حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

كلّ مستصحب لم يكن له أثر مسبوق بالعدم سليم عن المعارضة المذكورة حكما كان المستصحب أو موضوعا.

قوله : وتوهّم إمكان العكس ، مدفوع بما سيجيء توضيحه من عدم إمكانه (١).

وسيجيء المناقشة فيما ذكره في توجيه جريان الاستصحاب في الشك السببي دون المسبّبي ، والتحقيق في توجيهه أنّ الشك المسبّبي لمّا كان ناشئا من الشك السببي وتابعا له يحدث بحدوثه ويزول بزواله لا يعد في نظر العرف والعقلاء شكّا آخر مستقلا وكأنه نفس الشك السببي ، فحكمه تابع له ، فإذا بني فيه على أحد طرفي الشك بأصل أو أمارة يتبعه الشك المسبّب كما في صورة العلم بعينه ، والحاصل أنّه إن قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن يكون الظن بالمسبّب تابعا للظن بالسبب عند العقل والعقلاء دون العكس ، وإن قلنا باعتباره من باب التعبّد فكذلك حكم الشك المسبّب تابع لحكم الشك السببي في نظر العقل والعرف فهو مشمول الدليل دون غيره ، وسيجيء لهذا زيادة توضيح في محلّه إن شاء الله تعالى.

قوله : ومنه يظهر حال معارضة استصحاب وجوب المضي باستصحاب انتقاض التيمم (٢).

يعني أنّ استصحاب وجوب المضي محكوم بالنسبة إلى استصحاب انتقاض التيمم بوجدان الماء لا العكس ، لأنّ الشك في وجوب المضي في الصلاة مسبّب عن الشك في انتقاض التيمم وعدمه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٠١.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٠١.

١٢١

تنبيه : حكي عن بعض المناقشة في كون المثال المذكور مجرى لاستصحاب وجوب المضي في الصلاة لعدم إحراز المتيقن السابق فيه ، توضيحه :

أنّ وجوب المضي الذي كان متيقنا قبل وجدان الماء إنّما كان بحسب الظاهر للجهل بالحال وأنه سيوجد الماء في أثناء الصلاة ، وإلّا كان جواز الدخول في الصلاة من أصله مشكوكا ، فهذا الشك الطارئ في أثناء الصلاة سار إلى زمان اليقين أيضا ، فلا يتم ميزان الاستصحاب من اعتبار اليقين بالحكم الواقعي قبل زمان الشك واقعا وبقاء هذا اليقين في حال الشك.

وفيه أوّلا : أنّ هذا إنّما يتم فيما لو دخل في الصلاة في أوّل الوقت بعد التيمم إن جوّزناه ، أو كان متيمما قبل الوقت لغاية اخرى يصح التيمم لها ولم يمض مقدار زمان أداء الصلاة بتمامها فإنّه يمكن في هذه الصورة دعوى عدم العلم بتنجّز التكليف بالصلاة مع التيمم والحال أنه كان يجد الماء في أثناء الصلاة واقعا في علم الله غاية الأمر أنّ المكلّف كان جاهلا بهذا الحال وقد علمه في أثناء الصلاة ، وأمّا إذا فرض مضي زمان يمكنه أداء الصلاة بحيث لو اشتغل بها أتمّها قبل وجدان الماء ووقعت صحيحة فقد علم بتكليفه بالصلاة مع التيمم وعند وجدان الماء يشك في بقاء ذلك التكليف الذي يعبّر عنه بوجوب المضي وعدمه فتم ميزان الاستصحاب.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا عدم جريان استصحاب وجوب المضي لا مانع من إجراء بقاء الطهارة الحاصلة بالتيمم السابق أو الاستباحة على الخلاف في كونه رافعا للحدث أو مبيحا ، إذ لا يتوقّف صحّة التيمم عند عدم وجدان الماء على أن يكون مكلّفا بالصلاة معه ، ضرورة صحته باعتبار ترتّب الغايات الأخر عليه ، هب أنّ التكليف بالصلاة معه صار مشكوكا فيه من الأول لسريان الشك إليه فلا يضرّ ذلك بصحته في نفسه بالاعتبار المذكور ، وباستصحاب بقاء حكمه من الاستباحة

١٢٢

أو الرفع يحكم بصحة الصلاة معه أيضا.

قوله : من كون استصحاب النفي المسمّى بالبراءة الأصلية معتبرا إجماعا (١).

إن اريد من استصحاب النفي قاعدة البراءة التي هي من الاصول العملية وهي المسمّى بالبراءة الأصلية وهي ما قام الإجماع على اعتبارها ، فمع أنه خلاف ظاهر تعبيرهم بالاستصحاب لا يصير ذلك جوابا عن الاستدلال ونقضا عليه ، إذ للمستدلّ أن يدفعه أوّلا : بأنّ اعتضاد البيّنة التي من أمارات الواقع بالأصل لا معنى له ، وإنّما يصح اعتضاده بالاستصحاب لأجل كونه من الأمارات الظنية ، فصح للمستدل أن يقول لو كان الاستصحاب حجّة لزم ترجيح بيّنة النفي لأنّها أمارة معتضدة بأمارة اخرى. وثانيا : بأنّ أصالة البراءة إنّما تجري في حقّ المنكر لو كان بنفسه شاكا في ثبوت الدعوى لا في حقّ الحاكم الذي جاهل بالواقع ويعتمد في حكمه على البيّنة واليمين ونحوهما. وبعبارة اخرى لو كان الحاكم شاكا في تكليف نفسه واشتغال ذمته صح له إجراء أصالة براءة ذمته عن التكليف وعن اشتغال الذمة ، ومفروض المسألة ليس كذلك لأنّ الحاكم شاك في اشتغال ذمة المنكر وربما كان المنكر عالما بالواقع من اشتغال ذمته أو براءته ولا معنى لاجراء الحاكم الشاك أصالة براءة ذمة المنكر العالم بالحال ، وقد مرّ في أوّل مبحث الاستصحاب ما ينفع هذا المقام.

