حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

والمسائل الاصولية ما تتعلّق بعمل مكلّف خاصّ. ويلزمه أن تكون المسائل المذكورة في خواص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من مسائل علم الاصول.

وقيل أيضا إنّ مسائل الفقه ما تتعلّق بعمل المكلّف أعمّ من المجتهد والمقلّد ومسائل الاصول ما تتعلّق بعمل خصوص المجتهد.

والتحقيق هو الأوّل ، وأنّ كلّ مسألة تتعلّق بعمل المكلّف وجوبا أو تحريما صحّة أو فسادا ونحوها فهو من الفقه سواء كانت متعلّقة بعمل مطلق المكلّف أو مكلّف خاصّ مقلّد أو مجتهد ، ولا يتوهّم أنّ جميع المسائل الاصولية متعلّقة بعمل المجتهد لأنّه يستعملها في الاستنباط والافتاء فيلزم دخولها في الفقه على ما ذكر ، لأنّ كونها من الاصول بملاحظة تعرّضها لحال الدليل لا بملاحظة أنّه يستعملها الفقيه في مقام الاستنباط ، وبهذا اللحاظ الثاني يصحّ عدّها في الفقه ويحكم عليها بالوجوب والاباحة والحرمة مثلا فيقال يجب على المجتهد إعمال هذه القواعد للاستنباط ، وبالجملة حيثية حال العمل وحال الدليل ملحوظة في مقام التميّز.

الثالث : أنّ موضوع علم الفقه هو عمل المكلّف وجوبا أو تحريما أو صحّة أو فسادا ونحوها من الأحكام ، وأمّا موضوع علم الاصول فلا شكّ أنّه من سنخ الدليل ، إلّا أنّ فيه احتمالات وأقوالا منها : أنّه الأدلّة الأربعة المعروفة.

ومنها : أنّه مطلق الأدلّة ، أي أدلّة الفقه ، وعلى كلا القولين يحتمل أن يكون الموضوع ذوات الأدلّة ، ويحتمل أن تكون الأدلّة بعد الفراغ عن وصف دليليتها ، فعلى الأوّل يكون البحث عن دليليتها بحثا عن أحوالها ويدخل في مسائل علم الاصول ، وعلى الاحتمال الثاني يكون ذلك بحثا عن وجود الموضوع فيدخل في المبادئ.

ومنها : أنّه مطلق ما قيل أو احتمل أنّه من أدلّة الفقه سواء كان دليلا في الواقع أم لا ، وعلى هذا يكون البحث عن عدم دليلية ما احتمل دليليته بل ما قطع

٢١

بعدم دليليته كالقياس مثلا بحثا عن أحوال الموضوع فيدخل في علم الاصول ، وهذا بخلافه على الاحتمالين الأوّلين. والتحقيق في موضوع الاصول هو هذا الاحتمال الأخير ، فيكون جميع المسائل الباحثة عن إثبات دليلية الدليل أو إثبات عدم دليلية الدليل داخلا في علم الاصول غير محتاج إلى التكلّف أو جعلها من المبادئ.

الرابع : أنّ الاستصحاب المبحوث عنه يجري في الأحكام والموضوعات ، وحجّيته إمّا من العقل أو من التعبّد الشرعي بأخبار عدم نقض اليقين بالشكّ ، أو التعبّد العقلائي الذي يأتي التكلّم عليه ، فينبغي التكلّم في محلّ المسألة أنّها من مسائل الاصول أو الفقه على جميع التقادير المذكورة.

ثمّ إنّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ تارة يقع الكلام في ثبوت الظنّ وعدمه واخرى في حجّية ذلك الظنّ بعد فرض ثبوته وعدمها ، فينبغي التكلّم على الجهتين.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ الاستصحاب الجاري في الأحكام بناء على كون اعتباره من العقل مسألة اصولية على ما في المتن ، لكن بناء على كون موضوع الاصول ذوات الأدلّة حتّى يكون البحث عن دليلية الأدلّة ومنها الاستصحاب داخلا في البحث عن أحوال الدليل ، إلّا أنّه يرد عليه أنّ ذات الدليل العقلي ليس إلّا حكم العقل بكذا ، فإذا كان هذا الحكم العقلي في الاستصحاب محلا للنزاع ويتكلّم في وجوده ونفيه فلم يكن ذلك بحثا عن أحوال الموضوع بل يكون بحثا عن وجود فرد من أفراد الموضوع وعدمه ، وهذا الإشكال جار في جميع المباحث الاصولية العقلية كمبحث مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ والانتفاء عند الانتفاء في المفاهيم وغيرها ، فإنّ محلّ البحث فيها أيضا ثبوت حكم العقل بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها وثبوت حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء

٢٢

وحرمة ضدّه وهكذا ، فيلزم أن تكون هذه المسائل وهي جلّ مسائل الاصول خارجة عن علم الاصول ، نعم لو جعلنا الدليل نفس جوهر العقل ليكون الأحكام العقلية من عوارضها دخلت في علم الاصول.

وقيل : لو كان البحث في الاستصحاب بناء على اعتباره من باب الظنّ في حكم العقل بالملازمة بين ثبوت الشيء في الزمان الأوّل وبقائه في الزمان الثاني ولو ظنّا فالمسألة اصولية وتكون كسائر المباحث العقلية الاصولية ، فإنّ البحث في مقدّمة الواجب في حكم العقل بثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، والبحث في مسألة الضدّ في حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه وهكذا ، ولو كان البحث في حجّية الظنّ الحاصل بملاحظة اليقين السابق وأنّه يجب العمل به فالمسألة فرعية لأنّها متعلّقة بكيفية العمل.

