حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

التسامح على تقديره بعد العلم بجزئية المتعذّر ، وقياسه بعدّ العرف الماء الباقي في الحوض عين الماء السابق الذي قد اخذ مقدار منه بالنسبة إلى معروض الكرية ليس في محله ، إذ المقدار المأخوذ من الماء هناك لم يعلم دخلها في تحقق الكر فلعله كان زائدا على الكر ، بخلاف ما نحن فيه لفرض الجزئية فيه.

ثم إنه قد مر مرارا الإشكال في صحة استصحاب الكرية أيضا لعدم بقاء الموضوع ، نعم يمكن إجراء استصحاب عصمة شخص هذا الماء للعلم بها سابقا حيث إنّ هذا الماء كان في السابق كرا أو جزءا للكر ، وعلى التقديرين كان عاصما معصوما والأصل بقاء وصفه بالعصمة.

قوله : وفيما لو كان المفقود شرطا فإنه لا يجري الاستصحاب على الأول (١).

لعلّ وجهه أنّ فاقد الشرط يعدّ مباينا لواجده ، فلا يصح أن يقال إنّ هذه الأجزاء الفاقدة للشرط كانت واجبة قبل تعذّر الشرط فيستصحب وجوبها.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه إن تم يقتضي عدم جريان الاستصحاب في فاقد الشرط على التوجيه الثاني أيضا بالأولى ، لأنّ مبناه أن يعدّ الفاقد للجزء أو الشرط عين الواجد عرفا وكيف يتصوّر هذا مع المباينة بينهما بالنسبة إلى الشرط ، لكن لمانع أن يمنع المباينة المذكورة على إطلاقه ، فإن سلّمنا ذلك في مثل الرقبة الواجدة لشرط الإيمان والفاقدة له فلا نسلّم في مثل الصلاة الواجدة لشرط القبلة أو الستر ونحوه والفاقدة له بل الحال فيه كالجزء سواء ، فليتأمل.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨١.

٣٢١

قوله : كشف عن صحة الأول من الأخيرين (١).

قد عرفت الإشكال في التوجيه الأول والثاني مفصّلا ، والإشكال في التوجيه الثالث أيضا واضح لأنه مبني على حجية الاصول المثبتة لأنه من أقوى أفرادها.

ثم إنّ هنا توجيها رابعا سليما عن الإشكالات وهو أن يستصحب الوجوب النفسي الثابت للأجزاء الميسورة سابقا في ضمن الكل بأن يقال إنّ الوجوب النفسي المتعلق بالمركّب قبل تعذّر الجزء قد تعلق بكل جزء جزء منه ضمنا لأنّ المركّب عين الأجزاء ، وعند تعذّر الجزء يشك في بقاء ذلك الوجوب بالنسبة إلى الأجزاء الباقية فالأصل بقاؤه.

فإن قلت : إنّ هذا أيضا غير صحيح ، لأنّ الوجوب النفسي الضمني قد ارتفع قطعا بتعذّر الجزء ، والذي يراد ثبوته هو الوجوب النفسي الاستقلالي وهو معلوم الانتفاء في السابق مشكوك الحدوث في اللاحق.

قلت : إنّ الوجوب الضمني المتحقق في السابق لو بقي بحكم الشارع إلى ما بعد تعذّر الجزء يصير وجوبا استقلاليا قهرا وهو هو بعينه لم يتبدّل إلى فرد آخر من الوجوب ، يتّضح ذلك بملاحظة نظائره مثل ما لو علم بوجوب شيء موسّعا إلى غاية كذا ثم شك في بقائه في أثناء الوقت بحيث لم يبق من الوقت إلّا مقدار أدائه ، فلا ريب في صحة جريان استصحاب الوجوب السابق ، مع أنّ الواجب على تقديره يكون مضيّقا حينئذ البتة ، وهذا التضييق من لوازم بقاء الوجوب الموسّع إلى هذا الحين لا أنه تبدّل ذلك الوجوب بالوجوب الآخر ، ومثل ما لو علم بوجوب شيء في السابق على نحو التخيير بينه وبين شيء ثم شك في بقاء ذلك

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٢.

٣٢٢

الوجوب عند تعذّر ذلك الآخر ، ولا مانع من استصحاب وجوبه ، إلّا أنّ لازم بقاء ذلك الوجوب أن يكون الباقي تعيينيا بالعرض ، وكذا لو علم بوجوب شيء على الشخص كفاية ثم شك في بقائه عند انحصار من يقوم به الواجب في هذا الشخص فإنّ لازم بقائه أن يكون عينيا ، ومثل استصحاب عدم الوجوب أو التحريم الأزلي فإنّ هذا العدم لم يكن في الأزل حكما شرعيا وبقاؤه إلى هذا الزمان ملازم لأن يكون حكما إلى غير ذلك ، وهكذا فيما نحن فيه لازم بقاء الوجوب الضمني الثابت لغير المتعذّر من الأجزاء إلى حين التعذّر أن يصير ذلك الوجوب بعينه استقلاليا فافهم ذلك.

لكن قد عرفت في صدر المبحث أنه يمكن أن يعارض استصحاب وجوب بقية الأجزاء باستصحاب عدم وجوبها منفردة عن الجزء المتعذّر أو استصحاب جزئية المتعذّر اللازم منه سقوط التكليف وهو حاكم على استصحاب الوجوب كما لا يخفى.

