتي ما فيه (١).

قوله : على وجه التناقض أو التضاد (٢).

وجه التعارض في صورة التضاد أنه يرجع إلى التناقض ، فإذا دل دليل على الوجوب والآخر على الاباحة أو الاستحباب أو غيرهما من الأحكام يكون وجه التعارض أنّ لازم الاباحة أو الاستحباب عدم الوجوب ، كما أنّ لازم الوجوب عدم الاباحة وغيرها من الأحكام.

قوله : ومنه يعلم أنه لا تعارض بين الاصول وما يحصّله المجتهد من الأدلة الاجتهادية (٣).

وقد مرّ في أول رسالة أصل البراءة أيضا في المتن أنّ وجه عدم التعارض

__________________

(١) أقول : لا يخفى أنه إن جعلنا تقديم الحاكم على المحكوم من أجل أظهرية الحاكم على ما مرّ ولو بملاحظة أنه في مقام الشرح والتفسير وقلنا إنه يمكن أظهرية المحكوم أيضا أحيانا فربما يكونان متساويين ليس أحدهما أظهر من الآخر فلا مناص عن الرجوع إلى المرجحات إن وجدت وإلّا فيجري حكم التعادل ، وهذا يعيّن أن يكون المقام من باب التعارض نظير العام والخاص بعينه غاية الأمر أنه يقدّم الحاكم في الأغلب لأظهريته كما أنه يقدّم الخاص في الأغلب لذلك ، وقد عرضت هذا على السيد الاستاذ (دامت بركاته) فسكت وكأنه ارتضاه.

(٢ ، ٣) فرائد الاصول ٤ : ١١.

٤٣٢

بين الاصول والأدلة تعدّد الموضوع ، لأنه من المعلوم أنه لا يتحقق التناقض بين قضيتين إلّا بعد اجتماع الوحدات الثمانية التي منها وحدة الموضوع ، لكنه قد ضرب على هذه العبارة هنا في بعض النسخ خط المحو ، وقد ذكرنا نحن سابقا فساد هذا الكلام ، فإنه لمّا كان موضوع الحكم الواقعي الذي هو مفاد الأدلة نفس الفعل أعم من أن يكون حكمه معلوما أو مظنونا أو مشكوكا أو موهوما أو مغفولا عنه بالمرة بناء على الصواب من مذهب المخطّئة ، فلا جرم يكون الفعل في حال الشك في حكمه الذي هو موضوع الأصل بعض أفراد الموضوع الواقعي للدليل فاتّحد الموضوع فيهما فيحصل التعارض بينهما.

قيل : إنّ وجه عدم التعارض بين الاصول والأدلة اختلاف المحمول فيهما دون الموضوع ، لأنّ المحمول في الاصول هو الحكم الظاهري الفعلي ، وفي الأدلة هو الحكم الواقعي الشأني وأحدهما ليس من سنخ الآخر حتى يتنافيا.

وفيه : أنّ هذا الجواب مناسب لدفع التناقض المورد على جعل الأحكام الظاهرية كلّية في قبال الأحكام الواقعية حيث إنه عند الشك في الحكم الواقعي ليس الحكم الفعلي سوى مفاد الأصل والحكم الواقعي باق على شأنيته لم يصر فعليا ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن الحكم الواقعي الذي هو مفاد الدليل فعلي لحصول العلم به بالفرض ، ومفاد الأصل أيضا فعلي فيحصل التعارض بين حكمين فعليين فافهم. وكيف كان لا كلام في تقديم الأدلة الاجتهادية على الاصول العملية ، إنما الكلام والإشكال في وجه التقديم وقد مرّ في أول رسالة أصل البراءة الوجوه المذكورة فيه مفصّلا ولا بأس باعادة الكلام فيها اجمالا فإنه لا يخلو عن فائدة ، فنقول إنّ فيه وجوها :

أحدها : الحكومة وتقرر بوجوه : الأول ما يستفاد من المتن هنا وفي رسالة أصل البراءة أيضا وهو أنّ دليل حجية الأدلة الاجتهادية قد نزّل مؤدّاها

٤٣٣

منزلة الواقع المستلزم ذلك لتنزيل نفس الدليل منزلة العلم ، وهو ناظر بالنظر القصدي إلى إلغاء الشك وإلغاء أحكام الشك من الاصول المجعولة فلذلك يقدّم عليها.