وفيه ما فيه ، فإنّه يلزم على ما ذكره أن يكون البحث عن حجّية كلّ دليل من مسائل الفروع ، وحلّه ما عرفت من أنّ البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل لو جعلنا الموضوع ذات الدليل ، ولو جعل الموضوع الدليل بوصف الدليلية يكون البحث عن الدليلية من المبادئ ، ولو جعل الموضوع هو المعنى الأعمّ الذي اخترناه فالأمر أوضح.

قوله : من المبادئ التصديقية للمسائل الاصولية الخ (١).

قد عرفت أنّه بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ يرجع البحث فيه إلى البحث عن ثبوت حكم العقل بالظنّ بالبقاء ليكون ذلك دليلا على ثبوت الحكم الظاهري الفرعي في مورده بعد فرض حجّية الظنّ المذكور ، فيرجع البحث إلى التصديق بدليلية الاستصحاب وعدمها. وبعبارة اخرى التصديق بوجود الموضوع

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٧.

٢٣

أعني الدليل وعدمه ، وقد قالوا إنّ التصديق بوجود موضوع العلم يعدّ من المبادئ التصديقية لذاك العلم كما صرّح به في حاشية تهذيب المنطق للمحقّق التفتازاني (١) ، وإلى ذلك أشار المصنّف في المتن إلّا أنّه ذكر في تلك الحاشية أيضا أنّ ما ذكر مبني على التسامح فإنّ المبادئ التصديقية عبارة عن قضايا يستدلّ بها في العلم ، وليس التصديق بوجود الموضوع منها بل هو من المسائل ، لأنّ المسألة مركّبة من موضوع ومحمول ونسبة بينهما ، فالتصديق بالمسألة يحصل بالتصديق بوجود الموضوع والمحمول والنسبة ، وبالجملة يكون التصديق بوجود الموضوع داخلا في المسائل لا المبادئ.

قوله : ولعلّه موافق لتعريف الاصول بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة الخ (٢).

بل الظاهر أنّ هذا التعريف موافق لما اخترنا من أنّ الموضوع مطلق ما احتمل أو قيل إنّه دليل الفقه ، لكن يبقى شيء وهو أنّ الظاهر أنّ البحث عن ثبوت بعض الموضوعات الشخصية للدليل كالبحث عن أنّ كتاب فقه الرضا (عليه‌السلام) خبر أم لا أو الآية الفلانية قرآن أم لا أو أنّ آية (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٣) بالتشديد أو بالتخفيف وأمثال ذلك من مسائل الاصول مع أنّها ليست بقواعد ممهّدة للاستنباط بل من قبيل تشخيص حال بعض الموضوعات الخارجية إلّا أنّه يتوقّف عليه الاستنباط ، وعلى هذا لا يكون التعريف المذكور جامعا (٤).

__________________

(١) الحاشية على تهذيب المنطق : ١١٥.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٨.

(٣) البقرة ٢ : ٢٢٧.

(٤) أقول : لا نسلّم دخول ما ذكر في علم الاصول ، بل هي داخلة في علم الحديث والقرآن

٢٤

ثمّ لا يخفى أنّ ما يذكره الفقهاء في كتبهم الاستدلالية على ما هو المتداول بينهم من إيراد الأدلّة في جزئيات المسائل والنقض والإبرام ودفع الشبهات والمناقشات ونحوها ليس من الفقه لأنّه ليس من مسائله ولا من الاصول ، بل هو إعمال لمسائل الاصول وتطبيق لها على المورد ، وبعبارة اخرى كيفية نفس الاستنباط الذي مهّدت قواعد الاصول لأجله ، كما أنّ ما يذكره الاصوليون في كتبهم الاستدلالية من أمثال ما ذكر ليس من الاصول ، فالمسألة الاصولية مثلا أنّ العام المخصّص حجّة في الباقي ، وسائر الامور المذكورة في ذاك الفصل من الأدلّة والنقض والإبرام من كيفية استنباطها لا المسائل.

قوله : أمّا على القول بكونه من الاصول العملية (١).

محصّل ما حقّقه أنّ الاستصحاب على القول باعتباره من باب الظنّ من الأدلّة والبحث عنه بحث عن الدليل ، إذ يكون هذا الظنّ دليلا على المسائل الفرعية على فرض حجّيته ، وعلى القول باعتباره من الأخبار من المسائل والقواعد الفقهية ، ولكن لا يخفى أنّ هذا التفكيك في معنى الاستصحاب بالنسبة إلى المذهبين تفكيك بعيد ركيك ، وعلى هذا فالمناسب أحد الأمرين إمّا أن يجعل الاستصحاب عبارة عن الظنّ بالبقاء ويجعل دليل اعتبار هذا الظنّ حكم العقل على قول وأخبار حرمة نقض اليقين على القول الآخر بدعوى دلالة تلك الأخبار على حجّية الظنّ الاستصحابي كما قيل ، وإمّا أن يجعل عبارة عن إبقاء ما كان من الحكم الشرعي على القولين ويكون دليل هذا الحكم حكم العقل أو الأخبار على

__________________

ولا ضير في تعرّض الاصولي لها أحيانا عند مسيس الحاجة إليه أو لأجل مناسبة دعته إليه وكم له من نظير.

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨.