تنبيهان ، الأول : أنه لو كان الواجب الذي تعذّر بعض أجزائه فعلا واحدا زمانيا كالجلوس ساعة مثلا في المسجد أو الوقوف بعرفات من الزوال إلى الليل وأمثاله وتعذّر الفعل من أوّله أو وسطه جزء ، يجري استصحاب وجوب الجلوس أو الوقوف بالنسبة إلى بقية أجزاء الوقت بأحد التقريرات الثلاثة بل الأربعة المتقدمة ، إلّا أنه يعارض هنا استصحاب الوجوب فيما بعد الجزء المتعذّر باستصحاب عدم الوجوب الثابت في الجزء المتعذّر ، وهو نظير ما تقدم من المحقق النراقي في استصحاب الزمانيات من معارضة استصحاب الوجوب باستصحاب عدم الوجوب الأزلي فإنه عكس ما نحن فيه ، وقد مر جوابه في المتن من الفرق بين قيدية الزمان وظرفيته ، ففيما نحن فيه يجري استصحاب عدم الوجوب بعد الجزء المتعذّر بناء على الظرفية ولا يجري استصحاب الوجوب

٣٢٣

لانقطاعه وتبدّله بالعدم.

الثاني : أنه قد تكرر من المصنف في فقهه واصوله أنّ الأصل في الشك في الأجزاء والشرائط في أفعال الطهارات الثلاث هو الاشتغال وإن قلنا بالبراءة في كلي مسألة الشك في الجزء والشرط ، وذلك لأنّ الأمر بالوضوء والغسل ليس إلّا لأنه محصّل للطهارة المعنوية التي هي شرط للصلاة ويجب تحصيلها ولا يتم ذلك إلّا بالاحتياط فنقول : إنّ لازم ما ذكره أنه لو تعذّر بعض أفعال الطهارات الثلاث لا ينفعه استصحاب وجوب بقية الأجزاء لأنه غير محصّل للطهارة إلّا بدليل مفقود في الفرض ، لكن المبنى محل تأمّل قد ذكرنا وجهه في رسالة أصل البراءة عند تعرّض المصنف له فتذكّر.

قوله : وكذا لا فرق بناء على عدم الجريان الخ (١).

قد يكون المتعذّر في المركّب الذي حكم بوجوب بعض أجزائه بقاعدة الاشتغال هو نفس الجزء الذي حكم بوجوبه بقاعدة الاشتغال ، وقد يكون المتعذّر هو الأجزاء الباقية والميسور هو ذلك الجزء فقط ، وما تعرّض له الماتن هو الأول ، وأمّا الثاني فبناء على عدم جريان الاستصحاب في أصل المسألة بمنع التوجيهات الثلاثة لا يجري الاستصحاب هنا أيضا بالأولى ، وأمّا بناء على جريان الاستصحاب في أصل المسألة فقد يقال بعدم جريانه هنا لأنّ وجوب هذا الميسور في السابق لم يكن إلّا بحكم العقل مقدمة للعلم بفراغ الذمة عن التكليف المعلوم ، وهذا المعنى مفقود عند تعذّر باقي الأجزاء.

وبعبارة اخرى ليس هناك تكليف معلوم يجب الاتيان بهذا الجزء مقدمة لامتثاله ، وهذا يرجع إلى ما تقدم في المتن من أنه لا معنى لاستصحاب حال العقل

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٢.

٣٢٤

لأنه لا يخلو إما أن يكون مناط حكم العقل موجودا في الزمان الثاني فلا محل للاستصحاب للعلم بالحكم ، وإمّا أن لا يكون المناط موجودا فلا يجري الاستصحاب أيضا للعلم بعدم الحكم ، لكن التحقيق جريان الاستصحاب هنا بناء على ما حققنا سابقا من أنه يمكن أن يكون مناط حكم العقل مجملا عنده إلّا أنه علم بوجوده في زمان لوجود جميع ما يحتمل أن يكون دخيلا في المناط ثم يحصل الشك بفقد بعض ما يحتمل كونه دخيلا في المناط ، وعلى هذا يصح فيما نحن فيه أن يقال إنّ هذا الجزء قد ثبت وجوبه ظاهرا في السابق بحكم العقل ثم شك في بقاء الوجوب فالأصل بقاؤه فليتأمّل.

قوله : لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء الخ (١).

توضيحه : أنّ قاعدة الاشتغال التي اقتضت وجوب الجزء المشكوك حال عدم تعذّره تقتضي وجوب بقية الأجزاء حال تعذّره ، ولا يجري مثل هذا فيما إذا تعذّر بعض الأجزاء التي ثبت وجوبها بالدليل ، لما مر في صدر المسألة من الإشكال وهو أنّ وجوب المركّب الذي علم الاشتغال بالنسبة إليه قد ارتفع قطعا بعد تعذّر الجزء ، والاشتغال ببقية الأجزاء مشكوك من الأول ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّا لا نعلم بارتفاع ما وجب أوّلا لاحتمال أن يكون الواجب من الأول خصوص هذه الأجزاء الميسورة فالوجوب باق ، وهذا نظير ما لو اضطر إلى ارتكاب أحد الإناءين في الشبهة المحصورة أو اريق أحدهما فيقال يجب الاجتناب عن الآخر بنفس قاعدة الاشتغال ، إذ لا يأمن العقل من تبعة ذلك التكليف المعلوم إلّا بالاجتناب عن الاناء الآخر وهذا يجري فيما نحن فيه بعينه.

