حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

بعضها مخالف للاجماع أو لدليل قطعي لا يسقط حجيته بالنسبة إلى باقي فقراته.

الرابع : ما قيل من التفصيل بين ما إذا كان المعنى التأويلي في أحدهما متحدا وفي الآخر متعددا ، وبين ما كان المعنى التأويلي متحدا فيهما أو متعددا فيهما ، فيجمع في الأول إذ به تحصل لنا فائدة بخلاف الثاني.

وفيه : أنه استحسان ضعيف لا اعتبار به.

الخامس : مساواة هذا القسم مع القسم الأول مطلقا. وهذا هو الحق الحقيق بالقبول لجريان أدلة القولين فيه أيضا طابق النعل بالنعل.

السادس : ما حكي عن بعض مشايخنا وهو التفصيل في العموم من وجه بين ما إذا كانا متناقضين بالنفي والاثبات كما إذا قال أكرم العلماء وقال لا تكرم الفسّاق فإنه لا يجمع ، وبين ما إذا كانا متضادين فيجمع مثل ما إذا قال إن ظاهرت اعتق رقبة وقال أيضا إن ظاهرت فأكرم مؤمنا مع العلم بوحدة التكليف ، فالنسبة بينهما عموم من وجه ، لأنّ عتق الرقبة أعم من أن يكون بالمؤمنة وبالكافرة وإكرام المؤمن أعم من أن يكون بعتق رقبة عبد مؤمن أو غيره ، ولا تعارض بينهما في مادة الاجتماع ، بل التعارض باعتبار مادتي الافتراق ، ويجب الجمع بينهما بعتق الرقبة المؤمنة.

وفيه : أنه ليس هذا تفصيلا في مقامنا ، لأنّ المثال الثاني من قبيل المطلق والمقيّد في موردين ، فإنّ قوله اعتق رقبة مطلق من حيث الكفر والإيمان ، وقوله أكرم مؤمنا مطلق من حيث العتق وغيره ، فيقيّد إطلاق كل منهما بقيد الآخر ، وليس الوجه في ذلك وصف التضاد بينهما ولذا يجمع في مثل أعتق رقبة ولا تكرم كافرا مع أنّهما متناقضان ، ولا يجمع في مثل أكرم العلماء وأهن الفسّاق مع أنّهما متضادّان.

٤٦١

قوله : ولو خص المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقق القمي (رحمه‌الله) (١).

قال المحقق القمي بعد نقل عبارة الشهيد كما في المتن : والتحقيق فيه أنّ ذلك يصح بعد ملاحظة التراجيح في البينتين وانتفائها وتعادلهما ، وكيف كان فيمكن القدح في ذلك التفريع لامكان استناد التنصيف إلى ترجيح بيّنة الداخل فيعطى كل منهما ما في يده ، أو ترجيح بينة الخارج فيعطى كل منهما ما في يد الآخر ـ إلى أن قال ـ ويمكن استناده إلى التعارض والتساقط والتحالف فينصّف بعد التحالف فيجري مجرى ما لو ثبت يداهما عليها ولم يكن هناك بينة ـ إلى أن قال ـ فيحكم بالشركة لرفع التحكّم (٢) انتهى.

ولا يخفى أنّ الاحتمال الثاني يجري في الصورة الثانية أيضا ، وكيف كان فالحقّ أنّ الجمع بهذا الوجه الذي سمّيناه في صدر المسألة بالجمع العملي لا دليل عليه ، لا في أدلة الأحكام ولا في الأمارات القائمة على الموضوعات كالبيّنة ، بل الدليل قائم على خلافه في أدلة الأحكام وهو الإجماع العملي وإطلاق الأخبار العلاجية وما يقال إنّه مخالفة قطعية لمقتضى الدليلين ، ولا يخفى أنه في الجمع الدلالي لا يلزم مخالفة قطعية لواحد من المتعارضين ، إذ يحمل الكلام فيه على معنى آخر ولا نخالفه. لكن فيه أنه إن اريد القطع بمخالفة الحكم الواقعي فلا يلزم ذلك من الجمع المذكور لاحتمال كذب كلا الخبرين ، وإن اريد القطع بمخالفة الحجة الظاهرية فإنه لازم على أي تقدير قلنا بالجمع أو الطرح ، إذ كما أنّ لازم الجمع طرح كل من الدليلين في بعض مدلوله كذلك لازم الطرح طرح أحدهما في

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٩.

(٢) القوانين ٢ : ٢٧٩.

٤٦٢

تمام مدلوله.

قوله : وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن مناقشة يظهر بالتأمل (١).

يحتمل أن يكون مراده أنّ كون التنصيف في الصورة الثانية أيضا من باب الجمع محل مناقشة ، إذ لعله من باب تساقط البينتين كما نقلناه عن المحقق القمي (رحمه‌الله) أيضا في ذيل كلامه ، ويحتمل أن يكون مراده تضعيف توجيه التنصيف في الصورة الاولى بما ذكره المحقق القمي من كونه من جهة تقديم بينة الداخل أو الخارج ، وذلك بأن يقال إنّ كون المسألة متفرّعة على تقديم بيّنة الداخل أو الخارج مبني على القول بأنّ يد كل منهما ثابتة على النصف فيما إذا كان المدّعى به في يديهما ، وهو في محل المنع ، بل يمكن أن يقال إنّ يد كل منهما ثابتة على الكل ، ودعوى عدم إمكان إثبات يدين مستقلّتين على مال واحد ممنوعة.

قوله : إلّا أنّ ما ذكر من الاعتبار (٢).