٢٥

اختلاف المذهبين ، فعلى الأوّل يكون الاستصحاب من الأدلّة والبحث عنه من مسائل الاصول ، وعلى الثاني من القواعد الفرعية ، وهذا هو الأظهر الموافق لأكثر تعريفات الاستصحاب كالابقاء والبقاء وما يساوقهما كما عرفت سابقا ، هذا كلّه ما يقتضيه النظر الجلي ، إلّا أنّ التحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق ما سيأتي في الحاشية اللاحقة.

قوله : نعم تندرج تحت هذه القاعدة مسألة اصولية (١).

وعلى هذا ينبغي أن يعدّ الاستصحاب من القواعد المشتركة بين الاصول والفقه ، بل قد عرفت أنّه ربما يجري الاستصحاب في المسائل الكلامية لو فرض تحقّق أركانه وشرائطه فيها ، فإذن يكون مشتركة بين الثلاثة ، وحيث كان بهذه المثابة فالتحقيق أن يقال إنّه تابع لما يستصحب ، فإن كان المستصحب حكما شرعيا فالمسألة فقهية متعرّضة لثبوت ذلك الحكم في الزمان اللاحق أيضا ، وإن كان شيئا من عوارض الدليل مثل عدم التخصيص والنسخ وأمثالهما فالمسألة اصولية ، وإن كان موضوعا خارجيا كعدالة زيد ونجاسة ثوبه أو رطوبته ونحوها فلا يعدّ من مسائل العلوم بل هو ممّا يحرز به الامور الخارجية كالبيّنة وقول ذي اليد وأمثالهما ، لكن يصح عدّه بهذا الاعتبار من مبادئ الفقه نظرا إلى أنّه ممّا يتشخّص به موضوعات الأحكام الفرعية فتأمّل.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو قلنا بأنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها كما هو المشهور ، وأنّ كلّ مسألة باحثة عن عرض موضوع علم فهي من مسائل ذاك العلم ، كان الاستصحاب على هذا من القواعد المشتركة كما عرفت ، ولو قلنا بأنّ مناط التميّز الغرض الداعي إلى البحث عن المسألة ويقال لو كان الغرض معرفة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨.

٢٦

حال فعل المكلّف فالمسألة فقهية وإن كان فائدتها بل موضوعها أعمّ من ذلك ، ولو كان الغرض معرفة حال الدليل فالمسألة اصولية وإن كان فائدتها أعمّ وهكذا ، فيمكن أن يجعل الاستصحاب مسألة فقهية بملاحظة أنّ غرضهم في البحث عنه استعلام الحكم الفرعي وحال فعل المكلّف ، ولا ينافي ذلك جريانه أحيانا في الموضوعات الخارجية وفي المسائل الاصولية والكلامية ، ولعلّ ثاني الوجهين أقرب ، ألا ترى أنّ جلّ المسائل الاصولية كمباحث الأوامر والنواهي والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن ونحوها لا تنحصر فائدته في معرفة أحوال أدلّة الفقه بل يعمّ سائر الألفاظ ، سواء كان من الشارع في غير مقام بيان الحكم الفرعي كما في الخطب والمواعظ والقصص والحكايات الواردة عن المعصومين (عليهم‌السلام) أو كان اللفظ من سائر الناس غير المعصوم (عليه‌السلام) ، مثلا كون الأمر للوجوب والنهي للحرمة والأمر عقيب الحظر للاباحة وهكذا مسائل متعرّضة لحال الأمر والنهي مطلقا ، سواء كان ذلك الأمر والنهي واردين لاثبات الحكم الشرعي أم لا ، ومع ذلك تعدّ هذه المسائل من الاصول ، وليس إلّا لأجل أنّ الغرض من البحث عنها معرفة حال أدلّة الفقه وقد مهّدت لذلك ، وهو موافق لتعريف الاصول بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية الخ ، هذا.

وقد بقي هنا شيء وهو أنّ جميع ما ذكرنا مبني على كون الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما كان بمعنى ابقاء المتيقّن في السابق على ما هو من مذاق المصنّف بل المشهور ، وأمّا بناء على المختار الذي أشرنا إليه غير مرّة وسيأتي في محلّه مفصّلا إن شاء الله تعالى من كون الاستصحاب عبارة عن إبقاء اليقين السابق كما هو ظاهر أخباره لكن تنزيلا ، فيمكن بل يتعيّن أن يكون الاستصحاب من المسائل الاصولية ، لأنّ مرجعه على هذا إلى أنّ اليقين السابق دليل تعبّدي على

٢٧

ثبوت الحكم ظاهرا في الزمان المشكوك فيه ، ويكون حاله حال سائر الطرق التعبّدية في كونها طرقا موصلة إلى الحكم وأدلّة للحكم الفرعي فافهم واغتنم.

قوله : وهذا من خواصّ المسألة الاصولية الخ (١).

نمنع كون ما ذكر من خواصّ المسألة الاصولية ، وسند المنع أنّ من المسائل الفرعية أيضا يكون كذلك كما إذا كان موضوع المسألة ممّا لا يعرفه المقلّد ويجب أن يرجع فيه إلى أهل خبرته ، فلو فرض أنّ أهل الخبرة فيه منحصر في المجتهد لا جرم يكون رجوعه فيه إلى المجتهد فحسب ولا حظّ لغيره فيه ، والاستصحاب من هذا القبيل فإنّ موارد جريانه في الأحكام والموضوعات الكلّية أو الجزئية وتميّز الحاكم من المحكوم ومثبته من غير المثبت ممّا لا يعرفها سوى المجتهد فلذا اختصّ اجراؤه بالمجتهد كما هو كذلك في كثير من القواعد الفرعية كتشخيص مجاري البراءة والاحتياط والتخيير وقاعدة الحرج والضرر وغيرها ، وما ذكرنا من المنع محتمل مراد السائل الذي أشار إليه في المتن في :

قوله : فإن قلت إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد لأجل أنّ موضوعها الخ (٢).