ثم إنّ العبارة التي نقلها في المتن عن هذا المتخيّل لا تدل على أنه تمسك

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٢.

٣٢٥

بالاستصحاب ، بل بمجرد القاعدة ، فما أورد عليه المصنف أوّلا ساقط ، نعم يمكن أن يكون في كلامه قرينة على إرادته التمسك بالاستصحاب ونحن لا نعرف القائل حتى نتفحّص عن كلامه.

ثم على تقدير أنّ القائل تمسك باستصحاب الاشتغال في مورد جريان القاعدة لا بأس به على ما حققناه سابقا من أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في مورد القاعدة إن كان موافقا لها ، وإنما نمنع من جريانه لو كان مخالفا لها.

قوله : لا ينفع إلّا بناء على الأصل المثبت (١).

قد عرفت في بحث الشبهة المحصورة أنّ هذا خارج عن الأصل المثبت ، إذ بعد جريان استصحاب نفس التكليف السابق يثبت موضوع حكم العقل بوجوب الاطاعة بقدر الامكان ، ولا يحتاج إلى إثبات أنّ الواجب الواقعي هو هذا الميسور.

قوله : وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلي الخ (٢).

لا يخفى أنّ الاستصحاب في المقام إنما يكون من قبيل استصحاب الكلي بناء على التوجيه الأول من التوجيهات الثلاثة دون الأخيرين.

ثم إنّ هنا فرقا آخر بين استصحاب التكليف وقاعدة الاشتغال أو استصحابها من حيث إنّ الاستصحاب يجري وإن كان التعذّر من أوّل الوقت ، وأمّا القاعدة أو استصحابها فإنما تجري فيما إذا طرأ التعذّر في أثناء الوقت بعد أن مضى من الوقت بمقدار الفعل وتنجّز الخطاب به.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٣.

٣٢٦

ثم لا يخفى أنّ عقد المسألة لما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب الارتباطي ، وأمّا المركّب الاستقلالي إذا تعذّر بعض أجزائه فلا ريب في وجوب بقية أجزائه باطلاق دليلها ، ولو فرض عدم إطلاق لدليلها أو الاغماض عنه يجري استصحاب وجوبها من غير إشكال ، ولو شك في كونه ارتباطيا أو استقلاليا فبناء على جريان الاستصحاب في الارتباطي عند تعذّر بعض الأجزاء لا إشكال في جريان الاستصحاب هنا أيضا لدوران الأمر بين احتمالين يجري الاستصحاب على تقدير كل منهما ، وأمّا بناء على عدم جريان الاستصحاب في الارتباطي يمكن إجراء استصحاب مطلق الوجوب الثابت قبل التعذّر ، والظاهر أنه من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي لتردد الوجوب المستصحب بين كونه نفسيا لاحتمال كون المركب استقلاليا وكونه غيريا لاحتمال كونه ارتباطيا ، وقد مر سابقا أنه يمكن إرجاع الاستصحاب في هذا القسم إلى الاستصحاب الجزئي بأن يستصحب شخص الوجوب الذي علم وجوده سابقا (١).

تنبيه : لو علم بوجوب الغسل مثلا وتردد بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا مقدمة للصلاة ثم تعذّرت الصلاة ، فالظاهر جريان استصحاب مطلق الوجوب الثابت أوّلا من باب استصحاب الكلي أو استصحاب شخص الوجوب السابق على ما مر.

قوله : لكنه ضعيف احتمالا ومحتملا (٢).

أمّا ضعف الاحتمال فلبعده عن مساق كلام الفاضلين ، وأمّا ضعف المحتمل

__________________

(١) أقول : هذا التقرير راجع إلى التوجيه الأول من التوجيهات الثلاثة المتقدمة ، مع أنّ الكلام هنا مبني على عدم صحته فكيف يرجع إليه ، فتدبّر.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٤.

٣٢٧

فلأنّ التمسك بالعموم إنما يجري فيما إذا ثبت وجوب الجزء بدليل مستقل يكون مخصصا لعموم وجوب بقية الأجزاء ، وليس كذلك الحال بالنسبة إلى غسل أبعاض العضو الواحد في الوضوء قطعا ، وإن احتمل بالنسبة إلى مجموع غسل عضو واحد في الوضوء بدعوى عموم وجوب غسل بقية الأعضاء لتعلق الأمر بها بالنسبة إلى كل عضو مستقلا في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وقوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(١) فتأمّل.

قوله : الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار (٢).

هذا الإجماع لا ينفع في شيء ، لأنّ مرجعه إلى أنّ جمعا من الامة فهموا من أخبار الاستصحاب عدم الفرق في موضوعه بين الشك والظن وبنوا الأمر عليه كما نفهم ذلك ونبني عليه ، ولا يكشف ذلك عن رأي الإمام (عليه‌السلام) زائدا على دلالة تلك الأخبار.

قوله : فمعناه أنّ وجوده كعدمه (٣).