فيه : أنه مجرد استحسان على تقدير تسليمه ، مع أنه يمكن أن يقال إنه لا فرق بين أن يكون هناك حقّان لشخص واحد أو لشخصين فكما يجب مراعاة حق الشخصين بما أمكن كذلك يجب مراعاة حقي شخص واحد بما أمكن.

قوله : لأنّ دليل الحجية مختص بغير التعارض (٣).

وقد يتمسك بوجه آخر وهو أنّ عموم أدلة حجية الأمارة بالنسبة إلى المتعارضين من قبيل العام المخصص بالمجمل الساقط عن الحجية في مورد الإجمال ، وذلك لأنّا نعلم إجمالا أنّ أحد المتعارضين غير واجب العمل إمّا لأنه

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٩.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٣١.

(٣) فرائد الاصول ٤ : ٣٣.

٤٦٣

غير صادر وإمّا لأنه صادر على جهة التقية وإمّا لأنّه اريد به غير ظاهره ، ولمّا كان ذلك الخبر مشتبها فيما بين المتعارضين صار العام المثبت لحجية الأمارة كلية مجملا بالنسبة إليهما لا يجوز التمسك به في شيء منهما.

وفيه أوّلا : النقض بما لو علم بكذب أحد الخبرين من غير تعارض بينهما ، مع أنّ الظاهر عدم التزام المستدل بالإجمال فيه ، اللهم إلّا أن يلتزم به. وثانيا : منع كونه من قبيل المخصص بالمجمل ، إذ لا وجه للتخصيص وخروج أحد المتعارضين عن عموم الدليل ، لأنّ ملاك الحجية ليس هو مصادفة الأمارة للواقع ، بل الخبر غير المصادف للواقع أيضا حجة إذا اجتمع فيه شرائط الحجية من العدالة والضبط وغيرهما ما لم يعلم تفصيلا كذبه أو كونه صادرا على وجه التقية أو اريد به معنى تأويلي ، وهذا هو الملاك في الحجية وهو موجود في المتعارضين الواجدين لشرائط الحجية ، نعم إن كان هناك خبران مثلا وعلمنا أنّ أحدهما غير جامع لشرائط الحجية واشتبه شخصه عندنا فهذا من قبيل التخصيص بالمجمل.

وبالجملة مقام الحجية مقام ومقام مصادفة الواقع مقام آخر ، ولا يعتبر في مقام الحجية مصادفة الحجة للواقع ، بل الخبر غير المصادف واقعا حجة واقعا بحيث لو طرحناه فقد طرحنا الحجة الواقعية ، وما نحن فيه نظير الأصلين اللذين نعلم بمخالفة أحدهما للواقع كما لو توضّأ بمائع مردد بين الماء والبول فإنّ كلا من أصالة بقاء الحدث وبقاء طهارة البدن جار يشمله دليل الحجية لتمامية ميزان الأصل في كل منهما ، ولا يضر العلم الاجمالي بكون أحدهما مخالفا للواقع ، نعم لو لزم من إجراء الأصلين طرح تكليف منجّز لا نعمل بواحد منهما رعاية لذلك التكليف ، وبمثله أيضا نقول فيما نحن فيه إذا كان هناك خبران قد علمنا بأنّ العمل بهما يلزم طرح تكليف لا يجوز العمل بواحد منهما فليتأمل ، وقد مر في رسالتي أصالة البراءة والاستصحاب شطر من هذا الكلام.

٤٦٤

وثالثا : أنّ المسلّم من عدم جواز التمسك بالعام المخصص بالمجمل هو فيما إذا كان المخصص متصلا حيث لم ينعقد ظهور للعام مع اقترانه بمثل هذا المخصص كما لو قال أكرم العلماء إلّا زيدا وكان زيد مرددا بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، وأمّا إذا كان المخصص منفصلا بعد انعقاد ظهور العام فلا نسلّم إجمال العام بمعنى سقوطه عن الظهور ، فلو ورد أكرم العلماء وورد أيضا لا يجب إكرام زيد وكان مرددا نحكم بوجوب إكرام كلا الزيدين أخذا بعموم العام ، نعم لو لزم من الأخذ بالعموم طرح تكليف منجّز لا نأخذ به من هذه الجهة كما لو قال : لا يجب إكرام العلماء ، وقال أيضا : أكرم زيدا وكان زيد مرددا ، فإنّ الأخذ بالعموم مستلزم لطرح التكليف بوجوب إكرام أحد الزيدين منجّزا ، ففيه يجب إكرامهما مقدمة لامتثال الواجب ويطرح الظهور بالنسبة إليهما (١).

قوله : ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكل من المتعارضين ممتنع (٢).

يمكن أن يقال بشمول دليل حجية الأمارة للمتعارضين وإرادة إيجاب العمل بكل منهما عينا نظير المتزاحمين ، لكن العقل يحكم بسقوط فعلية أحدهما قضية لعدم إمكان العمل بكليهما ، فكل منهما واجب العمل إلّا أنّ أحدهما منجّز والآخر غير منجّز.

ويمكن أن يراد من دليل وجوب العمل بالأمارة القدر الجامع بين الوجوب العيني والتخييري لئلّا يلزم استعمال اللفظ في معنيين ، فإنّ الجامع بينهما معقول

__________________

(١) أقول : في المثال السابق أيضا يسقط الظهور بالنسبة إلى زيد قطعا ، لكن لمّا كان أحد الزيدين باقيا تحت العام لم يعلم بخروجه فيجب إكرامه ، ولمّا كان مشتبها يجب إكرام كلا الزيدين مقدمة للعلم بالامتثال لا لأجل التمسك بالظهور فتدبّر.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٣٤.