وإن اريد من استصحاب النفي خصوص عنوان الاستصحاب الذي هو عبارة عن الاعتماد على الحالة السابقة كما هو الظاهر ويصح اعتضاد البيّنة به ، فيمنع كون حجّيته اجماعية بل هو أوّل الكلام ، وأيضا لا يلائمه قوله اللهم إلّا أن

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٠١.

١٢٣

يقال إنّ اعتبارها ليس لأجل الظن ، إذ لو كان الاستصحاب في مورد بخصوص عنوانه حجة كان لأجل الظن على مذاقهم ، نعم يصح أن يجاب عن أصل الدليل بأنه إنما يتم لو قلنا بحجّية الاستصحاب من باب الظن وأمّا بناء على حجيته من باب التعبّد لا يلزم منها ترجيح بيّنة النفي لأنه أصل لا يصلح أن يعاضد الأمارة ، وهذا جواب ثالث عن الاستدلال بضميمة الجوابين في المتن.

ويمكن أن يجاب عنه بجواب رابع : وهو أنّ ترجيح إحدى البيّنتين على الاخرى لا يتوقّف على كون المرجح حجة في نفسه ، بل يكفي فيه كونه مفيدا للظن ، فيصح سوق الكلام في قبال من يدّعي حصول الظن من الاستصحاب فيقال لو كان كذلك لرجح به بيّنة النفي مطلقا لكونها موافقة للاستصحاب وإن لم يكن حجّة (١) ، هذا.

ويمكن أن يجاب عن أصل الاستدلال بجواب خامس وهو أنّ الاستدلال مبني على كون بيّنة النفي مسلّمة الحجية عندهم ، وعلى كون الحكم في تعارض البيّنتين هو البناء على الترجيح عند الجميع ، وعلى كون الترجيح معتبرا بمطلق المرجح الشامل لمطلق الظن الحاصل من الاستصحاب حتى يستكشف من تسالمهم على هذه المقامات الثلاثة وتسالمهم على عدم ترجيح بيّنة النفي بالاستصحاب عدم حجية الاستصحاب ، لكن المبنى غير مسلّم في المقامات

__________________

(١) أقول : الإنصاف عدم ورود هذا على المستدل ، بل له أن يقرّر الدليل هكذا لو كان الاستصحاب حجّة كان من جهة حصول الظن بالبقاء ، ولو كان الظن حاصلا من الاستصحاب لزم ترجيح بيّنة النفي مطلقا على بيّنة الاثبات لاعتضادها بالظن الاستصحابي ، وحيث لا يرجّحون بيّنة النفي يستكشف منه عدم حصول الظن من الاستصحاب وحيث لا ظن لا حجّية للاستصحاب.

١٢٤

الثلاثة ، لأنّ أصل حجية بينة النفي مختلف فيه ، فقال جماعة بعدم حجيتها وبذلك وردت رواية أيضا ، وكذا مسألة البناء على الترجيح في تعارض البينات مختلف فيها ، فقال جماعة بعدم البناء على الترجيح بل المرجع القرعة ولا يخلو عن قوة ، وهكذا مسألة عموم الترجيح فقال جماعة بالاقتصار في مقام الترجيح بالأكثرية والأعدلية ، بل اقتصر بعضهم على أحدهما ، ولمّا كان الأمر بهذه المثابة فيحتمل أن يكون عدم تقديم بينة النفي بالاستصحاب إمّا من جهة عدم حجّيتها ، وإمّا من جهة عدم القول بالترجيح واختيار القرعة ، وإمّا من جهة عدم القول بعموم الترجيح واختيار الاقتصار فيه بالأكثرية أو الأعدلية أو هما معا ، فكيف يستكشف من عدم ترجيحهم بينة النفي عدم حجّية الاستصحاب والحال هذه ، هكذا ينبغي أن يقال في هذا المجال.

قوله : ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب (١).

وهنا احتمال ثالث لم يذكره المصنف وهو عدم اعتبار الاستصحاب فيما يتعلق بالوجودي سواء كان المستصحب وجوديا أو الأثر ، واعتباره فيما يرجع إلى العدم محضا من حيث المستصحب والأثر ، فينحصر مورد الحجية فيما إذا كان المستصحب عدميا بالنسبة إلى الأثر العدمي ، لكن هذا الاحتمال بعيد لا شاهد عليه من كلامهم. وأمّا الاحتمالان المذكوران في المتن فيشهد للأول منهما ما حكاه التفتازاني عن الحنفية من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب إلى آخر ما نقله في المتن قبيل هذا ، لا ما استشهد به المصنف في آخر كلامه مما حكاه التفتازاني عن الحنفية من أنّ الاستصحاب حجة في النفي دون الاثبات. وللثاني ظاهر عنوان التفصيل بين الوجودي والعدمي ، وعليه بنى المصنف الإشكال السابق الذي لم

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٠٦.