إنما يتم هذا البيان إن فهم من الأدلة المانعة عن العمل بالقياس مثلا أنّ الظن القياسي بمنزلة الشك في جميع ما يترتب على موضوع الشك ، وفيه منع ظاهر ، بل غاية ما يمكن أن يدّعى استفادة كون الظن القياسي بمنزلة الشك في عدم كونه طريقا إلى الواقع وأنّ جهة كشفه بمنزلة العدم ، لا التنزيل المطلق ، والتحقيق أنّ النهي عن العمل بالقياس لا يدل على التنزيل الموضوعي أصلا ، بل على أنّ الظن

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٥.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٦.

٣٢٨

القياسي ليس بحجة لا يجوز الاعتماد عليه ، لا أنه شك وليس بظن حتى يترتّب عليه كل حكم اخذ في موضوعه الشك كمثل ما إذا نذر أنه لو شك في هذا اليوم في حكم يتصدّق بدرهم ، لزمه التصدّق على تقدير حصول الظن القياسي ، فتدبّر.

قوله : وإن كان ممّا شك في اعتباره الخ (١).

لا ريب أنّ المراد باليقين السابق هو اليقين بالواقع ، وكذا المراد بالشك هو الشك في الواقع ، والظن المشكوك الحجية لا يدخل في الشك بالواقع موضوعا جزما ، وإنما الشك في الاعتماد عليه والعمل به ، ومعنى قوله (عليه‌السلام) «لا تنقض اليقين بالشك» حرمة نقض اليقين بالواقع بالشك فيه ، فلا يشمل ما إذا ظن خلاف الحالة السابقة المتيقنة ، وإن كان هذا الظن مشكوك الحجية ، كيف ولو كان المراد من الشك هو الشك في حكم العمل كان المراد من اليقين في قوله (عليه‌السلام) «بل تنقضه بيقين آخر» أيضا هو اليقين بحكم العمل ، فيشمل ما إذا استفيد الحكم من الأدلة الاجتهادية ، فيكون العمل على الدليل الاجتهادي على خلاف الاستصحاب من باب حصول الغاية لكونه نقضا باليقين ، نظير قوله (عليه‌السلام) «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٢) فإذا علم بالقذارة فقد حصلت الغاية وارتفع الحكم بالطهارة لارتفاع موضوعه ، فيلزم أن تكون الأدلة الاجتهادية واردة على الاستصحاب مع أنها على التحقيق والمختار عند المصنف حاكمة على الاصول ومخصصة لها حكما دون الاخراج الموضوعي ، والحاصل أنّ نقض اليقين بالظن المشكوك الحجية ليس نقضا بالشك ، ولعلّه إلى ذلك أشار بقوله فتأمل جدّا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٦.

(٢) المستدرك ٣ : ٥٨٣ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٤.

٣٢٩

قوله : فظاهر كلماتهم أنه لا يقدح فيه وجود الأمارة غير المعتبرة (١).

فيه : أنّا وإن لم يحصل لنا التتبّع التام في كلماتهم إلّا أنّ ما تمسكوا به لحجية الاستصحاب من باب الظن من بناء العقلاء يشهد بأنهم لا يقولون بهذا الاطلاق المدّعى ، فإنّ بناء العقلاء على الاعتماد على الظن النوعي ما لم يحصل الظن الفعلي على خلافه كما هو كذلك في بنائهم في ظواهر الألفاظ ، وعدم اعتبار الشارع لهذا الظن على الخلاف أو المنع عن العمل به لا يثبت حجية ذلك الظن النوعي أو بناء العقلاء على اعتباره ، نعم لو كان الظن الشخصي على الخلاف حاصلا ممّا لا يرتضيه العقلاء من مثل الرؤيا والاستخارة فالظاهر أنهم لا يعبئون به ويأخذون بذلك الظن النوعي ، والسرّ في ذلك كله أنّ العقلاء لا يرون ما سوى الوصول إلى الواقع ، وليس في طريقتهم أن يتعبّدوا بشيء مطلقا ، ولذا يتحرّون أوّلا في بلوغ مقاصدهم العلم فإن لم يحصل فالظن الشخصي القوي ثم الضعيف فإن لم يحصل فالظن النوعي وهكذا.

قوله : فيؤول إلى اجتماع الظن والشك الخ (٢).

هذا كلام مستأنف يريد به بيان نفس الأمر بعد جريان الاستصحاب ، وليس تتمة لدفع التناقض المتوهم فإنه قد اندفع بكلامه السابق ، من أنّ المراد باليقين هو اليقين السابق وبالشك الشك اللاحق ، وحينئذ فلا يرد ما أورد عليه في المتن من قوله نعم يرد على ما ذكرنا من التوجيه الخ ، كما لا يرد عليه ما حكاه في المتن وأجاب عنه بالتوجيه المشار إليه ، وقد حكى المصنف هذه العبارة بعينها عن الشهيد في أول بحث الاستصحاب في رابع الامور التي ذكرها في ذيل تعريف

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٧.

٣٣٠

الاستصحاب ، ونحن قد تكلّمنا عليه هناك بما وسعنا فتذكّر والله الهادي إلى سواء السبيل.

قوله : ومراده من الشك معناه اللغوي (١).