ويحتمل أن يكون مراده بعد تسليم الخاصّية المذكورة أنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ليس باعتبار مضمونها وإجراء حكمها في مواردها وبهذا الاعتبار عدّ من خواصّ المسألة الاصولية ، بل لأجل أنّ موضوعها لا يتشخّص إلّا للمجتهد ، فالمجتهد نائب عن المقلّد في ذلك وإلّا فالحكم مشترك بينهما كما هو شأن المسائل الفرعية ، وعلى الاحتمال الأوّل ـ الذي جزم به سيّدنا الاستاذ (دامت

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩.

٢٨

بركاته) ـ يرد على ما أجاب به عن السؤال في المتن أنّه لا ينفع في دفع السؤال بوجه من الوجوه ، لأنّ السائل منع كون ما ذكر خاصّة للأصول حتّى يكون تميّز الاصول من الفقه بذلك ، بل التمايز بتمايز الموضوع أو الغرض على ما ذكرنا ، فلا فائدة في بيان أنّ جميع مسائل الاصول مساوية للاستصحاب في أنّ تشخيص موضوعاتها وظيفة المجتهد ، وعلى الاحتمال الثاني فجواب السؤال في محلّه ولا يرد عليه شيء سوى ما أوردنا على أصل الإشكال من منع الخاصية المذكورة (١).

قوله : لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه الخ (٢).

فيه ـ مضافا إلى ما مرّ في الحاشية السابقة ـ ثبوت الفرق بين وجوب العمل بخبر الواحد والاستصحاب ، وهو أنّ خبر الواحد الذي هو موضوع حكم وجوب العمل أمر واقعي قابل لتعلّق علم المقلّد به كما تعلّق به علم المجتهد ، فيصحّ أن يقال إنّ المقلّد لمّا عجز عنه يرجع إلى من هو أهل خبرته وهو المجتهد ، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنّ موضوعه أي اليقين السابق الملحوق بالشكّ لا يتحقّق إلّا للمجتهد ، إذ لا عبرة بيقين المقلّد وشكّه لأنّه ليس أهلا للاستنباط ، فيقين المجتهد موضوع حكم المقلّد في الاستصحاب في الحكم الفرعي ، وهذا نظير أن يقال اعمل برأي زيد واعتقاده ، فلا يصحّ أن يقال إنّ زيدا نائب عن المكلّف في تحصيل الاعتقاد لعجزه عنه ، نعم يتحقّق موضوع الاستصحاب في استصحاب الموضوعات بيقين المقلّد وشكّه لأنّه من أهل معرفتها وهو المناط في تحقّق مجرى الاستصحاب في الموضوعات ، ولا عبرة بيقين المجتهد وشكّه بالنسبة إلى

__________________

(١) أقول : لا يخفى أنّ الأظهر بل المتعيّن هو هذا الاحتمال الثاني.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩.

٢٩

حكم المقلّد فيها (١).

__________________

(١) أقول : لا يخفى أنّه بناء على هذا التحقيق يشكل الأمر في معنى قوله (عليه‌السلام) : «لا تنقض اليقين بالشكّ» فيلزم أن يحمل على أنّ المراد منه ابق ما كان متيقّنا للمجتهد ثمّ شكّ فيه بالنسبة إلى الأحكام ، وابق ما كان متيقّنا لك ثمّ شككت فيه بالنسبة إلى الموضوعات ، وهو كما ترى بعيد في الغاية ، ضرورة أنّ الخطابات الشرعية بأسرها شاملة لجميع المكلّفين بعد تحقّق موضوعها ، مضافا إلى أنّ التفكيك بين الأحكام والموضوعات باعتبار يقين المجتهد وشكّه في الأوّل ويقين مطلق المكلّف وشكّه في الثاني كما عرفت أيضا تفكيك ركيك.

فإن قلت : إنّ هذا الإشكال مشترك بين الاستصحاب وجميع أدلّة الأحكام ، فإنّ المقلّد يعمل بظنّ المجتهد أو بيقينه الحاصل من الخطابات الشرعية لا بظنّه ويقينه لأنّه ليس من أهل الاستنباط.

قلت : الفرق واضح فإنّ الأحكام الواقعية ثابتة للموضوعات الواقعية لا تختلف بالعلم والجهل أصلا ، وخطاباتها شاملة لجميع المكلّفين ، غاية الأمر أنّ المقلّد عاجز عن فهمها واستنباط الأحكام منها فينوب عنه المجتهد في ذلك ، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنّ موضوعه الشاكّ من بعد يقينه ولا يصدق هذا المعنى في الأحكام إلّا في حقّ المجتهد لأنّ المقلّد غافل بالمرّة عن الحكم غالبا ، ولو كان ملتفتا وفرض أنّه تيقّن بالحكم ثمّ شكّ فقد عرفت أنّه لا عبرة بيقينه وشكّه ، ولا ينوب المجتهد عنه إلّا في استنباط الحكم لا في الشكّ واليقين اللذين اخذا في موضوعه ، فلا جرم يكون شكّ المجتهد ويقينه موضوعا لحكم المقلّد بالعمل بالاستصحاب ، ويلزمه ما ذكرنا من أنّ معنى لا تنقض اليقين بالشكّ بعد العلم بشمول الحكم المستفاد منه للمقلّدين أيضا لا تنقض أيّها المقلّد يقين المجتهد بشكّه يعني اعمل بمقتضى يقين مجتهدك في السابق.