الثاني : ما حكي عن تلميذ المصنف (رحمه‌الله) السيد المحقق الشيرازي (رحمه‌الله) من أنّ دليل حجية الأدلة تنزّل نفس الأدلة منزلة العلم المستلزم لتنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، وهو ناظر إلى إلغاء الشك وأحكامه كما ذكر في التقرير الأول.

الثالث : ما مرّ منّا عن قريب من كون الأدلة بملاحظة دليل حجيتها ناظرة إلى أدلة الاصول بالنظر القهري ، بمعنى أنّ الشارع لما نزّل مؤدّى الدليل منزلة الواقع كان لازمه بحكم العقل رفع الشك وحكمه أعني تنزيلا وإن لم يقصد المتكلم هذا المعنى بل لم يلتفت إليه أيضا.

وفي الكل نظر ، أمّا الوجه الأول فيرد عليه أوّلا : النقض بأدلة الاصول بأن نقول لو كان قوله صدّق العادل واعمل بقوله ناظرا إلى الاستصحاب الذي مؤدّاه نقيض قول العادل مثلا ويعني به ألغ الاستصحاب ، لكان دليل الاستصحاب أيضا ناظرا إلى قوله صدّق العادل ويستفاد منه ألغ قول العادل ، وأحدهما ليس بأولى من الآخر.

وثانيا : أنّا نمنع كون مفاد صدّق العادل الغ احتمال الخلاف وألغ الشك ناظرا إلى أدلة الاصول ، ولو سلّم إفادته لالغاء الشك فإنه يدل على إلغاء الشك مقدّمة للأخذ بمؤدّى قول العادل وبمقدار ما يتوصّل به إلى العمل بقول العادل لا إلغاء الشك مطلقا بالنسبة إلى الحكم المجعول للشك المخالف لقول العادل فإنه في غاية البعد ، فافهم ذلك فإنه لا يخلو عن دقة.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه أوّلا : أنّ ظاهر أدلة حجية الأدلة تنزيل مؤدّاها

٤٣٤

منزلة الواقع كما ذكره المصنف لا تنزيل الدليل منزلة العلم. وثانيا : على فرض التسليم أنّ تنزيل الطريق منزلة العلم ليس إلّا من حيث الطريقية ليس ناظرا إلى أحكام موضوع العلم ورفع أحكام موضوع الشك. وثالثا : أنّ قوله (عليه‌السلام) «لا تنقض اليقين» أولى بدعوى كونه في مقام إثبات اليقين في زمان الشك أعني تنزيلا بل هو مدلوله المطابقي ، فيعارض مقتضى الدليل المخالف له لو لم نقل بكونه أقوى في الافادة فتدبّر ، فإذن أحسن وجوه الحكومة هو الوجه الثالث ومحصّله : أنّ أدلة الطرق بلسانها تدلّ على أنّ مؤدّاها هو الواقع نفسه ، ومن المعلوم أنّ من أدرك الواقع لا يحصل له الشك ولا يجري في حقه أحكام الشك فكأنّ الدليل الاجتهادي بتعيينه الواقع كشف عن عدم موضوع الشك وأحكامه يعني تنزيلا ، وإلّا فالشك متحقق بالوجدان وكأنه قال لا تشك واعلم بأنّ الواقع كذا.