٤٦٥

وهو مطلق اللزوم والحتمية لكن إرادة هذا المعنى خلاف الظاهر.

ثم لا يخفى أنه إن دل دليل حجية الأمارة على جعل مؤدّاها حكما شرعيا وإن خالف الواقع كما يظهر من المصنف في غير موضع فلا ريب في أنّ شموله للمتعارضين فاسد ، لأنه راجع إلى جعل حكمين متناقضين وهو ممتنع ، إذ كما أنّ جعل حكمين واقعيين متناقضين ممتنع كذلك جعل حكمين ظاهريين متناقضين أيضا ممتنع ، ولعل هذا مراد من قال بأنّ التعارض في الأدلة غير معقول ، وإن دل الدليل على جعل نفس الأمارة كاشفا تعبّديا عن الحكم الواقعي ويكون المجعول على هذا من قبيل الوضع لا التكليف ، فحينئذ يمكن فرض التعارض لأنّ الكاشف التعبّدي قد يصادف وقد لا يصادف ، والعلم بعدم مصادفة أحدهما لا ينافي كونه مجعولا بعنوان الكشف غاية الأمر أنه لا يمكن العمل بهما معا فلا بدّ في مقام العمل من التماس طريق يرشد إلى وجه العمل من عقل أو نقل ، هذا كلّه بناء على كون الأمارة كخبر الواحد حجة على وجه الطريقية.

وأمّا بناء على السببية فلا مانع من شمول دليل الحجية للمتعارضين ويكون من قبيل المتزاحمين ، ولا بأس بالاشارة إلى تحقيق هذا المبنى اجمالا فنقول : اعتبار الأمارة من باب الطريقية يراد منه اعتبارها لمجرد الايصال إلى الواقع بحيث لو تخلّفت عن الواقع لا يدرك من العمل بها شيء من المصلحة لا مصلحة الواقع ولا غيرها.

وأمّا اعتبارها من باب السببية فيتصوّر على وجوه ، الأول : أن يكون عنوان تصديق العادل في خبره مثلا ذا مصلحة أوجبت إيجابها فهو الواجب شرعا صادف الواقع أم خالف.

الثاني : أن يكون الواجب شرعا نفس مؤدّى الخبر ، وإخبار العادل به أوجب فيه مصلحة مقتضية للايجاب طابق الواقع أم لا ، والفرق بين الوجهين أنه

٤٦٦

على الأول لو أخبر عدلان بشيء كان العمل به عملا بواجبين ، وعلى الثاني يكون عملا بواجب واحد.

الثالث : أن يكون مؤدّى الخبر بدلا عن الواقع عند تخلّفه عنه ، والفرق بينه وبين الأوّلين أنّ الحكم الشرعي على الأوّلين ليس سوى مؤدّى الأمارة وليس في الواقع مع قطع النظر عن الأمارة سوى شائبة الحكم ، فإن صادف الأمارة ذلك الحكم الشأني يصير حكما فعليا ، وإن خالفه يكون الحكم الفعلي مؤدّى الأمارة ويبقى في الواقع مجرّد شأنية الحكم ، وأمّا على الثالث يكون كل من الواقع ومؤدّى الأمارة في صورة التخلّف حكما شرعيا على البدل كل في حال.

الرابع : أن تكون مؤدّيات الأمارات أحكاما ظاهرية نظير مقتضيات الاصول العملية ، وهذا المعنى الأخير مصرح به في كلام المصنف على ما سيأتي في المتن ، وهو المناسب في المقام لجعله في مقابل الطريقية والتكلّم عليهما ، إذ المعاني الثلاثة الاول من التصويب الباطل كما لا يخفى ، لكن المصنف (رحمه‌الله) جرى في بيان تأسيس الأصل في المسألة على المعنى الأول فتفطّن.

ثم لا يخفى أنّ الحق المحقق اعتبار الأمارات سيّما أخبار الآحاد من باب الطريقية ، لظهور أدلة اعتبارها في أنّ المقصود منها ليس إلّا إدراك الواقع ، وكذا ظاهر الأخبار العلاجية أيضا ذلك ، لأنّ ما ذكر فيها من المرجحات ليس إلّا ما يكشف عن كون الراجح أقرب إلى الواقع وهذا المطلب من الواضحات ، وكون اعتبار الأمارة من باب السببية مجرد فرض لا حقيقة له.

ثم لا يخفى أنّ المصنف (رحمه‌الله) عنون البحث بالمتكافئين أوّلا ثم عدل عنه ظاهرا بتحرير الأصل في المتعارضين ، وكان الأنسب العكس بمعنى أنه كان المناسب أن يحرّر أوّلا أنّ الأصل في المتعارضين هل هو الترجيح أم لا ، ثم يحرّر أنه بعد عدم الترجيح أو عدم القول به هل الأصل هو التساقط أو التخيير أو التوقّف