ويمكن أن يراد من الشك الاحتمال المساوي ، ولا ينافي اجتماعه مع الظن إن كان المراد منه هو الظن النوعي ، نعم لو كان المراد الظن الشخصي كما استظهره المصنف في أول مبحث الاستصحاب من هذا الكلام المحكي عن الشهيد كان اللازم إرادة المعنى اللغوي من الشك دفعا للمنافاة.

قوله : الأول بقاء الموضوع في الزمان اللاحق ، والمراد به معروض المستصحب (٢).

ومراده ببقاء الموضوع وجوده أو ثبوته وتقرره في الزمان الثاني على نحو وجوده وتقرره في الزمان الأول ، فلا بدّ في صحة استصحاب العارض إحراز وجود المعروض أو تقرره في زمان الشك في بقاء العارض أوّلا ثم الحكم ببقاء العارض ، فإذا اريد استصحاب عدالة زيد مثلا فلا بدّ من إحراز وجود زيد في الخارج حين الشك في العدالة أوّلا ليصح الحكم ببقاء عدالته وهكذا في غيره من الأمثلة.

وحمل بعض المحققين من المعاصرين كلامه على غير هذا المعنى الظاهر ووجّه مراده بوجه آخر قال ما لفظه : والمراد ببقاء الموضوع أن يكون الموضوع في القضية المشكوكة هو الموضوع في القضية المتيقنة بعينه كي يكون الشك في اللاحق في عين ما كان الانسان على يقين منه في السابق ، مثلا إذا كان على يقين

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٩.

٣٣١

من قيام زيد ثم شك في بقاء قيامه ولو لأجل الشك في بقائه صح استصحاب قيامه ، فإنه ما شك إلّا في ثبوت القيام لزيد في الخارج في الآن الثاني بعد ما كان على يقين منه في الآن الأول ، ضرورة أنّ الشك في ثبوت النسبة بين أمرين خارجيين كما قد يكون لأجل الشك في المحمول قد يكون لأجل الشك في الموضوع مع القطع بأنّ ما هو المعتبر في جريان الاستصحاب من إحراز الموضوع وانسحاب المستصحب في نفس معروضه الذي كان معروضه في السابق ، فلا ينافي الشك في وجوده الخارجي مع القطع باحرازه المعتبر في باب الاستصحاب ، لكونه بوجوده الخارجي موضوعا للمستصحب في المقام وهو القيام ، لأنّ إحرازه ليس إلّا بأن يكون الشك في قيام من كان على يقين من قيامه وهو زيد ، والشك هاهنا في قيامه لا قيام غيره ، إلى أن قال ولعمري اعتبار بقاء الموضوع بهذا المعنى أوضح من أن يحتاج إلى مزيد بيان ومئونة برهان ، بل هو من الامور التي تكون قياساتها معها كما لا يخفى ، انتهى موضع الحاجة.

والظاهر أنه زعم أنّ مراد المصنف وغيره ببقاء الموضوع وحدة موضوع القضية المشكوكة والمتيقنة كي لا يكون إثبات المحمول في زمان الشك إثباتا لغير ذلك الموضوع فيكون قياسا لا استصحابا ، وأنت خبير بأنّ المعنى الذي زعمه لا ينبغي أن يتكلّم فيه هؤلاء الفحول كالمصنف وأمثاله بل اعتباره ملحق بالبديهيات أو يكون منها ، ومن البعيد في الغاية أن يتجشّموا في إقامة البرهان على مثل هذا الأمر الواضح والنقض والإبرام فيه على ما ترى في المتن وغيره ، والظاهر التباس الأمر على المحقق المزبور فإنّ وحدة الموضوع في القضيتين غير بقاء الموضوع الأول حال الشك ، ومحل الإشكال والاشتباه هو الثاني دون الأول ، ويشهد لما ذكرنا من أنّ مراد المصنف هو ما ذكرنا دون ما ذكره هذا المحقق أنّ الشك في الموضوع على المعنى الذي ذكره ممّا لا يتصوّر إلّا في القسم الثالث من الأقسام

٣٣٢

التي ذكرها في المتن في جواب السؤال وهو أن يكون موضوع الحكم غير مبيّن عندنا كنجاسة الكلب المردد موضوعها بين كونه الكلب ما دام كلبا أو أعم منه ومن أن يكون ملحا بالانقلاب ، وإلّا فأمثلة القسمين الأوّلين لا شك في بقاء موضوع حكمها بالمعنى الذي ذكره فإنه لا يراد استصحاب الحكم فيها لغير موضوعه الأول قطعا ، بل لا يحتمل ذلك مع أنه جعل جميع هذه الأمثلة في الأقسام الثلاثة موارد الشك في الموضوع وأجاب عمّا أورد عليه في السؤال من استصحاب الموضوع بأنّ استصحاب الموضوع لا ينفع في استصحاب الحكم.

قوله : ثم الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح (١).

يمكن تقرير هذا الدليل ببيان أوضح وأتم وأخصر وهو أن يقال لو لم يعلم بقاء الموضوع فإذا اريد إبقاء المستصحب بمعنى إبقاء عين ذلك العارض السابق له فإمّا أن يبقى في غير موضوع وهو محال ، وإمّا أن يبقى في غير الموضوع السابق وهو باطل لاستلزامه انتقال العرض المستحيل ، ولأنّ الحكم بعدم ثبوت المستصحب لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق ، وإن اريد إبقاؤه بمعنى إثبات مثل العارض السابق في غير الموضوع الأول فهو خارج عن الاستصحاب داخل في القياس ، بل حدوثه للموضوع الجديد مسبوق بالعدم فهو المستصحب.