١٢٥

يظهر له دفعه عن هذا القول والايراد الآتي من رجوع هذا التفصيل إلى التفصيل المختار ، فليتدبّر.

قوله : مدفوع بأنّ الشك إذا فرض من جهة الرافع الخ (١).

الإنصاف أنّ التخيّل المذكور كلام متين لا يندفع بهذا الدفع ، لأنه إنما يتم فيما إذا رتّب الأحكام الشرعية على ذلك الأمر الوجودي وعدم الرافع بأن يقول مثلا يشترط في الصلاة أن تكون مسبوقة بالوضوء وعدم وجود الحدث بعده فيقال إنّ صحة الصلاة مترتّبة على أمرين أحدهما محرز بالعلم والآخر بالأصل ، فيترتّب الصحة ، وأمّا إذا رتّبها على الأمر الوجودي فقط غاية الأمر أنه بيّن أنّ الشيء الفلاني رافع لذلك الأمر فلا يثبت باستصحاب عدم الرافع ذلك الأمر الوجودي من دون كونه أثرا لذلك العدم ، كما أنه كذلك بالنسبة إلى الطهارة والحدث فإنّ قوله (عليه‌السلام) «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) ، إنما يدلّ على شرطية الطهارة ، وقوله (عليه‌السلام) «لا ينقض الوضوء إلّا الحدث والنوم حدث» (٣) يدلّ على رافعية الحدث للوضوء وناقضيته ، لا على أنّ عدم الحدث معتبر في الصلاة ليكون صحتها مترتّبة على ذلك العدم شرعا حتى ينفع استصحابه ، هذا إذا كان الرافع شرعيا ، وأمّا إذا كان الرافع عقليا أو عاديا فالأمر أوضح.

قوله : والأصل في ذلك أنّ الشك في بقاء الشيء الخ (٤).

كان كلامه من أول هذا الايراد إلى هنا ناظرا إلى أنّ التفصيل بين العدمي

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٠٨.

(٢) المستدرك ١ : ٢٨٧ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٢٥٣ / أبواب نواقض الوضوء ب ٣ ح ٤.

(٤) فرائد الاصول ٣ : ١٠٩.

١٢٦

والوجودي مساوق للتفصيل المختار في النتيجة والثمرة وإنّما الاختلاف في طريق الوصول إليها ، وكلامه هذا صريح في أنّ الطريق الصحيح ما ذهب إليه هذا المفصّل والأدلّة مساعدة له لا الطريق المختار ، لكن في غير استصحاب الامور الخارجية على ما سيذكره ، فيتحصّل من ذلك كلّه أنّ الامور الخارجية عند الشك في رافعها لا بدّ من استصحاب نفسها ولا يغني عنه استصحاب عدم رافعها ، وأمّا الأحكام الشرعية فإن كان المستصحب عدميا فالاستصحاب حجّة فيها لرجوع الشك فيها إلى الشك في الرافع ، وإن كان وجوديا فإن كان هذا الأمر الوجودي من آثار عدم الرافع فيجري أصالة عدم الرافع ويغني ذلك عن استصحاب ذلك الأمر الوجودي ، لأنّ الشك فيه مسبّب عن الشك في ذلك العدم وإلّا فيجري أصالة بقاء ذلك الأمر الوجودي ، هذا.

ويرد عليه أوّلا : أنّ ما ذكره من أنه إن كان المستصحب عدميا يرجع الشك فيه إلى الشك في الرافع مطلقا ممنوع ، لأنّه قد يكون الشك في بقاء العدم مستندا إلى الشك في مقدار اقتضاء أمر وجودي هو الرافع فيتبعه العدمي في أنّ الشك فيه شك في المقتضي ، مثلا لو وقع العقد وفرضنا أنه مقتض للزوم إلى أن يثبت جوازه برافع ثم علمنا ارتفاع اللزوم في زمان بظهور الغبن أو العيب وشككنا فيما بعد ذلك الزمان في بقاء الخيار وعدم اللزوم فإنّ الشك في بقاء عدم اللزوم شك في المقتضي لأنه مستند إلى الشك في مقدار استعداد الرافع للبقاء.

وثانيا : أنّ ظاهر أخبار الاستصحاب بل صريحها استصحاب الأمر الوجودي كالطهارة من الحدث أو الخبث ونحوهما وإن كان الشك من جهة الرافع والشك فيها مسبّب عن الشك في الرافع إلّا أنّ لنا أن نتفصّى عن هذا على مذاقنا من جريان الأصل في الشك المسبّب إذا كان متحد الحكم مع الشك السببي وسيأتي تحقيقه ومرّت الاشارة إليه أيضا.

١٢٧

قوله : ومرجعها إلى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة (١).

هذا محلّ نظر بل منع ، لأنّ وصف الرافعية من أوصاف الرافع ووصف الارتفاع من أوصاف الرطوبة ولا يرجع أحدهما إلى الآخر ، إلّا أنّهما متلازمان وجودا وعدما ، فيكون إثبات عدم ارتفاع الرطوبة بأصالة عدم وجود رافعها بوصف الرافع من باب الأصل المثبت كما في الشق الأول من الترديد ، فينبغي ردّ هذا الاحتمال أيضا بذلك لا برجوعه إلى استصحاب الأمر الوجودي.

قوله : إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الامور (٢).

قد يورد عليه بأنّ مورد بعض أخبار الباب خصوص الامور الخارجية كصحيحتي زرارة الاوليين بناء على القول بأنّ الطهارة من الحدث وكذا من الخبث أمر واقعي كشف عنه الشارع ، لا أنّها مجعولة من قبيل الأحكام الوضعية كما هو مختار الأكثرين.