الثاني : الورود ويقرّر بوجوه ، أولها : أن يقال إنّ الشك الذي قد علّق الحكم عليه في أدلة الاصول يراد منه التحيّر في مقام العمل ، وهو لا يتحقق إلّا إذا لم يكن هناك دليل وإلّا فترتفع الحيرة بذلك الدليل ، ولازم ذلك أن يراد من العلم الذي جعل غاية لحكم الأصل أعم من العلم الوجداني والشرعي أعني الدليل الاجتهادي.

ثانيها : أن يقال إنّ المراد من العلم المأخوذ غاية في أدلة الاصول أعمّ من الوجداني والشرعي ، ويلزم ذلك أن يكون المراد من الشك المعلّق عليه حكم الأصل هو التحيّر وعدم طريق للعمل ، والفرق بينه وبين الوجه الأول ليس إلّا بالأصالة والفرعية في كيفية الاستفادة.

ثالثها : أن يقال إنه يفهم من سياق أدلة الاصول أنّ اعتبارها مقيّد بصورة عدم وجود دليل كاشف عن الواقع ، والفرق بينه وبين الأوّلين أنّ التصرّف في

٤٣٥

الأوّلين داخلي حيث حمل الشك والعلم على غير ظاهرهما ، وفي هذا الوجه من الخارج حيث جعل السياق قرينة على تقييد مفاد أدلة الاصول بما إذا لم يكن هناك دليل.

الثالث : التخصيص ويقرّر بوجوه ، أحدها : أن يقال إنّ التعارض حاصل بين أدلة الاصول وكل واحد واحد من الأمارات الواردة في الأحكام الخاصة ، ولا ريب في أنه إذا قيس كل دليل خاص إلى أدلة الاصول يكون أخص مطلقا منها فيقدّم لذلك. ولكن المصنف في أول رسالة البراءة جعل التعارض بين أدلة الأمارات وبين الاصول لا نفس الأمارات ، فراجع وراجع ما علّقنا عليه.

الثاني : أن يقال بعد جعل التعارض بين أدلة الأمارات والاصول إنّ تخصيص الاصول بأدلة الأمارات تخصيص حسن ، أمّا تخصيص أدلة الأمارات بالاصول من تخصيص الأكثر فهو المستهجن ، إذ قلّ ما يكون مورد من موارد الأمارة لا يجري فيه أصل تعبّدي فلا جرم يقدّم الأول على الثاني.

الثالث : أن يقال إنّ عموم أدلة الأمارات لأفراد العام مرآتي بمعنى أنّ عنوان العام ليس موردا للحجة بل الحجة نفس المصاديق الخاصة ، وإنّما ذكر عنوان العام لأجل كونه مرآة لها كاشفا عنها ، وكل عام كذلك يكون نصّا في مدلوله ، فلا جرم يقدّم على ما يعارضه من الظواهر. ولا يخفى ما فيه من منع الصغرى أوّلا والكبرى ثانيا ، وسيأتي ما ينفع المقام.

قوله : فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في الظاهرين حيث لا يقدّم المحكوم ولو كان الحاكم أضعف منه الخ (١).

محصّل كلامه هذا أنه لمّا كان مناط التقديم في العام والخاص قوة الدلالة

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٤.