٤٦٧

أو الاحتياط ، فنحن نقول أوّلا إنّ الأصل في المتعارضين هو الترجيح بناء على الطريقية ، وذلك لأنّا إذا فرضنا أنّ اعتبار الأمارة من باب الطريقية وأنّ الغرض من اعتبارها ليس إلّا الوصول إلى الواقع ، وعلمنا أنّ أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع نوعا لقوة مناط الإيصال فيه دون صاحبه كأن يكون راوي أحد الخبرين مثلا أصدق أو أعدل أو أفقه ونحو ذلك ، نعلم أنه هو الحجة في هذا المورد دون صاحبه ، لكونه أدخل في الغرض المطلوب من جعل الأمارة ، وعليه بناء العقلاء في العمل بالطرق النوعية ، وأمّا بناء على السببية فلا يأتي هذا الوجه لأنّا لم نعلم ملاك الحجية ومصلحتها الواقعية كي نحكم بقوة ذلك المناط في أحدهما لو كان هناك رجحان بالنسبة إلى الآخر في المناط ، ثم نقول لو لم يكن مرجح بناء على الطريقية كما هو كذلك على السببية أو لم نقل بالترجيح فالأصل هو التساقط دون الوجوه الأخر ، أمّا على السببية فواضح ، لأنّ جعل حكمين ظاهريين متناقضين محال عقلا ، كما أنّ جعل الواقعيين المتناقضين محال ، فلا يمكن شمول الدليل لهما ، وشموله لأحدهما تخييرا مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين مع أنه خلاف ظاهر الدليل لأنه ظاهر في الوجوب العيني ، كما أنّ إرادة القدر المشترك بينهما أيضا خلاف ظاهر الدليل ، وأمّا بناء على الطريقية فإن قلنا إنّ معنى جعل الأمارة بناء عليها جعل مؤدّى الطريق بمنزلة الواقع كما هو مختار المصنف فالأمر كما قلنا بناء على السببية ، لأنّه يرجع إلى جعل المتناقضين إلى آخر ما مر ، وإن قلنا إنّ معناه جعل الكاشفية للأمارة فإنه وإن كان ممكنا ولا منافاة بين كون كل من المتعارضين متصفا بالكاشفية التعبّدية فيكونان مشمولين للدليل ، إلّا أنه لمّا كان مقتضاهما متناقضين لا يؤخذ بشيء منهما فعلا ، فلا يتصف أحدهما بالحجية الفعلية.

٤٦٨

قوله : فنقول إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة الخ (١).

محصّل مراده : أنّ دليل الحجية شامل للمتعارضين ، لكن وجوب العمل بكل منهما مشروط بالقدرة كما في سائر أفراد العام وسائر التكاليف ، ولمّا كان العمل بكلا المتعارضين غير مقدور وكان العمل بأحدهما مقدورا وجب العمل بقدر الامكان وهو أحدهما المخيّر فيه ، لكن هذا كلّه بناء على اعتبار الأمارة من باب السببية فهو من قبيل المتزاحمين.

وفيه أوّلا : أنّ هذا البيان إنما يتم لو جعلنا السببية بمعنى كون تصديق العادل من حيث هو هذا العنوان مطلوبا ، أو كون عنوان مؤدّى الخبر بما هو هذا العنوان مطلوبا ، وقد عرفت أنّ السببية بهذا المعنى يرجع محصّلها إلى التصويب الباطل ، وأمّا إذا اريد من السببية كون مؤدّى الخبر حكما ظاهريا كما هو الصحيح من تصويره كما مر بل هو صريح المتن أيضا حيث قال : لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلّف انتهى ، فلا يخفى أنّ البيان المذكور غير صحيح لأنّ جعل الحكمين الظاهريين المتناقضين محال كالحكمين الواقعيين فلا يشملهما الدليل.

وثانيا : أنّ ما ذكره من عدم إمكان العمل بالمتعارضين إنّما يتم فيما كان أحدهما دالا على الوجوب والآخر على الحرمة مثلا ، وأمّا في مثل الظهر والجمعة أو الوجوب والاباحة وأمثالهما فلا ريب أنّ العمل بهما مقدور بفعل الظهر والجمعة كليهما في المثال الأول والاتيان بالفعل في المثال الثاني ، فإنّ الاباحة يجتمع مع

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٣٥.

٤٦٩

الفعل والترك.

وثالثا : أنّ بيانه هذا يجري في الأصلين المتعارضين أيضا فيجب أن يقول فيه بالتخيير مع أنه قائل بالتساقط هناك.

قوله : أمّا لو جعلناه من باب الطريقية كما هو ظاهر أدلة حجية الأخبار الخ (١).

قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط حتى بناء على الطريقية ، وما ذكره من التوقّف مبني على العلم بأنّ هناك حجة معتبرة بين المتعارضين إلّا أنه غير معيّن ، مع أنّ بيانه لا ينتج هذا بل ينتج التساقط كما ذكرنا فافهم.

قوله : كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين (٢).

لا يخفى أنه إذا اشتبهت الحجة واللّاحجة سواء كانتا متعارضتين أو غير متعارضتين فلا يسقط الحجة منهما عن الحجية وإن لم نعلم صدق أحدهما ، ودعوى أنه يلزم أن يكون للحكم الظاهري واقعية ، مدفوعة بمنع بطلانها ، وتظهر الثمرة في أنه لا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما على جميع الأقوال في المتعارضين على المختار وعلى السقوط يجوز.

ثم هل يرجع إلى الأصل المطابق لأحدهما؟ الأقوى نعم ، ودعوى أنّ الرجوع إلى الأصل مع وجود الدليل الاجتهادي غير جائز ، مدفوعة بأنّ وجود الدليل المشتبه لا ينفع في عدم جريان الأصل.

ثم هل الأصل هنا البراءة أو الاحتياط؟ الحق هو الأول وإن كان مفاد الخبرين هو الوجوب أو الحرمة لعدم العلم بالتكليف المقتضي للاحتياط فتأمل.

بقي شيء لا بدّ أن ينبّه عليه : وهو أنه إذا حكمنا بطرح سند أحد الخبرين

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٤ : ٣٨.

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٤ : ٣٨.