وقد يجاب بأنّ مراد القائل من الامور الخارجية ما كان طريق العلم به ما بأيدينا من موجبات العلم بالحواس لا ما لا طريق لنا إلى معرفته إلّا بكشف الشارع عنها.

قوله : ولعلّ التوهم نشأ من تخيّل الخ (٣).

من الواضح أنّ توهم صاحب هذا القول نشأ ممّا ذكره هو بنفسه من أنّ بيان الامور الخارجية ليس وظيفة للشارع ، فاحتمال كون منشأ توهمه غير ما ذكره اجتهاد في مقابل النص ، نعم يصح لصاحب هذا القول أن يتشبّث بهذا الوجه أيضا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١١١.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١١٢.

١٢٨

كما تشبّث بما تشبّث به في كلامه.

قوله : ويدفعه بعد النقض بالطهارة المتيقنة (١).

بل بعد النقض بجميع الأحكام المستصحبة المتيقنة في السابق فإنّ بقاءها وعدم بقائها تابع لواقعها لا يمكن إيجاب إبقائها لو لم تكن باقية في الواقع ، لأنّ الشارع ليس في مقام الجعل الجديد للحكم موافقا لحكم الحالة السابقة وإلّا لكان حكما واقعيا لا ظاهريا ، اللهمّ إلّا أن يقال يمكن إيجاب إبقاء الأحكام تنزيلا فنقول يمكن إيجاب إبقاء الموضوعات الخارجية أيضا تنزيلا فما الفارق ، بل هذا المعنى هو الموافق للتحقيق الذي أشرنا إليه في أخبار الاستصحاب من أنّ المراد إبقاء اليقين الطريقي تنزيلا أو إبقاء المتيقن تنزيلا على أبعد الوجهين ، فالأولى دفع التخيّل المذكور حلا بهذا الوجه ، وهو سالم عما يرد على بيان الماتن من أنّ المراد من الابقاء هو ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المتيقن عند الشك ، بأنّ ذلك لا يتم في استصحاب نفس الأحكام الشرعية التي لا أثر لها شرعا يترتّب عليها ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المراد إبقاء نفس المتيقن بالنسبة إلى الأحكام وإبقاء آثار المتيقن بالنسبة إلى الامور الخارجية ، وفيه أنه يلزم استعمال لفظ اليقين في معنيين في استعمال واحد.

قوله : نعم يبقى في المقام أنّ استصحاب الامور الخارجية الخ (٢).

هب أنّ استصحاب الامور الخارجية لا فائدة فيها بعد جريان استصحاب أحكامها ، وأنّ أحدهما يغني عن الآخر ، إلّا أنّ ذلك لا يدفع عموم أخبار الاستصحاب فإنّها شاملة للأحكام والموضوعات جميعا على نسق واحد بلسان

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١٢.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١١٣.

١٢٩

واحد ، فاخراج الموضوعات عن تحت العموم ليس بأولى من العكس وإن كان أحدهما يغني عن الآخر.

قوله : لكن مقتضى التدبّر إجراء الاستصحاب على وجه التعليق (١).

صحة إجراء الاستصحاب التعليقي ممّا لا كلام فيه بمعنى استصحاب الملازمة الثابتة بين أمرين ، لكنّه إنّما يصحّ فيما إذا كانت الملازمة شرعية كما إذا دلّ دليل شرعي على الملازمة بين هذا وذاك مثل قوله ماء العنب إذا غلى واشتدّ يحرم ، فلو شك في بقاء هذه الملازمة بعد أن صار العنب زبيبا تستصحب الملازمة ، وأمّا إذا كانت الملازمة عقلية منتزعة من خطاب شرعي فلا نسلّم صحة اجراء الاستصحاب بالنسبة إليها كما هو كذلك في مثال ما نحن فيه فإنّ الملازمة بين توريث الشخص وموت مورّثه لم تدل عليها آية ولا رواية وإنّما ورد (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(٢) و (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(٣) وما ترك الميت من حق أو مال فهو لوارثه (٤) وأشباه ذلك ، لكن العقل بملاحظة هذه النصوص ينتزع الملازمة بين موت الوالد وإرث ولده فيقال لو مات الأب ورثه ابنه ، فهذه القضية المنتزعة ليست شرعية حتى يقال إنّها حكم شرعي يستصحب ويستغنى بذلك عن استصحاب الموضوع فتدبّر ، فإنّ هذه دقيقة نافعة وسيأتي عند التكلّم على رابع تنبيهات الاستصحاب لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١٣.

(٢) النساء ٤ : ١١.

(٣) الأنفال ٨ : ٧٥.

(٤) ورد مضمونه في الوسائل ٢٦ : ٢٤٧ ، ٢٥١ / أبواب ولاء ضمان الجريرة ب ٣ ح ٤ ، ١٤.

١٣٠

قوله : وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب (١).

سيجيء كفاية احتمال بقاء الموضوع في الاستصحاب ، ومجمل الكلام فيه أنّ ما استدلّ به في المتن وغيره لاشتراط بقاء الموضوع من عدم إمكان إثبات العارض بدون المعروض والوصف بدون الموصوف لا يدلّ على أزيد من شرطية احتمال بقاء الموضوع ، مثلا لو شككنا في بقاء حياة زيد فشككنا في حرمة ماله وزوجته فإنّ استصحاب حرمة ماله وزوجته لا يحتاج أوّلا إلى إحراز حياته بالعلم ثم إثبات حرمة ماله ، لأنّ معنى استصحاب حرمة مال زيد وزوجته الحكم ببقاء هذا العارض لمعروضه الواقعي وهذا هو المتيقن في السابق ، وبعبارة اخرى حرمة المال المضاف إلى زيد كانت متيقنة في السابق فيحكم ببقائها.