ولا يخفى أيضا أنّ هذا الإشكال جار في أدلّة جميع القواعد الظاهرية التي اخذ في

٣٠

__________________

موضوعها الشكّ كقاعدة الطهارة والبراءة والاحتياط والتخيير ، فيكون معنى قوله : «كلّ شيء طاهر» باعتبار شموله للمقلّد أنّ كلّ شيء مشكوك النجاسة عند المجتهد كالماء المتمّم كرّا مثلا محكوم بالطهارة للمقلّد ، ومعنى قوله (عليه‌السلام): «الناس في سعة ما لا يعلمون» أنّ الناس في سعة ما لا يعلم حكمه المجتهد وهكذا.

ولمّا عرضت هذا الإشكال على سيّدنا الأستاذ استصعبه أوّلا ثمّ أجاب عنه بأحد وجهين على سبيل منع الخلو.

الأوّل : أنّه يجوز أن يحمل اليقين والشكّ في خبر لا تنقض على أعمّ من اليقين والشكّ الفعليين أو الشأنيين ، فموضوع الاستصحاب على هذا أمر واقعي متحقّق في حقّ المقلّد في مجاري الاستصحابات في الأحكام بملاحظة اليقين الملحوق بالشكّ الشأنيين ، بمعنى أنّ هذا المجرى من شأنه أن يحصل للمكلّف أوّلا اليقين بالحكم ثمّ يحصل الشكّ فيه بالنسبة إلى الزمان المتأخّر عنه ، وكذا موضوع سائر القواعد الظاهرية الشكّ الشأني فيقال مثلا إنّ شأن الشبهة التحريمية فيما لا نصّ فيه أن يشكّ فيه إذا لوحظ عدم النصّ على حكم فيها وإن كان المكلّف لم يلاحظه أو كانت ملاحظته كعدمها لعدم العبرة بها لعدم كونه من أهل الخبرة ، فمعنى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رفع ما لا يعلمون» رفع ما كان شأنه عدم العلم به ، لعدم النصّ مثلا وهكذا.

وفيه : مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر اللفظ جدّا ، أنّه إحالة على المجهول المطلق ، لأنّ جلّ المسائل الفقهية في معرض الشكّ واليقين في آن واحد بالنسبة إلى كلّ حالة وزمان ، ألا ترى أنّ أغلب المسائل فيه أقوال للعلماء وحصل التردّد فيه لبعضهم الآخر ، فيكون من شأنها الشكّ وكذا من شأنها اليقين ، وربما حصل لبعضهم الشكّ بعد اليقين ولم يحصل ذلك لبعضهم ، فيلزم أن يعمل في هذه المسائل بأجمعها بالأصول لتحقّق موضوعها ، وأنت خبير بما فيه.

٣١

__________________

الثاني : أن نلتزم بأنّ خطاب لا تنقض مختصّ بالمجتهد بقرينة تعليقه على موضوع لا يتحقّق في غيره ومع ذلك الحكم المستفاد منه عام شامل لجميع المكلّفين ، وهذا نظير وجوب الاجتهاد والافتاء المستفاد من آية النفر وغيره فإنّ الخطاب بذلك مختصّ بالمجتهد إلّا أنّ الحكم المستنبط حكم الجميع ، بيان ذلك أنّ المجتهد إذا تيقّن بالحكم في زمان علم أنّه حكم عامّ شامل له ولغيره ، بل ربما يكون الحكم مختصّا بغيره كما إذا لم يكن داخلا في موضوعه كالأحكام المتعلّقة بخصوص النساء والخناثى ونحوها ، ثمّ إذا شكّ في بقاء هذا الحكم المتيقّن في السابق في حقّ من تعلّق به الحكم أوّلا يقينا ، يحكم ببقائه في حقّه بدليل لا تنقض وإن كان المكلّف بالحكم المزبور غافلا عن ذلك كلّه ثمّ يفتي بذلك ويجب على مقلّده أن يعمل به ولا محذور ، وبمثل ذلك يجاب عن الإشكال في سائر أدلّة القواعد الظاهرية فإنّ المجتهد يلاحظ حال تكليف غيره فيشكّ ثمّ يحكم ببراءة المكلّف عنه أو التخيير أو الاحتياط حسب ما يقتضيه دليله ويفتي به ويعمل به المقلّد.

وفيه : أوّلا أنّه خلاف ظاهر الخبر فإنّ ظاهره أنّ المخاطب به جميع من يجري حكمه في حقّه كما في سائر الأدلّة لا خصوص المجتهد.

وثانيا : أنّ هذا لا يتمّ في مثل قوله (عليه‌السلام): «الناس في سعة ما لا يعلمون» و «ما حجب الله علمه عن العباد» و «رفع ما لا يعلمون» و «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وأشباهها ، إذ بعد التعسّف بأنّ المراد براءة الناس عند عدم علم المجتهد لهم تكليفا لا يساعده صناعة النحو في العبارات المذكورة فإنّ مرجع الضمير في الخبر الأوّل ليس إلّا الناس لا مجتهدهم ، وفي الثاني هو العباد وفي الثالث الأمّة لا مجتهدهم ، وكيف يمكن توجيه العبارة موافقا للمعنى المزبور ، ولمّا عرضت ما أوردت على الوجهين على السيّد الاستاذ (دام ظلّه) سكت ولم يردّ جوابا إلّا أنّه أمر بالتأمّل.

٣٢

قوله : وقد جعل بعض السادة الفحول الخ (١).