٤٧٠

بناء على الترجيح أو التخيير أو كلاهما بناء على التساقط ، فهل يؤخذ بالخبر المطروح فيما يدلّ عليه من غير محل المعارضة أو يحكم بسقوطه في تمام مدلوله حتى بالنسبة إلى ما لا معارض له سواء كان ذلك مدلولا مطابقيا للخبر أو تضمّنيا أو التزاميا ، مثال الأول ما لو اشتمل الخبر على فقرتين إحداهما معارضة للخبر الآخر والاخرى لا معارض لها ، مثال الثاني ما لو كان بين مدلول الخبرين عموم من وجه فإنه في غير مادّة الاجتماع لا تعارض بينهما ، مثال الثالث ما لو كان الخبران متباينين بحسب المفهوم لكن لازم كل منهما نفي الثالث ، فبالنسبة إلى نفي الثالث سليمان عن المعارض ، أو يفصّل بين الأوّلين فالأول والأخير فالثاني ، أو بين الأول فالأول والأخيرين فالثاني ، وجوه.

وجه الأول (١) : أنّ السند واحد لا يتبعّض في الحكم بالصدور إمّا صادر أو غير صادر ، ولمّا حكمنا بعدم صدوره بملاحظة محل المعارضة سقط من أصله ، وليس هنا سند آخر باعتبار غير محل المعارضة يحكم بصدوره ، ومن هنا لم يحكم أحد عند تعارض الأصلين وتساقطهما بالأخذ بهما باعتبار نفي الثالث.

وجه الثاني : أنّ المانع عن الأخذ مختص بمحل المعارضة فما وجه الطرح بالنسبة إلى غير محل التعارض.

فإن قلت : هب أنه يمكن التفكيك بين محل المعارضة وغيره في المثالين الأوّلين ، ولكن لا يمكن هذا التفكيك في المثال الثالث ، لأنّ نفي الثالث مدلول التزامي للخبرين ولا يعقل ثبوت الالتزام من دون المطابقة. لا يقال : إنّ هذا الإشكال يجري في المثال الثاني أيضا ، لأنّ التضمّن أيضا يستلزم المطابقة. لأنّا نقول : يمكن في العامين من وجه أن يقال إنه اريد من كل من العامين بعض مدلوله

__________________

(١) [الظاهر أنّ المراد بالأوّل هو الحكم بسقوطه في تمام مدلوله فلا تغفل].

٤٧١

مجازا وهو غير مادة الاجتماع الذي هو محل المعارضة ، فليس هناك دلالة تضمّنية بالنسبة إلى مادتي الافتراق بل دلالتان مطابقيتان ولو على نحو المجاز.

قلت : الممتنع ثبوت الالتزام بدون المطابقة لا وجوب العمل بالمدلول الالتزامي وعدم وجوب العمل بالمدلول المطابقي ، فإنّ المدلول المطابقي فيما نحن فيه موجود إلّا أنه غير واجب العمل لمانع المعارضة. والحاصل أنه لا مانع من الحكم بنفي الثالث بدلالة الخبرين المتعارضين ، وأمّا عدم حكمنا بنفي الثالث في الأصلين المتعارضين فلوجود الفارق بينه وبين ما نحن فيه ، وهو أنّ الاصول لا يثبت بها لوازمها غير الشرعية ، وأيضا الاصول لا لسان لها على نفي غير مقتضاها وإنما تثبت مقتضاها ظاهرا في مقام العمل ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه.

ويرد عليه : أنه لا معنى لأخذ بعض مدلول الخبر الذي حكم بطرح سنده ، فإنّ السند واحد والحكم بالصدق والكذب مشترك لا يتبعّض بالنسبة إلى السند ، وما ذكرت من الفرق بين الاصول والأدلة غير تامّ ، أمّا حكاية أنّ الاصول لا لسان لها على نفي غير مقتضاها بخلاف الأدلة فممنوع أشدّ المنع ، ضرورة أنّا لا نجد الفرق بين دلالة الوجوب أو الحرمة الثابتين بالدليل على نفي الاباحة أو الثابتين بالأصل ، غاية الأمر أنه في الأول ينفي الاباحة الواقعية وفي الثاني الظاهرية ، كما أنّ الوجوب والحرمة في الأول واقعيان وفي الثاني ظاهريان ، وأمّا أنّ إثبات اللازم المشترك في الاصول من الاصول المثبتة ، ففيه أنه قد يكون اللازم أمرا شرعيا إلّا أن يلتزم في مثله بالثبوت ، مثاله ما إذا فرض أنّ أحد الإناءين في الشبهة المحصورة متيقن النجاسة والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، وفرض أنه غسل بهما معا ثوب نجس أمكن الحكم بطهارة الثوب ، لأنّ استصحاب الطهارة في كل منهما وإن كان معارضا بالآخر إلّا أنّ الاستصحابين متفقان في إثبات

٤٧٢

طهارة هذا الثوب لا تعارض بينهما في هذا اللازم (١).

__________________

(١) أقول : نسلّم الحكم بطهارة الثوب لكن من جهة أنّ الاناء الذي هو مشكوك النجاسة واقعا مع قطع النظر عن الاشتباه محكوم بالطهارة ظاهرا ، فيصير المثال نظير ما لو كان أحد الإناءين معلوم النجاسة والآخر معلوم الطهارة وغسل بهما ثوب فإنه يحكم بطهارة الثوب من جهة العلم برفع نجاسته السابقة والشك في حدوث نجاسة اخرى فيه كما أشار إليه العلّامة الطباطبائي في منظومته بقوله : ولو تعاقبا على رفع الحدث لم يرتفع وليس هكذا الخبث ، ولمّا عرضت هذا الكلام على السيد الاستاذ (دام ظلّه) سكت ، ثم أبدل المثال بمثال آخر وهو أنّ المحدث لو وجد ماء وترابا قد علم بنجاسة أحدهما واشتبه فأصالة الطهارة في كل منهما وإن كانت معارضة بالآخر إلّا أنّهما متفقان في لازم شرعي هو وجوب الصلاة وعدم سقوطها فافهم. أقول الأقوى هو الوجه الثاني ، وما نحن فيه نظير الدليلين القطعيين المتعارض ظاهرهما فإنه يحكم بالإجمال في مورد التعارض ويعمل بهما في مورد افتراقهما ، وما ذكر من عدم إمكان التبعيض في السند ممنوع في مقام الظاهر.