وبالجملة المحال ليس إلّا إثبات العارض بدون المعروض ونحن نحكم بثبوت العارض في معروضه على النحو الذي كان متيقنا في السابق ، فالقدر الذي يحتاج إليه من بقاء الموضوع لئلّا يلزم خلو العرض عن محل يقوم به يثبت بنفس استصحاب الحكم ، والزائد على ذلك غير محتاج إليه ، نعم لو علمنا بعدم الموضوع لا معنى لاستصحاب حكمه ، كما أنه لو احتيج إلى إثبات الموضوع لمطلب آخر غير استصحاب حكمه لا بدّ من إحرازه ، ومن ذلك ما لو شك المأموم في بقاء حياة إمامه في صلاته فلا يكفي له استصحاب بقاء عدالة الإمام لأنّه يجب أن يكون مقتديا بالعادل لا بالعدالة ، فلا بدّ هنا من إحراز بقاء الشخص العادل ، لكن لو فرض أنّ الأثر الفلاني مترتّب على وصف عدالة زيد فلا يتوقّف استصحابه على العلم بوجود زيد ، وهو كذلك فيما نحن فيه فإنّ الحرمة قد تعلقت بمال زيد وزوجته ، ولا تعلق لها بزيد نفسه فلا مانع من استصحابها على الوجه الذي

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١٤.

١٣١

ذكرنا ، فافهم واغتنم وتمام البيان في التنبيهات إن شاء الله تعالى.

قوله : وأمّا القول الخامس (١).

استدلّ لهذا القول مضافا إلى الوجهين المذكورين في المتن بوجوه : منها أنّ أخبار الاستصحاب إنما تدل على البناء على الحالة السابقة في غير الأحكام الشرعية الكلّية بقرينة استشهاد الإمام (عليه‌السلام) بها للأحكام الجزئية من الطهارة والحدث والخبث ونحوها.

وفيه أوّلا : أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد وقد بيّنا عمومها في محلّه. وثانيا : أنّ بعض تلك الأخبار دالّ على الكلّية من غير الاشارة إلى محل ومورد كقوله (عليه‌السلام) «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه» الخ (٢) وقوله (عليه‌السلام) «إذا شككت فابن على اليقين» (٣).

ومنها : أنّ الأخبار إنما صدرت في زمان حضور الإمام (عليه‌السلام) الذي انفتح فيه باب العلم ، والمرجع في مثل ذلك الزمان في الأحكام الشرعية الكلية هو الإمام (عليه‌السلام) ليبيّن الأحكام الواقعية لا الاستصحاب المجعول لحالة العجز عن الوصول إلى الأحكام ، وكون الغرض بيان حكم خصوص أمثال زماننا في غاية البعد.

وفيه : بعد النقض بأدلّة سائر الاصول الجارية عند اشتباه الحكم الشرعي كأخبار البراءة والاحتياط والتخيير ، أنّ الوصول إلى حضرة الإمام (عليه‌السلام) في كلّ وقت لكل أحد في زمان حضوره غير ميسور غالبا كيف والإمام (عليه

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١٦.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٦ و ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

(٣) الوسائل ٨ : ٢١٢ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٨ ح ٢.

١٣٢

السلام) بالمدينة مثلا ورجل بخراسان يشتبه عليه الحكم فلا بدّ من قاعدة يرجع إليها عند الشبهة هذا ، مضافا إلى أنّ جعل الاصول والأمارات جائز حال انفتاح باب العلم على ما بيّن في أول رسالة الظن مفصّلا.

ومنها : أنّ اعتبار الاستصحاب في الأحكام عند القائلين به مشروط بالفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به ، ولا إشارة في أخبار الاستصحاب إلى وجوب الفحص أوّلا ثمّ البناء على الحالة السابقة بل مطلقة في البناء على الحالة السابقة فيكشف ذلك عن أنّ مدلولها مختص بما لا يجب فيه الفحص وهو الشك في الامور الخارجية والأحكام الجزئية.

وفيه : أنّ غاية ما يلزم ذلك تقييد إطلاق الأخبار بما بعد الفحص بالنسبة إلى الشبهة الحكمية ولا ضير فيه ، ويشهد له أنّ أدلّة البراءة والتخيير والاحتياط أيضا مطلقة غير مقيدة بالفحص مع أنّها مشاركة للاستصحاب في أنّ اعتبارها بعد الفحص في الشبهة الحكمية حتى الاحتياط على مذاق الأخباري.

ومنها : أنّ الأخبار منصرفة عن الشبهة الحكمية لا لأجل التخصيص بمواردها من الشبهات الموضوعية حتى يجاب بأنّ العبرة بعموم الجواب لا بخصوص المورد ، بل لأجل أنّ العموم المستفاد من قوله «لا تنقض اليقين» إنّما يسري إلى ما هو من سنخ المورد فيتبادر منه الشبهات الموضوعية دون الحكمية.

أقول : ولعلّ هذا يرجع إلى العهد بوجه لا العموم وإلّا فمن الواضح أنّ مقتضى اللفظ العموم ولا نعرف وجها للانصراف المذكور.