قوله : وممّا ذكرنا يعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ولا يكفي احتمال البقاء (٢).

فيه نظر ، لأنّ الدليل المذكور إنما يتم في صورة العلم بعدم بقاء الموضوع ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩١.

٣٣٣

وأمّا في صورة احتمال بقائه فلا يلزم شيء من المحذورات المذكورة ، فلو شك في بقاء عدالة زيد مع الشك في أصل وجوده أيضا مع احتماله جاز استصحاب عدالة زيد ولا محذور ، فإنّ محل العدالة في الزمان الثاني هو زيد كما كان في الزمان الأول ، فلم يبق العارض أعني العدالة بلا محل ولا في غير الموضوع الأول ، وليس العارض عدالة اخرى غير العدالة السابقة مماثلة لها ، والحكم بعدم عدالة زيد في هذا الحال يصدق عليه النقض ، نعم استصحاب عدالة زيد بهذا المعنى مع الشك في وجود زيد لا ينفع غالبا فيما يتعلق بالأحكام الشرعية ، لأنّ الآثار الشرعية المترتبة على العدالة إنما تترتّب على وجودها المشخّص المعيّن كجواز الاقتداء والتقليد وصحة الطلاق وسماع الشهادة لا على مجرد وجود عادل في الدنيا ، إذ لا يمكن الاقتداء إلّا بشخص معيّن يصلّي أمام المقتدي وهكذا في باقي الأمثلة ، نعم يمكن فرض كون الأثر مترتبا على مجرد وجود عدالة زيد في الدنيا من غير اعتبار تعيين زيد كما إذا نذر أن يتصدّق كل يوم بدرهم ما دام عدالة زيد باقية ، فاستصحاب عدالة زيد هنا يؤثّر في وجوب التصدّق ما دام جاريا ، ولعل إطلاق كلام المصنف باشتراط العلم ببقاء الموضوع بملاحظة ندرة موضع الثمرة في غير حال العلم بالبقاء أو تخيّل عدمه ، لكن تعليله بقوله إذ لا بدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب ابقاء والحكم بعدمه نقضا انتهى ، قد عرفت ما فيه ، فإنه يصدق الابقاء والنقض بالنسبة إلى المستصحب مع الشك في الموضوع.

لا يقال : استصحاب عدالة زيد بمعنى الحكم ببقائها والبناء عليه في الخارج لا يجتمع مع التردد والشك في وجود زيد في الخارج ، لأنّ العدالة الخارجية ملازمة لوجود المحل المتقوم به وجود الحال في الخارج وإلّا لزم أحد المحاذير المتقدمة.

لأنّا نقول : فرق بين قولنا يجب العلم بوجود الموضوع في الخارج أوّلا ثمّ

٣٣٤

الحكم ببقاء عارضه بالاستصحاب ، وبين قولنا يحكم ببقاء العارض بالاستصحاب عند احتمال بقائه وبقاء موضوعه أوّلا ثم يحكم ببقاء الموضوع من باب الملازمة وعدم انفكاك بقاء العارض عن بقاء المعروض عقلا ، والذي نمنعه هو الأول دون الثاني ، ولذا لو قلنا بحجية الاصول المثبتة نحكم بترتّب الآثار المترتّبة على وجود الموضوع بمجرد استصحاب عارضه المستلزم لوجود معروضه عقلا ، فافهم وتدبّر غاية المجهود فإنّ المقام من مزال الأقدام.

قوله : فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة (١).

لا شك أنّ عدالة زيد على تقدير الحياة موضوعها زيد على تقدير الحياة ، ولا يتوقّف استصحاب العدالة التقديرية على العلم بحياة زيد فعلا ، لأنّ موضوعها زيد على تقدير الحياة كما أفاده في المتن ، لكن لو فرضنا أنّ العدالة الفعلية شرط في صحة الاقتداء والطلاق وغيرهما لا التقديرية كما هو كذلك في الشرع فلا ريب أنه لا ينفع إحراز الموضوع التقديري ، بل لا بدّ من الموضوع الفعلي وهو زيد المتصف بالحياة فعلا ، فاستصحاب الحياة ينفع في الحكم المحمول عليه وهو العدالة الفعلية ، بل يمكن أن يقال إنّ جعل موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة فاسد ، يشهد بذلك أنه لو كان الشك في العدالة مسببا عن الشك في الحياة فهل يتأمّل أحد في أنّ موضوع العدالة زيد الحي الفعلي لا زيد على تقدير الحياة ، ومن المعلوم أنّ كون الشك في العدالة مسببا عن الحياة أو مسببا عن غيرها لا يتفاوت في موضوع العدالة ، فإنّ معروضها شيء واحد على التقديرين.

قوله : أمّا الأول فلا إشكال في استصحاب الموضوع الخ (٢).

محصّل كلامه في الايراد على هذا الشق وجوه ثلاثة ، الأول : أنّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩١.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٢.