ويمكن أن يقال : إنّ الشارع أمرنا بتصديق المخبر من حيث إخباره بمادة الافتراق دون مادة الاجتماع ، والتفكيك بين المتلازمين بالنسبة إلى موارد الاصول والأمارات فوق حدّ الاحصاء في الشرعيات هذا ، مضافا إلى أنّا نمنع عدم شمول إطلاق دليل حجية الأمارة لكلا المتعارضين لم لا يكونان حجتين لا يعمل بهما أو بأحدهما كما في القطعيين.

ويؤيّد ما ذكرنا أو يدل عليه استمرار سيرة الفقهاء قديما وحديثا من أول الفقه إلى آخره على العمل بالعمومات المتعارضة بالعموم من وجه في مادة الافتراق ، لأنّ أكثر عمومات الأحكام لها معارض كذائي فلو حكم في أحدهما أو كليهما بالسقوط في تمام مدلوله بقي أكثر الأحكام بلا دليل ، وهكذا سيرتهم في كل خبر مشتمل على فقرات بعضها مبتلى بالمعارض أو مخالف للإجماع أو دليل قطعي آخر ، وأمّا حكمهم بالتساقط في الأصلين المتعارضين بالمرّة فالسرّ فيه أنّ اللازم المشترك بينهما قلّ ما يكون أمرا شرعيا يمكن

٤٧٣

قوله : إلّا أنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت على عدم التساقط (١).

كون الطوائف الثلاث من الأخبار المشار إليها بالغة حدّ التواتر في محل المنع ، وأولى بالمنع كون خصوص أخبار التخيير متواترا على ما سيذكره في المتن ، نعم كونها مستفيضة ظاهر لا سترة فيه. ولا يخفى أنّ الأولى والأظهر في بيان المطلب أن يقال إنّ أخبار التخيير تنفي التساقط ولا يعارضها أخبار التوقف وكذا مرفوعة زرارة لما سيأتي ، مع أنها لا تنافيها أيضا من حيث الدلالة على نفي التساقط ، فافهم.

قوله : من حيث إنّ التوقّف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل (٢).

نمنع الاستلزام المذكور ، بل التوقف في الفتوى الذي يراد منه عدم تعيين الواقع بأحد الخبرين يجامع كون حكم العمل هو الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما أو مطلق الأصل ولو كان مخالفا لهما. وبالجملة : لا وجه لدعوى كون أخبار التوقف نافية للتساقط بل لعلّها دالة على التساقط ، لأنّ لازم التوقف عدم الأخذ بواحد من المتعارضين.

ثم إنّ تشبيه ما تعارض فيه النصّان بعد ورود الأمر بالتوقّف المستلزم للاحتياط بما لا نصّ فيه غريب ، لأنه لا يقول فيه بالاحتياط جزما بل ولا غيره ما عدا الأخباريين في الشبهة التحريمية هذا ، مع أنّا لو سلّمنا أنه يستفاد من الأمر

__________________

إثباته بالأصل ولم يعلم من حالهم أنهم يطرحون الاصول المتعارضة بالمرة حتى بالنسبة إلى اللازم المشترك الشرعي فتدبّر.

(١) فرائد الاصول ٤ : ٣٩.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٤٠.

٤٧٤

بالتوقّف كون العمل على الاحتياط لا نسلّم استفادة الاحتياط المطلق ولو كان مخالفا للمتعارضين بل الاحتياط المطابق لأحدهما فكأنه قال توقف وخذ بما وافق منهما الاحتياط كما في مرفوعة زرارة (١).

ثم لا يخفى أنّ ما مثّل به في المتن لما كان الاحتياط مخالفا للخبرين من الاحتياط بالجمع في مثال الظهر والجمعة والقصر والاتمام محل تأمل واضح ، لأنّ الاحتياط على هذا الوجه مطابق لهما لا أنه مخالف لهما ، وتوهم كونه مخالفا لكل واحد منهما حيث إنه دالّ على تعيين مدلوله ونفي غيره والجمع غيره ، مدفوع بأنّ نفي الغير ليس مدلولا لواحد منهما بل هو ساكت عن الغير ، كيف ولو كان دالا على نفي الغير كان الجمع مخالفة قطعية للدليلين فكيف يقال إنه احتياط مطلق فتدبّر ، فالمناسب أن يمثّل للاحتياط المخالف للدليلين بما إذا كان أحد الخبرين دالا على الاستحباب والآخر على الاباحة واحتملنا نحن من عند أنفسنا الوجوب أو الحرمة أيضا ، فإنّ مقتضى الاحتياط المطلق لزوم الفعل أو الترك وهو مخالف لمؤدّى الخبرين.

وكيف كان ، الوجوه المحتملة في حكم المتعادلين سبعة ، ثلاثة منها مذكورة في المتن ، رابعها العمل بالاحتياط بين الخبرين إن أمكن ، بمعنى أنه إن كان الاحتياط مطابقا لأحد الخبرين يؤخذ به ، وإن كان بالجمع بينهما كما في مثال الظهر والجمعة والقصر والاتمام يحتاط بالجمع ، وإن لم يمكن ذلك كله فالتخيير ، خامسها التفصيل بين حقوق الله فالتخيير وحقوق الناس فالاحتياط ، سادسها

__________________

(١) أقول : الأظهر ما في المتن ، إذ لو اريد ما ذكر ومرجعه إلى الترجيح بكونه موافقا للاحتياط لغى الأمر بالتوقف وكان المناسب أن يقول خذ بما وافق منهما الاحتياط كما في مرفوعة زرارة.