قوله : وثانيا بالحل بأنّ اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة الخ (١).

هذا الجواب يتم به حل الإشكال بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية ، وكونه

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١٩.

١٣٣

جوابا بالنسبة إلى الشبهات الحكمية محل تأمّل ، والفرق أنّ الشبهة الموضوعية لا اشتباه فيها في موضوع حكم الشارع ولا في حكمه ، بل ما ينبغي أن يؤخذ من الشارع معلوم حكما وموضوعا وانطباق الموضوع على مصداقه بالنسبة إلى الزمان الأول أيضا معلوم في الخارج ، وتشخيص الموضوع في هذه المرتبة ليس وظيفة للشارع بل منوط بنظر المكلّف وبحكم العرف ، مثلا ورد عن الشارع الماء كلّه طاهر وورد الماء القليل ينجس بالملاقاة وشككنا في ملاقاة هذا الماء للنجاسة ، نقول هذا الماء لكونه مصداقا لكلّي الماء الوارد في لسان الدليل قطعا كان طاهرا قطعا وشك في نجاسة شخص هذا الماء ، ولا يضرّ حصول تغيير في الموضوع في الجملة في بعض المقامات ممّا لا ينافي صدق بقاء الموضوع عرفا بالمسامحة ، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية كالماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه والمتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة فإنّ الموضوع في لسان الدليل مردّد بين كونه مطلق الماء والتغيير علّة لحدوث الحكم حتى يبقى الحكم بعد زواله ، وكونه الماء بوصف التغيّر بحيث يكون الحكم دائرا مداره حتى يرتفع الحكم بزواله ، وحينئذ فإذا شك في بقاء نجاسته بعد زوال تغيّره ـ وإن كان الموضوع بمعنى معروض المستصحب باقيا قطعا لكن الموضوع الذي اعتبره الشارع مناطا للحكم غير معلوم البقاء لاحتمال كونه الماء مقيدا بوصف التغيّر ـ فاستصحاب نجاسته من قبيل إسراء حكم موضوع إلى موضوع لا يعلم كونه عين الموضوع الأول ، فافهم وتأمّل فإنّ المسألة محل الإشكال ، نعم لا يجري الإشكال في جميع موارد الشبهة الحكمية فإنه إذا احرز المقتضي للحكم كالوضوء للطهارة وجواز الدخول في الصلاة وشك في جعل شيء رافعا له كالمذي فهذا لا يرجع إلى الشك في الموضوع بوجه فإنّ الموضوع أي المتوضئ السابق باق في زمان الشك قطعا.

١٣٤

قوله : إنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أدلّة الاحتياط (١).

سيأتي منّا إن شاء الله تعالى في أواخر رسالة الاستصحاب عند التكلّم في معارضة الاستصحاب مع سائر الاصول منع حكومة أخبار الاستصحاب على أخبار الاحتياط على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط.

قوله : وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع (٢).

الحقّ أنّ التفصيل مع هذا المنع أيضا معقول وإن لم يساعده دليل ، فإنّ هذا كلام آخر ، وبيان ذلك أنّ هنا مفاهيم معيّنة ومعاني مشهورة تسمّى بالأحكام الوضعية كالشرطية والسببية والمانعية والجزئية إلى غير ذلك ، غاية الأمر أنّ المنكر لمجعولية الأحكام الوضعية يقول إنّ الامور المذكورة مرجعها إلى الأحكام التكليفية وليست مجعولة بجعل مستقل على حدة وإنّما هي منتزعة من الأحكام التكليفية ، وحينئذ فمراد المفصّل من حجّية الاستصحاب في الوضعيات دون التكليفيات صحّة استصحاب هذه الامور المذكورة دون غيرها ، ومرجع استصحابها إلى استصحاب منشأ انتزاعها أي التكاليف التي ينتزع منها هذه الامور ، فكما أنّ نفس الحكم الوضعي مرجعه إلى التكليف كذلك استصحاب الحكم الوضعي مرجعه إلى استصحاب التكليف الذي انتزع منه الوضع ، ويرجع محصّل التفصيل بالأخرة إلى أنّ الأحكام التكليفية قسمان قسم ينتزع منه الوضع والاستصحاب فيه حجة ، وقسم لا ينتزع منه الوضع وهو تكليف محض ليس الاستصحاب فيه حجة ، نعم لو أراد المفصّل القول بحجية الاستصحاب في الوضعيات المتأصّلة غير المنتزعة وعدمها في التكليفيات مطلقا كان ذلك غير

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٢٥.

١٣٥

معقول على القول بعدم مجعولية الأحكام الوضعية ، والظاهر أنّ هذا ليس مراد المفصّل.

قوله : ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعي حكم مستقل (١).