٤٣٦

والأظهرية فلذلك يقدّم الخاص في الأغلب ، وربما يقدّم العام لو فرض كونه أقوى ، ومناط التقديم في الحاكم والمحكوم كون الحاكم ناظرا إلى المحكوم وشارحا له ، وهذا المناط مطّرد في جميع المقامات فلا يمكن تقديم المحكوم أبدا في مورد من الموارد ، كانت الثمرة بين التخصيص والحكومة ظاهرة في الظاهرين حيث لا يمكن تقديم المحكوم أصلا ويمكن تقديم العام على الخاص على تقدير كونه أظهر من الخاص بالنسبة إلى شموله لمورد الخاص ، والسرّ في أصل المناط على ما ذكره غير واحد أنّ لكل من العام والخاص دلالة واحدة على مدلوله وحيث إنّهما متنافيان يحكم العقل بتقديم الأقوى وطرح الأضعف ، والأقوى في الغالب هو الخاص وربما يكون بالعكس ، وأمّا في باب الحكومة فلا يخفى أنّ للحاكم دلالتين دلالة على نفس المدلول ودلالة على كون هذا الدليل شارحا ومفسّرا للدليل المحكوم ، وللمحكوم دلالة واحدة على نفس المدلول وإنما التنافي بين مدلول المحكوم وأحد مدلولي الحاكم ويبقى مدلوله الآخر أعني كونه ناظرا إلى المحكوم وشارحا له بلا معارض من جانب المحكوم ، فلذلك يقدّم عليه مطلقا ولو كان أضعف بحسب المدلول الآخر المنافي للمحكوم ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا البيان إن تم فإنما يتم لو كان الحاكم نصّا في دلالته على الشرح والتفسير ، وأمّا إذا كان ظاهرا في ذلك كما هو فرض المتن حيث صرّح بأنّ صرف الحاكم عن نظره إلى المحكوم محتاج إلى دليل آخر غير المحكوم فيرجع الأمر بالأخرة إلى معارضة ظاهر المحكوم مع الحاكم باعتبار مجموع الظهورين الحاصلين فيه ، وحينئذ فيمكن أقوائية مجموع هذين الظهورين من ظهور المحكوم كما في الأغلب ويمكن أقوائية ظهور المحكوم عليهما جميعا ، فالمدار فيه أيضا على قوة الدلالة والأظهرية فانتفت الثمرة.

٤٣٧

قوله : فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز (١).

لا يقال : إنّ تقديم الخاص على العام من باب التخصيص جزما فلا وجه لترديده بين الحكومة والورود على التفصيل الذي ذكره في المتن. لأنّا نقول إنّ الكلام في المقام في معارضة الخاص مع أصالة العموم التي هي سند ظهور العام في العموم لا في معارضة نفس العام والخاص فافهم ذلك وانتظر لتمام الكلام.

قوله : فتأمّل (٢).

لعلّه إشارة إلى ضعف ما ذكره في مبنى وجه الورود في الصورة المفروضة لكونه دعوى بلا بيّنة ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ضعف وجه الحكومة وتعيّن الورود فيها لما سنذكره بعيد ذلك.

قوله : هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة (٣).

إن اريد من أصالة عدم القرينة الاستصحاب المعتبر في شرع الإسلام ففيه : منع كونه مستند أصالة العموم ، لأنّا نعلم أنّ أصالة العموم معتبرة عند من لا يعتقد بشرع الإسلام ولا غيره أيضا ، وإن اريد منها الأصل العقلائي من غير جهة الظن النوعي الذي هو الشق الثاني من الترديد ومرجعه إلى التعبّد العقلائي بالبناء على عدم القرينة ، ففيه ما مر مرارا من أنه ليس في بناء العقلاء بمقتضى عقولهم في جميع أفعالهم وأقوالهم سوى العمل على طبق المصالح الشخصية أو النوعية

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٥.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ١٦.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ١٦.

٤٣٨

المعلومة أو المظنونة بالظن الشخصي أو النوعي ، وأمّا التعبّد بأمر غير معلوم المستند عندهم فلم نجده ولا نجد له حكمة باعثة له.

ثم إن كان المراد من الأصل المذكور التعبّد العقلائي فينبغي أن لا يفرق بينه وبين الظن النوعي الذي حكم على تقديره بأنّ تقديم الخاص عليه من باب الورود ، لأنّ التعبّد المذكور لمّا كان بمقتضى عقولهم ناسب أن يكون حكمهم بالعموم معلّقا على عدم وجود الظن المعتبر على خلافه كما قرّره فيما إذا كان من جهة الظن النوعي.

ثم إنّ ما ذكره من استناد الظن النوعي المذكور إلى الغلبة غير واضح لأنه يلزم أن يكون العام بعد وضع الواضع له قبل غلبة استعماله في العموم غير ظاهر في العموم وهو كما ترى.