٣٣٥

استصحاب الموضوع مغن عن استصحاب الحكم ورافع للشك عنه ، إذ لا معنى لاستصحابه إلّا ترتيب الآثار الشرعية المترتّبة على هذا الموضوع. ويمكن المناقشة في ذلك بأنّ هذا لا يتم على إطلاقه ، إذ قد يكون العارض الذي شك فيه من جهة الشك في موضوعه غير الحكم الشرعي بل موضوعا له كما إذا شك في العدالة مسببا عن الشك في الحياة فاستصحاب الحياة هنا غير مغن عن استصحاب العدالة ، لأنّ العدالة ليست من الآثار الشرعية للحياة جزما.

الثاني : أنه لو أغمض عن الايراد الأول لا ينفع استصحاب الموضوع في صحة استصحاب الحكم ، لأنّ صحة استصحاب الحكم كالنجاسة ليست من آثار الموضوع أعني التغيّر ، بل أثر التغيّر نفس النجاسة ، ولا يعقل أن تكون النجاسة وصحة استصحابها كلاهما أثرا للتغيّر ، لأنّ استصحاب النجاسة ملازم للشك فيها فلا يمكن إثباته في عرض إثبات نفس النجاسة باستصحاب التغيّر ، هذا غاية توجيه الوجه الثاني.

ويمكن أن يورد عليه : بأنّ هذا الايراد الثاني من المصنف على تقدير الاغماض عن الايراد الأول ، ومع الاغماض عن أنّ النجاسة أثر للتغيّر تثبت باستصحابه لا مانع من أن يكون صحة استصحاب النجاسة أثرا للتغيّر ، والتحقيق أنّ صحة الاستصحاب ليس أثرا للتغيّر بل أثر للعلم بالتغيّر ، فإنّ التغيّر الواقعي المجهول لا يوجب صحة استصحاب النجاسة.

الثالث : أنه مع الاغماض عن الإشكال الثاني أيضا لا ينفع استصحاب الموضوع ، لأنّ صحة استصحاب الحكم ليس من الآثار الشرعية للموضوع بل هو أثر عقلي دلّ عليه حكم العقل بالتقريب السابق ، فلا يمكن إثباته باستصحاب الموضوع.

ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأنّ المقصود من استصحاب الموضوع ليس

٣٣٦

ترتيب هذا الأثر العقلي كي يبتني على حجية الاصول المثبتة ، بل ندّعي أنه بعد استصحاب الموضوع يتحقق موضوع حكم العقل بصحة الاستصحاب وجدانا بدعوى أنّ موضوع حكم العقل بصحة الاستصحاب أعم من وجود الموضوع واقعا أو تعبّدا نظير ما ذكرنا غير مرة سابقا من أنّ موضوع حكم العقل بوجوب الاطاعة أعم من الواجب الواقعي والتعبّدي ، فإن استصحب الوجوب مثلا يتحقق موضوع حكمه وجدانا ولا يتفرّع على الأصل المثبت كما قد يتوهم ، هذا.

ومحصّل ما ذكرنا هنا أنه لا مانع من إجراء استصحاب الموضوع ثم إجراء استصحاب الحكم فيما إذا لم يكن استصحاب الموضوع مغنيا عن استصحاب الحكم ورافعا للشك فيه كما في صورة كون الشك في الحكم غير مسبّب عن الشك في الموضوع ، وفي صورة كون العارض الذي يراد استصحابه غير حكم شرعي بل موضوعا له وكان الشك فيه مسبّبا عن الشك في معروضه فيستصحب الموضوع أوّلا ثم يستصحب العارض كما أورده السائل.

فإن قلت : صحة استصحاب العارض إنما يترتّب على إحراز الموضوع على ما مر بيانه ، فمجرد إبقاء الموضوع بالاستصحاب لا يكفي في صحة الاستصحاب لكونها مترتّبة على الموضوع المحرز ، والمفروض أنّ الموضوع لم يحرز بعد حتى تترتّب على هذا المركب صحة الاستصحاب.

قلت : نعم ولكن الاحراز الذي هو جزء موضوع حكم العقل بصحة الاستصحاب أعم من الاحراز الواقعي بالعلم أو الاحراز الظاهري بأمارة كالبيّنة أو بأصل كالاستصحاب ، لأنّ الدليل الدالّ عليه لا يقتضي أزيد من ذلك ، وحينئذ نقول إذا أجري استصحاب الموضوع صدق موضوع حكم العقل بصحة الاستصحاب ، لأنّ المستصحب أحد جزأيه وجزؤه الآخر أي الاحراز جاء من قبل الاستصحاب وجدانا.

٣٣٧

فإن قلت : فعلى هذا لا أثر لنفس المستصحب فكيف يستصحب.

قلت : قد مر مرارا أنه لا حاجة في صحة استصحاب الشيء وجود أثر له يراد إثباته به ، بل يكفي عدم كون الاستصحاب لغوا فيما يتعلق بالشرع ، وفيما نحن فيه كذلك إذ بالاستصحاب يتحقق جزء موضوع الحكم أو موضوع موضوعه فلم يكن لغوا وهو كاف في صحته ، ولعل المصنف إلى جميع ما ذكرنا أو بعضه أشار بقوله (رحمه‌الله) فتأمّل.