٤٧٥

التفصيل بين المستحبّات يعني غير الالزاميات فالتخيير والواجبات يعني الالزاميات فالاحتياط ، سابعها التفصيل بين ما لو اضطر إلى العمل فالتخيير وبين غيره فالتوقف وإرجاء الواقعة.

ثم إنّ الوجه الأول منها هو المشهور المنصور ، والثاني والرابع لا قائل بهما ، والثالث نسب إلى جمهور الأخباريين ، والخامس منسوب إلى الأمين الاسترابادي ، والسادس منسوب إلى الحرّ العاملي في الوسائل ، والسابع إلى ابن أبي جمهور الاحسائي.

ثم إنه قد قيل إنّ هذه الوجوه والأقوال بل مطلق أحكام التراجيح والتعادل إنما تأتي بناء على حجية الأخبار من باب الظن الخاص دون الظن المطلق ، فإنّ الحجة بناء عليه ما أفاد منهما الظن الفعلي ، فباب التراجيح عند من يذهب إلى حجية الظن المطلق ساقط.

وفيه : أنّ إعمال المرجحات موجب لحصول الظن أوّلا ، وأنّ دليل الانسداد ينتج حجية الظن النوعي العقلائي على ما سبق في محله وهو يحصل باعمال أحكام التعادل والترجيح ثانيا ، وأنه بناء على كون نتيجة دليل الانسداد حجية الظن بالطريق دون الواقع أو الأعم منه ومن الظن بالواقع لا بدّ من إعمال المرجحات وأحكام التعادل لتحصيل الظن بالطريق فافهم ثالثا ، وكيف ما كان تحقيق الحق من هذه الوجوه متوقف على الرجوع إلى أخبار الباب وسيأتي ما عندنا في ذلك فانتظر.

قوله : ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة (١).

فإنه بعد ذكر جملة من المرجحات ومنها مخالفة العامة قال «قلت : ربما

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٤٠.

٤٧٦

كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟

فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر» (١) ولا يخفى أنّ كونها معارضة لأخبار التخيير مبنية على أن يكون الاحتياط المأمور به في الرواية مرجعا لا مرجحا مع أنّ الظاهر منها أنه من المرجحات وعليه فهو من أخبار التخيير.

قوله : وأمّا أخبار التوقّف الخ (٢).

وهي على ما جمعها سيدنا الاستاذ (دام ظلّه) (٣) سبعة أخبار ، بعضها صريح في الأمر بالتوقف وبعضها ظاهر فيه ، وكيف كان أجاب المشهور على ما قيل عنها بما في المتن من حمل أخبار التوقف على زمان الحضور وانفتاح باب العلم بادراك صحبة الإمام (عليه‌السلام) ، وأخبار التخيير على زمان الغيبة ، وقيل في سند هذا الجمع وجوه.

الأول : أنّ بعض أخبار التوقف مغيّا بملاقاة الإمام (عليه‌السلام) فهو مختص بزمان الحضور ، ويكون هذا قرينة على سائر الأخبار المطلقة في الأمر بالتوقّف بحملها عليه ، فتكون جملتها أخص مطلقا من أخبار التخيير. وفيه : منع القرينية فإنّ المطلق والمقيّد المتوافقين في الاثبات والنفي يعمل بهما ولا يحمل المطلق على المقيّد إلّا مع العلم بوحدة التكليف من الخارج على ما هو مقرّر في محله.

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٤٠.

(٣) [يعني به السيد الطباطبائي اليزدي (قدس‌سره) وهو على خلاف رسم التقريرات ، وكم له نظير في الكتاب].

٤٧٧

الثاني : أنّ ما دلّ منها على التوقف في زمان الحضور لا شك في كونها أخص مطلقا من أخبار التخيير فيخصص به أخبار التخيير فيكون أخبار التخيير بعد هذا مختصا بزمان الغيبة ، وحينئذ إذا لوحظت مع مطلقات أخبار التوقّف تكون أخص مطلقا منها فتخصص بها ، وبوجه آخر لا يمكن تقديم أخبار التوقف على أخبار التخيير لأنه يلزم أن يكون أخبار التخيير حينئذ بلا مورد. وفيه : ما سيأتي من أنه يلاحظ جميع المعارضات في عرض واحد ولا يقدّم ملاحظة بعضها لتنقلب النسبة ، وأيضا نمنع بقاء أخبار التخيير بلا مورد على تقدير تقديم أخبار التوقف فإنّ موارد دوران الأمر بين المحذورين وعدم إمكان الاحتياط تكفي في كونها المراد من أخبار التخيير.

الثالث : أنّ أخبار التوقف نص بالنسبة إلى زمان الحضور لكونه الفرد المتيقن منها ظاهر بالنسبة إلى زمان الغيبة ، وأخبار التخيير بالعكس ، فيقدّم نص كل منهما ويصير منشأ لطرح ظاهر الآخر نظير الجمع المحكي عن الشيخ (رحمه‌الله) في قوله (عليه‌السلام) «ثمن العذرة سحت» (١) مع قوله (عليه‌السلام) «لا بأس ببيع العذرة» (٢) وفيه : أنّ مثل هذا الجمع مردود بما تقرر في محله من أنّ تيقّن إرادة فرد من الخارج لا يصير منشأ للأظهرية بحسب اللفظ حتى يكون وجها للجمع.