هو بحر العلوم على ما حكي عنه في فوائده (٢) ، ويمكن أن يوجّه كلامه بحيث لا يتوجّه عليه ما أورده المصنّف عليه بأن يقال إنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما كان وإثبات الشيء بملاحظة الحالة السابقة ، والحكم الذي يستدلّ له بالاستصحاب هو الوجوب أو الحرمة الفعليان مثلا في الظاهر ، ولم يعتبر في هذا الحكم الخاصّ ملاحظة الحالة السابقة كما اعتبر في دليله أي الاستصحاب ، فليست القضية الكلّية المستفادة من حديث لا تنقض عين الأحكام الجزئية الثابتة بها ويكون تفاوتها بالعموم والخصوص ، بل يكون من إثبات قضية بقضية اخرى وهو المعني من الدليل والمدلول.

والجواب : أنّ هذا المقدار من التفاوت لا يجدي فيما أراده ، فإنّ الحكم والموضوع في القضيتين واحد ومجرّد ملاحظة الحالة السابقة المأخوذة في إحدى القضيتين دون الاخرى لا يوجب أن تكون إحداهما دليلا مثبتا للاخرى.

فإن قلت : سلّمنا ذلك ومع ذلك نقول بأنّه إنّ الاستصحاب دليل على ثبوت الأحكام الجزئية في مواردها لأنّه يصحّ به أن يرتّب قياس عليها هكذا : هذا الشيء كان واجبا في السابق ، وكلّ ما كان واجبا في السابق فهو واجب فعلا ، فهذا الشيء واجب فعلا ، فقد استدلّ على الوجوب الفعلي المطلوب بالقضية الكلّية التي جعلت كبرى القياس وهو الاستصحاب.

قلت : نعم يصحّ إطلاق الدليل عليه بهذا الاعتبار كما أنّ جميع القضايا الكلّية بهذا الاعتبار دليل على جزئياتها اصولية كانت أو فرعية أو غيرها ، ألا ترى

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩.

(٢) فوائد السيّد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧.

٣٣

أنّ قولنا الكلب نجس والماء طاهر ونحوهما مسألة فرعية بلا كلام مع أنّه يصحّ الاستدلال بها على جزئياتها فيقال هذا كلب وكلّ كلب نجس فهذا نجس وهكذا ، إلّا أنّ من الواضح أنّ مرادنا من الدليل هاهنا هو الدليل على أصل ثبوت الحكم في الشريعة كما هو حال الأدلّة الأربعة بالنسبة إلى مدلولاتها.

بقي الكلام في شيء أشرنا إليه في صدر المبحث وهو بيان مورد الثمرة المترتّبة على كون المسألة اصولية أو فقهية ، وجميع ما قيل أو يقال فيه امور منها : النذر وشبهه من العهد واليمين والوقف والوصية ، فلو نذر أو حلف أو وقف أو أوصى مالا لمن يشتغل بعلم الاصول فلو كان الاستصحاب من الاصول يصحّ اعطاء المال لمن يشتغل بالاستصحاب وإلّا فلا.

ومنها : حجّية الظنّ فيه وعدمه بناء على قول من يذهب إلى حجّية الظنّ في الفروع دون الاصول. لكن فيه أنّ المبنى فاسد.

والتحقيق أنّ الظنّ المنتهى إلى العلم بأن قام دليل قطعي على اعتباره ولو بالواسطة حجّة مطلقا في الفقه والاصول ، وغير المنتهى إلى العلم ليس بحجّة مطلقا فيهما.

ومنها : جواز التقليد فيه وعدمه فإنّ ما يصحّ التقليد فيه إنّما هو المسائل الفرعية دون الاصولية ، لكن لقائل أن يمنع هذا ويقول لم لا يجوز التقليد في المسألة الاصولية لو فرضنا أنّ التقليد فيها ينفع المقلّد وإلّا فالتقليد في أغلب المسائل الاصولية لا ينفعه في عمله ، فلو فرضنا أنّ المقلّد عالم بجميع الامور التي يستنبط منها الحكم الفلاني علما وجدانيا ما عدا أمر واحد يكون من المسألة الاصولية ككون الأمر للوجوب مثلا ، فإن قلّد في هذه المسألة الخاصّة ينفعه في استنتاج الحكم الفرعي ويعمل به ، والتحقيق أنّ المرجع في هذا المطلب ملاحظة أدلّة التقليد فإن كان الدليل هو الإجماع والسيرة فلا ريب أنّ القدر المتيقّن منهما

٣٤

هو الأحكام الفرعية ، وإن كان مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(١) فهو أعمّ من ذلك فافهم.

قوله : على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ، هو مجرّد عدم العلم بزوال الحالة السابقة (٢).

نعم هو كذلك ، وتوهّم أنّ الأخبار أيضا مبتنية على الاعتماد بالظنّ الحاصل من الوجود السابق كما احتمله المحقّق القمي واستشكله مدفوع بأنّه إن اريد الظنّ الشخصي فهو بعيد عن إطلاق الأخبار جدّا سيّما صحيحة زرارة الآتية فإنّ فرض الظنّ الشخصي في موردها وهو المتطهّر الذي عرضته الخفقة والخفقتان ببقاء الطهارة السابقة يكذبه الوجدان ، فإنّ الخفقة والخفقتان من أمارات النوم ، فإن لم نقل بكون النوم مظنونا حينئذ فلا أقل من عدم كون عدم النوم مظنونا ، بل نقول بكون النوم مظنونا في مورد السؤال بملاحظة قوله بعد ذلك «قلت فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به ، قال (عليه‌السلام) لا حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا ولكن ينقضه بيقين آخر» فتدبّر ، وإن اريد الظنّ النوعي فهو مع بعده عن مساق الأخبار مدخول بما سيأتي في محلّه من منع اقتضاء ثبوت ما ثبت الظنّ بالبقاء نوعا بأوفى بيان ، فليس الظنّ النوعي متحقّقا في مورد الاستصحاب حتّى يصحّ تنزيل الأخبار عليه ، وهذا بخلاف موارد البيّنة والغلبة ويد المسلم وسوقه ونحوها من الأمارات المعتبرة من باب الظنّ النوعي فإنّ ما يقتضي حصول الظنّ فيها بيّن وإن لم يحصل أحيانا.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١.