وقد يقال : إنّ وجه التأمّل أنّ صحة الاستصحاب ليست من لوازم وجود الموضوع عقلا كي يترتّب على استصحاب بقائه ، بل إنما هي متوقّفة على وجود الموضوع ، والظاهر أنه على القول بالاصول المثبتة أيضا لا يكفي مجرد ذلك ، بل لا بدّ من استلزام المستصحب للمترتب عليه.

وفيه : أنّ المراد بالاستلزام أعم من الاستلزام التام ، ألا ترى أنه يصح أن يقال إنّ لازم الطهارة المستصحبة صحة الصلاة معها يعني مع اجتماع باقي الشرائط والأجزاء ، وهكذا بالنسبة إلى كل شرط شرعي أو عقلي ، ولا ريب أنّ بقاء الموضوع من شرائط صحة الاستصحاب عقلا بالفرض فهي من آثاره ولوازمه.

قوله : وأمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا فهو في معنى استصحاب الحكم (١).

يعني فيرد عليه ما يرد على استصحاب الحكم كما سيأتي. وفيه : أنّ ما أورده على عدم جواز استصحاب الحكم من إشكال بقاء الموضوع والشك فيه غير وارد عليه ، لأنّ مرجع استصحاب الموضوع بوصف الموضوعية إلى

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٣.

٣٣٨

استصحاب الموضوع وحكمه فلم يلزم منه استصحاب الحكم بلا موضوع ، نعم يرد عليه إشكاله الآخر وهو إشكال المثبتية وهو في محله.

قوله : نعم لو شك بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفا (١).

قد سبق في المتن في ذيل كلام الفاضل التوني أنّ الزمان أيضا في عرض سائر القيود راجع إلى قيد الموضوع في الحقيقة وإن أخذ ظرفا في لسان الدليل ، لكن للزمان خصوصية من بين قيود الموضوع ، لأنّ الاستصحاب مبني على إلغاء تلك الخصوصية وإلّا لانسد باب الاستصحاب.

قوله : إلّا في الشك من جهة الرافع ذاتا أو وصفا (٢).

يعني في الشك من جهة وجود الرافع المعلوم الرافعية ، أو من جهة وصف الرافعية للشيء المعلوم الوجود ، ووجه استثناء الشك في الرافع أنّ عدم الرافع لا يمكن أن يكون قيدا للموضوع ، لأنّ مرتبة الرافع متأخرة عن الحكم ومرتبة الحكم متأخرة عن الموضوع ، فمرتبة الرافع متأخرة عن الموضوع بمرتبتين ، فلو كان عدمه قيدا للموضوع لزم تقدمه على نفسه بمرتبتين وهو محال.

وفيه : أنّ عدم الرافع أيضا في عرض سائر القيود التي يجعلها المصنف راجعة إلى قيود الموضوع ، فإنّ الرافع يراد به ما إذا وجد عند تمامية المقتضي للوجود كان مانعا للوجود ، فإذا وجد بعد وجود المقتضى بالفتح يسمّى رافعا ، فكما أنّ عدم المانع يكون قيدا للموضوع باعتبار الحدوث كذلك عدم الرافع قيد له باعتبار البقاء ، فيرجع الشك فيه إلى الشك في الموضوع ، فالشخص المتوضّي لو كان حين وضوئه يخرج منه البول كان ذلك مانعا عن حدوث الطهارة له ، ولو بال

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٥.

٣٣٩

بعد الوضوء كان رافعا للطهارة ، فكما أنه لو شك حين الوضوء في مانعية ما خرج منه قطعا كالمذي يرجع شكه إلى الشك في الموضوع كذلك إذا شك بعد الوضوء في رافعيته بعد خروجه يشك في بقاء الموضوع ، لأنّ المذي وغير المذي موضوعان ، نعم مفهوم الرافع متأخر عن الحكم وموضوعه فلا يمكن

أن يكون مأخوذا في الموضوع ، وأمّا مصداقه فليس شيئا وراء المانع فتدبّر.

وبالجملة ، إن اريد من الموضوع معروض المستصحب عقلا فجميع قيود القضية خارج عن الموضوع ، لأنّ المستصحب كباقي عوارضه إنما يعرض لذات الموضوع لا لقيده ، وإن اريد منه موضوع القضية فجميع الامور التي لها مدخل في ثبوت الحكم داخل في الموضوع من غير فرق بين عدم الرافع وغيره من أجزاء علّة الحكم وشرائطها.

قوله : نعم يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها (١).

يعني أنّ الموضوع في استصحاب الامور الخارجية معلوم فيمكن إحرازه وإجراء الاستصحاب من غير فرق بين الشك في الرافع أو في المقتضي ، مثلا لو شك في بقاء وجود زيد أو قيامه أو عدالته فلا شك في أنّ الموضوع في الأول الماهية وفي الأخيرين شخص زيد ولا شك في بقائه في زمان الشك فإنّ زيدا حين الشك في بقاء عدالته هو بعينه زيد الأول حين اليقين بعدالته.

ولكن الانصاف عدم الفرق بين استصحاب الأحكام والموضوعات الخارجية في ذلك ، فإن اريد من موضوع المستصحب معروض المستصحب فالقيود خارجة عن الموضوع في المقامين ، وإن اريد منه موضوع القضية عقلا فكما أنّ جميع القيود راجع إلى الموضوع في استصحاب الأحكام كذلك في

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٥.

٣٤٠