والأولى أن يقال في سند هذا الجمع : إنّ أخبار التوقّف ظاهرة في اختصاصها بحال الحضور بقرينة قوله «حتّى تلقى إمامك» أو «تلقى صاحبك» أو «تلقى من يخبرك» على اختلاف التعبيرات ، وأخبار التخيير ظاهرة في اختصاصها بحال الغيبة بقرينة قوله (عليه‌السلام) في بعض أخباره «موسّع عليك

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ (باختلاف يسير).

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ٣.

٤٧٨

حتّى ترى القائم (عجّل الله تعالى فرجه)» لكن لا يخفى أنّ إطلاق باقي أخبار التخيير كاف في بقاء المعارضة ، إلّا أنه يرجع إلى معارضة الخاص والعام المطلقين ، فيخصص عموم أخبار التخيير بالنسبة إلى زمان الحضور بأخبار التوقف.

وأولى من ذلك كلّه أن يقال : إنّ أخبار التوقّف وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام (عليه‌السلام) محمولة على صورة إمكان تحصيل العلم فيما بعد ، وإمكان تأخير الواقعة وعدم العمل معجّلا إلى آخر الأزمنة التي يرجى فيه حصول العلم ولقاء الإمام (عليه‌السلام) كناية عن تحصيل العلم فيما سيأتي من الزمان ، وأخبار التخيير محمولة على صورة عدم رجاء حصول العلم فيما بعد أو عدم إمكان إرجاء الواقعة.

وكيف كان مقتضى التحقيق هو ترجيح أخبار التخيير والعمل عليه دون أخبار التوقف ، إمّا لما ذكر من اختصاص أخبار التوقف بزمان الحضور أعني بما يمكن فيه تحصيل العلم فيما يمكن فيه إرجاء الواقعة ، وإمّا بحمل أخبار التوقف على التوقف في تعيين الواقع فكأنه قال في صورة وجود أحد المرجحات عيّن الواقع في الراجح من الخبرين وعند عدم وجود المرجح أعزب عن تعيين الواقع وتوقف ، ولم يعين حكم العمل ، لكن أخبار التخيير قد عيّن حكم العمل في التخيير. وإن شئت فقل إنّ أخبار التوقف والاحتياط إرشاد إلى حكم العقل إلى أنه عند عدم إمكان تعيين الواقع ولو تعبّدا بأحد المرجّحات يبقى التحيّر المقتضي للوقفة ويبقى حسن الاحتياط المحرز للواقع لو أمكن ، وهذا نظير ما قلنا وفاقا للماتن في توجيه أخبار التوقف والاحتياط الواردة في مطلق الشبهة في قبال أدلة البراءة على ما مرّ مفصلا في رسالة أصل البراءة.

ويقرب ما ذكرنا ما عن الكاشاني من حمل أخبار التوقف على الاستحباب بدليل أنّ أخبار التخيير نص في ترخيص الأخذ بالخبر وأخبار التوقف في وجوبه

٤٧٩

فيقدّم النص على الظاهر كما في نظائره. ويؤيّد المختار بل يدل عليه أنّ أخبار التخيير أظهر دلالة وأكثر عددا وأبعد عن التأويل ، وما مر من حملها على زمان الغيبة بعيد في الغاية ، ضرورة كون مقام السؤال والجواب كالنص في بيان الحكم الفعلي بالنسبة إلى السائل لا حكم من يأتي بعد مائة سنة أو أزيد ، هذا كله. مضافا إلى أنّ عمل المشهور على أخبار التخيير والترجيح منهم لم يكن إلّا عن مستند صحيح يبعد خطائهم فيه. وبالجملة فمن مجموع ما ذكر يطمئن الفقيه أنّ المرجع في المسألة أخبار التخيير دون أخبار التوقف والاحتياط.

ثم لا يخفى أنّ من لم يترجح عنده أخبار التخيير أو التوقف وحصل التكافؤ عنده يرجع إلى الأصل في المسألة أعني في مسألة التعارض ، فإن كان الأصل عنده أصالة التخيير يتخيّر بين الأخذ بأخبار التخيير (ويحكم بالتخيير بين الأخذ بكل من الخبرين في المسألة الفرعية فيوافق المختار في هذه الصورة من حيث العمل) أو الأخذ بأخبار التوقف فيخالف ، إلّا أن يجعل التخيير استمراريا فيمكن الموافقة أيضا ، وإن كان الأصل عنده التساقط يرجع إلى الأصل في المسألة الفرعية ، وإن كان الأصل عنده الوقف يتوقف ويرجع إلى الأصل الموجود في المسألة الاصولية أعني في مقام الأخذ بالحجة دون الأصل في المسألة الفرعية ، وقد ذكرنا سابقا أنه بناء على الوقف يرجع إلى الأصل المطابق لأحد المتعارضين دون الأصل المخالف لهما ، والظاهر أنه لا أصل هنا مطابقا لأحدهما ، لأنّ كلا المتعارضين هنا مخالف للأصل ، إذ الأصل عدم الوقف والاحتياط ، وكذا الأصل عدم التخيير لأنّ التخيير يقتضي حجية كلا الخبرين والأصل عدمها ، فلا مناص إلّا أن يحكم بالتخيير بين الطائفتين من أخبار الباب إمّا أن يختار الأخذ بأخبار التوقف أو يختار الأخذ بأخبار التخيير ، وذلك لأنّ أصالة الوقف مبنية على أنّ المتعارضين وإن لم يكونا حجتين فعليتين في مدلولهما المطابقي لكنّهما حجتان

٤٨٠