المراد من الحكم الوضعي ما عدا الأحكام الخمسة التكليفية ممّا ينسب إلى الشارع من الامور الاعتبارية التي لا حقيقة لها مع قطع النظر عن اعتبارها وتقريرها وتثبيتها ، وإنّما يتحقّق حقيقتها بنفس ذلك الاعتبار والتقرير ، ولا ينحصر في اثنين أو ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو عشرة كما قيل بذلك كلّه ، بل بغير ذلك ممّا لا طائل في نقله ، بل هي كثيرة جدّا ولا داعي إلى تكلّف إرجاع بعضها إلى بعض كما فعله بعضهم ، منها : الخمسة المعروفة وهي السببية والشرطية والمانعية والصحة والفساد ، ومنها : الجزئية ، ومنها الملكية والزوجية والرقية والحرية والضمان وحق الخيار والشفعة بل سائر الحقوق الثابتة في الشرع حتى حقوق الزوج والزوجة من القسم وغيره ، ومنها : حجية جميع الأدلّة والأمارات والاصول في الأحكام والموضوعات ، ومنها : الطهارة والنجاسة والحدث الأصغر والأكبر والطهارة عن كلّ منهما ، ودعوى أنّها امور واقعية كشف عنها الشارع كما سيأتي عن المصنف خلاف الإنصاف ، ومنها : أنواع الولايات كولاية الأب والجد والحاكم وعدول المؤمنين وولي الميت والوكالة والوصاية فإنّها امور متحقّقة مغايرة للأحكام المترتبة عليها أو المنتزعة هي منها وليست امورا واقعية ، ومنها : التنزيلات الشرعية ككون الطواف بالبيت صلاة وكون التراب طهور المؤمن وكون الرضاع لحمة كلحمة النسب ، ومنها : أنواع الحجر فإنّها في طرف العكس من

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٥.

١٣٦

الولايات ، فكما أنّ الولاية نوع سلطنة وقاهرية يقتضي بسط اليد ويكون منشأ لجواز التصرفات المخصوصة كذلك الحجر نوع ذل ومنقصة يقتضي قبض اليد ويكون منشأ لعدم جواز التصرفات ، وبالجملة جميع الامور الاعتبارية الشرعية التي ليست بتكليف أو الاعتبارات العرفية التي أمضاها الشارع معدود في الأحكام الوضعية ، ولعلّ المتتبّع يظفر بأزيد ممّا ذكرنا بكثير.

وكيف كان ، فلنقدّم الكلام في تحرير محل النزاع فنقول : لا ريب في أنّ الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية مفهومان متغايران متباينان ، فإنّ إيجاب الصلاة عند الدلوك معنى وسببية الدلوك لوجوب الصلاة معنى آخر كما سيصرّح المصنف في المتن بأنّ تباينهما مفهوما أظهر من أن يخفى كيف وهما محمولان مختلفا الموضوع.

ثم إنّه لا إشكال كما أنّه لا خلاف على القول بكون الطلب غير الارادة كما هو التحقيق في أنّ الأحكام التكليفية مستقلّة بالجعل والتقرير ، ومعنى مجعوليتها ثبوتها وتقرّرها بفعل من الجاعل وبانشاء من الشارع عن مصلحة على مذاق العدلية أو لا عن مصلحة على مذاق الأشاعرة بعد أن لم يكن ثابتا قبل هذا الجعل والانشاء ، وحقيقتها امور اعتبارية متأصّلة موجودة في الخارج بعد الجعل لا كوجود الجواهر والأعراض المحسوسة بل كوجود المعاني غير المحسوسة كالتأديب والتعظيم والتوهين والاخوّة والابوّة والبنوّة وشبهها ، فإذا أنشأ الوجوب بقوله افعل كذا مثلا فإنه قرّر أمرا لم يكن قبل ذلك مقررا وثابتا ، ويترتّب على هذا المجعول بعد هذا التقرّر والثبوت آثار وغايات ولوازم كالاطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب ونفس الثواب والعقاب إلى غير ذلك ، ولا إشكال أيضا في أنّه يتبع جعل هذه التكاليف أحكام وضعية انتزاعية غير متأصّلة بمعنى صحة انتزاع العقل من تلك التكاليف معاني أخر غير مستقلّة بالجعل ، ويصح أن

١٣٧

تنسب تلك المعاني إلى جعل الشارع بالعرض والمجاز وإلّا فمجعولة في الواقع وفي الحقيقة ليس سوى التكليف المحض ، إنما الإشكال والخلاف في أنه هل يمكن للشارع جعل الأحكام الوضعية مستقلا بجعل على حدة مغاير لجعل التكليف بحيث يحصّل في الخارج أمرا مجعولا متأصّلا منشأ لمثل آثار الأحكام التكليفية واللوازم والغايات ولم يكن تابعا لجعل شيء آخر ، كأن ينشأ سببية الدلوك لوجوب الصلاة ويقول جعلت الدلوك سببا للوجوب بعد أن لم يكن لمصلحة أو لا لها على القولين ، ويتبعه وجوب الصلاة عند الدلوك لا محالة ، فالمثبت للحكم الوضعي يدّعي إمكان هذا المعنى فيحمل عليه الخطابات الواردة في الشرع بلسان الوضع ، والمنكر يدّعي استحالته فيحمل تلك الخطابات على أنّ المقصود منها جعل التكاليف التي يصح انتزاع هذا الوضع منها ، ويكون التعبير بذلك الأمر الانتزاعي لنكتة لا نعرفها أو نعرفها أحيانا.

ثم لا يخفى أنّ التكليف الذي يتبع الوضع يكون متأصلا مستقلا بالجعل ليس كالوضع التابع للتكليف وليس محض الانتزاع العقلي الذي لا حقيقة له ، أمّا على قول منكري الحكم الوضعي فواضح ، لأنّ المقصود منه جعل التكليف ليس وراءه مجعول أصلا ، وأمّا على قول المثبتين فلأنّ جعل الشارع شيئا سببا للوجوب من قبله لا يعقل من دون جعل إيجاب من عنده بعد وجود السبب فيكشف الخطاب الدال على الجعل الأول أعني الوضع عن جعل التكليف الذي يتبعه ، فيتحصّل مجعولان متأصّلان أحدهما مصرّح به في لسان الدليل أي الوضع والآخر غير مصرح به مفهوم منه بالملازمة العقلية ، نظير وجوب الشيء ووجوب مقدّمته على القول به فإنّ الأمر يدلّ صريحا على وجوب نفس الواجب ويدلّ على وجوب مقدّمته أيضا بحكم العقل بالملازمة بينهما.