٣٥

قوله : نعم ذكر شيخنا البهائي (رحمه‌الله) الخ (١).

ما ذكره وإن كان مخالفا للمعهود من طريقة القوم إلّا أنّه أنسب بحسب الاعتبار لو قيل بحجّية الاستصحاب من باب الظنّ وبناء العقلاء من الظنّ النوعي ، لما عرفت من منع ما يقتضي الظنّ نوعا ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم على ما يأتي بيانه ، ولو سلّم فإنّما يسلّم حكم العقل وبناء العقلاء على اعتبار هذا الظنّ النوعي بملاحظة الحالة السابقة فيما لم يحصل الظنّ الشخصي بخلافها أو الظنّ النوعي في صنف خاصّ من المستصحبات بخلافها ، وأمّا بناء العمل على الظنّ الشخصي عند العقل والعقلاء فهو حسن مرضي لا ينبغي أن يشك فيه.

قوله : فاخراج الظنّ منه ممّا لا وجه له (٢).

يعني أنّ استخراج الظنّ واستفادته من إطلاق الأخبار الشاملة لصورة الشكّ والظنّ ممّا لا وجه له ، ولا حاجة في توجيه العبارة إلى ما قيل من أنّ المراد إخراج الظنّ بالخلاف منه ممّا لا وجه له فإنّه بعيد عن سوق الكلام فتدبّر.

قوله : ويمكن استظهار ذلك من الشهيد في الذكرى (٣).

لعلّ وجه الاستظهار استشهاده في ترجيح الظنّ على الشكّ بأنّ ترجيح الظنّ مطّرد في العبادات ، ومن المعلوم أنّ الظنّ المعتبر في الصلاة هو الظنّ الشخصي سواء كان في عدد ركعاتها أو أفعالها وأقوالها على القول به ، ويمكن منع الاستظهار لأنّا لا نعرف اعتبار الظنّ الشخصي في غير الصلاة من سائر العبادات ، ويبعد أن يريد بالعبادات بصيغة الجمع خصوص الصلاة من بينها وحينئذ يحمل

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٢.

٣٦

كلامه على الظنّ النوعي ، واستشهاده بالعبادات باعتبار حجّية الظنّ النوعي من البيّنة وقول ذي اليد ويد المسلم ونحوها فيما يتعلّق بالعبادات من مقدّماتها وشرائطها وموانعها (١).

قوله : ومراده من الشكّ مجرّد الاحتمال (٢).

يعني فلا ينافي اجتماعه مع الظنّ الشخصي الذي استظهره من كلامه ، والغرض من هذا دفع ما أورد على الشهيد من أنّ اجتماع الظنّ والشكّ أيضا محال كاجتماع اليقين والشكّ فكيف أجاب عن إشكال التناقض بين اليقين والشكّ باختلاف زمانهما والتزم بمثله في قوله فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في زمان واحد ، وهذا توجيه حسن لكلام الشهيد إلّا أنّ المصنّف أورد عليه في آخر تنبيهات الاستصحاب بما لا يخلو عن نظر ، ولعلّنا نتكلّم عليه هناك إن شاء الله تعالى.

قوله : فتأمّل (٣).

لعلّه إشارة إلى منع ما استظهره من كلام الشهيد من أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار أيضا هو الظنّ ، إذ لا وجه للاستظهار سوى تعبيره عن الاستصحاب بقوله : «اليقين لا ينقضه الشكّ» عين عبارة الخبر ، ولا دلالة في

__________________

(١) أقول الاستظهار المذكور قريب ، وما ذكر في دفعه مدخول بأنّ اعتبار الظنّ الشخصي في الصلاة يكفي في الاستشهاد لأنّها أعظم أنواع العبادات وأنّها أوّل ما ينصرف الذهن إليه من لفظ العبادة ، ولا ينافيه الاتيان بصيغة الجمع باعتبار أنّ الصلاة ذات أنواع وأصناف فكأنّه قال كما هو مطّرد في الصلوات.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٣.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٣.

٣٧

هذا التعبير بمجرّده على أنّه يتكلّم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار فتأمّل.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى منع استظهار الظنّ الشخصي من كلامه وقد أشرنا إلى وجه المنع في الحاشية السابقة فتأمّل.

قوله : الخامس أنّ المستفاد من تعريفنا السابق الخ (١).

قد ذكرنا سابقا عند التعرّض للتعاريف أنّ حقّ التعريف أن يعرف بابقاء المتيقّن أو اليقين ، وعليه فينبغي أن يجعل مقوّم الاستصحاب وجود الشيء في الزمن السابق بوصف كونه متيقّنا لا مجرّد وجوده واقعا ويكون اليقين طريقا إليه ، وتظهر الثمرة فيما إذا كان زيد مثلا عادلا يوم الخميس في الواقع إلّا أنّه لم يعلم به المكلّف وصلّى خلفه أو أوقع طلاقا عنده أو نحو ذلك يوم الجمعة حال كونه شاكّا في عدالته ثمّ علم يوم السبت أنّه كان عادلا قبل زمان شكّه ، فعلى ما ذكره المصنّف ميزان الاستصحاب كان موجودا حين العمل وإن لم يعلم به المكلّف فيحكم بصحّة عمله ، وعلى ما قرّرنا وشيّدناه ليس هاهنا استصحاب فيبطل إلّا على تقريب يأتي عن قريب (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤.