والتحقيق أنّ سند أصالة العموم وأصالة الحقيقة هو وضع الواضع ومتابعة وضعه في كل لغة واصطلاح لا أصالة عدم القرينة بالمعنيين المذكورين ولا الظن النوعي المستند إلى الغلبة ، فإنّ كل من يتكلّم بلغة لو لم يتّبع في كلامه وضع واضعها لم يتكلّم بتلك اللغة ، فإذا استعمل لفظا من غير نصب قرينة على إرادة خلاف ما وضع له يظن نوعا إرادة الموضوع له ولأجله يعتمد عليه العقلاء في كل عصر وزمان ، وهذا الظن النوعي ليس بموجود عند وجود أمارة معتبرة في قبال أصالة العموم فتكون الأمارة واردة على الأصل.

ثم اعلم أنه يظهر من المتن أنّ الدليل الاجتهادي يعني الدليل الخاص مثل قوله لا تكرم زيدا يعارض أصالة العموم في مثل قوله أكرم العلماء ويقدّم الدليل على الأصل من باب الورود أو الحكومة ، وهذا بظاهره فاسد ، لأنّ هذا بعينه تعارض العام مع الخاص وتقديمه من باب التخصيص لا الورود ولا الحكومة.

ويمكن أن يوجّه بأنّ العام المفروض له حيثيتان ، فمن حيث ملاحظة نفس

٤٣٩

مدلوله يكون الخاص مخصصا له ، ومن حيث وجوب البناء على عمومه بدليل بناء العقلاء الذي يعبّر عنه بأصالة العموم يكون الخاص حاكما أو واردا عليه فافهم.

وقد أورد بعض المحققين (١) على ما بيّنه المصنف من الحكومة والورود على التقديرين ، بأنه لا وجه للحكومة على تقدير أن تكون أصالة العموم من باب أصالة عدم القرينة ، لأنّ أصالة العموم ليست من الاصول بل من الأمارات والطرق كالأدلة الاجتهادية ، ولا حكومة بين الطرق إلّا أن يكون بعضها ناظرا بلسانه إلى البعض الآخر وشارحا له كأدلة الضرر والحرج بالنسبة إلى عموم أدلة التكاليف وليس كذلك فيما نحن فيه ، وكذا لا وجه للورود على تقدير كون أصالة العموم من باب الظن النوعي ، إذ كما أنّ دليل حجية الظن المذكور مقيّد بصورة عدم وجود الظن المعتبر على خلافه كذلك دليل حجية الأمارة أيضا مقيّد بصورة عدم وجود معارض لها ، فهما متماثلان في ذلك فلا ورود لأحدهما على الآخر.

قال : والتحقيق في وجه تقديم الأدلة الاجتهادية على الاصول اللفظية أنّ دليل حجية الاصول اللفظية ليس إلّا الإجماع ، وهو دليل لبّي لا عموم له ولا إطلاق ، فإن شك في شيء من أفراد الأصل يقتصر على المتيقن ، وهذا بخلاف أدلة حجية الأمارات فإنها ليست بخارج من عموم ألفاظ الكتاب والسنّة أو إطلاقها ، ففي موضع الشك يؤخذ بعمومها أو إطلاقها ويرفع به الشك ، فعند تعارض أصالة العموم والدليل الاجتهادي يقدّم الدليل لعموم دليل حجيته وعدم عموم دليل حجية الأصل ، ودعوى أنّ دليل حجية الأصل هو بناء العقلاء وهو عام كأدلة حجية الأمارات ، مدفوعة بأنّ بناء العقلاء إنما يكون حجة فيما إذا لم يثبت

__________________

(١) وهو ميرزا حبيب الله الرشتي (طاب ثراه) [بدائع الأفكار : ٤١١ ـ ٤١٢].

٤٤٠