ولا يخفى أنّه لا يلزم عقلا أن يكون الوضع مستعقبا للتكليف وإن كان كذلك

١٣٨

في الأغلب ، فلو قال مثلا جعلت العمل الفلاني سببا لطول العمر فليس يلزم أن يكون ذاك العمل مطلوبا مأمورا به ، بل يمكن أن يكون بلا حكم بالمرّة ، كما لا يلزم أن يكون التكليف مستعقبا للوضع كأغلب المحرّمات فإنّها لا ينتزع منها وضع أصلا.

ثم اعلم أنه احتمل أو قيل إنّه لا ثمرة لهذا النزاع فيلغو متعبة تحقيق المسألة على القولين ، وربما يستشعر هذا من الماتن حيث إنّ ممشاه في الفقه ممشى غيره ممّن يقول بالأحكام الوضعية ويعبّر بالشرطية والجزئية والمانعية والسببية والصحة والفساد والطهارة والنجاسة إلى غير ذلك ويسوق كلامه على هذا المجرى كما يعبّر غيره ويسوق كلامه ، وإن كان هناك فرق عنده وثمرة فكان عليه تغيير العنوان أو التنبيه على جهات الاختلاف ووجوه الثمر.

لكن التحقيق أنه يترتّب عليه ثمرات كثيرة منها : أنه لو قلنا بمجعولية الأحكام الوضعية أمكن ثبوتها في موارد العلم بعدم التكليف الذي يتبعها بل في مورد لا يحتمل تكليف أصلا لعدم قابلية المحل أو لعدم اجتماع شرائط التكليف كما في الصبي والمجنون والعاجز والمضطر والجاهل في الجملة ، فإن قلنا بقول المثبت نحكم بضمان هؤلاء الأشخاص في إتلافاتهم مثلا بل نقول بضمانهم باليد أيضا ، ويترتّب عليه آثار اشتغال ذممهم بالبدل ، وأمّا على قول النافي فلا بدّ من أن يترقّب زمان التكليف ، فإن اجتمع شرائطه تعلق وإلّا لم يكن حكم أصلا ، وما يتكلّف في دفع هذه الثمرة من أنّ معنى ضمان الصبي والمجنون مثلا على قول النافي وجوب دفع البدل بعد البلوغ والافاقة أو وجوب دفع الولي من مال الصبي أو المجنون بدل التالف ، وليس هناك أثر يترتّب على قول المثبت عند عدم حدوث التكليف المزبور ولا يترتّب على قول النافي ، مدفوع بأنّا نفرض عدم تحقّق زمان تعلق التكليف بأن مات الصبي أو المجنون قبل البلوغ أو الافاقة ولم

١٣٩

يكن لهما مال يتعلّق تكليف الولي بالأداء منه ، بل ولو فرض بلوغه أو إفاقته ولم يكن له مال حتى يصح تكليفه بأداء البدل ، فعلى قول المثبت يكون الضامن المذكور مشغول الذمة يصح إبراؤه والاحتساب عليه من خمس أو زكاة أو مظالم ، ويحصل التهاتر لو اشتغل ذمة مالك التالف بمثل ما اشتغل به ذمة المتلف ، إلى غير ذلك من الآثار ، وعلى قول النافي لا يمكن ترتيب هذه الآثار أصلا.

ومنها : اختلاف مقتضيات الاصول على القولين ، مثلا لو شك في أنّ نجاسة ولوغ الخنزير هل ترتفع بالغسلات الثلاث أم يحتاج إلى السبع ، وكذا مطلق النجاسة يرتفع بالغسل مرة أم يحتاج إلى الغسل مرتين ، وكذا محل النجو يطهر بالحجر ذي الجهات الثلاث أم يحتاج إلى تعدّد الأحجار الثلاث ، فعلى قول المثبت يجري استصحاب النجاسة إلى أن يعلم الرافع بالغسلات السبع في الأول والغسل مرتين في الثاني وتعدّد الأحجار في الثالث ، وأمّا على قول النافي فيقال إنّ الاشتغال بالأقل معلوم والأصل عدم التكليف بالأكثر ، فيكتفى بالأقل ويحكم بالبراءة عن الزائد ، فاختلف مقتضى الأصل بالنسبة إلى القولين ، لكن هذا المثال إنّما يتم بناء على كون الطهارة والنجاسة من الامور الاعتبارية المجعولة أو المنتزعة لا من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع على خلاف التحقيق كما احتمله في المتن.

وقد يمثّل لهذا العنوان أعني اختلاف مقتضى الاصول بما لو شك في جزئية شيء للمركّب الارتباطي المأمور به ، فعلى قول المثبتين تجري أصالة عدم جزئية المشكوك فيه ويكون حاكما على أصالة الاشتغال بالمركب ، وليس من قبيل الأصل المثبت كما توهم وقد مرّ وجهه فيما يتعلق بالجزئية والشرطية في أواخر أصل البراءة ، وأمّا على قول النافين فأصالة الاشتغال محكمة تقتضي إتيان الجزء المشكوك ، ولا يقدّم عليها أصالة عدم وجوب الجزء بل هي غير جارية ، لأنّ

١٤٠