(٢) أقول على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وحكم العقل بأنّ ما ثبت دام لا يحتاج إلى اعتبار اليقين في موضوع الاستصحاب ، لأنّ الحكم بالبقاء من مقتضى مجرّد الوجود السابق ، ولمّا كان أصل جعل الاصطلاح من أصحاب هذا القول لا بأس بتعريف الاستصحاب بابقاء ما كان ، غاية الأمر أنّ من يقول باعتباره من باب التعبّد لا بدّ له أن يقيّد مورد الحجّة منه بكون ما كان متيقّنا ، ولا ضير فيه.

٣٨

قوله : وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقرى مجازا (١).

إن كان إطلاق الاستصحاب باعتبار كون الشكّ سابقا على اليقين كما في المتن فلا ريب في كونه مجازا ، إلّا أنّه يمكن تطبيق الاستصحاب بحقيقته على موارد الاستصحاب القهقرى مثل أصالة عدم النقل وأصالة عدم النسخ عند العلم بالحالة اللاحقة والشكّ في السابق ، فيقال نعلم بأنّ اللفظ كان في السابق في زمن الشارع بل ما قبل زمانه موضوعا لمعنى والأصل بقاؤه إلى زماننا هذا ، ونجد الآن كونه حقيقة في المعنى الفلاني فنحكم بأنّه كان كذلك سابقا وإلّا لزم النقل المخالف للأصل ، نعم هذا الأصل من الاصول المثبتة لا حجّية فيها في الأحكام على مذاق محقّقي المتأخرين إلّا أنّه معتبر في مباحث الألفاظ على ما اشتهر بينهم ، وتحقيق ذلك كلّه موكول إلى محلّه.

قوله : أمّا إذا لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شكّ فيه على فرض الالتفات (٢).

ولقائل أن يقول لا نسلّم اعتبار الشكّ الفعلي في موضوع الاستصحاب بل إنّما يعتبر مجرّد عدم العلم بزوال الحالة السابقة أعمّ من الشكّ والظنّ والوهم والغفلة بدعوى أنّ حرمة النقض في الأخبار مغيّا باليقين على الخلاف وكذا حكم العقل على القول الآخر ، ويرجع هذا إلى كفاية الشكّ الشأني في موضوع الاستصحاب ، ولا ينافي ذلك قوله (عليه‌السلام) في بعض أخباره : «لا ينقض اليقين بالشكّ» الظاهر في الشكّ الفعلي لأنّه محمول على الغالب ، فإنّ فرض عدم حصول الشكّ لأجل الغفلة كما مثّله نادر ، ولا يتوهّم أنّ مجرّد عدم العلم بزوال

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٥.

٣٩

الحالة السابقة كما قلنا شامل لما إذا علم بقاء الحالة السابقة أيضا ، ويلزم ذلك جعل الحكم الواقعي بلحاظ هذه الصورة والحكم الظاهري بلحاظ باقي الصور بجعل واحد وبلفظ واحد وبلسان واحد وهو إمّا متعذّر كما قيل أو مستبعد ومخالف للظاهر ، لأنّ سياق الأخبار آب عن شمول صورة العلم ببقاء الحالة السابقة ، ولازم ما ذكر أنّه لو تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى في حال الغفلة ثمّ التفت بعد الصلاة وشكّ في أنّه تطهر قبل الصلاة أم لا ، حكم ببطلان صلاته مستندا إلى جريان الاستصحاب قبل العمل ، ولو تيقّن بالطهارة ثمّ غفل وصلّى كذلك حكم بصحّة صلاته للاستصحاب الجاري قبل العمل كالأوّل ، بل يمكن أن يقال بجريان الاستصحاب قبل العمل في الصورة المفروضة وإن سلّمنا أنّ المعتبر هو الشكّ الفعلي الموجود حال الالتفات على ما في المتن بدعوى أنّ المعتبر في قوام الاستصحاب هو حصول الشكّ الفعلي في زمان ما قبل العمل أو بعده ، فلو التفت بعد العمل وشكّ علم أنّه كان محكوما بحكم الاستصحاب من الأوّل في الواقع ، غاية الأمر عدم علمه به إلى حين الشكّ ، نعم لو بقي على حال الغفلة إلى أن مات لا يجري الاستصحاب في حقّه أصلا ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بجريانه بملاحظة الشك الشأني على ما حرّرنا ، فإنّ لازمه جريان الاستصحاب في حال الغفلة وإن لم يلتفت ولم يشك إلى أن مات ، هذا كلّه حال جريان الاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل العمل.

وأمّا بالنسبة إلى جريانه بعد العمل عند حصول الشكّ حينئذ فلا كلام فيه على جميع التقادير ، ويقتضي ترتّب الأثر من حين اليقين السابق إلى زمان الشكّ وبعده اللازم منه صحّة العمل السابق على زمان الشكّ أو فساده بحسب المتيقّن السابق ، إلّا أنّه محكوم بقاعدة الفراغ على ما تقرّر في محلّه ، والحاصل أنّه يمكن القول بجريان الاستصحاب في حقّ الغافل حين العمل وإن لم يحصل له شكّ قبل

٤٠